تصحيح اخطاءنا التراثية – 9 – حقيقة المعراج !
تصحيح أخطائنا التراثية: ثامنا: رفض القرآن للمعراج
بسم الله الرحمن الرحيم
فرية المعراج:
من أكبر مصائبنا التي ورثناها من السلف مصيبة الاعتقاد الجازم بفرية معراج رسولنا إلى السماوات العلا وزيارته لله تعالى. والمصيبة الأشد وضوحا أن كثيرا من الدول الإسلامية تتخذ من يوم المعراج المزعوم عطلة دينية رسمية لتثبيت هذا الإفك الشيطاني في أذهان النشء المسلم والبريء. القرآن الكريم يخلو من هذه المزاعم الفاسدة وغير المعقولة وفي مسألة العروج إلى السماوات فإن القرآن يفند إمكانية ذلك وفي موضوع عروج الرسول بالذات فإن اليهود طلبوا ذلك منه عليه السلام فردهم الله تعالى في القرآن بأن يقول لهم بأنه بشر رسول فلا يمكنه طي السماوات في النتيجة. وقد وضحت هذا الموضوع قبل عدة سنوات في الرسالة التالية التي تنطوي على مقدمات أراها ضرورية لنفهم شيئا عن سياسة ربنا في خلق الإنسان. سأنشر المقطع الأول اليوم وأترك المقطع الثاني للأسبوع القادم حيث أنشر مقاطع من إشكالات الشخص الذي قام بمناظرتي وردي عليه.
الرسالة الأولى لأهل الأرض:
أرسل الله سبحانه رسوله الكريم موسى بن عمران إلى فرعون ليدعوه إلى الهدى واتباع الحق ويمنعه من الخضوع للأهواء والشهوات. امتنع فرعون وآل فرعون من الإذعان لآيات رب العالمين ولم يؤمن منهم إلا عدد صغير، هم زوجته ومؤمن آل فرعون والسحرة ولكن بقية الأقباط وعلى الرغم من توالي الآيات على يد موسى، فإنهم فضلوا العبودية لزعيمهم فرعون. هذه أول تجربة يتم في كوكبنا لبسط تشريعات السماء وتوجيه الأمم البشرية إلى حقيقة الوجود الواجب جل جلاله. تلاها مباشرة بل تخللها تجربة أخرى وهي توجيه نفس الرسول الأمين إلى بني إسرائيل الذين انحدر هو منهم. نجحت التجربة إلى حد ضئيل وأحسن بكثير من تجربة الأقباط. لعلها دلت على أن البشرية لا زالت ضعيفة أمام التماسك الأسري ولا زالت غير قادرة على الترفع عن الولاء للأسرة والعشيرة والطائفة والقبيلة وما هي من فصيلتها. والله تعالى لا يريد ذلك تشريعا. ليس للتوجه الأسري أي ارتباط بالحقيقة ولا يمكن وصف الأسرة مهما كبر شأنها بالفضل والتفوق على غيرهم. ذلك يُغاير منطق العدالة لسيد الكائنات جل جلاله.
