تصحيح أخطائنا التراثية : لا إكراه في الدين والله يدافع عن المؤمنين 2 من 2  

تصحيح أخطائنا التراثية

لا إكراه في الدين والله يدافع عن المؤمنين 2 من 2  

حق الله تعالى في الإماتة والطرد من الأرض:

شمس.jpg

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

من المخجل أن نرى بعض رجال الفقه أو رجال الدين يضعون الرسل ومن بعدهم كبار رجال الدين موضع الله تعالى. فيرون بأن من حق الرسول عليه السلام أن يفتي ويشرع ومن حقه أن ينزل الموت على من يشاء ويطرد من يشاء من مسكنه وبعضهم يظن بأن من حقه أن يلغي النكاح بين زوجين يحبان بعضهما. وهناك من يرى بأن من حق مالك اليمين أن يأمر زوجة مملوكة له ومنكوحة لمملوك له أن يتارك زوجها أو يأمر زوجها بعدم مس زوجته ثم تستبرئ ليواقعها مالك اليمين والعياذ بالله. كل ذلك أحكام شيطانية ما أنزل الله بها من سلطان. وسوف أختصر الموضوعات:

1. إن الله تعالى يملك كل شيء لأنه خلق كل شيء ولم يفوض أحدا بأن يدير خلقه بل هو سبحانه على كل شيء وكيل. الرسول ليس وكيلا عن الله تعالى ولكنه مبلغ لرسالاته وبعض الرسل كانوا حكاما على أتباعهم في حياتهم مثل موسى ومحمد عليهما السلام. حكم رسولنا المدينة وما حولها بانتخاب أهل المدينة وليس بيدنا حكم إلهي يصرح بذلك. بالنسبة لي فأنا أظن بأن ذلك باعتبار أن الله تعالى أراد أن يعلم الناس إدارة أمورهم ليختم الرسل وقد أمر رسولنا بأن يشاور الذين آمنوا قبل أن يتخذ قراراته الحكومية.

2. وأما بالنسبة لمن قبل رسولنا فإن الله تعالى كان يعين الملوك والوزراء لرسله أحيانا. نحن لسنا على علم كامل بمنهج تعيين الملوك الربانيين مثل داود وسليمان أو الوزراء الرساليين مثل هارون بالنسبة لموسى عليهم السلام. ونقرأ في العهد القديم المعروف لدى إخواننا المؤمنين من اليهود والمسيحيين بأن الرسل كانوا يباركون في رسل يأتون بعدهم كما بارك إسحق ليعقوب ليصيروا أنبياء. هذه السنة تخالف رسالات السماء لأن الرسول ليس أصيلا في رسالته بل هو ناقل لرسالة ربه ومبلغ وعامل بالرسالة فقط. ليس من حق الرسول أن يعين خليفة له أو يعين رسولا آخر يخلفه. قال تعالى في سورة طه على لسان موسى: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30). ليس من حق موسى أن يعين وزيرا في رسالته فيطلب من ربه ذلك ويقترح أخاه هارون عليهما السلام. فنحن لا نؤمن بما نراه في الكتاب المقدس لإخواننا من أهل الكتاب ونعتبر بعض ما فيها من صنع البشر وليس تنزيلا من الرحمن. وهم يعترفون بأن كتب الكتاب المقدس من مخطوطات البشر وليست تنزيل الله تعالى.

فلو أن الوزير يعينه الله تعالى لرسوله فهو يعني بأن الله تعالى لم يخول الرسول لتعيين خليفة له. وأما في الحكم فإن كل حاكم يمارس مهمته في حياته وليس لحاكم أن يعين حاكما من بعده. لكن من حق الحاكم أن يعين من يخلفه في إدارة شؤون قومه حين غيابه. هذا الحق مشابه للوكلاء والوزراء والعاملين الذين يعينهم الحاكم في البلاد باعتبار ضعف الإنسان على أن يدير كل شيء بنفسه. قال تعالى في سورة الأعراف: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142). أرجو الانتباه بأن موسى عين أخاه ليخلفه في قومه حينما أراد الغياب عنهم وهو في طريقه إلى الميقات. هذه هي الخلافة في الحكم حين حياته وليس لما بعد الوفاة. الأنبياء ليسوا قياصرة ولا أكاسرة ولا ملوكا يفرضون أسرهم وأولادهم على الأمة أو يعينون ولاة عهد لهم.

