يوسف ايها الصديق ح 5

تواصلا مع تفسير سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح 5

إخوة يوسف :

نعرف من القرآن بأن الله تعالى لا يأخذ قراراً قبل أن تتهيأ كل الأسباب أو قبل أن يهيئها هو سبحانه بنفسه.

أظن أن إخوة يوسف جلسوا للتآمر قبل أن يرى يوسف حلمه المذكور. إنه سبحانه أخذ قراره بإعداد يوسف للمهمة الصعبة لأن إخوانه كان قد ظهر عليهم ضعف نفوسهم وقلة عزيمتهم أمام شهوات النفس. ظهر منهم الضعف فأرى سبحانه يوسف الرؤيا العظيمة.

لنفتح عيوننا قليلا لنرى كيف أن الله تعالى المحيط بهم جميعا يأخذ قراره لمصلحة الهدى العام.

إنه تعالى يريد أن يعين الأنبياء من سلالة إبراهيم لأسباب لا نعرف عنها إلا القليل ولا يريد أن يعين نبيا من سلالة إسماعيل ليخلو الجو هناك لأمة أخرى لها دور بعيد في مستقبل الأيام.

إنه سبحانه مهتم بظهور ما يمكن أن يظهر على الناس فلا يكون للناس حجة على ربهم حينما يأخذ قراره الحكيم.

نحن نعلم بأن حسن الألوهية أن يستبد ربنا برأيه وليس من صالحنا ولا من الممكن أن يهتم الله تعالى بإرادة الخلق، لكنه سبحانه يهتم كثيرا بتكامل حيثيات القرار قبل أن يقرر. إنه سبحانه في منتهى العدالة ويعتني بكل أفراد خلقه دون استثناء ويغلق الباب دون أيّة حجة للخلق.

فقراره باجتباء يوسف غير منفصل عن عدم كفاءة إخوانه للأمر الخطير. ولذلك اعتبر سبحانه يوسفَ وإخوانه جميعا أبطالا لهذه القصة الغريبة. فحتى نعرف القصة بدقة علينا أن نذهب إلى جلسة الإخوة:

إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴿8﴾

جلس الإخوة في معزل عن الأبوين وعن يوسف وأخيه الأصغر منه مهتمين بمسألة حمقاء لا قيمة لها في منطق السماء. إنهم كبار لا يحتاجون إلى أبيهم بل إن أباهم بحاجة إليهم ليساعدوه في أمور دنياه ولكنهم مهتمون بمحبة أبيهم التي يقدمها إلى أخويهم الصغيرين لحاجتهما فعلا إلى المزيد من محبة الأب باعتبار عمرهما الصغير.

وكان استدلالهم أحمقا. إنهم ينظرون إلى وجوب مبادلة أبيهم الحب لهم لأنهم عصبة يحتاج إليهم الأب للحماية. لقد نسوا الطفولة وحاجة يوسف وأخيه إلى حبهم وحب أبيهم وذهبوا تماما وراء وساوس الشيطان كما احتمله أبوهم ودون أن يعلموا شيئا عن رؤيا أخيهم بل قبل أن يرى تلك الرؤيا.

اعتبروا أباهم في ضلال واضح بأنه يعامل الطفلين الصغيرين بحنان يتناسب مع طفولتيهما ولا يبدي نفس الحنان لهم، ويبدو أن ذلك كان يبدر من يعقوب لأنهم كبار يحتاجون إلى النصيحة التي كان يقدمها لهم أكثر من حاجتهم الى الحنان.

إنه نبي ينصح الغير ويسعى في هدايته فكيف لا يسعى إلى هداية أبناءه؟ والواقع أن ما كانوا يتوقعونه من أبيهم كان مجرد مظهر من مظاهر اتباع الشياطين الذين يسعون لإقناع رجال ناضجين هم آباء وأزواج أن يبقوا أطفالا صغارا في عيون أبيهم.

ليس هناك منطق وراء توقعات هؤلاء الإخوة الضالين المغرر بهم إلا أن نقول بأنهم كانوا يبحثون عن عذر لإبعاد أخيهم يوسف من البيت الكريم.

ولو نفكر فإن الكثير من استدلالاتنا ضد بعضنا البعض هي من هذا النوع ونرى الكثير من الحروب والصراعات بين الناس مبنية على أسس واهية مثل تلك.

