تصحيح أخطائنا التراثية: لا إكراه في الدين والله يدافع عن المؤمنين 1 من 2

 

تصحيح أخطائنا التراثية

لا إكراه في الدين والله يدافع عن المؤمنين 1 من 2

NO.jpg

بسم الله الرحمن الرحيم

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

لنضع آيتين كريمتين أمام ناظرتينا ونسعى للتوفيق بينهما؛ وهما:

1. قوله تعالى في سورة البقرة: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256).

2. قوله تعالى في سورة الحج: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38). ومثلها في سورة البقرة بعد الآية 256 أعلاه: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(257).

والآن لنفكر في رسالة الآيات أعلاه. ليس الأمر صعبا بل هو من أسهل المفاهيم القرآنية. إن الله تعالى لا يحب الإيمان القسري للبشر بل ارتضى لهم الدين. والدين لا يعني فرض العقيدة بل يعني التزام الشخص بنفسه على تشريع يؤمن به. ولذلك فالذي يقبل الإسلام فهو بنفسه يدين بالإسلام وليس هناك دين يفرضه غير الشخص نفسه على نفسه. الدين المفروض من الغير ليس دينا في واقعه بل يمكن أن نسميه قانونا جبريا. اسم الإسلام يعني تقبل الشخص تشريعا سماويا اسمه التشريع الإسلامي وفرضه على نفسه. ولعل السبب في أن إبراهيم سمانا المسلمين من قبل هو علمه عليه السلام بحاجة الإنسان إلى تطور واسع ليتمكن من فهم الله تعالى بحيث يثق فيه ثقة كاملة تخوله ليسلم أمره اختياريا إليه سبحانه. ولعل فضل إبراهيم على من بعده هو أنه توصل إلى ذلك اليقين القلبي إثر تعرفه على علمٍ مكتسب سعى إليه بنفسه، بملكوت السماوات والأرض فآمن به واستسلم لله تعالى حتى فيما لا يمكنه تعقله. واستعداده للقيام بذبح ابنه دليل واضح على كامل ثقته بربه الكريم ولذلك دافع عنه ربه ونجاه من تلك الورطة الكبرى. كان يجهل إبراهيم بأن الله تعالى لا يمكن أن يأمر أحدا بقتل ابنه ولكنه كان مستسلما لله تعالى ومسلما إليه كل اختياراته.

كما نعرف بأن الله تعالى حينما يرى من عبده الاستسلام للحقيقة فإن رحمته يستوجب أن يُعلِّم عبده كيفية مسايرة الحياة ومسايرة الطبيعة وكيفية معرفة أوامر الله تعالى وكيفية تنفيذها. أرجو الانتباه بأنه تعالى وعد بأن يدافع عن الذين قاموا بفعل من تلقاء أنفسهم وهو أنهم آمنوا بربهم ولم يكونوا مضطرين ولا وارثين للإيمان العام برب العالمين. وما قام به سبحانه لهداية إبراهيم حينما ظن وابنه إسماعيل بأن عليه أن يذبح إسماعيل يمثل مظهرا من مظاهر دفاعه وحمايته عن الذين آمنوا. ولو نعود إلى آيات البقرة فنرى سبحانه يذكر ثلاث قصص بعد الآية 257 أعلاه حيث يوضح فيها كيف يخرج سبحانه الذين آمنوا من الظلمات إلى النور وكيف يدافع عنهم. وللقارئ الكريم أن يرجع إليها بنفسه ليرى هذه الحقيقة ويكتشفها.

ولا ننس بأن نفكر قليلا في الآية 256 أعلاه حيث يوضح لنا سبحانه حقيقة تبين الرشد من الغي في ذلك الزمان ولعل في ذلك المكان أيضا. حقا أن بعض البشرية كلما توصلوا إلى درجة تطورية في أي مكان من الأرض فإن بقية الناس قد يصلوا إليها أيضا في نفس الزمان لو سعوا إليها أو وجدوا إليها سبيلا. هذه هي أيضا حقيقة بشرية يمكننا أن نتوصل إليها بكل سهولة. فنرى اليوم بأن كل البشر في كل الأرض قادرون على التعامل مع التكنولوجيا المتطورة سواء كانوا ممن أوجدوها أو ممن عرفوها. ولكن لم يكن ممكنا للذي عاش قبل عدة قرون أن يتعرف على هذه التكنولوجيا أو يستعين بها.

ونحن نريد من هذا البحث الذي أسعى لاختصاره جهد الإمكان أن نتعرف على أمر مهم وهو معنى آيات القتال في القرآن الكريم وكيفية التوفيق بينها وبين ما ذكرته أعلاه من حرية اختيار الدين وكيفية الاستعانة برب العالمين. فكل من طلب الحقيقة ولم يفرضها على أحد بل سعى ليفهمها ويستوعبها ويعمل بها فإنه مستحق لمساعدة رب العالمين ولم يبح الله تعالى فرض الدين على أحد ولا سيما بعد ظهور الرسول الخاتم وانتشار القرآن الكريم بين البشر. القرآن الكريم كتاب استدلالي يذكر الحكم وسببه ولكن التوراة تكتفي بذكر الحكم دون السبب، ولذلك يمكن للقرآن أن يبقى حتى نهاية الحياة في كوكبنا الأرضي.