وأما حكاية سليمان فإنه لم يرث داود في الحكم بل ورثه في العلم. قال تعالى في سورة النمل: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16). وأما حكومة سليمان فهي حكاية أخرى لا ترتبط بالآية أعلاه. قال تعالى في سورة ص: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35). لقد عينه الله تعالى ملكا بناء على طلبه ولم يعينه داود ملكا من بعده. ولاية العهد المعروفة لدى الملوك والسلاطين ليست ولاية مشروعة قرآنيا بل هي ولاية بشرية محضة ولا علاقة لها بشريعة الرحمن.

يجب التفريق بين حق الله تعالى وحق غير الله. الحق كله لله تعالى وحده. وأما غير الله تعالى فهو بحاجة إلى إذن من الله سبحانه أو تخويل من الأمة أو الحكومة أو غيرها من ذوي الشأن المعترف بهم لدى العرف. نلاحظ في تصرفات الإخوة المعروفين برجال الدين بأنهم وبموجب تخصصاتهم التي يدَّعونها يعطون لأنفسهم حق الإفتاء وحق إعلان الحرب وحق فسخ العقود المبرمة بين الناس وحق دخول البلدان الآمنة لفتحها وحق نزع الملكية ونزع الزوجية ونزع الحياة. كلهم على باطل وكل من يمارس ذلك فهو مخالف لأمر مولاه جل جلاله.

يأمرنا الله تعالى في الكتاب الكريم بأن نساعد الناس جميعا ونعفو عن الناس ولا يكفي بأن نساعد المؤمنين ونعفو عن المؤمنين فقط. قال تعالى في سورة آل عمران: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134). وقال سبحانه في سورة الحج:وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28). فكما أن كل الناس مدعوون للحج وليس المؤمنين فقط فإن الأضحية أيضا للناس جميعا لأنه تعالى ذكر البائس الفقير دون تحديد صفة الإيمان أو الإسلام. أتمنى أننا نفرق بين مفهوم الناس ومفهوم المؤمنين بالله تعالى وبرسله. الناس يعني كل أولاد آدم بدون ملاحظة العقيدة والقرابة.

وقال سبحانه في سورة الشورى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (43). فالمسلمون المؤمنون بالقرآن مدعوون للصبر والإغماض عمن ظلمهم وذلك من عزم الأمور في منطق الرحمن عز اسمه.

حكاية الهجرة من مكة:

قال تعالى في نفس سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (100). لقد حرم الله تعالى على الذين آمنوا البقاء في مكة تحت رحمة المشركين الظالمين وأمرهم بالهجرة من وطنهم. لم يأمرهم الله تعالى بحماية الأرض الطيبة والدفاع عنها حتى الموت؛ فالقيمة عند الله تعالى للإنسان وليس للأرض. هذا خطأ وقع فيه الكثيرون. لم يأمر الله تعالى أحدا بحماية المساجد أو حماية الأراضي الطيبة التي عينها الله تعالى للعبادة. الهجرة هي نضال المؤمنين وليس الإرهاب وليس تقبل الظلم. وقد وعد الله تعالى كل من يهاجر عن الظلم أن يساعده في حياته الجديدة فنرى الآية 100 لا تحدد الهجرة لمظلومي مكة بل لكل من يهاجر ليبتعد عن الظلم. شريطة أن تكون الهجرة في سبيل الله وليس في سبيل المكر والتحايل وإشعال الحروب. والواقع أن بالهجرة التي عادة ما تكون مؤقتة سوف تقل الخسائر البشرية حتى يأتي أمر الله تعالى فيعودون إلى وطنهم وأرضهم إن شاءوا.