عصبة كبيرة من عشرة إخوان يتفقون على التفريق بين يوسف وأخيه بقتل يوسف ليُشعروا يعقوب بأن العصبة الثنائية قد انهارت في مقابل العصبة العشرية الباقية. فكأنهم كانوا يعتبرون كل طفل منهما أكثر من خمسة منهم ولذلك أرادوا ألا يبقى منهما إلا واحداً فيكون أقل من العشرة!

والذي يؤلم العاقل هو أن أبناء البشر لا يتفقون في أكثر أفكارهم الإيجابية ولكنهم يتفقون في السلب بسرعة وبكل جرأة وصلافة ووقاحة. وهذا دليل واضح على وجود قوة غيبية خافية وراء تلك السلبيات تؤيدها فيقتنع الناس بها وينفذونها. وهو بدوره دليل واضح على وجود الشيطان.

هناك بين البشر قضايا مشابهة كثيرة لقضية ابني يعقوب الصغيرين مع إخوانهما الكبار فكيف يتقبل العقل مثل هذه المقارنات الخاطئة إن لم نعتقد بوجود الشيطان الخبيث وسعيه لإقناع البشر بترك الخير واتباع الشر؟ فتعالت أصوات أفراد من العصبة الحمقاء:

اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴿9﴾

إنهم لا يريدون التخلي عن الصلاح ولذلك يريدون أن يقتلوا أخا لهم ثم يكونوا من بعده قوما صالحين. هكذا يخلط الإنسان الشرك مع الإيمان وهو لا يعرف بأن الله تعالى لن يتقبل أي عمل مهما كان، من المشرك.

الإماتة لإنسان آخر ليست من حق أحد أبدا بل هي من حق الله تعالى. ذلك لأنه سبحانه لا يميت فعلا بل ينقل الإنسان من عالم المادة إلى عالم المجردات فموت النفس بموت بدنها الذي تتحرك فيه وليس بموتها هي بالنسبة للذي يرى ذلك وهو الله تعالى.

لكن الموت ذاته لو تمّ على يد إنسان لا يرى ذلك الانتقال الجميل فهو إعدام سلبي كامل يخالف المنطق والعقل السليم.

لقد أذن الله تعالى أن نقتل القاتل دون إسراف أو نقتل فقط المفسدَ الذي يخرب الأرض ويهلك الحرث وما يعتاش عليه البشر.

وهؤلاء القوم هم من أسر الأنبياء الذين كانوا مسلمين عالمين بحرمة القتل ولكنهم يقنعون أنفسهم بأن يقتلوا أخاهم ثم يعملوا الصالحات! و بمثل هذا التبرير الأحمق للإثم الكبير يبرر المجرمون أعمال القتلة بأنهم تابوا وأتوا بالشهادتين حين هلاكهم مثلا أو بأنهم اعتدوا وكانوا يتوبون بعد كل اعتداء فلا بأس بهم فهم على كل حال أصحاب أحد الأنبياء أو أهل بيته مثلا! هكذا يخدع الشيطان الناس فلنتورع.

لعل بعض إخوة يوسف لم يقبلوا بالقتل فاقترحوا أن يطرحوه أرضا بعيدة عن أرضهم بحيث لا يمكنه العودة إلى الأرض المقدسة التي كانوا يعيشون فيها أو بجوارها.

هم كانوا يعيشون في الأرض التي عاش فيها جدهم إبراهيم. ولم يكن لإبراهيم غير ابن واحد هناك وأما ابنه الأكبر فقد بقي في مكة ليكمل بناءها ويجعلها مكانا ملائما للحجيج من كل الأرض.

ثم ورث إسحاق بيت إبراهيم ولم يذكر القرآن أولاداً لإسحاق عدا يعقوب. ولكن اليهود يذكرون له أولادا آخرين مثل عيسو. مما لا شك فيه لدى أهل القرآن بأن يعقوب هو الابن الأكبر لإسحاق وهو الذي وعد الله تعالى والديهما إبراهيم وزوجته أن يرياه. قال تعالى في سورة هود:

وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ (71).

لم يعلم إخوان يوسف بأنهم يفعلون منكرا سوف يوظفه الله تعالى لإعلاء شأن يوسف. لقد كان غائبا عنهم تماما بأنهم هم الذين فرشوا البساط الأحمر لمجد يوسف وبأنهم حفروا قبورهم بأيديهم.

وأكثر الظن بأنه سبحانه أرى يوسف الرؤيا بعد الجلسة التآمرية الخطيرة لإخوانه لئلا يخاف ويخشى مما سيحل به على أيديهم.

