هذيف في الادارة 4 – تنفس صحة

هذيف في الادارة 4

تنفس صحة

نُقلت الجدة الى العناية الطارئة في أحدى المستشفيات الخاصة بالعاصمة، ظل اسعد يتردد صعودا ونزولا بين قسم العناية والصيدلية وصندوق الحسابات …وتمر الأيام… لم تكن حالة وحيدة لأسعد بل عشرات المرافقين لمرضاهم عانوا معاناة اسعد، فهي الحالة الطبيعية في أي مستشفى خاص ، ولم يكن امام اسعد أي حل آخر ، ولا يمكنه ابدا التفكير في اللجوء لمستشفى عام… لا يمكن… !!

الجدة موصلة بالعديد من الأجهزة الحيوية، ظل اسعد منتظرا خبرا ما، فقط يريد ان يعرف ما هو الوضع، لا احد يعرف ولا احد يريد ان يخبره ما حالة الجدة؟! الجواب الذي يتردد على مسمعه (ادع ُ لها) ، قرر اسعد ان يتوجه للمدير… وفعل ، سأله عن الحالة وعن الكلفة العالية للإقامة اليومية ، رد المدير الطبيب بابتسامة :

  • اننا نسعى ان نبقيها على قيد الحياة، ويمكنك ان تضع أي رهن يمكنك استرداده لاحقا عند تسديد أي حساب مؤجل، انه مستشفى خاص لا تتوقع ان تجد شيئا بالمجان.
  • سيدي اعلم ذلك وحتى في العام صار الامر جنونيا، حيث الموت يدق الباب ولا يرحم،
  • اننا اذن نقدم أفضل ما يلزم، نعمل لأجل ان تتنفسوا صحة، نستثمر في قطاع فيه الكثير من المخاطر، ونصر على تقديم أفضل خدمة، اليس هذا ما يمكن ان تلحظ.
  • أمممم .. ربما! ما يهمني الآن، اريد ان افهم،
  • دعوات صادقة هي ما يجب ان تردده الآن، لأننا نبذل اقصى ما يمكن …

غادر اسعد مكتب المدير الطبيب، وتوجه الى حيث تستقر الجدة، نظر اليها وفي عينه حزن و حسرة، لا يعلم ماذا يفعل ؟ والمال بيده ينفد، حاورها بصوت منخفض جدا:

  • جدتي انت بالتأكيد تسمعينني، اخبريني فقط ماذا يمكنني ان افعل؟

غادر اسعد غرفة العناية الى الدور الأسفل، كان الظهر اقبل، صلى وتنهد، وفي انتظار يتساءل هل فعلا نتنفس صحة في هذا المشفى؟ في ذات اللحظة غادرت نفس الجدة الجسد، وكأنها تبلغه ان الوقت فعلا نفد!

……………………………..

القصة السابقة تتكرر مرات عدة… خطر في بالي ان اكتبها و اجعلها مستهلا لهذا المقال ، ولكي تكون الصورة واضحة لا اعني بهذا الاستهلال رفضي مشاركة القطاع الخاص في الاستثمار في القطاع الصحي بل العكس تماما ، لا يمكن لاي دولة في العالم أيا كان وضعها ان يكون التوجه الاستثماري للقطاع الصحي منحصرا في القطاع العام ، فلا يمكنها استيعاب كل المستجدات ، بالتالي مع انخفاض التنمية في القطاع الصحي وتزايد الحاجة اليه فلابد من ان يكون للقطاع الخاص المبادرة وقد فعل في هذا الاتجاه ، وأيضا ينطبق الكلام ان يكون هناك توجه من القطاع الثالث للعمل في هذا الاستثمار وبقوة.  واذن عن ماذا اريد التحدث…

 نتحدث عن الجملة التي اثارها المدير الطبيب : ” اننا اذن نقدم افضل ما يلزم، نعمل لأجل ان تتنفسوا صحة، نستثمر في قطاع فيه الكثير من المخاطر، ونصر على تقديم افضل خدمة، اليس هذا ما يمكن ان تلحظ. ” ،

وكي يكون كلامي محددا، فيما ذكره المدير الطبيب ، علي ان اركز في عبارته :

  •  الاستثمار في القطاع الصحي الخدمي وتحديدا المستشفيات مخاطرة،
  • ·        تقديم أفضل ما يلزم،
  • نعمل لأجل ان تتنفسوا صحة،

ربما سأوزع المقال على اطارين برزا في النقاط أعلاه _ الاستثمار و _ جودة المنتج. ولنبدأ معا في الإطار الأول:

الاستثمار في القطاع الصحي ليس بالأمر الهين فعليا هو جانب يشمل الكثير من المخاطر المالية ، الا انه في المقابل العائد الاستثماري منه مجد بشكل كبير والسبب يعود الى ان الخدمة الصحية ومتطلباتها تتطور يوما عن يوم ،ومع النمو السكاني والبحث عن البدائل البعيدة عن السفر وتكاليفه خارج الوطن ، فوجود بدائل خدمية نوعية تجذب السكان للدفع مقابل الخدمة أصبح مطلبا ملحا وفرصة مجدية ، وفي المقابل الخدمة الصحية لها متطلبات ينبغي ان تتطور بناء على الاستهداف المحتمل في السوق الصحي ، فالمستشفى ليست وحدة صحية عادية انها شبكة من الخدمات المترابطة والمؤدية الى تحقيق تكامل في المنتج الصحي المقدم للمستهدف (المريض) …  إذن على العكس الفرص تغلب المخاطر في هذا القطاع الواعد وستظل الا ان من يدخلها يجب ان يتحقق مما سيقدمه والا فإن تكرار التجربة يعني الفشل ، هذا جانب …

الجانب الآخر هو المستهدف المريض ، القدرة الشرائية للمستهدف من جهة ، ومن جهة أخرى التركيز على الربحية واسترداد رأس المال المستثمر يجعل هذا القطاع في حالة تخوف بين رغبة القطاع الخاص في استرداد رأس ماله ، ومنها الى تحقيق الأرباح ، ومن جهة ان هذه الخدمة تمثل حقا واجبا كمسئولية اجتماعية توفيرها لكل انسان ، وهنا تبرز الفلسفة الأخلاقية التي يجب ان تكون القاعدة في هذا النوع من الاستثمار ، هذه الدافعية الأخلاقية في توفير الحق لكل الناس تتطلب ان يكون هناك تنسيق عال في عدة اتجاهات لآلية توفير تلك الخدمة بكفاءة وفاعلية وفي ذات الوقت بسعر مناسب للمستهدفين .

 هل هذا ممكن؟ هل يمكن ان يكون ذلك بتوفير عدة مستويات من الخدمة الصحية كما يتم في مستويات الفنادق، او مستويات المنتجات الاستهلاكية لتتناسب مع كل قدرات الناس الشرائية؟

 بالتأكيد هذا التفكير في هذا القطاع يعتبر كارثيا ، حيث تتحول العملية الإنسانية عالية المستوى في الحفاظ على الصحة والحياة الى تجارة عامة ، وهذا لا يمكن ان يُقبل من هذا القطاع الحيوي جدا ، إن حل هذا الاشكال ليس بيد القطاع الخاص منفردا ، الا انه في المقابل يجب ان يسهم في إيجاد حل له ، يقع الحل في توافقية توفر آلية تأمينية تخضع للقانون ، وتشرف عليها وزارة الشئون الاجتماعي او التضامن الاجتماعي ، لشمولية التأمين الصحي ، هذا المتطلب بحاجة الى مزيد من الخوض فيه وبشكل يحقق الهدف ، الا ان المساحة في المقال لا تكفي لهذا الآن ، ما اريد تأكيده ان الاستثمار في القطاع الصحي يحقق العديد من الفرص ، الا اننا يجب ان نتوجه وبشكل كبير الى التحول الى الاستثمار المتخصص والمكثف والشامل ، ابرز تلك الفوائد هو توفير كم كبير من الدورة النقدية المصدرة الى الخارج وادارتها في الداخل ومع نجاحها سيكون هناك بروز لدورة نقدية واردة من النطاق الأقرب .

الإطار الثاني جودة المنتج الصحي:

ربما علينا أولا ان نستوعب تماما المعنى من المنتج الصحي، بالتأكيد هي الخدمة الصحية والتي تتمثل في مجموعة الأنشطة التي تؤدى لتقديم رعاية صحية محددة بغرض محدد، وبالتالي هذه الأنشطة تتنوع بناء على حالة المريض؟ وما غرض المستشفى الأساسي؟

هنا يبرز دور التخصص الذي سيوفر لنا تحديد تكل الأنشطة، فالمستشفى العام سيكون مسئولا عن إطار عام لكل مريض، بعكس المستشفى التخصصي للقلب مثلا، فإن الأنشطة مرتكزة على الرعاية الصحية المتعلقة بالقلب، بالتالي هذا سيوفر أيضا للمستشفى تحديد التخصصات والأدوات والتجهيزات التي ينبغي توفيرها في المستشفى وتحديدا للفرص الاستثمارية والريادة فيها ، وهذا سيجعل التوجه نحو المريض اكثر وضوحا ويسهل أيضا قياس مستوى الرضا للمستهدفين والعملاء والعاملين، وكذا الأطراف ذات العلاقة وأصحاب المصلحة.