أرجو من القارئ الكريم أن يفرق بين المقطع الأول من الآية 100 أعلاه والمقطع الثاني. فالمقطع الأول يأمر كل المؤمنين بل كل الناس بأن يخرجوا من بيوتهم هربا من الظلم ليروا في الأرض المزيد من الرحمة من ربهم. ولكن المقطع الثاني يمثل نموذجا لكيفية تعامل الرحمن مع الذين هاجروا وطنهم هربا من الظلم ليشجع الله تعالى المؤمنين الطيبين بالهجرة من مكان الظلم حتى يأتي وعد الله بنصر المظلومين. كما أنه سبحانه نصر رسوله والذين آمنوا الذين هاجروا مكة هربا من الظلم فأعادهم إلى وطنهم منتصرين سالمين.

السلام لا الحرب:

يتشبث الكثير من المؤمنين بالخوف من أعدائهم ليستمروا في الحرب حتى يسيطروا سيطرة كاملة على العدو. وقد تشبث الإيرانيون غب هجوم المجرم صدام وزمرته الفاسدة عليهم ظلما وعتوا بأن إيقاف الحرب سوف يقوي العدو فيعيد الكرة عليهم. كان ذلك حجتهم على الذين كانوا يدعونهم للجنوح للسلام باعتبار أن عدوهم مد يده للسلام. ليس ما فعلوه صحيحا وليس مقبولا عند الله تعالى وقد حاولت إقناعهم حينما كنت أعيش في إيران ولكن السلطة لم تسمع إلي وكنت أتجاهر بدعوتي إلى قبول الصلح من العدو وإيقاف نزيف الدم مع الوزراء وكبار المسؤولين طبعا وليس في الإعلام. لم أكن أنا الوحيد بل هناك الكثير من الأقطاب الدينية والسياسية دعوا القيادة ولكن القيادة كانت ترفض بحجة الخوف من تكرار الهجوم. وأخيرا اضطروا لقبول الصلح دون أن يصلوا إلى مأربهم لفتح العراق ولكن بعد أن خسروا الكثير من الأرواح والأموال.

القرآن يدعو دائما إلى السلام:

قال تعالى في سورة الأنفال: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60) وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70) وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71).

تصرح الآيات الكريمة بأن الهدف الأساسي من المواجهة مع العدو المحارب هو تحقيق السلام لا الفتوحات ولا نشر الدعوة ولا هم يحزنون. وسورة الأنفال سورة قتالية ولكن القتال ليس محبوبا عند الخالق العظيم عز وجل. وسوف أقدم بيانا مختصرا للآيات الكريمة بدون التعرض لمعانيها الضمنية لأنني في صدد إثبات عدم جواز القتال لفتح المدن وتوسيع جغرافية المسلمين ولست قاصدا تفسير الآيات الكريمة بالكامل.

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55): الدواب لا تعني الحيوانات بل الإنسان هو الدابة الحقيقية الذي يدب على الأرض مختارا مخيرا. ولذلك أشار إليهم القرآن بـ الذين، وهو خاص بالبشر. فشر الذين يدبون على أرض الله تعالى مستفيدين من خيرات أرضه ومن الإرادة الممنوحة لهم ولكنهم لا يخضعون للحقيقة بل يسعون لتغطيتها وسترها هم الذين كفروا. والكافر كلمة تُطلق لمن يغطي الأرض فيزيائيا بالزراعة ولمن يغطي الحقيقة بالإنكار. فالذي كفر هو الذي تعمد الكفر بعد أن تجلت له الحقيقة فهو لا بل لن يؤمن لأن الإيمان نعمة إلهية لا يستحقها من يرفضها.

الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56): الكافرون هم الذين يتكرر منهم نقض عهودهم مع الرسول عليه السلام في كل مرة يقومون بها بالتذكير أو التغيير للعهود المبرمة بينهم. إنهم لا يخافون الله تعالى ولا يتقون الآخرة فلا يستحقون الهدى. والهدى هو ما يمكن أن يفيد المرء في الدنيا وما يمكن أن يفيده في الآخرة أو في كليهما. فالعهد مع المشركين يفيد دنيا المشركين ولكن عدم التقوى منهم يحول دون أن يكسبوا الآخرة أيضا. فالله تعالى يحرمهم من كل الهدى كما أظن. 

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57). فإذا أشعل المشركون الناقضون للعهد حربا فالرسول مأمور بأن يقتلهم في المواجهة العسكرية فيتشرد مَن خلفهم بأنهم خسروا بعض رجالهم. والهدف هو تذكيرهم بالرسالة وليس الهدف هو الفتوحات طبعا.

وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58). والذين لا يشعلون الحرب مع رسول الله والرسول يخاف منهم خيانة باعتبار سوابقهم في نقض العهود، فعليه أن يُلقي العهد إليهم باعتبار أنهم لم يسعوا لإثبات صدقهم وأمانتهم. فهي معاملة بالمثل لأن الرسول أوفى بعهده سواء قبل أن يصل إلى الحكم أو بعده. لكنهم مع قوة المسلمين لم يتمكنوا من إظهار صدقهم ليبقى السلام والأمان ثابتا في قلوب كل أطراف المعاهدة. والله تعالى لا يحب الخائنين فشرط العهد أن يضمن كل طرف أمانة الطرف الآخر والتزامه بتعهده. والله تعالى لم يحكم عليهم بغير ذلك. فمعنى ذلك أنهم لو أتوا بما يوحي بالثقة فيهم ويزيل الخوف من قلوب المسلمين فهناك إمكانية توقيع عهد جديد معهم والعلم عند المولى.

وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59). يرسل الله تعالى رسله البشريين إلى بعض المجموعات البشرية التي تؤمن بالله تعالى ولكنهم يعتقدون بالوسائط بينهم وبين ربهم وهو معنى من معاني الشرك في القرآن الكريم. وبما أنهم يؤمنون بالله تعالى فإنهم عادة ما يظنون بأنهم سوف يتوبون قبل فوات الأوان. والله تعالى يخبرهم بأنهم لن يسبقوا الله تعالى الذي قد يقدر لهم الفناء والموت قبل أن يتوفقوا للتوبة. كما قال تعالى عن في سورة العنكبوت: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ (4). ثم تمثل سبحانه بقصص الأمم المشركة السابقة في نفس السورة و ختمها بحكاية فرعون حيث قال عز من قائل: وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41). ولكن على المؤمنين في الحياة الدنيا أن يكونوا مستعدين للمواجهة مع أعدائهم دون المساس بهم فأعقب سبحانه:

وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60). الاستعداد ضروري عقلا وواجب قرآنيا ولكن لا يجوز إشعال الحروب بل يجب السعي للصلح مع الأعادي. فما بال المؤمنين لو أن أعداءهم طلبوا الصلح؟ ذلك هو غاية ما ينتظره المؤمن من عدوه الذي لا يؤمن بكل ما أمر الله تعالى به. فقال سبحانه:

وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63). فإذا عرض عدوك الصلح فمن واجبك قبول الصلح. هذا ما يقوله الله تعالى لعبده ورسوله. والسر واضح، فإن السلام هو غاية المؤمن فلو سبقك العدو بعرض السلام فمن واجبك القبول فورا. ولا يخفى بأن عرض العدو للسلام هو جنوح منه للتسليم فلا معنى لاستمرار سفك الدماء. ومن واجب الرسول أن يتوكل على الله دون أن ينظر إلى احتمال الخدعة من العدو ليعيد تنظيم صفوفه. فالرسول ليس محاربا ولكن الحرب قد فُرضت عليه فساعده ربه لينتصر على عدوه ويُجبره على الجنوح للسلم. والله تعالى حسبه فهو الذي أيد الرسول بنصر الله تعالى وهو الذي ألف بين قلوب الطيبين ليخضعوا للحقيقة ويتقبلوا رسالة الرسول. فحسبه نظام الألوهية ويكفيه الذين اتبعوه من المؤمنين ليطيع أمر الله تعالى القادر على منحه السلام والتفوق على أعدائه. وعلى هذا الأساس فإن الله تعالى ضمن نظام الألوهية سوف يساعد الصابرين من المؤمنين ليتغلبوا على عشرة أضعافهم من الذين كفروا برسالة رسوله. والموضوع موضح في الآيات التالية:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66). ونعرف من ضم الآيات إلى بعضها بأن الذين آمنوا هم الذين يجدون ويجتهدون بكل نشاط ضد عدو الله تعالى وعدوهم ولكن الله يساعدهم بالتوفيق وبتقوية قلوبهم ونفوسهم وبالملائكة أحيانا لينتصروا. ونصر الملائكة ليس بالدخول المباشر في الحرب طبعا وسنشرحه في مكان آخر بإذن الله تعالى. على المؤمنين أن يعلموا بأن رسولهم ليس ملكا يحارب لملكه بل هو حامل لرسالة السماء والحرب مفروضة عليه إما بالمشركين أنفسهم أو بأمر من الله تعالى كفتح مكة. المهم أن يكون اهتمام الرسول بالرسالة وليس بالانتصار العسكري ولذلك قال تعالى:

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67). أوجب الله تعالى على الأنبياء ألا يحتفظوا بالأسرى فهو ليس مناسبا لشأن النبوة. على الأنبياء أن يسعوا ليشتهروا بالحسنى ويجلبوا لأنفسهم المحبة الشعبية والتضامن الإنساني معهم حتى يثخن اسمهم في الأرض وتثخن دعوتهم. تبادل الأسرى بالمال بعد الحرب يناسب أهل الدنيا وليس مناسبا لمن يدعو إلى الله تعالى الذي يريد لعبيده الآخرة. إنه سبحانه عزيز لا يُغلب ولكن حكمته تقتضي اختبار الناس ليكسب الآخرة من يستحقها ويخسر الآخرة من لا يستحقها. فشأن النبي أن يشتهر بنبوته ولا يذهب وراء سقط المال.

هذه الآية الكريمة حددت على الذين آمنوا مكاسبهم في الحروب. هناك حكم للأسرى حين المعركة وهناك حكم لهم بعد المعارك. فلا يجوز اتخاذهم أسرى بعد المعارك ليعودوا إلى أسرهم وقد أشبعهم الرسول عطفا ورحمة فيصيروا أدوات إعلامية تسند ظهر الرسالة وتساعد على انتشار رحمة الدين ورحمة الرسالة. وأما حال الحرب فيجوز لهم التبادل بالأسرى أو بالمال. فالتبادل بالأسرى ينجي أسرى المسلمين من الأسر ويعيدهم إلى معسكر المسلمين فيعطوا العدو جنديا مقابل جندي لصالحهم فلا يخسرون ولا يكسبون. قال تعالى في سورة محمد: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4).

هناك فرق بين جملة: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، وجملة: فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم. الثخونة تعني الغلظة والصلابة في مقابل السيولة والرقة. فأثخنتموهم يعني أشعرتموهم بثقلكم وغلظتكم. فيصير معنى الآية الكريمة من سورة محمد بأن من حق المسلمين إذا واجههم عدوهم في المعركة أن يقتلوا من يواجههم عسكريا إلى أن يشعر العدو بأن المسلمين أقوى منهم. هناك يصبح المسلمون أغلظ وأمتن من المشركين فيجب عليهم أن يتوقفوا عن قتل العدو لأنهم صاروا قادرين على شد وثاقهم في المعركة. فيشدوا الوثاق عليهم ويأسروهم. وبعد شد الوثاق ومادام الحرب لم تضع أوزارها فمن الأفضل طبعا أن يمنوا على المشركين بإطلاق سراحهم لو لم يخافوا من تقوية العدو باعتبار أن المسلمين أثخنوهم وأثبتوا سيطرتهم العسكرية عليهم. أو يبادلوهم بالفداء. والفداء تعني أن يستعيدوا أسيراً مسلماً مقابل أسير مشرك أو يدفعوا فدية مالية للمسلمين ليحرروا أسيرهم.

