القصة الحقيقية للثورة المصرية ح 1 – جماعة اهل الخير

جماعة أهل الخير

نحن قوم “لا نحسب” نعمة الله علينا وإنما “نشكره” على نعمته علينا.  نعم, نحن نشكر الله فقط على نعمته.

لاحظت في العام الماضي كلما عدت إلى قريتنا الجميلة في المنوفية – كفر نفرة – إحساسًا واضحًا بالثقة في النفس وتفاؤلاً بيّنـًا بالمستقبل.  كان ذلك واضحًا في الطريقة التي يتكلم بها أهل البلد وفي لمعة الثقة في عيونهم.  كان ذلك واضحًا كذلك في الطريقة التي ينظر بها أهل البلد إلى الأخبار التي يستمعون إليها في عشرات البرامج الحوارية التي تهاجم سيادة الرئيس محمد مرسي بعنف غير مسبوق و- حتى الآن – غير ملحوق.  كان رأي أهل البلد كلهم – خلافًا لأهالي القرى المجاورة بل وخلافًا لأهل البلد كلها من الإسكندرية إلى أسوان – أن هذا إعلام مأجور يقوم على تمويله الفلول أساسًا, أي بقايا الحزب الوطني المنحل, إضافة إلى جهات أجنبية أخرى على استعداد لدفع أي ثمن, والقيام بأي عمل, من أجل القضاء على فكرة شيطانية, كافرة, شريرة, هي فكرة تبادل السلطة بطريقة سلمية مثلما يحدث في بلاد الكفار في أوربا الغربية وأمريكا الشمالية.

  كان الفرق بين أهل كفر نفرة وأهالي القرى الأخرى – كما اكتشفت فيما بعد – هو اختلاف “مصدر المعلومات”.  على حين كان أهالي القرى المجاورة يستمدون معلوماتهم من التلفزيون كان أهل كفر نفرة يستمدون معلوماتهم من مصادر قريبة للغاية من مصدر صنع القرار في مصر.  كانوا يستمدونها من الشيخ حسن العكابري. 

والشيخ حسن العكابري هذا رجل طيب يسكن على مسافة دقائق من منزل والدي في البلد في ناحية العكابري.   وهو – مثله في ذلك مثل كل من يعيش في كفر نفرة – من أهلنا, فالرجل في كفر نفرة إن لم يكن من أقاربنا فهو من نسايبنا, وفي حالة الشيخ حسن فأمه ابنة عمتى سكينة.  وعليه, فأنا أعرفه – عن قرب – من أيام ما كان طفلا.

كان الشيخ حسن منذ طفولته مثالاً للذوق, والطيبة, وحسن الخلق, والجد, والاجتهاد, والهدوء.  لم أره يومًا إلا وابتسامة الرضا تعلو وجهه.  ولم أسمع أمه يومًا إلا وهي تدعو له بأن يزيده الله فضلاً على فضله.  ما زلت أذكر إلى اليوم كيف كنت أسير مع والده  – رحمه الله رحمة واسعة, وأسكنه فسيح جناته – حينما قابلناه في الشارع وهو يرتب ملابسه, ويحمل كرته, استعدادًا للعودة إلى المنزل من أجل تناول طعام العشاء.  كان وقتها في حوالي السابعة من العمر.  سأله والده الحاج عبد السلام – رحمه الله – عما كان يفعل – كان واضحًا, طبعًا, أنه كان يلعب كرة القدم مع الأولاد – فأجاب حسن بأنه كان يلعب كرة القدم.  عندها سأله الحاج عبد السلام عن “النتيجة” فأجاب حسن أن النتيجة كانت ستة واحد.  فبدت علامات الدهشة – المصطنعة, طبعًا – على وجهه وقال: ستة واحد؟  هل تريد أن تقول لي يا حسن إنك كنت تلعب ضد فريق لا يزيد عمر أكبرهم عن ست سنوات وتسمح لهم أن يسجلوا هدفًا ضد فريقك.  لم أكن أعلم أن فريقكم ضعيف إلى هذا الحد.  رد حسن “بهدوء” أنهم لم يسجلوا هدفا ضدهم ولكن حسن هو الذي سجل هدفًا ضد نفسه قبل انتهاء المباراة بدقائق لأنه “ليس من الأدب” أن يعود الأطفال إلى منازلهم والنتيجة ستة صفر وخاطرهم مكسور.    حدث ذلك منذ أكثر من ثلاثين عام ولم أنسه إلى الآن ولن أنساه ولو بعد ثلاثين عام.  

