يوسف أيها الصديق ح 29 – الآن حصحص الحق
تواصلا مع شرح سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 29 – الآن حصحص الحق
استجابت النسوة جميعا لأمر عظيم مصر وحضرن أمامه في جلسة خاصة خلت بالطبع من كل حرسه ورسمية.
نعرف ذلك في لحن الملك معهن وذكره ليوسف بالاسم وكأنه عضو في الأسر المحيطة بالملك. عرف الملك بأن يوسف يريد أن يقول له بأن هناك جلسة حضرت فيها نساء الوزراء قبل أن يدخلوه السجن وفيها صارحته النساء جميعا بما يخفينه من حب له.
ولعل الملك لا يدري عن الجلسة ولكن كشفها ومعرفة الحاضرات كان هينا عليه. إنه كان يعرف بأن امرأة العزيز هي التي أدخلت يوسف السجن في الحقيقة فكان يكفيه أن يبعث وراء تلك المرأة ويأمرها بأن تأتي مع كل النسوة اللاتي حضرن جلسة كان فيها يوسف.
لم تعرف امرأة العزيز مقدار علم الملك بقصتها ولكنها لا تريد أن تخسر مكانتها في الثلة الحاكمة. عرفت بأن الذي ينجيها هو الصدق فدعت كل النسوة وأعدت نفسها للمصارحة مع الملك أمام النسوة جميعا. اتخذت قرارا في غاية الصعوبة لأن انجذاب النسوة ليوسف كان بتحريض منها وكان انجذابا آنيا وليس لهن أي يد على يوسف سوى الدعوة العاطفية.
ولكن امرأة العزيز هي سيدة يوسف ولها يد عليه وقد أفضت مكنونات قلبها أمام تلك النسوة. لقد اعترفت بكل صراحة بأنها تحب يوسف وستعاقب يوسف إذا ما استمر في عناده معها وواصل رفضه لنداء قلب السيدة.
سوف تتجلى بطولة يوسف مرة أخرى أمام الملك. عرفت امرأة العزيز بأنها خسرت يوسف إلى الأبد وبأن هذا العبد الغريب سوف يدخل التاريخ المصري بكل قوة. إنها لا تعرف بأن هذا العبد سيقود أمة إلى مصر ويُدخلهم في مصر بدفع صارم عن طريق البلاط الملكي.
إنه سوف يقيم الخيمة الإسرائيلية في مصر فيأتي من بعده بنو إسرائيل بقيادة موسى وهم يعرفون أسرار البلاط لأنهم سيكونون أعضاء مؤثرين في الأسرة الحاكمة 39.
حضرت النسوة بمن فيهن امرأة العزيز في جلسة قبطية نسائية مع عظيم القبط. صارحهن الملك بكل وضوح ولم يخف عليهن علمه بأنهن كن قد راودن يوسف عن نفسه. هذه المصارحة التي مهد لها يوسف من داخل السجن سوف تُدخل الرعب في قلوب النسوة اللائي أخفين حقيقة الجلسة عن الملك وعن أزواجهن من رجال البلاط القبطي. قال الملك:
ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟
ومن جواب النساء نعرف بأن الخطب هنا لا يعني المصيبة ولا يعني الأمر والشأن الكبير بل يعني ويشير إلى تهمة موجهة إلى يوسف. يوسف الذي أثارهن جميعا ليطلبن الخيانة الزوجية بالتودد العاطفي إليه.
إذا قصد الملك بالخطب الأمر الكبير في اللغة، عنى ما فعله يوسف بهن من إظهار وإبراز لقدراته بحيث انجذبن إليه وسعين للتودد بعرض أجسادهن عليه.
فالسؤال عما فعله يوسف بهن. لم تفكر المرأة ولا النسوة بالطريقة التي سوف يسأل الملك إياهن.