وأما بعد انتهاء الحرب فلا يجوز للمسلمين أن يحتفظوا بأسرى العدو لو لم يكن لهم أسرى لدى العدو طبعا. على الرسول أن يحرر كل الأسرى ليكسب محبة أهلهم ويُشعر الضعفاء من المشركين بأن الرسول رحيم بهم ولا يرغب في استغلال ضعفهم فيفرض عليهم فداء ماليا لتحرير أسراهم. هناك سوف يصبح الأسرى المحررون عوامل إعلام طيب للمسلمين لدى عوائل المشركين. هكذا يثخن النبي في الأرض. وفي المعركة فإن المسلمين يقتلونهم ما داموا في خضم المعركة ولكنهم يتوقفوا عن القتل لو كان بإمكانهم الأسر.

ويبدو بأن المسلمين أخذوا فداء ماليا مقابل تحرير أسرى المشركين بعد أن وضعت الحرب أوزارها. ولذلك جاء هم التهديد التالي من ربهم:

 

لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69). الكتاب الذي سبق كما أظن هو أن الله تعالى أوقف العذاب الدنيوي أيام الرسالة الإسلامية. ولعل السبب هو انتهاء النبوة فلزم ترك العصاة حتى يوم القيامة، إذ لا فائدة تُرجى ما دامت النبوة منتهية. لقد عذب الله تعالى قوم نوح باعتبار أن النبوة في بدايتها وهناك عصور نبوية قادمة والمشركون لم يتوقفوا عن المواجهة الإعلامية مع الرسول الأمين نوح عليه السلام. فكان لزاما التخلص منهم بانتظار عهد نبوي قادم وإجراء اختبار نبوي جديد. الذين بقوا في منطقة نبوة نوح كانوا مؤمنين مخلصين فكأن البشرية بدأت من جديد هناك، حيث كان في الأرض شخصان مؤمنان لا ثالث لهما هما آدم وزوجه.

والنبوة ليست للهدى فقط، بل لغرض آخر نشرحها في مقال آخر بإذن الله تعالى. ولذلك نراها محصورة في منتصف الكرة الأرضية ولم نسمع بأنبياء مرسلين في الشرق الأقصى ولا في أقصى الغرب.

لقد سمح الله تعالى للمسلمين أن يستفيدوا من الغنائم التي أخذوها من الجيش المحارب فقط. لا نجد في القرآن أي إذن بأسر أهليهم الذين بقوا في بيوتهم ولا نجد في القرآن أي إذن بنهب بيوت الذين حاربوهم كما لا نرى أي إذن باستعباد أولادهم. ما رأيت في القرآن الكريم أي إذن لأي شخص بإعلان الحرب لغرض الفتوحات ولا أظن بأن الذين قاموا بالفتوحات بمنجى من عذاب يوم القيامة. ليس لي أي غرض ولا هدف دنيوي ولست داعيا لنفسي ولكنني خاضع للواقع الذي أشعره وأنا متألم لأن الذين قاموا بالفتوحات ليسوا أعداء لنا بل هم جدودنا الذين انحدرنا منهم مع بالغ الأسف. ألا ليتهم لم يفتحوا بلدا ولم يتوسعوا في أطماعهم الدنيوية.