وأما الهدف من هذا الموجز هو أن يعلم الناس بأن حجة الذين يريدون التوسع في السلطة باسم الدين وباسم فرض الإسلام، حجة واهنة وغير مستندة إلى أمر الله تعالى. بل ما يقولونه محض تقول على الله تعالى وتفسير ماكر لبعض الآيات الكريمة متعمدين إغفال الناس عن حقيقة الآيات. يهمني أن يعلم البشر بأن متعطشي السلطة يريدون السلطة ولا ينوون تنفيذ أمر الله تعالى. وأما المغفلون فليعلموا بأنهم أيضا أناس شرسون فاسدون يستفيدون من زنخ ضمائر زعمائهم ويتراءى لهم إمكانية خداع ربنا الغفور الرحيم. ليس هناك حور بانتظارهم وليس الحور نساء للمضاجعة وليسوا هم بنفوسهم قادرين على أمر.

أولا: نبدأ بآية وجوب طاعة ولي الأمر أو آية الحكم كما يدعون:

قال تعالى في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61). لقد كذب الذين شرعوا للحكام ما يريدون واعتبروهم أولي الأمر وبأن الله تعالى أوجب طاعتهم. تتحدث الآيات عن تفسير القرآن الكريم وليس عن الحكم. ففي الآية الأولى يستنتج القرآن بأن مراجعة أولي الأمر خير وأحسن تأويلا. فهل الملوك والحكام والأمراء وكل من يسمونهم أولياء الأمور، يفسرون القرآن الكريم لنستمع إليهم ونطيعهم؟

والآيات الكريمة تتحدث عن آيات القتال التي أنزلت على رسول الله لمعالجة قضية وقتية خاصة بالدفاع     ضد من كان يقاتل المسلمين. فنرى سبحانه بعد عدة آيات في نفس سورة النساء يوضح الموضوع هكذا: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84).

يتضح من الآيات الكريمة بأن المؤمنين كانوا يذهبون إلى علماء غير المسلمين احتمالا ولعلهم علماء بني إسرائيل ليطلبوا منهم تفسير آيات القتال. فقال لهم ربهم بأن ذوي الشأن من بينهم قادرون على استنباط معاني الآيات وهم أهلهم ومواضع ثقتهم فلا يجوز لهم مراجعة الأجانب الذين يتبعون الشياطين ولا يصدقون فيما يفسرونها من آيات القرآن. هذه الحالة كانت شائعة بين المسلمين الأوائل ولعلهم كانوا يظنون بأن الرسول الأمين صادق في نقل وحي السماء إليهم ولكن تفسيره للوحي يمثل فهما شخصيا قد يكون خاطئا. فقال لهم الله تعالى بأن الذين يراجعونهم من علماء بني إسرائيل (احتمالا) لم يأتوا رسول الله ولم يستمعوا إليه ليحكموا على فهم الرسول لآيات منزلة على قلبه الشريف.

فكل ما يدعونه بشأن أولي الأمر وبأن الله تعالى أمَر بأن نطيع حكامنا إلى يوم القيامة قول باطل لا يستند إلى القرآن ولكنهم قطعوا الآيات تقطيعا وقاموا بأخذ ما يريدون من الآية دون السعي لفهم المقصود من التنزيل أو فهموا ولكنهم كذبوا على أتباعهم.

ثانيا: الآية المعروفة بينهم بآية السيف:

قال تعالى في سورة التوبة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5). هذه الآية الكريمة تبدأ بالفاء فيجب أن ننظر إلى ما عطفت عليها وهي ما قبلها فنراها تبدأ بأداة الاستثناء وتعني بأن تلك الآية تستثني البعض عن حكم من الله تعالى ولا أطيل على القارئ فالآيات مرتبطة ببعضها ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض من بداية السورة فلنقرأها معا: بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4). خطاب للذين آمنوا بالرسول بشأن مجموعة خاصة من المشركين الذين عاهدوا المسلمين. فالآيات ليست عامة ولا يمكن التعويل عليها لاستنباط حكم عام إطلاقا.

هناك مجموعة من المشركين قد وقعوا عهدا مع المسلمين قبل أن يستولي المسلمون على مكة. ومن الآية الرابعة التي تستثني منهم الذين أوفوا بالعهد ولم يقوموا بتأليب الناس ضد الحكومة الجديدة بقيادة رسول الله، من تلك الآية نعرف بأن المقصود من المشركين في الآية الأولى هم الذين نقضوا العهد فقط وليس غيرهم. فالآيات تتحدث عن مجموعة معاهدة مع المسلمين وقد نقضوا عهدهم.