لهذا, ولصدقه, وأمانته, ولاستعداده لمساعدة خلق الله, سواء كانوا من ناحية العكابري, أم من ناحية شاهين, أم ناحية قرطام, أو حتى من كفر هلال لا من كفر نفرة.  لتدينه, ومداومته على الصلاة في المسجد فجرًا, وظهرًا, وعصرًا, ومغربًا, وعشاء, ولذوقه, وأخلاقه, منح أهل كفر نفرة الشيخ حسن أعلى وسام يمكن أن يمنحه الناس في كفر نفرة لأي إنسان.  أطلقوا عليه اسم “الشيخ حسن”.  وهو لقب لا يطلقه أهل بلدنا إلا على خريجي الأزهر الشريف, أو أولياء الله الصالحين, أو كبار القوم.   موضوع أن يطلقوه على طفل في السابعة من العمر هذا كان أمرًا غير مسبوق ولا ملحوق. 

دائمًا ما كنت أرى الشيخ حسن كلما عدت إلى كفر نفرة, فإما ذهبت إلى منزل عمتي سكينة ورأيت الشيخ حسن هناك, وإما جاءت عمتي سكينة إلى منزلنا وجاء الشيخ حسن معها.  إلا أن دوام الحال من المحال, إذ توفى الله الحاج عبد السلام العكابري في سن صغيرة للغاية, واضطر الشيخ حسن إلى ترك الدراسة قبل الانتهاء من المرحلة الإعدادية, وذلك من أجل رعاية الأرض التي تركها لهم والدهم رحمه الله, إذ كان يستحيل أن يكفيهم إيجارها في سداد احتياجاتهم وذلك في حالة ما إذا فكروا في تأجيرها.   كما اضطر الشيخ حسن فيما بعد إلى ترك البلد بالكامل والبحث عن رزقه في مكان آخر حينما أصبح واضحًا تمام الوضوح أن مسألة “أكل العيش” من الزراعة في مصر هي مسألة خسرانه تحتاج إلى محتالين وليس إلى فلاحين.  لم يكن الشيخ حسن يوما محتالا, وعليه قرر السفر إلى الإسكندرية.

لم يكن لدى الشيخ حسن ما يقدمه لمخلوق سوى حسن خلقه, وهذه للأسف – لشديد الأسف – سلعة غير مطلوبة في مصر.  لم يكن هناك عمل يمكنه أن يؤديه مقابل أجر سوى العمل كعتال في الميناء لتفريغ السفن وتحميل السفن.  كان العمل مرهقًا للغاية إلا أن الشيخ حسن لم يشتكِ يوما.  لم ينعم الله على الشيخ حسن بحسن الخلق وحسب, بل أنعم عليه بموفور الصحة أيضا.  وهكذا استقر الشيخ حسن في عمله الجديد وهو يحمد الله على ما آتاه.

لم تمضِ أشهر, على أية حال, حتى كان الأمر قد استقر على مناداته – مرة أخرى – باسم الشيخ حسن.  وهو أمر فعله العتالون وباعة الفول والشاي من تلقاء أنفسهم.  لم يكن أحد من أهل الإسكندرية على علم بأن هذا هو اسمه لدى أهل كفر نفرة.   أثبت أهل الاسكندرية, بهذا الشكل, أنهم ليسوا أقل ذكاء, ولا أقل طيبة, من أهل كفر نفرة.  إذا كان أهل كفر نفرة قد استطاعوا التعرف على حسن خلق طفل في السابعة من العمر, فقد استطاع أهل الإسكندرية التعرف على حسن خلق شاب في السابعة والعشرين من العمر.   لا بد من الاعتراف أن هذا شيء نادر غاية الندرة في مدينة الإسكندرية.  إلا أنهم فعلوها.