ومادام الإبقاء على الأسرى ممنوعا على المسلمين وما أخذه بعض المسلمين من فدية بعد الحرب محرمة ويجب إعادتها كما أظن فإن الله تعالى يعلم رسوله أن يقول التالي لمن في يده من الأسرى قبل أن يحررهم. هذا ما يقوله لهم ما داموا أسرى والحرب لم تنته بعد. يقول لهم بأمر الله تعالى وبإذنه ما هو خاص بالله تعالى. يقول لهم: إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم. لقد أخذوا منهم الحرية والله تعالى لا يحب الأسر ولا العبودية لغير الله بالنسبة لمن خلقهم بيده حتى لو كانوا كافرين. وأظن بأن المقصود مما هو خير مما أخذ منهم هو أن الله تعالى لو يتخلوا عن فساد القلوب ويحرروا قلوبهم من الضلال فسوف يهديهم ويمنحهم الرشد الديني فضلا منه ورحمة بعد أن يغفر لهم ما سلف. وحينما يحل موعد تحريرهم بعد الانتهاء من الحرب فليس له أن يخاف من إعادة أعداء الأسرى إلى المشركين فيزدادوا عددا بعد أن فقدوهم. لقد خانوا الله تعالى من قبل فأمكن الرسول والذين آمنوا منهم وهو سبحانه قادر على أن يقوي عبيده المؤمنين ضدهم مرة أخرى لو مكروا وأضمروا الخيانة في قلوبهم.

وحتى يتبلور المعنى كاملة لدى القارئ الكريم فإنني أتلو عليه الآية التالي من سورة الزخرف: وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35). ما الذي يقرأه الذي يطلع على مقالي هذا من تلك الآيات الكريمة؟ ألا تعني ذلك بأن الله تعالى يحب عبيده ولا يحب أن يراهم في الأسر وهم في حياتهم الدنيوية المخصصة للاختبار. وحتى يطمئن القارئ الكريم بأن الله تعالى فعلا ذو فضل على الناس جميعا فإنني أتلو عليه الآيتين التاليتين من سورة يس: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ (31). من الذي يتحسر على العباد؟ أليس هو الله العزيز الجبار مالك القوة ومالك كل شيء؟ هكذا نعرف معنى الآيتين التاليتين بأن الله تعالى في صدد إقناع رسوله ومن معه بألا خوف عليهم إذا حرروا عبيد ربهم:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70) وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71).

وفي النهاية نعود إلى آيات سورة التوبة لنلمس الرحمة من ربنا ونعرف بأنه تعالى أباح للمسلمين أن يقتلوا أعداءهم لأنه يحب عبيده ويكره أن يرى مؤمنين صادقين يظلمهم المشركون دون أن يسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم. لكنه في النهاية رب العالمين ويحب لكل المشركين ما يحبه لغيرهم من هدى ضمن نظامه العادل والمتقن. فقال تعالى بعد أن سمح للمؤمنين أن يوقفوا أعداءهم عند حدهم في سورة التوبة:

فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12). انتهت أحكام الحرب وعاد الأسرى إلى أهليهم بأمر الله تعالى على شكل عفو عام من رسوله. هناك أمل أن يتوب الكثير منهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة هذه المرة مع المسلمين فيصلوا صلاة المسلمين. وقد تاب عدد منهم فعلا كما يذكر التاريخ فلعل المؤرخين لم يخونونا في هذه الجزئية من تاريخهم المدون. ونرى ربنا الرؤوف الرحيم الذي فسح المجال للكثير من المشركين بأن يعودوا إلى أنفسهم ويتوبوا إلى ربهم فإنه أوقف بعد تلك السياسة الحكيمة الحروب والمجازر.

لقد دخل المسلمون مكة فاتحين. هناك مشركون بقوا على شركهم ولم يتوقفوا عن نقض المواثيق والعهود. لكنه سبحانه لم يسمح هذه المرة للاستمرار في قتال المشركين بل حصر القتال في أئمتهم دون عامة المشركين. ولذلك نرى الآية تصرح وتحدد القتال هكذا: فقاتلوا أئمة الكفر. ويذكر سبحانه الهدف من القتال بقوله الكريم بعدها: إنهم لا أيمان لهم يعني أئمة الكفر طبعا، لعلهم ينتهون: رجاء أن ينتهي الجمع من المواجهة مع المسلمين وممارسة الإرهاب والغدر ضد الذين سلطهم الله تعالى على الأرض المحرمة مكة الخير والسلام.