الذين ينقضون العهد فإن عهدهم مفسوخ بصورة تلقائية ولكن الله تعالى أمهلهم أربعة أشهر كما في الآية الثانية. لماذا المهلة؟ أليس حتى يراجعوا أنفسهم فيتركوا ما يفعلون ضد النظام الحادث الذي أمسك بأزمة الأمور؟ ولعل أكثر من ذلك، فإن الكثير من ضعاف النفوس من بينهم قد يجدوا المحبة والخلوص والإحسان والصدق لدى المسلمين فيشعروا بأن زعماءهم قد أغفلوهم وخانوهم وكذبوا عليهم. فحكم المسلمين خير لهم من حكم المشركين. ويدل على ذلك ما نقرأه من الآية الثالثة أن الله تعالى يدعوهم للتوبة على يد رسوله يوم الحج الأكبر لعلهم يستحقوا المغفرة طبعا. والخلاصة أن كل الحديث عن مجموعة خاصة من المشركين الذين خانوا العهد وليس عن كل المشركين. والآن دعنا نحلل الآية الخامسة من سورة التوبة تحليلا دقيقا.

فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5).

فإذا انسلخ الأشهر الحرم: يعني بأن الأمر المعجل يحل وقته بعد انسلاخ الأشهر الحرم. الأشهر الحرم تنتهي بانتهاء شهر محرم أي بعد حوالي خمسين يوما من عيد الأضحى الخاص بالحج. فيكون الحج الأكبر قد مر على كامل أعماله ما يقرب من شهر ونصف. وقد يكون ذلك في نهاية الفرصة الممنوحة وهي أربعة أشهر، بل بالتأكيد كذلك. فتكون الفرصة عمليا شهرين قبل الحج ثم الحج ثم شهر ونصف بعد الحج تقريبا. هكذا سيرى المشركون الفرق بين تعامل المسلمين مع زائري الحج واستعدادهم لاستضافتهم ثم مساعدتهم على مغادرة مكة. سيرون بأن المسلمين أكثر احتراما للحج والحجاج وأجدر على إدارة مكة من المشركين أنفسهم. كما أنهم سيكملون تفكيرهم في حقيقة الدين الجديد المصحوب بالعلم والإيمان واحترام الإنسان وتوحيد الألوهية وترك عبادة الأصنام التي تمثل الوسائط الزائفة بين الله تعالى وعبيده. والله تعالى قريب من عبيده ويكره الوسائط بينه وبين من خلقهم بيده.

وما ذا بعد انسلاخ الأشهر الحرم؟ المسلمون يعرفون المشركين بأفرادهم فهم أقارب وقد عاهدوهم وهم لا يتجاوزون بعض مئات في الواقع. كما أنهم يعرفون بيوتهم فيمكنهم الذهاب إلى بيوتهم وإحضارهم لتنفيذ حكم القتل، فما معنى اقتلوهم حيث وجدتموهم؟ ثم كيف يمكن أن يأخذوهم ويحصروهم بعد أن يقتلوهم؟ ولماذا يرصدوا لهم كل مرصد وهم أناس معروفون من المشركين الذين عاهدوهم؟ والواقع أن القتل هو آخر جزاء لهم وليس أول مجازاة. وكعادة الدول أنها تكتب آخر القوانين الردعية في البداية أو يكتفي بها لأنهم يريدون المنع والردع فقط. فمثلا يكتبون على لوحة منع وقوف السيارات في بعض الأماكن في بعض الدول الغربية الجملة التالية: الغرامة تصل حد ألف يورو أو ألف جنيه استرليني.

وحينما تخالف تصالحك شرطة المرور على 30 جنيها فقط. لكن الألف هو آخر غرامة يمكن أن تحكم به المحكمة وليس أول غرامة. والجملة القرآنية تمثل نفس الشيء وتبدأ بآخر جزاء لأن المقصود هو منع المشركين وليس تعطشا لمجازاتهم. إن الله تعالى ورسله يحبون البشر ويريدون أن يهدوهم ويمنعوهم من التجاوز على بعضهم البعض ولا يريدون أن يغتنموا معاصيهم ليسلبوهم أموالهم وأنفسهم. فهناك أمر آخر يستوجب القتل وليس مجرد الشرك أو الكفر.

فحينما ننظر إلى الثورات البشرية في التاريخ وحتى يومنا هذا فإن الثورات تغير الوجوه القوية وتستبدلها بأناس ضعفاء في المجتمع حسب الظاهر ليحلوا محل الأقوياء. هناك لا يتوقف كل المخذولين عن المواجهة مع النظام الجديد بل يحاولون بكل ما أوتوا من مكر أن يحبطوا الحركة الثائرة التي أفقدتهم السلطة والسيطرة. ليس بيدهم سيف غالب ولكنهم يقومون بالاغتيالات والتخريب وبث الخوف والرعب لتضعيف الحاكمين الجدد. هؤلاء هم الذين نسميهم اليوم بالإرهابيين. والدول تسعى لدحر الإرهابيين كائنا من كانوا لأن ذوي النفوذ يريدون الاستقرار لتنشيط تجارتهم وتبادل منتوجاتهم مع بعض وليؤمنوا السلام والأمان لشعوبهم. هؤلاء الإرهابيون في منطق العصر سوف يتحولون إلى حكومات يعترفون بها لو أنهم استمروا في مكرهم أو نضالهم أحيانا. والإرهابيون المناضلون يسمون الحكومة التي سيطرت على الدولة بعد دحرهم إرهابيين أيضا.