كما يبدو أيضا في أي زيارة لأي مستشفى وفي عياداتها الخارجية ، ترابط الأقسام الصحية في استقبال المريض ( الهدف) من الخدمة و مرافقه او مرافقيه ، وهم جزء من أصحاب المصلحة في الرعاية الصحية ، بالتالي هناك توقعات “ما” لدى المريض تختلف بصورة او بأخرى عن التوقعات للمرافق او تقترب منه ، هذا قد يُصعب او يُسهل عملية تصميم المنتج الصحي المقدم ، حيث لابد ان يشمل في تصميمه لعملية رعاية متكاملة للأطراف المرتبطة بطريقة ما كي تتضح الصورة إليكم مثال مما يحدث الآن :

( المرافق هو المنفذ لعدة مهام في المستشفى من جلب الادوية، وتسديد الفواتير، ورفع الملفات وتوثيقها وووووو )

الاطار السابق المصمم للخدمة لا ترضي بالتأكيد المرافق ، وفي الاغلب تم التركيز فيها على “كيف نتحصل على النقود؟” ، بالتالي فهي تحقق له الضجر والملل ، والشعور بالضغط النفسي هذا ان لم  يتحول الى مريض آخر بسبب جهله بوسائل السلامة طوال تنقله في المستشفى من دور لدور ومن منطقة لأخرى…  يبدو إذن  ان تصميم المنتج الصحي لم يراعِ هذا الجانب ، أي انه لم يصب في مستوى الجودة كفاعلية في تقديم المنتج أو وربما لم يهتم بها رغم انها تمثل العمود الأساسي لاستمرارية الرعاية الصحية وديمومتها…

اذن ماذا تريد ان تقول؟  ربما هذا السؤال لديكم الآن …

الجودة ليست مجرد أوراق وملفات ، وثائق وسجلات ، الجودة فلسفة وروح تنبعث في كل مكان عندما يتم تصميمها من الأساس ، عندما تدخل الجودة كإجراءات فقط تتحول الى قوالب اسمنتية صماء ، لا تمكن الشركة او المستشفى من التحرك بحرية ومرونة نحو الركيزة الأساسية لوجودها قائمة ، بالتالي تتعرض مع المدى الى التقادم السريع ، مما يخرجها عن التنافسية وتحقيق الأهداف الأساسية والتي أساسها في القطاع الصحي ( المسئولية الاجتماعية والحق الإنساني في ان يتنفس المريض صحة) .

 دعوني اقولب اطار الجودة في القطاع الصحي في قالب أساسي يتمثل في تصميم الخدمة والذي يشمل في تطوير الجودة للخدمة و المتمثلة في تصميمها الذي يحقق :

  1. التركيز على المستهدف (المريض) والأطراف المتعلقة (المرافقين ومجتمعه)..
  2. ان يكون ملموسا، حيث لا يمكن ان يشعر بالتصميم الا انه يستشعره من خلال:
  3. 3.     المكان والأدوات والسرعة والشخصية التي تبرز من خلال
  4. الافراد مقدمي الخدمة في كل نطاق في المستشفى (شخصياتهم، تعاطفهم، سلوكياتهم الأخرى المتعلقة بالقيم العليا للمستشفى والعمل الصحي) .
  5. وأخيرا الموثوقية في تقديم المعلومة وارشفتها.

ربما صار واضحا ان جزءا كبيرا من الخدمة ذات الجودة مرتبطة بالأفراد مقدمي الخدمة من جهة، ومن جهة أخرى تصميم الخدمة المقدمة في الأساس.

 اذن كأننا نتحدث عن التصور المتوقع للتصميم والذي يشمل الإمكانات المادية، والإمكانات البشرية. هل هذا هو نهاية الحديث، حتى الآن نعم !، لم ينته الحديث فعليا الا انني ارجو ان أكون فتحت بابا للنقاش لإثراء هذا الموضوع وبقوة.

محبتي الدائمة

#اصلح_الله_بالكم

احمد مبارك بشير

25/11/19

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.