فالملك اتهمهن في هذا السؤال بأنهن اللائي عرضن على يوسف الفاحشة ولكن يوسف هو الذي امتنع. كما أنه اتهم يوسف بأنه أظهر لهن ما أنساهن الشرف العائلي ورضين بأن يخضعن ليوسف على الرغم من ترفعه عليهن.
لا أدري فيما اذا تمكنتُ من إيصال الرسالة إلى القارئ مع قلة بلاغتي؟ أتمنى ذلك.
السؤال ذكي جدا ويعترف بما أبدينه أمام يوسف بكل وضوح وكأن الملك كان حاضرا بينهن. ولكنه في نفس الوقت يريد أن يعرف ما فعله يوسف بهن حتى انجذبن تجاهه.
هل أن يوسف هو الذي غرر بهن وإلا فكيف تبدي مجموعة من النسوة الرغبة في الخلوة الفردية مع يوسف.
شعرت النسوة بألا مجال للإنكار أولا وشعرن بأن توجيه أية تهمة ليوسف قد تنكشف بسرعة وتنطوي على ظلم واضح ضد إنسان بريء.
يكفي في مثل هذه الحالات أن تنبري امرأة واحدة لتدافع عن شرف الذي يسألون عنه فتتبعها الباقيات جميعا. فما الذي حصل فعلا؟. لنعد إلى القرآن فنقرأ الآية قبل أن نستمع إلى جواب النسوة.
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴿51﴾.
يتراءى بداية للقارئ بأن الملك يسألهن: ما هي مصيبتكن أو ما الذي بدا لكن إذ قمتن بالسعي للتغرير بيوسف الذي لم يبد لكم أي نوع من الدعوة إلى التبادل العاطفي؟
وأما القول بأن الملك قصد أن يسأل عن الحال أو الشأن وكأنه يريد أن يضع اللوم عليهن فقط، فهو مردود بسبب المقطع الثاني من الآية الكريمة. فحينما قلن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء، يعني بأنهن سمعن ما ينبئ عن توجيه الملك تهمة إلى يوسف أو يريد الملك الكشف عن أي احتمال لقيام يوسف بالتغرير بهن. ولذلك برأن ساحة يوسف في الجواب.
وأما جواب النسوة على استفسار الملك:
حاش لله ما علمنا عليه من سوء؛
فلقد وضحت معنى حاش لله في الآية 31 وتعني باختصار: سبحان الله. وأما قولهن:
ما علمنا عليه من سوء،
فهي الشهادة التي سدت الباب بالكامل على وجه زميلتهن امرأة العزيز أن تخفي سرا من أسرار تلك الجلسة.
دعنا نحلل كلامهن. بالطبع أن السؤال أوسع بكثير من هذا الجواب المختصر وكذلك قول امرأة العزيز قبل اعترافها بالذنب بأن الحق قد ظهر ساعته يدلان على أن النسوة قصصن القصة باختصار على الملك إما بعد الذي اختاره الله تعالى من بين أقوالهن كجواب أو قبل ذلك.
وأغلب الظن أنهن بدأن بـ (حاش لله). ذلك لأن صيغة الجواب تدل على الجواب المفاجئ لمن يشعر بقلق وجداني إن لم يكشف الحقيقة بالكامل.
فالجملة مقدمة لبيان الحكاية برأيي والعلم عند الله تعالى.
فالملك حينما قال ما خطبكن فهو فعلا يريد أن يتعرف على الحكاية بالكامل 40.
فجواب النسوة لم يكن مقتصرا على تطهير مشاركة يوسف الشاب الوحيد في الجلسة النسائية المخصصة للترويح.
إلا أن الله تعالى يكتفي بذكر ما يفيد تبرئة يوسف من التهمة وليس أكثر من ذلك.
ويمكننا معرفة أن الحكاية كلها قد قُصت في حضرة الملك بحيث لم تجد امرأة العزيز محيصا غير تكرار اعترافها أمام الملك فتسقط الورقة التي أقنعت بها زوجها طيلة السنوات الماضية بأنها كانت نقية الإزار كما كانت نقية المقصد ولم تفكر أبدا بالنزوة مع يوسف.