نستخلص من الآية الكريمة بأن الله تعالى سمح للدولة الإسلامية المنتصرة أن يضغط على أئمة الكفر هذه المرة دون عامة المشركين. بمعنى أنهم يطلبون الأئمة ويضغطون عليهم بالاستجواب والإنذار والسجن أحيانا حتى يخمدوا نار الفتنة. وإذا رأوهم مستعدين للقيام بعمل إرهابي فمن حقهم أن يقتلوهم طبعا.

هناك عهدان بين المسلمين والمشركين. العهد الأول قبل فتح مكة مع كل المشركين. والعهد الثاني حينما دخل المسلمون المسجد الحرام فاتحين مكة فوقعوا عهدا ثانيا مع بعض المشركين عند المسجد الحرام. هناك مشركون لم ينقضوا عهدهم الأول فعلى المسلمين أن يبقوا على العهد معهم حتى تنتهي مدة العهد الأول ثم يعاهدوهم مرة أخرى عند المسجد الحرام. إنهم مشركون مسالمون ولا معنى لأن يضغط عليهم النبي والذين آمنوا معه. من حق كل إنسان مسالم أن يعيش أنى يريد بدون مكر وإيذاء للمؤمنين سواء في مكة أو في أي بلد آخر في الأرض.

وبعد سيطرة المسلمين على الحكم فليس من حقهم أن يقاتلوا أحدا لدينه ولا أن يطردوا أحدا من موطنه الذي اتخذه لنفسه. هناك لا يجوز لهم إلا قتال الزعماء الذين لم يتوقفوا عن المكر والإرهاب والحرب الدعائية وغير الدعائية ضد دين الله تعالى. والقتال لا يعني القتل ولكن قد يصل حد القتل إذا لم يتوقف الزعماء عن المكر والتحايل والفساد في البلد الحرام الذي كتبه الله تعالى للمسلمين كما كتب القدس من قبل لبني إسرائيل. هذه الكتابة الإلهية لا تعني التمليك فللتمليك قوانين أخرى ولكنها تعني أن يتشرفوا بخدمة البلدة المقدسة وخدمة البلدة المحرمة.

ولنعلم بأن الذين تربوا على يد الرسول الكريم الرؤوف الذي مدحه الله تعالى في آخر نفس سورة التوبة فهم بعد السيطرة لا يحبون استغلال نفوذهم ضد الضعفاء. قال تعالى في آخر التوبة: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129). وبعد تلك التربية الجميلة فإن هناك ضرورة لأن يشد الله تعالى على المسلمين قليلا حتى لا يرحموا أعداءهم أكثر من اللازم. ولذلك قال تعالى في التوبة بعد أن أمر بقتال أئمة الكفر:

أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14). الخشية برأيي باعتبار القوة المالية لدى المشركين واحتمال التأثير في الدخل العام لأهل مكة والعلم عند الله تعالى. وأما القتال بعد حصره في أئمة الكفر فهو ليشف صدور قوم مؤمنين تألموا عقودا على يد أولئك المشركين المسيطرين على مكة. هكذا حصر الله تعالى الانتقام في عدد ضئيل من زعماء المشركين الذين كانوا مجرمين فعلا وأنهى سبحانه الحرب بين أمة مشركة وأمة مؤمنة ومنحهم جميعا الأمان والسلام تحت قيادة زعيم المسلمين خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.

أعتذر من الإطالة وأتمنى للقراء الكرام أن يستمتعوا بقراءة هذه التحليلات وأن يهدوني إلى أخطائي لأصححها.

أحمد المُهري

4/12/2017

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.