لم يكن أهل الإسكندرية, بالطبع, ليتركوا الأمر يمر هكذا بدون استفادة.  وعليه, بدأ العتالون, وباعة الشاي والفول, وعمال الميناء في اللجوء إلى الشيخ حسن ليكون حكما بينهم فيما يشجر بينهم من خلافات.  لم يكن “المخلّصون” لتتأخر استفادتهم هم أيضا من حسن خلق الشيخ حسن وثقة الناس به.  وعليه بدأوا في اللجوء إليه ليحكم في المنازعات التي تطرأ بينهم وبين موظفي الجمرك, بل إن موظفي الجمرك نفسه بدأوا في اللجوء إليه لحل المنازعات بينهم وبين التجار.  وهي “كلها” منازعات تتعلق بالإكراميات والعمولات.  أي بالفلوس.   لم يعتذر الشيخ حسن يومًا عن حل مشكلة.  لم يقبل الشيخ حسن يومًا مليمًا واحدًا مقابل حل مشكلة.  حتى لو كانت المشكلة تتعلق بملايين.  لم يشعر الشيخ حسن يومًا بالضيق من كل هذه المشاكل التي أحاطت به والتي بدأت في التضييق على الوقت المطلوب لأداء عمله.  كان شعور الشيخ حسن أن العتالة عمل يؤديه من أجل لقمة العيش, أما تخليص مشاكل الناس فهو عمل يؤديه من أجل وجه الله.  وطالما رزقه ربه بثمن طعامه, وإيجار الغرفة التي ينام فيها, وقرشين يرسلهم إلى أمه في كفر نفرة فالحمد لله.

لم يكن الضيق ليطول, على أية حال, فسرعان ما بدأ المخلصون في اللجوء إلى الشيخ حسن “لتخليص” الأوراق مع موظفي الجمرك.  كان الكل يعلم أن الشيخ حسن لم يكن ليقبل إطلاقًا بمبدأ “الحلاوة”, أو “الشاي”, أو أي تسمية أخرى مقابل تخليص الأوراق.  لم تكن كرامة الشيخ حسن, ولا أخلاق الشيخ حسن, لتسمح بذلك.  إذا أردت “تخليص” أي أوراق عن طريق الشيخ حسن كان عليك أن تخبره بالجهة المطلوب التوجه إليها في الجمرك, و”العمولة” التي كنت على استعداد لدفعها بـ”الضبط” والتي لا يوجد لديك أي استعداد لزيادتها ولو جنيها واحدًا, ثم “أتعاب” الشيخ حسن شخصيا, وهي أتعاب سيحددها الشيخ بعد الانتهاء من التخليص حسب الوقت والمجهود الذي احتاجت إليه.  كان المخلصون يعلمون أن العمولة التي يعرضونها ستصل بالكامل إلى أيدي الموظفين, كما كان الموظفون يعلمون أن العمولة التي يعرضها الشيخ حسن هي العمولة التي ليست بعدها عمولة.  هذه هي نهاية المطاف.  هذا هو نظام الشيخ حسن.   كان الكل يعلم كذلك أن الشيخ حسن لا يقبل على نفسه “سحتوتا” واحدًا  من الحرام.  كله على المكشوف.  

لم تأخذ المسألة طويل وقت, حقيقة الأمر, حتى كان الشيخ حسن قد أصبح واحدًا من كبار المخلصين في الاسكندرية, إن لم يكن أكبر مخلص.  حقيقة الأمر, كانت المشكلة الوحيدة التي قابلها الشيخ حسن هي في كيفية الاعتذار عن قبول طلبات التخليص.  كان الشيخ حسن مضطرًا إلى أن يشرح مرة بعد مرة أنه يقوم كل مرة باستلام الأوراق بنفسه, وتسليمها بنفسه, ومتابعتها بنفسه وذلك لكي “يطمئن قلبه” على حسن سير الأمور, وأنه لهذا السبب لا يستطيع أن يعطيها إلى موظفين لكي يقوموا بتخليصها.  كان الشيخ حسن لا يمل من تكرار أنه ليس “صاحب مكتب تخليص” وإنما هو مجرد “مخلًص” وأن لا أحد في هذا العالم يستطيع تخليص كل شيء بنفسه.