والمنطق العام يجيز القضاء على الإرهاب إلا إذا سيطر الإرهابيون على كل الدولة؛ هناك يتعاملون معهم. هذه هي سنة الحكم والملك في الكرة الأرضية. إن كل من وما ترونه من حكام وحكومات سواء الثورية منها مثل الشيوعيين والإسلاميين والثورات المسيحية والصهيونية كانوا في الغالب إرهابيين ثم سيطروا فكسبو ا الاحترام. وعلى غرارهم الحكومات الملكية ومن في حكمها فالقائمون بها جميعا كانوا أسرا إرهابية سيطرت على المدن والأقطار وسمت الذين يريدون دحرهم بالإرهابيين.

لكن الرسول العربي عليه السلام لم يقم بالإرهاب إطلاقا. إنه رضي بأن يعيش تحت حكم بني أمية المشركين شريطة أن يُمنح حرية الدعوة إلى الله تعالى وحرية التعبير عن حقيقة الشرك لتنظيف بلده العزيز مكة من الشرك فقط. ولا ننس بأن المشركين جميعا بمن فيهم حكام بني أمية كانوا مؤمنين بالله تعالى ولكنهم كانوا يتوسلون بغير الله تعالى وسائط إلى ربهم.

كان عليه السلام مصلحا مسالما أمينا صادقا، لكن المشركين تظاهروا عليه واضطروه للخروج من وطنه. وحينما استقبله أهل يثرب فإنه لم يسع لفتح مكة إلا بعد أن أمره الله تعالى بذلك. والله تعالى أمره بالاعتبار التالي المذكور في سورة النساء: وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76). لقد أمر الله تعالى رسوله والذين آمنوا معه بترك مكة والهجرة إلى أرض الله الواسعة. وسأوضح الحكاية بعد هذا. لكن الذين بقوا في مكة باعتبارهم ضعفاء أو مستضعفين فإنه تعالى لم يؤاخذهم بأنهم لم يهاجروا. كانوا يدعون ربهم بأن يخلصهم من مكة التي ظلمهم أهلها ولم يطلبوا من ربهم أن يعاقب أعداءهم. لقد تعلموا أدب الدعاء إلى الله تعالى من الرسول الأمين الذي عاش بينهم رسولا عقدا كاملا. من حق كل إنسان أن يدعو ربه لنفسه ليخلصه الله تعالى مما هو فيه وليس من حقه أن يدعو ضد الأمم الأخرى. إن الله تعالى يقدر للشعوب والأمم أماكن يعيشون فيها فلو تمكنتَ من العيش مع الظالمين فبها ونعمت وإلا فمن حقك أن تدعو ليخلصك الله تعالى ممن ظلمك لا أكثر.

في مقابل ذلك الدعاء الصحيح فإنه سبحانه أمر رسوله والمؤمنين من المهاجرين والأنصار أن يسعوا لفتح مكة ضد سيطرة المشركين دون أن يطردوا المشركين من مكة. لكن المشركين لم يقتنعوا بالنظام الطيب الذي كان يرأسه رسولهم عليه السلام فكانوا يمكرون ضد الذين آمنوا به عليه السلام ويرهبونهم ليستعيدوا مجدهم المفقود. والرسول بحكمته وسياسته المسالمة فرق بين المشركين فتقبلوا الأمان وآمن كثير منهم بمن فيهم زعيمهم أبو سفيان وزوجته هند.

وأما الذين بقوا على عنادهم ومكرهم فإن الله تعالى أمر بأن يقتلوهم في النهاية حيث وجدوهم وليس القتل لأنهم مشركون. فلنسع لمعرفة مراحل المواجهة معهم الموضحة في الآية من قبل أن يضطر المسلمون لقتلهم.

1. من الواضح أنهم أناس غير مسالمين وغير مستعدين لتقبل الحكومة الحادثة التي تقول جهارا: لكم دينكم ولي دين. ومن الواضح أنهم كانوا يفاجؤون الشعب المسلم المسالم بأعمال إرهابية. لم تكن إمكانات التفجيرات الإرهابية الحديثة متوفرة لديهم ولكن وجه الشبه بينهم جميعا هو الإيذاء غيلة والاعتداء بما في حوزتهم من أسلحة والقيام بالتخريب ما تأتى لهم. ولذلك فإن أولى المراحل هو أن يترصد لهم المسلمون ليأخذوهم بالجرم المشهود. فالفرق بين الربانيين وغيرهم بأن الربانيين يحرمون التجسس وفحص العقائد ولا يجوزون العقاب قبل الجرم المشهود. وقصص الأنبياء في القرآن الكريم شواهد على ذلك. فحينما يرونهم بعد الترصد بأنهم قائمون على عمل إرهابي واضح المعالم فإن من حقهم أن:

2. يحصروهم. بمعنى أن النظام الحاكم يتعرف عليهم فردا فردا وكل واحد في حال القيام بعمل إرهابي تحسبا للظلم على الأبرياء. والحصر تعني التضييق فبعد التعرف عليهم يضيقون عليهم لعلهم يتركوا الإرهاب. حتى هذه اللحظة لم يحن موعد قتلهم.

