ابن اليهودية – وسيرة ابن اسحاق
ابن اليهودية – وسيرة ابن اسحاق
استمرارًا للحوار الدائر حول مصادر السنة النبوية الشريفة, أرسل إلينا فضيلة الشيخ أحمد المُهري رسالة تحوي العديد من النقاط الهامة إلا أن أهمها هو ما جاء فيها من تأييد فضيلته لما “تفضل به الأخ الطبيب سلامه حول تراثنا اليهودي”. تعود أهمية النقطة الخاصة بتراثنا اليهودي إلى سببين اثنين: الأول أنها لا تفسر لنا السبب في وجود هذا الكم الكبير من الفظائع والشنائع المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, والثاني هو أنها تقوم “أساسًا” على ادعاءٍ لا يمكن أن يقبل به من آمن بالله وبأن محمدًا رسول الله. دعني أوضح.
النقطة الأولى : كيف قبل المسلمون أن يستمعوا إلى ما يقوله محمّد بن إسحق
لا يحتاج الأمر إلى طويل بيان لتوضيح أن السبب في الحديث عما إذا كان “محمّد” بن إسحاق يهوديًا أم غير يهودي إلى كمية الفظائع والشنائع التي أوردها في كتابه المسمى بالمغازي. وكأن ما حدث هو أننا نظرنا في كتابه ورأينا كما كبيرًا من الشنائع والفظائع المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقررنا على الفور أن هذه فظائع وشنائع لا يمكن لمسلم أن يتحدث عنها – ودعك من أن ينسبها إلى رسول الله. لا يحتاج الأمر إلى طويل بيان كذلك لبيان أن هذا السبب لا يمكن أن يفسر وجود هذه الشنائع والفظائع في السيرة النبوية العطرة. يعود ذلك إلى نقطة واحدة هي أنه إذا كان كاتب هذه الفظائع يهوديًا يتظاهر بالإسلام فإن القراء الذين كتب ابن إسحاق هذا الكتاب من أجلهم لم يكونوا يهودًا بل كانوا مسلمين. وكأن السؤال الحقيقي هنا ليس هو “كيف كتب محمّد بن إسحاق هذا الكلام؟” وإنما “كيف قبل المسلمون في القرن الثاني من الهجرة – وفي المدينة المنورة – أن يستمعوا إلى هذا الكلام؟” كيف قبل أهل المدينة المنورة أن يظهر بينهم من يتحدث عن رسول الله بهذا الشكل؟ ثم كيف قبل المسلمون في بلاد المسلمين أن يظهر بينهم من يحدثهم عن رسول الله بهذا الشكل؟
النقطة الثانية: من أين جاءنا العلم بأن محمّد بن إسحق كان يهوديًا يتظاهر بالإسلام
القول بأن محمّد بن إسحق كان يهوديًا يتظاهر بالإسلام معناه أن فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد سلامه لديه القدرة على العودة إلى الوراء أكثر من ألف وثلاثمئة عام والنظر في قلب محمّد بن إسحق ومن ثم الحكم بأنه ليس مسلمًا كما يدعي وإنما يهودي قارح. والأولى مستحيلة والثانية مستحيلة هي الأخرى. لا يمكن لمفكرنا الإسلامي المبدع أن يعود إلى الوراء دقيقة واحدة ودعك من أكثر من ألف وثلاثمئة عام لكي يرى ما إذا كان محمّد بن إسحق مسلمًا أم غير مسلم, كما أنه حتى إذا عاد فإنه لن يستطيع أن يحكم بما إذا كان محمّد بن إسحق مسلمًا أم غير مسلم. يعود ذلك إلى أن لا أحد غير الله يعلم ما إذا كان الواحد منا مسلمًا أم غير مسلم. هذا أمر لا يعلمه لا محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ولا محمّد بن سلامه حفظه الله.
يحتاج فهم السبب في وجود كل هذه الفظائع والشنائع الموجودة في السيرة النبوية العطرة إلى الانتباه إلى التالي:
1. أن “سيرة رسول الله” كما كتبها ابن إسحق لم تكن أكثر من “تجميع” للروايات الشفوية الموجودة في المدينة المنورة في القرن الأول الهجري.