وأما عبارة :
(ما علمنا عليه من سوء)،
فتدل على أنهن اعترفن بأنهن اللائي طمعن في المزيد من الالتصاق بيوسف وليس يوسف الذي غرر بهن.
إن شهادة الذي يشهد الحادث بأنه “ما علم” تعني بأنه لم يشهد شيئا يمكن أن يستفاد منه غير ما يظهره المشهود عليه. ولولا ذلك لقلن: ما رأينا عليه من سوء.
فمن الواضح بأن الملك مقتنع بأن يوسف لم يطلب المتعة والحب ولكنه يريد أن يطمئن هل أن بقية حركات يوسف كانت تضمر مرضا في نفسه أم أنه كان في غاية النظافة؟.
إن مجرد العمل الذي قام به يوسف جوابا على دعوة الملك يدل دلالة واضحة على أن يوسف بريء ولكن الملك يريد المزيد من أمارات البراءة ليتعرف على أعماق يوسف.
إن الملك – وهو ذو خبرة واسعة وعلم كبير – كان بصدد التحري الكامل عن مرشح للوزارة ليزداد معرفة به في هذه الفرصة التي قد لا يتكرر سنوحها.
فتى في ريعان الشباب متهم بالسعي للتغرير بسيدته وكان متوسطا مجموعة من سيدات المجتمع المصري آنذاك وفي جلسة لا تخلو من غرام ثم يكون بريئا من كل تهمة!.
هنا تتبلور حقيقة يوسف بكل دقة، فلماذا لا يطلب الملك المزيد من أخبار يوسف. هذا الاعتراف من مجموعة من النسوة المثقفات والمتحضرات لصالح يوسف أدخل الطمأنينة في قلب الملك ورأت امرأة العزيز أن الاعتراف بالخطأ هو المخرج الوحيد لها لتتجنب غضب الملك عليها.
و(السوء) يعني كل ما يمكن أن يسيء للسامع أو الناظر أو الذي يفكر في شيء. فخلاصة الجواب هو أنهن لم يلمسن أي شيء يسيء إلى أي منهن أو إلى أزواجهن من يوسف.
يعني أن يوسف لم يتحرش ولم يكن في وارد العلاقات الغرامية أبدا ولكنهن هن اللائي وقعن في حبه وهو بريء كامل البراءة. ولنعد إلى امرأة العزيز التي قالت:
(الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه).
اعترفت امرأة العزيز بأن الحق كان مطمورا مغمورا ومطموسا ولكنه خرج من تحت الرماد شيئا فشيئا حتى تجلى.
وحصحص من مادة حصص بمعنى الحصة والقطعة من الشيء بعد تقسيمه وإيصاله إلى أهله. فحصحص يعني أخذ الحق مكانه المناسب وهو التجلي والظهور شيئا فشيئا حتى تم ظهوره. ولذلك بدأتها بكلمة “الآن”. بمعنى أنه كان مطمورا فظهر الآن.
ووجه المقاطع هو أن الحق أخرج نفسه من الغمرات قليلا بعد أن فرض نفسه على المدعوات في الجلسة النسائية، وبعد أن ظهر علم يوسف وإباؤه وإصراره على الكشف عن مظلوميته وحقه أمام الملك. فلا يمكن تصور سجين بقي سنوات في السجن ثم يرد عرض الملك بالخروج إن لم يكن له الحق. فالحق حص ثم حص ثم حص.
والحص الأخير هو اعتراف امرأة العزيز بعد أن سُدت أمامها كل أبواب التخفّي وارتفعت عن خبائها كل الأستار التي أسدلتها بيديها.
تحقق ما يصبو إليه يوسف. وعرف الملك بأن النسوة كلهن قد شاركن زوجة العزيز لإخفاء براءته لأنهن فقدن القدرة على صيانة العفة الطبيعية المتوقعة منهن.