يعلم يعقوب كما يعلم يوسف بأن هناك مستقبلا مشرقا أمامه، فعليه أن يصبر وعلى أبيه أن يصبر. بقي المنام خفيا بين يعقوب ويوسف ولم يبدياه لأحد لعلمهما بأن ذلك لا يرضي الله تعالى ولا يعود عليهما بالنفع.

من هنا نسير مع خطَّي مكر، أحدهما باتجاه الباطل والآخر يتحرك في داخل ذلك الخط الباطل باتجاه الحق ولا يعلم أي من أصحابهما شأن الفريق الآخر والمدير هو الله تعالى الذي يدير كل شيء لما يفيد ولا يعبأ بما يقصده المنفذون من خير أو سوء.

لكنه سبحانه يثيب المحسنين ويعذب المسيئين. فكل شيء في الواقع يسير باتجاه الإرادة المهيمنة العليا لكن الناس والجن يُمضون اختبارا عسيرا وخطيرا لنفوسهم في هذه المعمعات الكبرى التي نراها ورآها من سكنوا الأرض قبلنا.

وفي النهاية تفوَّق ذلك المسار الرقيق الذي كان محاطا بالباطل على ذلك الباطل فأرغم كل الذين أتوا به على ان يذعنوا للحق  كما سنرى.

هكذا يسيّر الله تعالى كل الأعمال لصالح أهدافه الخيرة الكبيرة دون أن يشعر المستكبرون. فلنشكره سبحانه حتى على المصائب لو كنا مؤمنين فعلا ومحبين فعلا وموحدين حقا. قال تعالى في سورة السجدة:

 فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17).

فلينظر كل واحد لعمله وليسْعَ لتصحيح أهدافه وتطهير نفسه وكفى.

لقد أبدى كل واحد منهم في الجلسة المشؤومة حقيقته فمنهم من وافق على التخلص حتى ولو بالقتل ومنهم من رأى القتل كبيرا فوافق على النفي. لكن أحدهم ولعله أكبرهم الذي يبدي فيما بعد اهتماما كبيرا بتعهده لأبيه، أصر على عدم القتل هكذا:

قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴿10﴾

هذا الأخ شعر بوخز شديد للضمير من أن يقوم إخوانه وهم في كمال العمر بقتل أخ صغير لهم لمجرد أن أباهم يعامله نفس المعاملة التي يعاملون أطفالهم الصغار بمثلها.

إنه شعر على ما يبدو بأن هذا الطفل الصغير غير مذنب وليس له مكر ضدهم لاستمالة أبيهم؛ لكن طفولته هي التي تفرض على أبيهم الحنون أن يبدي له ولأخيه الأصغر عطفا أكبر.

ومن أغرب الغرائب أن يقوم من يؤمن بالله تعالى وبنبوة يعقوب بهذه المؤامرة الظالمة ضد أخيه وضد أبيه النبي الأمين.

حقا أن هذا الأخ الأكبر لم يكن موافقا على العملية النكراء ولكنه رأى في ابتعاده عنهم خطرا أكبر على يوسف وأخيه. شعر الأخ المذكور بأن عليه أن يبقى معهم ليمنعهم من القسوة التي أبدوها ومن المحتمل أن يكون هدفه من مشاركتهم هو حماية يوسف وأبويه.

هكذا يختبر الله تعالى النفوس وهكذا يبلي السرائر في الدنيا قبل الآخرة أحيانا.

وأخيرا لم يُبدوا الموافقة النهائية على رأي ولكنهم اتفقوا على التخلص من يوسف بشكل من الأشكال كما اتفقوا على أن يبدأوا بإقناع أبيهم ليرضى بأن يذهب يوسف معهم للتنزه ثم يروا فيه أمرهم. واتفقوا على لحن خاص يخاطبون به أباهم فتقدموا إليه و:

قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴿11﴾ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴿12﴾

هذه الفئة المتآمرة كانت تبدي الحب والود ليوسف الصغير على أن القلوب لم تكن كما يظهر من حسن المعاملة والكلام الجميل وإغداق العطف.

كان يوسف وأخوه يظنان بأن إخوانهما يحبونهما ولم يبد عليهما إلا الرضا من الإخوة. فمسألة الود والحب وتمني كل خير ليوسف كان أمرا ملحوظا بحيث لم يحتاجوا البحث عن ادلة لإثبات ذلك.