2. أن المؤلف الحقيقي للسيرة النبوية الشريفة لم يكن محمدًا بن إسحق وإنما كان أهل المدينة المنورة.
3. أن لو كان هناك اختلاف بين النسخ الشفوية عن السيرة النبوية الشائعة بين أهل المدينة وبين نسخة محمّد بن إسحق لنبه أهل المدينة ابن إسحق عليها وأخرجوها منها.
4. أن السيرة النبوية التي قدمها لنا محمّد بن إسحق كانت تعبيرًا حقيقًا عن المخيلة الشعبية لأهل المدينة المنورة أكثر منها وثيقة تاريخية عن السيرة النبوية الحقيقية.
وكأن المسألة, بهذا الشكل, هي أننا, حقيقة الأمر, لا ننظر في “سيرة النبي” كما ألفها محمّد بن إسحق, وإنما ننظر في السيرة النبوية كما “تخيلها” أهل المدينة المنورة في القرن الثاني من الهجرة. يحتاج فهم السيرة النبوية, بهذا الشكل, إلى الرجوع إلى كتابين أساسيين يتعلقان بطريقة عمل الذاكرة في الثقافات البدائية. الأول هو “الكتابية والشفاهية” من سلسلة عالم المعرفة الكويتية, والكتاب متوفر مجانًا على الشبكة. والثاني هو ‘Remembering’ لمؤلفه Bartlett.
لم تكن “سيرة النبي” كتابًا من تأليف يهودي حاقد يدعي كذبًا أنه مسلم, إذن, وإنما كانت تجميعًا للروايات السائرة في المدينة المنورة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وهي روايات تصور ما تخيله أهل المدينة المنورة عن سيرة الرسول الكريم أكثر مما تصور سيرة الرسول الكريم كما كانت عليه في الواقع. لم يكن الهدف من الروايات السائرة في المدينة المنورة عن حياة الرسول الكريم هو الإساءة إليه وإنما تعظيمه وتكريمة. وكأن ما كان تكريمًا وتعظيمًا في القرن الثاني من الهجرة قد تحول إلى إساءة وتشنيع في القرن الخامس عشر.
يحتاج الأمر إلى معالجة أطول بكثير إلا أني آمل أن أكون قد أوضحت أن السيرة النبوية العطرة لم تكن من تأليف محمّد بن إسحق وإنما من تأليف أهل المدينة المنورة وأن ما نراه اليوم على أنه فظائع وشنائع كان يراه أهلنا في القرن الثاني الهجري على أنه بطولات ومكارم. أدعو الله أن يمكنني يومًا من الكتابة عنها. إلا أنني لا أستطيع أن أترك هذه الرسالة قبل أن أسأل شيخنا الفاضل, فضيلة الشيخ أحمد المُهري, عن موضوع “الرواية المباشرة”. ظللت بالأمس أضحك كلما تذكرت ما كتبه فضيلته. كنت أظن أنه لم يعد هناك في التراث السني القديم ما يمكنه أن يفاجئني, إلا أن موضوع الرواية المباشرة ورفض المعنعن هذا كان مفاجأة فعلاً. سوف أكون شاكرًا لو أوضح لنا فضيلته ما المقصود بـ”الرواية المباشر” وكيف لمن أراد فهمها أن يتتبعها. وطبعًا أتفق مع فضيلته في أننا حقًا في مصيبة.