في مدينة صغيرة مثل الإسكندرية حيث يعرف كل فرد فيها ما يفعله كل فرد آخر فيها لم يكن “خبر الشيخ حسن” ليغيب طويلا عن كبار القوم فيها.  وهكذا وصل “خبر الشيخ حسن” إلى علم سيادة المهندس خيري عبد الرحمن.  أخبر رجال سيادة المهندس خيري في جمرك الاسكندرية سيادة المهندس خيري عن هذا الشاب المنوفي الدّيّن, الملتزم, المجتهد, “النظيف”, الذي يلجأون إليه باستمرار, والذي يعتذر إليهم باستمرار كذلك عن عدم استطاعته قبول كل هذه “المعاملات”.   لم يمل الشيخ حسن من بيان أنه لا يستطيع أن يقبل طلبات أي فرد طوال الوقت, تماما مثلما لا يستطيع أن يرفض طلبات أي فرد طوال الوقت.   المسألة تحتاج إلى توازن.  لا يمكن قبول “كل” معاملات المهندس خيري لأن معنى ذلك سيكون رفض “كل” معاملات الناس الآخرين.   وهذا عمل لا يرضاه الله.  

في حالة المهندس خيري, على أية حال, كان الأمر مختلفًا تماما.  كان سيادته على ثقة تامة بأن هذا خير عمل يرضاه الله, إن لم يكن العمل الوحيد الذي يرضاه الله.   فتجارة المهندس خيري, وشركات المهندس خيري, وأموال المهندس خيري, و”معاملات” المهندس خيري هي كلها ملك لله, وعلى من أراد رضا الله أن يعمل في ملك الله.  وسوف يعمل الشيخ حسن, بإذن الله, في خدمة الله.

لم يكن الأمر صعبا.  في حالة المهندس خيري لا يوجد شيء صعب.  وعليه, أرسلت “جماعة أهل الخير” مندوبها يطلب عون الشيخ حسن, ولم يتأخر الشيخ حسن.  فأرسلت جمعية “علوم الخير” هي الأخرى مندوبها يطلب العون هو الآخر من الشيخ حسن.  ولم يتأخر الشيخ حسن.  ثم أرسلت “جماعة أهل الخير” مندوبها لشكر الشيخ حسن وإخباره أن الجماعة قررت إقامة احتفال يسعدها أن يشرفه بحضوره وإعطائهم الفرصة للتعبير عن عرفانهم بالجميل لما قدمه لهم, على حين أرسلت “جمعية معارف الخير” مندوبها طلبًا لمساعدته على إدخال شحنة من الكتب أرسلتها السعودية ولم يهتم بتخليصها أحد حيث لا عمولة حقيقية فيها ولا أتعاب.    لم يكن الشيخ حسن ليرفض القيام بعمل لوجه الله, أو إعطاء مال لوجه الله, أو تخصيص وقت لوجه الله.  وهكذا لم يمضِ وقت حتى لم يعد لديه وقت “تقريبًأ” لعمل سوى العمل لوجه الله. 

اتصل المهندس خيري ذات يومٍ بالشيخ حسن العكابري على هاتفه الخاص ودعاه إلى حضور حفل أقامته “جماعة أهل الخير” لتقديم الشكر لكبار أهل الخير في مدينة الإسكندرية وأيضًا لطلب العون منهم.  بين سيادته أنه, وحسب ما وصله من أخبار الشيخ حسن, يعلم أن الشيخ لن يتأخر عن تلبية نداء خير.  وهكذا اتفقا على اللقاء في مبنى “جماعة أهل الخير” في شارع المعسكر الروماني في رشدي لصلاة الظهر سويا ثم حضور الاحتفال.