كل الأسرة كانت تعتقد بأن الإخوة ناصحون ليوسف ويريدون له كل الخير، إلا أن يعقوب كان يبدي بعض التحفظ على إرسال يوسف معهم باعتبار صغر سنه وعدم تكافؤه معهم في الركض وفي الدفاع عن النفس.

كانت الرحلات السياحية قديما رحلات سباق وصيد وخاصة بين الشبان فلم يحن بعد الوقت الذي يلتحق فيه الأخ الصغير بمجموعة الفتيان الأقوياء من أهله.

فقالوا لأبيهم: أنت تعرف بأننا نحب أخانا ونحب أن يشاركنا في رحلاتنا وسوف نخصص يوم غد للهو والرتع دون السباق والصيد فلم لا توافق على أن يرافقنا ليلهو ويأكل من صيدنا في أجواء أراضي البلد الذي عاشوا فيه؟ سوف يستمتع كثيرا وسوف نشعر بالفرح في مصاحبة أخينا الصغير ونحن نعدك بأن لا نبتعد عنه لحمايته من كل سوء.

فزع يعقوب احتمالا من عرض أبنائه لأنه قد احتمل فيهم الكيد إن سمعوا ما سمعه من يوسف. إن كل احتمال وارد حين المشاركة في سفرات اللهو واللعب فإن فتح يوسف فمه بالمنام الخطير فسوف يكون مصيره الموت على يد إخوانه.

ولا ريب أنه عليه السلام فكر في أن تأويله لرؤيا ابنه صحيح وبأنهم عاجزون عن الكيد المميت بيوسف ولكنه يكره أن يرى أبناءه قد تورطوا بعمل مشين ضد أخيهم الصغير.

لقد دارت في ذهنه عشرات التعابير لإبداء رأيه قبل أن يفتح فمه ويحرّك لسانه احتمالا.

شعر بأن الطلب معقول وبأن ظهوره بعد المنام دليل واضح بأن طريق العلياء يمر من أبنائه العشرة لصالح يوسف.

فكر في كل شيء فرأى بأنه عاجز عن الممانعة لأن هناك إرادة قوية وراء العملية ولا يحب أن يستمع لوما من ربه الرؤوف الرحيم. لا يريد أن يسمع من الله تعالى ما سمعه نوح حينما أخطأ في تفسير ما يحدث أمامه بدقة ليعرف بأن ابنه ليس من أهله ولولاه لما قدر الله تعالى له الغرق أو أنه سبحانه لم يعد نوحا بأن ينجي أولاده جميعا. لم يعد الله نوحا بأن ينجي زوجته ولكنه وعد بأن ينجي بقية أهله.

 لم يكن أمام يعقوب حيلة غير الموافقة ولكنه أراد أن يقفل عليهم كل باب فلا يقولوا فاتنا ذلك وما انتبهنا لهذه وعميت علينا تلك. ولذلك فإن الأب العجوز وبلحن لا يدل على المنع المؤكد بل ينطوي على الموافقة المشروطة:

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴿13﴾

هذا كل ما يمكن أن يقوله يعقوب ردا على طلب أولاده الذين هم – احتمالا – أسباب لتقدير إلهي كبير.

يعرف يعقوب بأن الله تعالى لا يسمح لأي فعل أن يتحقق دون أن يكون فيه فائدة مرجوة وإلا فقدَ هيمنته على أعمال الكائنات. ولذلك يقوى الاحتمال بأن الله تعالى أرى ابنه المنام بعد أن اتفق أبناؤه على أمر يساعد على تسنم يوسف ذروة المجد. ولعله رأى بأن من الخير أن يصارحهم بأنه يتألم أن يرافقهم يوسف خوفا من أن يغفلوا عنه فيأكله الذئب.

من يدري فلعل الله تعالى وضع الجملة على لسانه ليكون مخرجا للإخوة الذين نووا القيام بعمل قبيح لهم وضار بهم وبكل الأسرة ولكن نتائجه ستكون مفيدة مرضية للجميع بإذن الله تعالى.

لم يكن الإخوة بحاجة إلى أن يتفطنوا لكل ما يمكن أن يسمعوا من جواب لطلبهم فهم يعرفون أباهم ويعرفون بأنه شديد الخوف على يوسف وأخيه. هو هذا الذي ينغصهم ويشعل في قلوبهم نار الحقد، فكيف لا تخاف علينا من أن يأكلنا الذئب؟ كان الشيطان مستوليا عليهم ويوحي لهم بكل ما يزيد الشقة القلبية سعة وابتعادا عن الحق والعدل. وبكل وقاحة وإضمار للشر:

قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴿14﴾

من الطبيعي أن ينتظر يعقوب هذا الرد المستنكر منهم. إنه لا يعرف ما يضمرونه ولكن كان عليه أن يصارحهم بكل مخاوفه فلا يلومنَّ نفسه في المساء ولا يلومه أحد بأنه لم يتفوه بما كان يتوقع. هم دائما عصبة! عصبة قوية تتوقع الحنان المماثل لحنان الأب مع الطفل الصغير وعصبة قوية يعيب عليه أن يتعرض أخوهم المرافق لهم لهجوم الذئاب!