يقول شيخنا الفاضل:
أظن بأن ما تفضل به الأخ الطبيب سلامه حول تراثنا اليهودي ليس بعيدًا عن الحقيقة. نحن لم نحضر كتابة أي سطر من سطور السيرة النبوية وتاريخ ما سبق من بداية ظهور الإسلام حتى سيطرة بني العباس على السلطة. لا نجد في تراثنا تاريخا مكتوبًا في تلك الفترة. كل ما نعرفه هو أن هناك شخص نصراني أو يهودي اسمه يسار بن خيار كان ساكنا في قرية عين التمر وسبي حين غزو المسلمين للعراق أيام خلافة أبي بكر رضي الله عنه, ويقال بأنه كان من الغلمان المرهونين لدى كسرى الملك الفارسي في كنيسة عين التمر. كل ما يمكن الجزم به هو أنه من سبي العراق. وهو أبو إسحق. وكان ليسار ثلاثة أبناء احتمالاً ومنهم إسحق وموسى الذي اشتهر أيضا بالتحدث عن تاريخ الإسلام وينقل عنه ابن أخيه محمّد أحيانا, إلا أن محمّد كتب في الحديث, والتاريخ, والسيرة النبوية. والكثيرون يحتملون بأن كتاب سيرة ابن هشام هو مختصر السيرة النبوية لمحمد بن إسحق.
وأما التاريخ المعروف بتاريخ الطبري فهو أيضا مأخوذ من تاريخ وسيرة ابن إسحاق احتمالا. ويُقال بأن تواريخ بداية البشرية الموجودة في بداية تاريخ الطبري هي كلها من ابن إسحق. ومما لا شك فيه بأن تواريخ تلك الحقية لا ينطوي على أي صحيح بل هي مجرد أحاديث ليلية كتبها أو تحدث بها الوضاعون. والقرآن الكريم يرفض القول عن تاريخ المسيح باعتبار أن الرسول لم يكن حاضرًا. قال تعالى في سورة آل عمران: *ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)*. وقال سبحانه في بداية سورة يوسف: *نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)*.
فإذا كان الرسول محمّد عليه السلام في غفلة عن قصة يوسف فكيف نقبل بأن ابن إسحاق كان على علم بقصة خلق آدم؟ كل ما يقولونه عن التاريخ السابق للإسلام لا يمثل إلا مجموعة من الأكاذيب الملفقة. أضف إلى ذلك أن ابن إسحاق من وعاظ السلاطين وقد أنفق عليه أبو جعفر المنصور العباسي وطلب منه أن يكتب كتابا ينطوي على حكايات حياة الرسول عليه السلام. لكن مشكلتنا نحن أننا فقراء في تاريخ بدايات ظهور نبينا عليه السلام فمؤرخونا مضطرون أن يلجؤوا إلى أمثال محمّد بن إسحاق. ولعل أول كتاب كتب في تاريخ بداية الإسلام هو ما كتبه ابن إسحاق بعد أكثر من 120 سنة من وفاة الرسول الأمين عليه السلام. ولهذا السبب فإن المستشرقين الغربيين لا يعتبرون ابن إسحق صادقا فيما نقله عن الرسول وتاريخ الرسول.
وقد كذبه الإمام مالك المعاصر له واعتبره دجالاً ومن بعده كذبه الإمام أحمد بن حنبل. واشتهر ابن إسحق بنقل الإسرائيليات إلى المسلمين. وكان ابن إسحاق مهتما بالمغازي ولذلك اهتم به محبو القصص والحكايات القديمة ولعل المنصور أمره بكتابة التاريخ بعد ما سمع عن اهتمام الناس بمجالسه وأُنسهم بحكايات المغازي التي كان يلقيها عليهم. واعتبره ابن حجر من المدلسين. ولكن المهتمين بالحديث مضطرون لقبول أحاديث المدلسين إذا رووا مباشرة ويرفضون المعنعن. ولا أدري أنى لابن إسحق أن يروي مباشرة حكايات حدثت عقودا قبل أن يولد في المدينة.
أليست هذه مصيبة من مصائبنا التاريخية. نحن أمة بلا تاريخ صحيح عدا ما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم من حكايات نبوية جيدة ولا شك في صحتها.
وليست كتب العهد الجديد المسيحي بمعزل عن مصيبتنا. فالذين كتبوا تلك الكتب هم اليهود الذين آمنوا بالمسيح عليه السلام وأظن بأن ثلاثة منهم هم من بني إسرائيل والرابع مشكوك فيه لأنه ولد في أنطاكية.
أحمد المُهري
9/4/2018
*كتاب الشفاهية والكتابية