لم يكن قد سبق للشيخ حسن أن رأى مبنى بكل هذه الفخامة, ولا كل هذا التواضع.  الأرض رخامية لامعة, والجدران بيضاء ناصعة, وآيات القرآن محفورة على الجدران, ولا صوت هناك على الإطلاق سوى صوت الشيخ محمود صديق المنشاوي وهو يتلو بصوت خافت آيات من كتاب الله الكريم.  صعد إلى الطابق الحادي عشر حيث استقبله مجموعة من الشباب خير استقبال, مرحبين به خير ترحيب.  تعجب الشيخ حسن في نفسه من هذا الاستقبال من هؤلاء الناس الذين يعرفونه ولا يعرف هو عنهم شيئا.   فعلاً البلد صغيرة, ولا يخفى على أحد منها ما يعمله كل واحد منها.   لم تمضِ دقائق حتى امتلأت القاعة برجال يعرف الشيخ حسن كل واحد منهم.  هؤلاء هم كبار رجال البلد.  رحب كل واحد من رجالنا الأفاضل بشيخنا الفاضل, وأثنى عليه, وأعرب عن أمله في أن ينضم إليهم في “جماعة أهل الخير”  من أجل العمل على نشر الخير بين المحتاجين.   انتقل الجميع بعد ذلك إلى قاعة الطعام حيث تناولوا طعامًا طيبا لا يختلف عن طعام عمتي سكينة في شيء سوى أن كمية “الحلويات” أكثر, فهناك “قطايف” و”مهلبية” إلى جانب “الكنافة”,  وهذا شيء لم يسبق له أن رآه على موائد العكابري, ولا شاهين, ولا حتى قرطام. 

استمر الحفل حتى صلاة العصر, وبمجرد الانتهاء من الصلاة انصرف الحضور ولم يتبق سوى العاملين في “جماعة أهل الخير” وكلهم أناس يبدو على وجوههم الصلاح, إضافة إلى أولئك الشباب الذين رآهم أول ما جاء والذين لم يكن يعرف ماذا يفعلون بالضبط في الجمعية.  حيا المهندس خيري الشيخ حسن بصوت مرتفع معربًا عن سعادته بلقاء رجل تتحدث الإسكندرية عن فضائله.  لم يرد الشيخ حسن.  لم يستطع أن يقول سوى “نشكر الله على فضله.  كل من فضل الله”.  استمر سيادة المهندس خيري في حديثه قائلاً إنه يطمع في أن ينضم الشيخ حسن إليهم في العمل من أجل الله وحده.  حقًا, يعلم أهل الإسكندرية جميعا أن لا أحد يفوق الشيخ حسن في العمل لوجه الله إلا أن ما يطلبه منه هو العمل لوجه الله وحده.  قد يكون الأمر صعبا.  قد يتطلب تضحية.  إلا أنه يعلم أن الشيخ حسن على استعداد دائما للقيام بكل عمل وتقديم كل تضحية. 

أوضح المهندس خيري, كل الوضوح, أن ما يطلبه من الشيخ حسن هو التفرغ لأعمال التخليص الخاصة بالجمعيات الخيرية في كل مصر وليس فقط الإسكندرية.  بين سيادته أن تكلفة تخليص هذه الأعمال من عمولات, وأتعاب, وإكراميات, قد بلغت مبالغ طائلة.  وهي مبالغ تقتطع, في نهاية الأمر, من ميزانية أعمال الخير.  أي تذهب إلى أيدي أناس لا يحتاجونها بدلا من أن تذهب إلى أفواه أطفال يحتاجونها.  بين سيادته أن قبول الشيخ حسن للوظيفة التي يعرضها عليه سوف يوفر هذه الأموال لهذه الأطفال.  أوضح سيادته أيضا أنه لن يقبل أن يؤدي قبول الشيخ حسن لهذا العرض إلى أي خسارة مالية له, وعليه فكل ما يطلبه هو أن يحدد الشيخ حسن بنفسه المبلغ الذي يطلبه مقابل قبوله هذا العرض شريطة ألا يقل جنيهًا واحدًا عن الدخل الذي يحققه الآن.   يعلم أهل الإسكندرية جميعًا أن الشيخ حسن رجل صادق, وعليه فإن المهندس خيري سينظر إلى أي مبلغ يضعه الشيخ حسن في العقد على أنه “شهادة” الشيخ حسن أمام الله أن هذا هو دخله لا ينقص جنيها.    مد المهندس خيري يده إلى الرجل الجالس بجواره فأعطاه ورقة قدمها سيادته إلى الشيخ حسن وهو يقول بصوت واضح “بسم الله الرحمن الرحيم.  فاتحة خير إن شاء الله”.  مد الشيخ حسن يده ليمسك بالورقة وما أن أمسك بها حتى ناوله الرجل الجالس بجواره قلما وهو يقول بصوت خافت إلا أنه واضح كذلك “الحمد لله.  الخيرة فيما اختاره الله.  توكلنا على بركة الله.  ألف مبروك”. 