كان يوسف يمر بنشوة من انتظار النبوة ويعرف بأن إخوانه مشغولون بالصيد والسباق والرعي وكل شيء إلا العلم وكسب الفضائل ولن يقدر الله النبوة للاعبين. إنه يعرف بأنه هو بنفسه أكثرهم اهتماما برسالة السماء وأعلاهم لياقة لأن يتعلم أصول النبوة والكتاب.

بالطبع أن أباه قد نبهه بكل دقة أن يتحاشى إخوانه إذ كان متوقعا ان يكيدوا له كيدا. ولعل فزَع يعقوب لم ينتقل إلى يوسف بل حل محله المزيد من الاطمئنان. إنه في مقتبل العمر وينتظر المزيد من القوة والجَلَدْ في المستقبل بعكس أبيه العجوز الذي لا ينتظر إلا المزيد من الضعف والفتور.

إنه يستقبل الحياة وهذا يودعها. ليس صعبا على يوسف أن يستقبل المشاق ولكن القسوة تكسر ظهر يعقوب في المقابل.

بدأت سفرة النبوة وأمام يعقوب ويوسف ساعات حتى يحل الغد الموعود. كلاهما يكرران في خيالهما: أرسله معنا غدا. يوسف فرح بأن المنام الذي رآه لم يدم أكثر من ساعات -احتمالا- حتى ظهرت البوادر ولكن يعقوب يتوقع طول الغيبة حتى تتغير كل الحيثيات الفعلية. هذا الطفل يريد أن يسود عشرة إخوان كبار أقوياء والوعد وعد الله تعالى الغالب على أمره.

لعل يعقوب هو الذي بدأ بمخاطبة يوسف سرا: يجب أن نضع بيننا علامة لأعلم ما يحل بك غدا. إنهم لن يقتلوك فلو أنهم سعوا لإبعادك فليكن بيننا قميصك علامة لأتعرف على سلامتك. ضع قميصك في سلة الأكل وحاول ألا يراه إخوانك. والبس قميص أخيك الصغير.

فلعل يوسف قال لأبيه: كيف ألبس قميص أخي وهم يرونني وسوف يعلمون سرنا.

يعقوب: إنهم متآمرون عليك قطعا وهم الآن يفكرون في ما سيفعلون بك ولن يلتفتوا إلى ملابسك.

لبس يوسف قميص أخيه دون أن يعلم أخوه وضم قميصه الأصلي إلى زاده تحت الخبز والنواشف المحمولة في السلة استجابة لطلب أبيه.

مما لا شك فيه أن يعقوب ضم ابنه إلى صدره وتزود منه الكثير ليودعه وداعا طويلا يعلم بأنه سيسير تحت رعاية الله تعالى ولكنه أب يقتله بُعد ابنه الحبيب يوسف عن ناظريه.

أما أمه فلم تعرف شيئا عن القصة ولكنها كأم لم تكن مقتنعة بأن يوسف سوف يعود قريبا. بالتأكيد أنها انتبهت إلى أن يوسف سرق قميص أخيه ولبسه ولكنها لم تر أن يوسف قد خبأ قميصه الشخصي في السلة.

كانت في حيص بيص لا تقدر أن تفصح عن هواجسها خوفا من زوجها النبي الكريم يعقوب الذي وافق أن يرسل ابنها مع أبناء غيرها.

انفصل الإخوة بمن فيهم يوسف عن الأبوين و عن الأخ الصغير وأخذوا طريقهم نحو البرية وكأنهم يريدون الصيد.

الأم والأخ الصغير لا يدركان شيئا من القصة ولكنهما يريان وجوها لا تعبر عما في كوامنها. هما اللذان يقفان ناظرين إلى المجموعة التي تخفي أمرا أو أمورا ولا أدري هل كان ليوسف أخوات أيضا فيقفن مع الأم والأخ متفرجات يقرأن أمورا غريبة على الوجوه ولا يعرفن القصة؟ ولعلهما أو لعلهم شعروا بأن هناك مؤامرتان متداخلتان بين هذين الفريقين ولكن كلا منهم يحتفظ بما في قلبه لنفسه.