الولاء لله لا للبشر:
إن العقل الإنساني يرفض الولاء للأسرة لو أن صاحِبَ ذلك العقل آمن برب العالمين وبأنه هو الذي يستحق أن يُخضع له وهو قادر على حماية من يحتمي به دون أن يحتاج إلى أسرته وقومه وعشيرته. لكن الإنسان في حياته الدنيوية ولغرض الاختبار يظهر إلى الوجود محتميا بوالديه وأسرته، فإذا ما كبر وترعرع وأعمل فكره وعقله فهو في معرض الانتباه إلى أن انتماءه الحقيقي ليست للوسائط النسبية ولا للأصدقاء ولا لأهل البلد أو الوطن. إنها في الحقيقة ثابتة للذي أوجده وهو الله تعالى. قال سبحانه في سورة البقرة: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿186﴾. فالله تعالى يعزو الرشد إلى العودة إلى الله تعالى والطلب منه وليس من غيره. إن رسالة الأنبياء مقتصرة على السعي إلى إعادة الناس إلى ربهم بعد أن عاشوا فترة غير قصيرة تحت لباس الفقر والحاجة إلى غير الله تعالى تبعا لضرورات الحياة الدنيا. بالطبع أن تلك الضرورات منبثقة من سياسة الاختبار التي أرادها الله تعالى نفسُه. إنه سبحانه يريد أن يرى عبيده عائدين إليه باختيارهم ليمنحهم معاني الكرم ويفيض عليهم من الجود والإحسان الربوبي الممتع والبهي، باستحقاق لا بانتماءٍ خارجٍ عن إرادة الشخص. ليس هناك فضل أن تكون من أهل بيت النبوة كما ظن بنو إسرائيل أو تكون من صحابة الرسل كما ظن الذين أتوا بعد وفاة صحابة رسولنا الأمين أو تكون ابن ملك أو أمير أو غني أو عالم ألمعي. إن الرشد عين الرشد أن تنتبه إلى أن رسول الله ليس قادرا على أن يمنحك أي شيء من عنده فضلا عن بقية الأشخاص الذين منحوك الكثير من الحب والحنان مثل الأسرة المحيطة بك.
إن الرشد عين الرشد أن تعود إلى الله تعالى وتعلم بأنه هو الذي أكرم كل الخلق وبأن كل الخلق فقراء محتاجون إليه لا إلى بعضهم البعض. إن كل الخلق ينتسبون إلى بعضهم البعض انتساب الأخ لأخيه في الواقع لا غير. إن الإنسي ولو كان أفقر وأضعف الناس فهو أخ للإنسي الآخر ولو كان أكبر الناس. فالأنبياء إخوان لأتباعهم وليسوا سادة ولا موالي يتكبرون عليهم. ليس محمد بن عبد الله عليه السلام إلا أخا لمن آمن برسالته وليس الذين حضروا رسالته إلا أصحابا له بغض النظر عن إيمانهم أو إخوانا له إن كانوا مؤمنين. وإن بإمكان كل فرد أن يسمو بإيمانه ويرتفع بعرفانه ورشده إلى نفس رتب الأنبياء أو أكثر منهم إن استعد للتضحية كما ضحى أولئك النفر الطيب. ليست الفضيلة حكرا عليهم وإلا لكان الله تعالى غير عادل، والعياذ به سبحانه من ذلك. وما نراه من فرق إيماني كبير بيننا وبين نبينا فهو ليس جبرا أراده الله تعالى بل هو فعلٌ فَعَلَه محمد نفسه بعبوديته وخلوصه و اتباعه الصحيح لإرادة رب العالمين. وكلما يأتون بآيات وشواهد على تثبيت فضلٍ غير عملي لرسول الله فهي محض خيال أودعه الشياطين في قلوب الناس وهو غير مناسب لشأن رب العالمين الذي هو ربنا ورب الأنبياء جميعا بنسبة ربوبية واحدة لا ظلم فيها.
التوراة والقرآن عهدان إلهيان مع أهل الأرض:
ولو أننا نقرأ الآية التي سبقت الآية المذكورة من سورة البقرة لنرى التمهيد الذي كان ضروريا قبل دعوة الناس إلى الله تعالى وهو هكذا: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿185﴾. هذه الآية الكريمة تمثل العهد المستمر الضروري لإعداد النفس والقلب لقبول الحق المطلق. ذلك الحق الذي يخالف ما اعتاد عليه الناس وما ورثوه من انتماءاتهم العائلية والوطنية والمذهبية وبقية الانتماءات الاجتماعية المعروفة. هذه هي طبيعتنا البشرية التي ترفض الرضوخ للقانون إلا إذا رأى البلاء واختبر الضغط والجوع والمرض والفقر. هل كان الناس مستعدين لأن يتقبلوا حقوق الإنسان قبل أن يخوضوا حربا حامية الأوار؟ تلك الحرب العالمية الطاحنة التي دمرت كيانهم وسلبت كل مظاهر الأمن والسلام منهم. هناك وبعد تلك المصيبة الكبرى، رضخ القادةُ لحقوق الغير عليهم كي يأمنوا شر الإنسان على الإنسان.