3. يأخذوهم. بمعنى أن النظام يأخذهم في السجن ويحبسهم حبسا مؤقتا لعلهم يتوبوا ويتركوا أعمالهم الإرهابية التي تعكر صفو الأمن العام للناس الذين يعيشون في المدينة المحرمة مكة.

4. فلو أن كل ذلك لا يحول دون أن يتركوا نواياهم الشريرة بل يصروا عليها هنالك يأمر الله تعالى بقتلهم. وكيف يعلم مأمورو حماية الأمن بأنهم قد تخلوا عن الإرهاب؟

بأن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. هكذا يعودون إلى أمتهم التي هم جزء منها. نلاحظ بأن الله تعالى لم ينتظر منهم أن يحضروا صلاة الرسول أو مساجد المسلمين ويكفي بأن يلتزموا بالتوبة وإظهار الندم ويقيموا صلواتهم ويدفعوا الزكاة. وحتى نتأكد من أن المقصود من إقامة الصلاة ليس الصلاة مع المسلمين فإننا نقرأ الآية التي بعدها في السورة الكريمة: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6).

لم يوجب الله تعالى على الدولة ملاحظة هذه المظاهر التي تدل على عودة الشخص عن مساره الخاطئ إلا إذا رصدوهم ورأوا بأنهم يريدون القيام بأعمال إرهابية تخيف الناس وتحول دون شعورهم بالأمان.

نلاحظ بأن الله تعالى يأمر بإخلاء سبيلهم إن تخلوا عن أعمالهم واختلطوا بأمتهم وآتوا الصلاة ودفعوا الزكاة. إذن حكم القتل ليس حكما أوليا وإلا فلا معنى لأن يأخذوهم ويحصروهم ويرصدوا لهم كل مرصد فإذا تركوا أعمالهم وانخرطوا في الأمة فيُمنحون الأمان والسلام. كيف يمنحون الأمان لمن قُتل؟ إذن حكم القتل ليس عاما بل هو حكم لمن يُعطى الفرصة لترك عمله الضار بالأمة ولكنه لا يترك بل يستمر في عبثه بالأمن. فليس حكم المُشرك أن يُقتل كما قالوا.

هكذا الحال في كل العالم المتحضر اليوم. فالإنسان العادي الذي لا يعبث بالأمن فهو يعيش دون أن يُرصد أو يُفتش. لكن الذي يقوم بما يُرهب الناس فعليه بأن يثبت وطنيته من جديد ليُسمح له بالعيش مع الناس بسلام بعد أن يتخلى عن أفكاره وأعماله التخريبية، وبعد أن يُعاقب على ما صدر منه من أخطاء.

فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5).

ولم يكتف ربنا بذلك بل أوصى نبيه بأن يُجير من استجاره من المشركين فقال بعد الآية الخامسة من سورة التوبة:

وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6). يمكن ملاحظة أن المستجير مشرك ولكن الله تعالى يأمر نبيه بأن يُجيره إن استجار ويمنحه الأمان دون أن يُفرض عليه الإسلام. هو على شركه ويمنحه رسول المسلمين الأمان لأنه في النهاية من قوم لا يعلمون.

وقال تعالى بعد ذلك في نفس سورة التوبة: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10). أرجو من القارئ الكريم أن يتصور الحكم الأول كما زعموا بأن يقتلوا المشركين بعد أن يعرضوا عليهم الإسلام. ثم يتصور الآية السابعة أعلاه بعد حكم القتل وهي تأمر بأن يستقيموا للذين عاهدوهم عند المسجد الحرام. فما هو الفرق بين الفريقين من المشركين؟ الفريق الأول المذكور في بداية السورة الكريمة هم الذين عاهدوا المسلمين خارج مكة قبل أن يفتح المسلمون مكة بأمر الله تعالى. والآية الرابعة استثنت منهم الذين لم ينقضوا عهدهم فالمشركون المحكومون إذن هم الذين نقضوا عهدهم الذين وقعوه مع المسلمين خارج مكة وقبل فتحها.

وأما الآية السابعة فتستثني من جمع المشركين، مجموعة تعاقدوا مع المسلمين عند المسجد الحرام، فمن هم هؤلاء ومتى تعاهدوا مع المسلمين. توقيع العهد عند المسجد الحرام يدل على دخول المسلمين المسجد الحرام فاتحين ومسيطرين على مكة. فكيف يعاهدوا المشركين عند المسجد وهم في قوتهم؟ ألا تدل الآية على وجوب سعي المسلمين الفاتحين للتعاهد السلمي مع المشركين الذين لم يتقبلوا الدخول في الدين الجديد؟ فكيف يقولون بأن الله تعالى أمرهم بعرض الإسلام وقتل من يرفض؟ أليس ما يقولونه كذب وافتراء على الله تعالى وعلى رسوله الصادق الأمين؟ لقد كذبوا ويكذبون عليكم أيها المسلمون فلا تطيعوهم. وأرجو من كل منصف أن ينتبه إلى أن كل الآيات في بداية التوبة تتحدث عن الله تعالى ورسوله ولا تتحدث عن الحكام وأولياء الأمور حسب تعبيرهم. كما أرجو أن ينتبه المنصفون إلى الشبه الواضح بين حكاية القدس ومكة حيث لا نرى في الذين أمروا بفتحهما غير أنبياء الله تعالى.