عرف الملك أن يوسف سعى للابتعاد عن المغريات بعد أن كاد أن يصبو إليهن وأن الإغراء والدعوة للمصادقة قدمت من جهة واحدة وبقوة باعتبار سيل الدعوات المقدمة ليوسف.
لم يقم يوسف بأي عمل يثير النسوة ولكن امرأة العزيز هي التي أرادت إظهار علم وكفاءة يوسف لتثبت لهن بأنها محقة في تفضيله على زوجها.
واعترفت أيضا بأن يوسف بالتأكيد من الصادقين. ظهر الحق والآن يريد الملك أن يعرف من يوسف ذاته لماذا أصر على كشف الحقيقة.
ولذلك أرسل إليه رسولا يبلغه بأنه قد سألهن وانكشف له بأن الحق مع يوسف وليس مع النسوة بمن فيهن امرأة العزيز.
شعر يوسف احتمالا بأن الملك قد يريد معرفة السبب في إصراره على كشف الموضوع ولذلك قال للرسول:
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴿52﴾ وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿53﴾.
أبلغ يوسف الملك بأنه لم يقصد أحدا إلا العزيز نفسه الذي أدخلت امرأته الشك في قلبه حول سلامة يوسف بعد أن رأى كل أمارات السلامة فيه وبعد أن لمس بنفسه الحقيقة. يريد أن يعلم العزيز بأنه لم يخنه في غيابه حتى بأي ميل قلبي.
إن يوسف يؤمن بالله تعالى ويخاف من علام الغيوب. فلم يخف في قلبه أي غرام بزوجة العزيز. ولو كان فعل ذلك لما هداه الله تعالى إلى هذا السيل من المعرفة التي ترونها وهي فوق قدراتكم العلمية المتعارفة.
أنى للخائن أن ينال نصيبا علميا من ربه. إن الذي وضح الحقيقة هو الله تعالى لأن يوسف لم يكن خائنا له بالغيب. وبما أن يوسف يكن احتراما كبيرا للعزيز وامرأته فإنه لم يتحدث شيئا ضد المرأة وتحدث بلسان الحب والود:
ليعلم أني لم أخنه بالغيب.
يعني يوسف بأنه مهتم بالعزيز كما اهتم العزيز به، وتواق لأن يرى العزيز صديقا يرى من صديقه الوفاء ولا يضمر أي منهما أي شعور سلبي ضد الآخر.
غسل يوسف كل ما في قلب العزيز من شك ضده بإصراره على كشف الملابسات التي أخفت الحقيقة عدة سنوات. ولم ينس أن يذكر لهم بأن الذي هداه وساعده هو الله تعالى ضمن نظام الألوهية الذي يدافع الله به عن الذين آمنوا به وحده وتوكلوا عليه وحده 41.
إن النفس مصرة على البحث عمّا يشبع شهواتها وتقوم بالسعي لتحقيق الرغبات، إلا ما رحم الله تعالى. ولعل يوسف أراد أن يبشر امرأة العزيز وزوجها بأن باب التوبة إلى الله مفتوح وبأن الذي يغفر هو الله تعالى نفسه وليس هو يوسف ولا الملك.
أعطاهم يوسف مثالا من نفسه فقد توجه وتوسل بربوبية الله تعالى فساعده ربه، وعليهما أن يفعلا ذلك مع ربهما ولا حاجة لأن يهتما بيوسف وغيره 42.
يتبع …
(هامش 39 : إنه هو الذي خرق النسيج الأسري وأشرك بني إسرائيل بقوة العلم في حكم مصر. نرى ذلك واضحا تمام الوضوح حينما استفز موسى فرعون زمانه فاضطر فرعون لمحاربة موسى ولكنه هو الذي غرق وموسى الذي فر من مصر مع نخبة من بني إسرائيل وبقي قسم من بني إسرائيل في البلاط الفرعوني. ولذلك قال تعالى في سورة الشعراء:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60).
