ابن اليهودية – بني العباس والسيرة النبوية

 

 

ابن اليهودية – بني العباس والسيرة النبوية

 

لنبدأ بحل الإشكال الذي أورده الأخ العزيز الأستاذ كمال شاهين حول قولي بأن المهتمين بالحديث كانوا مضطرين لقبول أحاديث المدلسين إذا رووا مباشرة ويرفضون المعنعن. هذا القول معروف بين المحققين في علم الحديث ويمكنك مراجعة ما كتبه الشيخ محمد صالح المنجد حول اشتهار ابن إسحاق بالتدليس وهذا نص ما كتبه دفاعا عن ابن إسحاق:
 
jewish.jpg

القدح الثالث : اتهامه بالتدليس .

ذكره ابن حجر في المرتبة الرابعة من مراتب المدلسين (ص/51) وقال : مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم ، وَصَفَه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما .

وهذا لا يعتبر قدحا مطلقا في حديثه أيضا ، فالمدلس المكثر من التدليس يُقبَل حديثه إذا صرح بالسماع ، وإنما يُرَدُّ ما رواه بالعنعنة.
 
ويمكن مراجعة ذلك على الرابط التالي:
 
https://islamqa.info/ar/148009
 
وأما قولي التالي: ولا أدري أنى لابن إسحق أن يروي مباشرة حكايات حدثت عقودا قبل أن يولد في المدينة.
 
فقد يكون كلامي غير واضح لأنني أكتب بسرعة. لعل فضيلة الدكتور كمال ظن بأنني أقصد مشاهدة الحكاية مباشرة وهذا لا معنى له بالنسبة للمحدث الذي يتحدث عن غيره الحكاية. لكنني قصدت مباشرة الاستماع إلى المحدثين. ذلك لأنه من المرتبة الرابعة من المدلسين. وهم كما قال الحاكم النيسابوري في كتابه في معرفة علوم الحديث:
 
والجنس الرابع من المدلسين قوم دلسوا أحاديث رووها عن المجروحين فغيروا أساميهم وكناهم كي لا يعرفوا..
 
فابن إسحاق لا يروي عمليا من محدثين معروفين وإنما يروي من محدثين مجروحين فهو غير مؤهل لينقل لنا حكايات حصلت قبل ميلاده في المدينة. إنه ينقل من مجروح من مجروح. ودعني أصحح القول أكثر.
 
إن مرجع المؤرخين يعود إلى ابن إسحاق. وابن إسحاق لا ينقل فعلا عمن نقله عنهم. لأن هناك تغييرا في أسماء الرواة باعتبار التدليس. ومشكلة التاريخ لدينا هي أن الناقلين عن ابن إسحاق على فرض أن ابن إسحاق موثوق، هم عدد من الناس كانوا بعيدين عنه تاريخيا. فابن هشام وهو أقرب عهدا إلى ابن إسحاق من غيره فإنه توفى في حدود سبعين سنة بعد وفاة ابن إسحاق ولا ندري تاريخ ميلاده. وعلى أي حال فلا يمكن القول بأن ابن هشام سمع مباشرة من ابن إسحاق. ولا تضم مكتباتنا العربية والإسلامية اليوم أثراً لكتب ابن إسحاق لا المغازي ولا السيرة. والذي يجعلني أشك في عبد الملك بن هشام هو أنه نشر كتابه باسمه ولم ينشره باسم ابن إسحاق. فهل هو فعلا مختصر سيرة ابن إسحاق أو أن ابن هشام كتب كتابا فعلا واستفاد من ابن إسحاق. والكثيرون مصرون على أنه اختصر كتاب ابن إسحاق. فنحن في الواقع نعود إلى شخص واحد اسمه ابن إسحاق في معرفة تاريخ العصر النبوي الشريف. هل هذا تاريخ فعلا أم هو رأي شخص في سيرة رسولنا. وأقل شيء نقول فيه هو أنه ليس من أولاد الأنصار ولا من أحفاد المهاجرين الذين لهم الأولوية في بيان حكايات الرسالة المجيدة.
 
وحتى نعرف حقيقة التاريخ والحديث وما نقلوه عن رسول الله عليه السلام، أنقل لكم ما كتبه أخي أحمد الكاتب أول أمس نقلا عن الصابوني وكيف أن هارون الرشيد أمر بقتل شخص اعترض على حديث لرسول الله يتحدث عن حوار بين أبينا المرحوم آدم وبين موسى عليه السلام بحجة أنهما لم يعيشا مع بعض.
 