والآن لندرس الفرق بين المشركين الذين لم ينقضوا عهدهم والمشركين الذين تعاهدوا مع المسلمين عند المسجد الحرام الذي وقع تحت سيطرة المسلمين. لنتلو الآيتين معا مرة أخرى لنلاحظ الفرق المشهود بينهما:

إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4).

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7).

المشركون في الآية الرابعة هم الذين لم ينقضوا العهد المبرم مع المسلمين حين ضعف المسلمين وقوة المشركين. هناك يجب على المسلمين الالتزام بالمعاهدة إلى تمام مدة المعاهدة.

والمشركون في الآية السابعة هم الذين عاهدوا المسلمين بعد سيطرة المسلمين على مكة فلا ينطوي العهد على مدة بل توجب الآية على المسلمين أن يستقيموا للعهد مادام المشركون باقين على استقامتهم. فهؤلاء هم نفس المشركين الذين انتهت مدتهم وأرادوا المعاهدة مع المسلمين بعد سيطرة المسلمين ليتقبلوا حكم المسلمين على مكة. واستقامة المشركين هنا تنطوي قطعا على أن يتعهدوا بعدم القيام بمكر وتحايل ضد المسلمين أو يقوموا بأعمال إرهابية تخوف الناس. ذلك لأن مكة تحتاج إلى الأمان والسلام لتحافظ على صفتها السياحية التي أرادها الله تعالى لها ليقصدها الناس من كل العالم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.

وأما ما نقرأه في سورة محمد حول ضرب أعناق الذين كفروا فالآية هكذا:

 من سورة محمد: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4). اللقاء يعني ارتباط الشيء بالشيء سواء كان معنويا أو ماديا بحيث يتم تبادل الاتصال بينهما. فاللقاء مع الله تعالى يعني الارتباط المعنوي الكامل به تعالى بحيث يشعر الإنسان بأنه تعالى موجود معه يسمعه ويراه. فنحن في الدنيا لا نشعر بذلك ولكننا نؤمن به فقط. ولقاء الإنسان بالإنسان يعني أن يريا بعضهما وقل من يستعمل اللقاء للقاء السمعي بين شخصين. ويُستعمل اللقاء للقاء العسكري بين شخصين بحيث يحمل كل منهما سلاحه على الآخر أو يسعى كل منهما ليبادل الآخر باللكمات والضربات باليد أو الرجل. فقوله تعالى إذا لقيتم يعني هجم بعضكم على بعض في الحرب ولذلك قال تعالى فيها: حتى تضع الحرب أوزارها.

في مثل ذلك اللقاء الحربي سمح الله تعالى للمسلمين أن يضربوا أعناق الكافرين. والفرق بين اللقاء بين مسلم وكافر وبين مسلم ومسلم هو أنك لو لاقيت مسلما مؤمنا لقاءا عسكريا فعليك بالسعي للتخلص منه ولا تستعجل بالقضاء عليه. وأما اللقاء مع الكافر فمن حقك الاستعجال بضرب عنقه لأنه بالنسبة لك مثل الأفعى بالنسبة للإنسان. فلا يجوز الثقة بذلك الحيوان الخطير والكفار لا يحبون المؤمنين فهم يشكلون الخطر الأكبر على المؤمنين ولا سيما الذين آمنوا مع رسول الله عليه السلام. ولكن ذلك الحكم ينتهي إذا تمكنوا من السيطرة عليهم. وقد عبر عنها القرآن بالإثخان. الإثخان تعني فرض السيطرة على الطرف المقابل بحيث يشعر بتفوقك عليك وبالغلظة والشدة منك. هناك يجب أن يترك المؤمنون ضرب العنق ويستعينوا بأسر الذين كفروا وشد الوثاق عليهم. ثم من حقهم أن يعفوا عن الذين كفروا أو يأخذوا فدية مقابل فك وثاقهم. كل ذلك حتى تنتهي الحرب. ولا يجوز أسر أحد بعد الانتهاء من الحرب. كما لا يجوز أن يُبقوا أحدا في سجونهم بعد الحرب.

سمى الله تعالى انتهاء الحرب هكذا: حتى تضع الحرب أوزارها. ذلك يعني بأن شدائد الحرب ومخاطرها تنتهي بانتهاء الحرب، فعلى المسلم أن يسعى لحل السلام بينه وبين بقية البشر. لو أردنا أن نتشبه بالمؤمنين الطيبين الذين صاحبوا رسولنا مصاحبة بمعرفة واستهداء فعلينا الانتباه إلى الآيتين التاليتين من سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119). المؤمنون المحيطون برسول الله يحبون المشركين والمخالفين من أهل الكتاب وكذلك المنافقين. ولكن أولئك لا يحبون المؤمنين. فالتكفيريون ليسوا مسلمين وليسوا مؤمنين بل هم أنصار الشياطين وأتباع الكافرين. المؤمن يحب الناس ولا يكرههم ولا يُكَفرهم بل يسعى لمساعدتهم. الأنبياء المرسلون كانوا يحبون المشركين والكافرين والملحدين والمنافقين وكل من يخالفهم. لكنهم كانوا لا يبوحون بأسرارهم إلى الكافرين حذرا منهم. هذا ما أمرهم به ربهم حين قال سبحانه: لا تتخذوا بطانة من دونكم (لأنهم) لا يألونكم خبالا. ولو أن رسولنا عليه السلام لم يكن محبا للمشركين لما آمن به أحد منهم. لقد آمن به المشركون في مكة وهو ضعيف لا أنصار له ولا شيعة. آمنوا به لأنهم رأوه إنسانا يحب مساعدة بني جنسه ويسعى لهدايتهم بكل إخلاص ويمتنع عن أخذ الثأر ومقابلة العداوة بغير الحسنى.