فهناك بنو إسرائيل الذين حاربهم فرعون وهم الذين عبروا البحر إلى سيناء وهناك بنو إسرائيل الذين ورثوا قصور فرعون. هم الذين كانوا ضمن الأسرة الفرعونية الحاكمة. ولذلك يأمر الله تعالى موسى أن يسري بعباده ليلا ليفصل بين المجموعتين من بني إسرائيل.
إن يوسف هو الذي أسس أساس بني إسرائيل وهو الذي أدخلهم بلاط الحكم فصاروا جزءا من منظومة الحكم في مصر. هم ليسوا جميعا مؤمنين ولكنهم بنو إسرائيل.
كما أننا نلاحظ أن يعقوب وزوجته ويوسف وأخاه من أمه كانوا مؤمنين ولكن إخوة يوسف لم يكونوا صادقين في إيمانهم بدليل أنهم سعوا لقتل أخيهم. والقتل هو أكبر معصية تُخرج الإنسان من طاعة الرحمن، وهو شرك عظيم بالله تعالى الذي يملك وحده الحق في إنزال الموت على من شاء من البشر.
فنحن الآن أمام حكاية صناعة هذه الأسرة التي ستندمج مستقبلا مع أهل مصر وتشاركهم في حكم مصر شاءوا أم أبوا على الرغم من بقاء القسم الأكبر منهم خارج نطاق الحكم وهم الذين ظلمهم فرعون موسى فيما بعد واستحيا نساءهم وقتل أولادهم بالعمل الجاد و المضني للملأ من حاشية فرعون. وسنعرف بعد قليل بأن الإسرائيليين اليوم يخطئون في مسألة مهمة تخالف قوانين الأسرة وينسبون لا شعوريا هذا الخطأ إلى باني مجدهم يوسف بن إسرائيل. نهاية الهامش 39.)
(هامش 40 : لو نراجع موارد ذكر مثل هذا السؤال وندقق في الجواب المذكور في القرآن نرى بأن الأجوبة مفصلة وليست مختزلة. فمثلا سؤال إبراهيم للملائكة كما في سورة الذاريات ثم جواب الملائكة:
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34).
ويكمل نفس السؤال في نفس القضية ما في سورة الحجر:
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60).
أو قوله تعالى في سورة القصص بيانا لحكاية وصول موسى إلى ماء مدين:
وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23).
فالجواب يمثل حكاية كاملة لبيان السبب في وقوفهما هناك مجتنبتين مزاحمة الأمة التي تسقي. أو استفسار موسى عن السامري كما في سورة طه:
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96).
نرى بأن السامري قص قصته بالكامل وذكرها الله تعالى باختصار طبعا كالعادة. نهاية الهامش 40.)
(هامش 41: قبل إكمال تفسير الآية الثانية أحب أن أوضح مسألتين: أولاهما أن يوسف ما كان بالقوة التي ظهر بها يوم الخلاص من السجن حينما دخل السجن بل كان ضروريا له أن يبقى سجينا لفترة للتنظيف والتزكية. حتى سنه وعمره كان صغيرا جدا قبل السجن حيث كان في عمر المراهقين مما لا يناسب وزارة مصر العظيمة.
والمسألة الثانية هو احتمالي بأن يوسف كان مخلصا جدا لمعلمته امرأة العزيز حيث أشرك معها نسوة الجلسة المذكورة ليسهل عليها الاعتراف بطهارة يوسف. وهذا دليل واضح على أن يوسف لم يرض أن يلحق أي أذى بامرأة العزيز وبأنه عليه السلام كان يريد لها المغفرة احتمالا ولكنه مضطر أن يبرئ ساحة نفسه لأنه نبي مرسل إليهم أو يكاد.
على يوسف الآن باعتباره رسولا مثاليا لأهل مصر أن يوضح لهم حقيقة النفس الإنسانية بأنها عاجزة عن محاربة الشهوات وعليه أن يتوجه إلى الله تعالى ليعينه على ترك السوء. نهاية الهامش 41.)