 
و حكى إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (449هـ) بسنده أن أبا معاوية الضرير حدث الرشيد بحديث أبي هريرة حول القدر واحتجاج آدم وموسى.. فاعترض أحد الحاضرين قائلا: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟ فوثب به هارون وقال: يحدثك عن رسول الله (ص) وتعارضه بكيف؟
الصابوني ، عقيدة السلف، ص 320
 
ويكمل ابن كثير القصة قائلاً: ان الرشيد غضب من ذلك غضبا شديدا، وقال: أتعترض على الحديث؟ علي بالنطع والسيف، فاحضر ذلك، فقام الناس اليه، يشفعون فيه، فقال الرشيد: هذه زندقة، ثم أمر بسجنه، وأقسم ألا يخرج حتى يخبره من ألقى اليه هذا، فأقسم ذلك الرجل بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وانما كانت هذه الكلمة بادرة منه وانه يستغفر الله ويتوب اليه منها فأطلقه. ابن كثير، البداية والنهاية 10/ 215
 
وعلق الصابوني بعد إيراده تلك القصة: هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله (ص) ويقابله بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الانكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد – رحمه الله – مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بكيف؟ على طريق الانكار له والابتعاد عنه، ولم يتلقفه بالقبول.
الصابوني، عقيدة السلف وأصحاب الحديث، ص 321، عبد العزيز آل عبد اللطيف، الاعتقاد القادري، دراسة وتعليق، مجلة جامعة أم القرى، ج18، ص 229 – 230 عدد 39 سنة 1427 انتهى النقل.
 
هكذا نُشر أحاديث الرسول تحت سيف بني العباس وهكذا أسكتوا كل صوت مخالف أو مستفسر ليحل الأحاديث المزعومة محل كتاب الله تعالى وليصير الدين الإسلامي دينا مذهبيا بشريا مع الأسف. ولكن الله تعالى حمى القرآن الكريم من شر الأحاديث والتاريخ والمغازي وقصص الأنبياء الكاذبة لنحتج بها على كل من يضيف أو ينقص شيئا من دين الله تعالى. فالقرآن أولا من أيام الرسول والقرآن آخرا حتى يوم القيامة.
 
وأما أن نظن بأن ما نقلوه عن ابن إسحاق يمثل ما سمعه ابن إسحاق من أهل المدينة كما تصوره أخي الكريم الأستاذ الدكتور كمال شاهين فهو يمثل اتهاما غير عادل لهم في الواقع. ذلك لأن الفاصلة بين ابن إسحاق وأهل المدينة تسمح بأن يكون ابن إسحاق قد سمع بواسطة واحدة أو واسطتين من أهل المدينة المنورة عن الحادث المذكور. من الصعب القول بأن أبناء أو أحفاد المهاجرين والأنصار نقلوا الحكايات النبوية مصبوغة بنظراتهم الشخصية لخلق البطولات للرسول ومن عاش مع الرسول عليه السلام حسب أفكارهم البدوية. بل السر يكمن في الحكومات التي أنفقت على ابن إسحاق أن يكتب المغازي وغير المغازي.
 
الحكاية التي نقلها الصابوني السلفي وابن أثير المؤرخ عن هارون الرشيد تدل دلالة واضحة على مصلحة أساسية لملوك بني العباس الآثمين. إنهم بنوا حكمهم الفاسد على الأحاديث التي دفعوا المال من أجلها واستأجروا المؤرخين والمحدثين ليخلقوا للمسلمين دينا جديدا يعطي القدرة للحاكم باعتباره ولي الأمر وباعتبار أن الله تعالى قدر له أن يتسلط على رقاب الناس فعلى الناس أن يطيعوه في كل ما يأمر به. تلك الأحاديث الملفقة هي أساس بنيانهم الوراثي للحكم. ولو نقرأ تفسير أبي العباس السفاح لبعض الآيات القرآنية على أساس أنهم هم المقصودون أنقل لكم خطبته في المسجد الجامع بالكوفة حينما تولى الملك، كما أورده ابن كثير في الجزء العاشر من البداية والنهاية:
 
الحمد لله الذي جعل الإسلام لنفسه ديناً، وكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا، وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه، والقوام به، والذابين عنه، والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها، خصنا برحم رسول الله وقرابته، ووضعنا بالإسلام وأهله في الموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتاباً يتلى، قال تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيرا}، وقال: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }، وقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، وقال: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين}، فأعلمهم عز وجلفضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا وتفضلة علينا، والله ذو الفضل العظيم، وزعمت السبابية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم، أيها الناس بنا هدى الله بعد ضلالتهم، ونصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسداً، ورفع بنا الخسيسة، وأتم النقيصة، وجمع الفرقة حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر ومواساة في دنياهم وإخوانا على سرر متقابلين في أخراهم، فتح الله علينا ذلك منة ومنحة بمحمد ، فلما قبضه إليه، قام بذلك الأمر بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم فعدلوا فيها، ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصاً منها، ثم وثب بنو حرب ومروان، فابتزوها لأنفسهم وتداولوها، فجاروا فيها، واستنأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حيناً، {فلما آسفونا انتقمنا منهم}، فانتزع منهم ما بأيديهم بأيدينا، ورد الله علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وتولى أمرنا والقيام بنصرنا، ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإني لأرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله، يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح الهائج، والثائر المبير. انتهى النقل.
 