قال تعالى في سورة فصلت: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36). الآيات الكريمة توضح وتبين الحالة القلبية للرسل ولرسولنا حين القيام بمهمة الدعوة. إنهم يحبون الناس ولا يبادلون السوء بالسوء. كل من يدعو إلى الله تعالى فهو يواجه السيئة بأن يقدم لهم الحسنة ليكفوا ولا يسيء مثلهم. ألا نرى الله تعالى بأننا نعصيه وهو لا يترك مساعدتنا وحمايتنا؟ فمن يدعو إلى الله تعالى يجب أن يكون رؤوفا رحيما صادقا محبا لعبيد الرحمن وإلا فهو من أتباع الشياطين أعداء البشر وليس من أنصار الله تعالى الذي يحب الإنسان.

ثالثا: ما العمل في غياب أوامر القتال:

لا نجد في التنزيل العظيم أي إذن لأي شخص في الكرة الأرضية بإعلان الحرب إطلاقا. الحرب ليست عملا محبوبا عند الله تعالى بل هي من أبشع الضرورات التي يجب أن نتجنبها ولا نقترب منها. قال تعالى في سورة المائدة: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64). يكفي بعض الإمعان في الآية الكريمة لنعلم بأن الله تعالى يكره الفساد في الأرض وبأنه سبحانه يعتبر الحرب فسادا في الأرض ولذلك فإنه تعالى يُطفئ نار الحرب ولا يوقدها. ولذلك لا نرى في القرآن أي أمر بإشعال الحروب لفتح البلدان وما يقوله المؤرخون كذب وافتراء على الله تعالى وعلى رسوله الصادق الأمين.

ولو فُرض علينا القتال من أهل الأطماع فالعقل يحكم بلزوم الدفاع لو كان بيدنا القدرة على ذلك وإلا فما حيلة المضطر؟ قال تعالى في سورة الحج: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40). نحن بشر نخطئ كثيرا في فهمنا وفي قراراتنا وفي أعمالنا والله تعالى سمح لنا بأن نستغفره ونستعين به فلا ضير من الأخطاء. فلا يمكن أن نتشبث بما فعله الناس لاستخراج حكم الله تعالى كائنا من كانوا. نستثني من ذلك الأنبياء وحدهم باعتبار الوحي المساعد لهم وباعتبار رسالاتهم السماوية التي لا يمكن أن تخطئ. فأنا لا ألوم أحدا على ما فعل ولا أقتل أحدا إلا إذا أمرني ربي في القرآن الكريم.

لننظر إلى حكاية الآيات الكريمة أعلاه من سورة الحج.

1. إن الله يدافع عن الذين آمنوا. ورسولنا الأمين ومن آمن معه على رأس الذين آمنوا بالله تعالى في عصر القرآن المجيد. لقد آمنوا بربهم وهم في مكة وتحمل رسولهم وإياهم الأذى في جنب الإيمان وهم تحت حكم المشركين المسيطرين على أم القرى وعلى المسجد الحرام.

2. إن الله يدافع عن الذين آمنوا وفوق ذلك فإنه تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور حتى لا يخطئوا كثيرا. رسول الله مصان بالوحي السماوي ولا يمكن تصور الخطأ في قراراته. والسؤال هنا: لماذا لم يدافع الله تعالى عنهم في مكة حتى لا يضطروا إلى الخروج من منبتهم ووطنهم الذي ورثوه من آبائهم وجدودهم؟

3. يبدو بأنهم لم يقاوموا بل صبروا على الضيم وسعوا لتخفيف العذاب عن قومهم. ألم نسمع بأن بعض الأغنياء من المؤمنين كانوا يشترون العبيد الذين آمنوا لينجوهم من العذاب المؤلم ويخرجوهم من حبس الذين ظنوا بأنهم سادة عليهم؟ وقد اشتهر أبو بكر بالقيام بشراء عدد غير قليل من أولئك المؤمنين فرحمه الله تعالى وأثابه على خدمته الكبرى للإسلام وللمسلمين ولرسولنا الحبيب عليه السلام.