“تجمد” الشيخ حسن في مكانه.  لم يأتِ الشيخ حسن هنا لتوقيع عقد.  ولم يحلم في حياته بالعمل لدى كبار رجال الأعمال.  ولم يطلب منه أحد “في التاريخ” أن يضع أي رقم يحبه على عقد عمل.  حقيقة الأمر, لم يسبق له أن وقع على عقد عمل في حياته.  هذا مصطلح يقتصر على من فتح الله عليهم بعقد عمل في السعودية أو الكويت.  أما في حالته هو فلا أمل له لا في السعودية ولا في الكويت, فهو رجل “أرزقي” يخرج كل يوم ليكسب رزقه لهذا اليوم.  أضف إلى ذلك أنه لا يعرف, حقيقة الأمر لا يعرف, “دخله الشهري”.  كيف يعرف دخله الشهري وهو لا يعرف دخله اليومي؟   دخله اليومي متقلب, متغير.  كل يوم يأتي برزقه, وهو لم يحسبها أبدًا.  كيف لإنسان أن “يحسب” نعمة الله عليه؟ إن نعم الله لا تعد ولا تحصى.  نحن قوم “لا نحسب” نعمة الله علينا وإنما “نشكره” على نعمته علينا.  نعم, نحن نشكر الله فقط على نعمته.

ربت الرجل الجالس على يمينه على كتفه برفق قائلا له “شيخ حسن.  توكل على الله فما خاب من اتكل على الله.  أنت رجل طيب وتستحق كل خير.”   نظر الشيخ حسن إليه وقال “لازم أكلم أمي.  أنا لم أتعود على أن آخذ أي قرار قبل مشورتها.”  امتدت الأيدي بالهواتف لكي يتصل الشيخ حسن بوالدته في كفر نفرة.  اتصل الشيخ حسن بوالدته وسألها عن صحتها وأخبرها أنه بخير ثم نظر إلى الحضور متسائلا إن كان هناك مكتب يستطيع الذهاب إليه لأن “الخط سيء” وصوت أمه غير واضح.  أشار البعض إلى مكتب مجاور لا يوجد به أحد.  تحدث الشيخ حسن مع والدته لدقائق ثم خرج ليطلب سجادة صلاة.  أخبره الحضور على الفور عن مكان سجادة الصلاة في المكتب الذي كان فيه.  صلى الشيخ حسن ركعتي استخارة وخرج وعلى وجهه نفس الابتسامة  التي رسمها الله على وجهه من يوم ولد.  ابتسامة الرضا بما قسم الله. 

أمسك الشيخ حسن بالقلم ووقع العقد.  فقط وقع العقد.  نظر المهندس خيري إلى العقد وطلب من الشيخ حسن أن يملأ الفراغ في السطر الخاص بمبلغ العقد.  ابتسم الشيخ حسن وقال إنه لم يوقع على هذا العقد طلبًا لمال وإنما طلبًا لرضا الله, وإنه يقبل العمل مقابل أي مبلغ.  أمسك المهندس خيري بالقلم وعبأ الفراغ.  نظر الشيخ حسن إلى الرقم وابتسم ابتسامة الرضا.  ولا في الأحلام.  والله العظيم ولا في الأحلام.  فضل من الله ونعمة.  وهكذا أصبح الشيخ حسن العكابري المسؤول الأول في مصر عن “تخليص” المعاملات الخاصة بكل الجمعيات الخيرية التابعة لـ “جماعة أهل الخير”. 

كمال شاهين 

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلاميhttps://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.