يمكن للقارئ الكريم ملاحظة أن عصبة الإجرام العباسية بدأت حكمها الجائر بتأويل آيات القرآن الكريم لصالحها وبأن الله تعالى ألزمهم كلمة التقوى وجعلهم أحق بها وأهلها! وابن إسحاق أجير من أجراء بني العباس. وأظن بأنني لو أنسب الكذب إلى واعظ من وعاظ السلاطين خير من أن أتهم ذراري المهاجرين والأنصار بأنهم اختلقوا حكايات كاذبة حول الفترة الرسالية المشرفة لنبينا الأمين عليه الصلاة والسلام. أنا أقبل كيفية قيام الذاكرة الإنسانية ببعض التغييرات فيما اختزن فيها ولها عدة عوامل طبعا. لكن نقل حكاية زواج الرسول بالسيدة صفية ساعة مقتل زوجها ووالدها مثلا حكاية حاكم ماجن فاقد للضمير والوجدان وليست حكاية رسول طيب مدح الله تعالى أخلاقه العظيمة. وأرفض بشدة أن تقوم ذاكرة أولاد النخبة الطيبة من البشر الذين تشرفوا بخدمة الرسول الأمين جميعا بتحويل معلوماتها التاريخية إلى خليط بدوي يتناسب قدامى القياصرة والأكاسرة.
 
لقد قام الرسول بتغيير التوجه العام لدى الذين آمنوا وزكى نفوسهم وعلمهم ما لم يعلموا بفضل الله تعالى؛ فليس صحيحا القول بأنهم جميعا نسبوا ما لا يلائم شرف الرسالة إلى صاحب الدعوة. قال تعالى في سورة آل عمران: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159). لقد رفعت التربية النبوية الصحيحة قدراتهم الفكرية ومكاسبهم المعرفية إلى أن يستشيرهم الرسول نفسه. نحن اليوم نرى بأن الديمقراطية دخلت بعض البلدان وسرعان ما تغير الناس وعرفوا قدرهم ودافعوا عن حقوقهم وأصبحوا شعوبا واعية. فكيف لا نقبل أن أمة حضرت دعوة الرسالة السماوية وفور وفاة الرسول عادوا إلى البداوة وتركوا ديمقراطية الرسول عليه السلام. لكن السلطات العسكرية ولا سيما بني العباس الذين بنوا بنيانهم الفاسد على أكتاف الإيرانيين بقيادة أبي مسلم الخراساني سيطروا على المسلمين بالسيف وقاموا بتشويه الفهم الصحابي لكتاب الله تعالى. هذا الأمر حصل بعد سيطرة العباسيين ولم يكن موجودا بتلك القوة والسعة أيام بني أمية وهم كانوا مجرمين أيضا ولكنهم لم يكونوا ليعرفوا أثر الإعلام في نفوس أتباعهم. بالطبع أستثني من بني أمية معاوية بن يزيد وعمر بن عبد العزيز.
 
لو كان ابن إسحاق صادقا لنقل قصص السيرة النبوية من أحفاد المهاجرين والأنصار ولكنه كما يبدو لي اختلق قصصا ليجمع الناس حوله ولذلك اختاره أبو جعفر المنصور لكتابة التاريخ المشوه لمصلحة الذين دفعوا له. لقد رفضه الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل وغيرهما واعتبروه غير صادق، فلست أنا الذي أقول ما أقول بعد أربعة عشر قرنا، بل هم قالوا. لقد قرأت بدقة دفاع العلامة الذهبي عنه في سير أعلام النبلاء فوجدته يدافع بلا روية وكأنه مأمور بالدفاع عن ذلك الشخص المشبوه.
 
أعود فأقول بأن مصيبتنا فيما نقل عن الرسول أكبر من الوصف. مرجع كل ما قالوه شخص واحد مشبوه وعامل من عمال أبي جعفر المنصور العباسي الفاسد. لا وجود للنخبة الطيبة من بني هاشم ولا لأولاد وأحفاد مشاهير بقية المهاجرين وكذلك الأنصار أي أثر في مقولات ابن إسحاق. إنه ناقل لأساطير اليهود حول خلق آدم ونقرأ في بدايات تاريخ الطبري ما نقله عن محمد بن إسحاق في خلق الماء وخلق العرش فوق الماء والله تعالى فوق العرش وبقية أخبارهم الحمقاء. فابن إسحاق إنسان خطير لم يكتف بقصص الرسول بل تحدث عن حكايات لا يمكن لبشر أن يعرف عنها شيئا كما نقل الكثير عن اليهود وتحدث مثلا عن أن الله تعالى خلق أيام الأسبوع وفي أي يوم خلق الشمس وغيرها وكلها من سفر التكوين من التوراة المحرفة. فمن أين أتى ابن إسحاق بأخبار ما قبل خلق البشر؟ إنه غير صادق وقد عرفه ابن حنبل ومالك أكثر ممن جاء بعدهما فلا يُعتد به ولا قيمة لما نقلوه عنه ولكنه مع الأسف مصدر تواريخ المسلمين.
 
أتمنى أن يتعرف المسلمون على مآسينا الخبرية غير الصحيحة فيتركوا المنقول كلية ويهتموا بالقرآن الكريم وبالسنة المتوارثة غير القولية مثل سنة الحج وسنة الصلاة كما أتى بها رسول الله عليه السلام وعمل بها جدودنا.
 
سلامي على من قرأ وأمعن وهداني إلى ما هو أحسن
 
أحمد المُهري
 

12/4/2018

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.