4. لعلنا نعرف من آيات الحج أعلاه بأن الإذن بالدفاع العسكري أتاهم وهم في المدينة ولم يأتهم في مكة. وليتنا نعود إلى عقولنا لنرى بعد الإمعان بأن المقاومة العسكرية غير مجدية عند الضعف ولن

تؤدي إلا إلى المزيد من الخسائر في الأرواح والأموال. ولعلنا نهتدي من تعامل ربنا مع حبيبنا المصطفى ومن آمن معه بأن علينا ألا ننتظر المعاجز حينما نقاوم أعداءنا. فلو كان هناك إرادة ربانية للمعجزة فإن المعجزة لن تأتي إلا لسبب سماوي مثل تعريف رسول للناس. لكن النصر أمر آخر مرتبط بقوة إيماننا وتمسكنا بالله تعالى ليزيد من تأثير دفاعنا وأسلحتنا ضد أعداء الله وأعدائنا. ولم يعد الله تعالى العاجزين بالنصر بل أمرنا في الآية 60 من سورة الأنفال بالإعداد للمقاومة فقال عز من قائل: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ...

5. فيما عدا الحروب الدفاعية مثل حروب الخندق وأحد وتبوك فإن الحروب الهجومية لا تجوز إلا بإذن أو أمر من الله تعالى. ولا يمكن أن ننتظر إذنا أو أمرا في غياب الوحي. قال تعالى في سورة البقرة: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246). يتمثل سبحانه بحكاية فتح القدس على يد داوود بعد أن تخاذل بنو إسرائيل عن فتح المدينة أيام رسولهم الكبير موسى عليهما السلام. يوضح لنا القدوس سبحانه بأن القتال في سبيل الله يعني القتال بالوحي السماوي. ولذلك وبعد أن استعد بنو إسرائيل لتحرير الأرض المقدسة التي كتبها لهم ربهم من المحتلين كما يبدو فإنهم انتظروا الوحي للبدء بالقتال. ولنعلم بأن الله تعالى أمر بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة أيام موسى. فهناك إذن سماوي للهجوم ولكنهم لم يطيعوا ربهم في وقته فانتهت مدة الإذن بالقتال واحتاجوا إلى إذن جديد من الله تعالى. كل ذلك لأن فتح الأرض المقدسة مشابه لفتح مكة فهما فتحان يتحققان بالحرب الهجومية فقط. ولا يجوز الهجوم على الناس إلا بإذن مباشر من الله تعالى وبوحي سماوي.

ولذلك فإن كل الفتوحات المشهورة بالإسلامية باطلة وغير صحيحة ولا يجوز الاستناد إليها للهجوم على بيوت الناس باسم نشر الإسلام. أمر الله تعالى رسوله ليفتح مكة التي أُخرج منها هو وأهله وأتباعه كما أمر الرسول موسى من قبل ليفتح الأرض المقدسة. أراد ربنا أن يجعل الأرض المقدسة مكانا دينيا لبني إسرائيل كما أراد من بعد أن يجعل الأرض المحرمة مكة مكانا دينيا للمسلمين. فهل ذلك يعني أنه سبحانه سمح للمسلمين بأن يحتلوا أراضي الناس باسم الفتوحات أم هل ذلك يعني بأنه أباح لبني إسرائيل أن يطردوا أمة من البشر تعيش على أرض فلسطين ويقتلوهم ويبيدوهم باعتبار أن الله تعالى كتب لهم الأرض المقدسة؟

كلا فالأمر هو أنه سبحانه أراد تشريعيا لبني إسرائيل المؤمنين أن يخدموا الأرض المقدسة كما أراد للمسلمين أن يخدموا الأرض المحرمة تشريعيا أيضا. لكن للملكية قانون آخر هو إحياء الأرض الموات ثم يحق لمن أحيا أرضا أن يسكنها أو يبيعها على غيره. ليس هناك أي إذن في القرآن بدخول مدن الناس عنوة وقتل رجالهم واسترقاق نسائهم واستعباد أطفالهم واستملاك بيوتهم وأموالهم. هذه بربرية وليست إسلاما. كل الفتوحات المعروفة بالإسلامية فتوحات بربرية لا تناسب التسليم لله تعالى. ما فعله جدودنا من جهلهم أو إسرافهم على أنفسهم، إثم وبغي وظلم ولا يجوز لنا اتباعهم.

الإنسان محترم والنفس الإنسانية محترمة سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة. قال تعالى في سورة الإسراء: وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33). والقتل بالحق موضح في نفس الآية وهو قتل القاتل الذي قتل إنسانا بريئا وليس قتل من لم يعتنق الإسلام. وهذا الإذن ممنوح لولي المقتول فقط.

وأما تحريم قتل النفس المذكور في سورة الأنعام بدون بيان القتل المسموح به فلننظر إليها بداية: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151). الحق هنا لا يعني نشر الإسلام والفتوحات كما ظن البعض. ذلك لأنه سبحانه قد وضح قبل الآية الكريمة في نفس سورة الأنعام بأن الهدى من الله تعالى وتابع لمشيئته وليس أحد من البشر مأمورا بنشر الهدى فقال عز من قائل في نفس سورة الأنعام:قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149). فالهداية تتم بمشيئة الله تعالى وليست بسيوف المسلمين.

انتهى القسم الأول ويتلوه القسم الثاني بإذن الله تعالى

أحمد المُهري

4/12/2017

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.