(هامش 42: قبل أن ننتقل إلى تكملة جوانب الموضوع، أرى من الضروري أن أوضح موضوعا هاما يخص إرسال الله تعالى للرسل. إذ أننا سوف نستقبل بعد قليل رسول الله ونحن جالسون في قصر فرعون مصر. بالطبع أن رسل الله تعالى ليسوا سفراء مرسلين من بلد إلى بلد صديق بل هم مبعوثون من نفس الأمم ليحملوا أوامر السماء لقومهم. ولكن هناك بعض وجوه الشبه بين سفراء الدول ورسل الرحمان. كما أن هناك وجوه اختلاف، نحصرها باختصار هنا:
1. السفراء يعرفون كل شيء ممكن لهم عن البلدان التي يتوجهون إليها بل يجب أن يتقبلهم رؤساء تلك الدول ويجب أن يعرفوا لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم إن أمكن. والرسل لا يمثلون أوطانا ورؤساء دول غريبة بل هم أهل نفس الأمة ولا يمثلون الله تعالى بل يحملون رسالته إلى قومهم. إنهم يعرفون لغة القوم أو أن الله تعالى يرسلهم فترة طويلة ليعيشوا في تلك الأمة ويتعلموا أحاديثهم ويتعرفوا على تقاليدهم وأعرافهم.
2. تسعى الدول أن ترسل سفراء من نفس دين الدولة التي تستقبلهم إن أمكن وإلا فيكونون مسالمين متقبلين دين الدولة المضيّفة وغير معروفين بالعداء لأهل ذلك الدين. والله تعالى يبعث الرسل من بين الذين يؤمنون بالله ليحملهم رسالته إلى الذين يؤمنون بالله أيضا. فلا يمكن إرسال رسول إلى قوم لا يؤمنون بالله لأنهم يفقدون أوليات الارتباط مع الله تعالى.
3. مهمة السفراء هي تصحيح لغة التفاهم بين البلدين والسعي لتقريب أفكار الدولتين والشعبين. وأما مهمة رسل الله تعالى هي إقناع قومهم بأنهم عبيد حقيقيون لله الذي يؤمنون به وبأن الله تعالى قادر على التواصل معهم ولا يحتاجون إلى واسطة بينهم وبين ربهم. ولولا ذلك لاحتاج كل أهل القرى وكل أهل المدن في كل الأزمان إلى رسل من الله تعالى. بالطبع أن هناك مهمة أخرى هي تقديم النماذج، ولا نحتاج أن نوضحها هنا باعتبار عدم ارتباط ذلك بالحياة الدنيا ولكنه من ضرورات يوم الحساب.
4. توجه الدول سفراءها إلى الحكومات ويكون ارتباطهم بالشعوب ضمنيا. والله تعالى يرسل الرسل إلى الملوك والزعماء ويكون ارتباطهم بعامة الناس ارتباطا ضمنيا أيضا. لكنهم سرعان ما يتركون المتكبرين ويبقون مع المؤمنين سواء كانوا من الأغنياء أو من الفقراء. ويمكن فهم ذلك لأن الله تعالى يرسل الرسل إلى القرى. والقرية في القرآن تعني المكان بمن يسكنونه وبقدرتهم على استضافة غيرهم واستعدادهم لذلك.
5. يهتم الحكام بأن يرسلوا رسلا وطنيين يحبون أوطانهم ولكن الله تعالى يهتم بالتقوى والعلم فقط ولا يهتم بالأوطان ولا بالعوائل ولا بالمحسوبيات الأخرى. فيكون إرسالهم إلى أهل القرى باعتبار أنهم قدوة لغيرهم لا غير.
كل تلك الصفات توفرت في يوسف وأصبح قادرا على حمل رسالة السماء، وسيأتي بعد قليل ليقف أمام سيد مصر رسولا من ربه لوضع اللبنات الأولى لصنع بني إسرائيل. نهاية الهامش 42.)
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :
بارك الله فيك فانا استفدت من مقالاتك