وجه يعقوب حزين وفرح في آن واحد. إنه حفيد إبراهيم الذي أخذ ابنه بيده ليذبحه في سبيل الله فهو الآن يسترجع تلك القصة الغريبة التي ختمها الله تعالى بهذا الذبح العظيم الذي نراه سنويا في مكة وخارج مكة احتفالا بنجاة إسماعيل من الموت ذبحا. فالله تعالى ليس فقط يساعد عبيده بل يزيدهم عطاءً ومنّا.

لا يمكن أن نتصور أمراً دار في خَلَدِ إسماعيل غير التوجه إلى الله تعالى لينجي أباه من التورط في دم ابنه. هذا الدعاء الخفي الذي استجابه الله تعالى في لحظة واحدة فنادى إبراهيم بالتوقف.

نفس الموقف يتكرر ولكن ليس بتلك السرعة ولا بذلك الاختصار. فيعقوب الآن يبعث ابنه لعملية مشابهة مع العلم بأنه لن يموت على يد إخوانه ولكنها غيبة تطول وتطول.

هناك سكين وصلت إلى عنق مَنْ سماه ربه صادق الوعد. كان إسماعيل صادقا حينما وعد أباه بأن يصبر. أعتقد شخصيا بأننا لو نحلل الصبر الذي أتى به إسماعيل لساعات فقط بل نحلل الدقائق الأخيرة ونقارنها بصبر يوسف سنوات طويلة؛ حيث يسمع يوسف المؤامرة علنية قبل إنزاله إلى البئر ثم بضاعة للبيع ثم عبدا لدى الوزير المصري ثم محاولة الاعتداء الجنسي عليه من امرأة العزيز ثم السجن، لرأينا بأن صبر الدقائق الأخيرة من إسماعيل الذي يرى الموت بعد لحظات ويفكر في أبيه إبراهيم ومصيره مع أمه ومع الناس أعظم من صبر حفيد الأخ الصغير.

يعقوب ويوسف يعلمان بأن الموت غير وارد في القضية ولكن هناك تعب وجهد وكفاح مضمون النجاح فهما يثقان بربهما ثقة إسماعيل بربه (4)

لنعد إلى إخوان يوسف:

فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴿15﴾

وهكذا اجتمع الإخوة مرة أخرى للاتفاق الأخير على مرأى ومسمع من يوسف الذي ظنوا بأنه شعر من تلك اللحظة بأنه أسير بين أيديهم وبأنه لن ير أبويه بعد هذا.

(هامش 4 : إسماعيل لا يحمل غير الثقة بالله تعالى ويرجح احتمال وقوع الموت المقبل إليه بعد وصول السكين حد الرقبة. هكذا نعرف مَن منهما أهم من الآخر. وهكذا نحلل أهمية أبينا إسماعيل وأهمية آباء بني إسرائيل.

كلا الولدين إسماعيل وإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب بنيا أسرتين عظيمتين لحمل أهم رسالتين سماويتين إلى كل أهل الأرض إنسا وجنا.

ولكن أولاد إسحاق هم الذين بدأوا بنيان الأسرة الإسرائيلية بالاعتداء على أخيهم وسموا أنفسهم بني إسرائيل. وإسماعيل بدأ بناء الأسرة التي ستحمل القرآن، بدون اسم الأسرة ، على الحب الخالص لله تعالى وعلى الحب المعقول لأبيه ولا أرى مجالا لأي أنانية في المشهد الإسماعيلي وسمى نفسه مسلما يدعو أبناءه إلى التسليم لوجه الله فحسب.

بينما نحن نرى أنانية تبلغ حد الحمق في إخوان يوسف ونرى بالطبع كل الإخلاص في يوسف ويعقوب. ولو أردنا أن نقيس الرسائل الكبرى بمقياس أتباعها لوجدنا أن الرسالة المحمدية أكثر جدارة لأن تكون عالمية من الرسالة الموسوية على كليهما سلام الله تعالى وصلواته، لا نفرق بين أي منهما فنحن أبناء القرآن وهكذا علمنا ربنا العليم الحكيم.

قال إبراهيم وإسماعيل كما ذكر الله تعالى قصتهما في البقرة:

 وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإسماعيل رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129).           نهاية الهامش 4.)

يتبع …

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.