وهكذا كان بنو إسرائيل فإن الله تعالى أنزل عليهم التشريع الكبير ضمن التوراة ولكن تحت وطأة الجبل المدمر الذي غطاهم كأنه ظلة فدب الخوف في قلوبهم وظنوا أنهم قد ماتوا وتقطعت أوصالهم تحت رذاذ الجبل فعادوا إلى أنفسهم واستعدوا لتقبل تشريع العدل والإنصاف السماوي الذي أراد الله تعالى أن يختبر به شريحة كبيرة من البشر ليتخذهم شهداء ونماذج على غيرهم. وحينما أراد أن يُكرم الإنسانية بالقرآن العظيم فإنه سبحانه اختار شهر الصيام بترتيب جديد مناسب للبشر المتطور ليكون خير فرصة لاستلام بوادر الوحي الاستدلالي المتمثل بالقرآن. هذا الكتاب الذي شاء الله تعالى له أن يحل محل الأنبياء الذين كانوا يتوالون على آبائنا فترة بعد فترة. فليست الرسالة الإلهية مرفوعة تماما ولكن الرسالة البشرية قد رفعت وحل محلها الرسالة العلمية التي ستبقى مع بقاء البشرية وتنتهي مفعولها بعد انتهاء الحياة على كوكب الأرض واستعدادِ الأرض للموت قبل أن تندك مع بقية الكواكب الكبيرة والصغيرة فتأخذن طريقهن إلى الفناء النسبي وتغيير الهوية.
ولمعرفة ميثاق بني إسرائيل تحت الظلة فإننا نعود إلى سورة الأعراف: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴿169﴾ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴿170﴾ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿171﴾. لقد أمرهم الله تعالى أن يأخذوا ما آتاهم بقوة لأنهم كانوا تحت خطر الهلاك والدمار حيث كان الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم ليدمرهم ويهشم عظامهم. ولو نمعن في تركيبة الميثاق لنرى بأن بني إسرائيل رأوا جبلا مشرفا على رؤوسهم ليتسلموا التوراة و يقرؤوها تحت تهديد الجبل ولكننا نرى أن الله تعالى أخذ العهد التشريعي القرآني من المسلمين تحت ضغط الجوع الطويل في رمضان وهو أقل شدة من العهد تحت خطر سقوط رذاذ الجبل المنهدم. ذلك هو الفرق بين مرحلتي التطور التي يفصل بينهما ألفيتان أو ما يقرب من عشرين قرنا. فبَشَرُ الرسالة الأخيرة يكفيهم صيام رمضان ليشعروا بالحاجة إلى التشريع وليفكروا في بعضهم البعض وبأنهم جميعا أبناء أبوين وحيدين ولا فرق بينهم في حقائقهم ولا في نسبهم الأساسي.
العهد يتجدد كل رمضان ومع الحج:
ومع التجديد السنوي لرمضان يتجدد عهد المسلمين بربهم ليتذكروا فيه القرآن ويعلموا مرة بعد مرة بأنهم ليسوا أحرارا من حيث التشريع بل إنهم واقعون تحت عهد الواجبات والمسؤوليات مع ربهم. وشهر رمضان هو غير الصيام في حد ذاته الواجب علينا وعلى الذين سبقونا. فالصيام في ماهيته مطلوب لتزكية النفس وتهذيبها ولكن شهرا من الصيام مفروض لتجديد العهد مع الله تعالى. هذا هو حد الشدة التي أرادها الله تعالى لأمم متطورة قادرة على إدارة نفسها بنفسها وغير محتاجة لا للأنبياء ولا للعوائل الملكية. ولذلك فإن الله تعالى أمر أن نكمل العدة لو اضطررنا للإفطار في شهر رمضان و لكنه لم يأمرنا بقضاء ما فاتتنا من الصلوات، أو على الأقل فإن قضاء الصيام واجب حتى على النساء الفاطرات في غير الطهر. ولو يعود الناس إلى عقولهم المتطورة فإن ذلك كفيل بأن يجعلهم في مصاف الدول المتقدمة والمتطورة. وقد خصص الله تعالى مجالَ عهدٍ آخر للأثرياء من المسلمين وهو مجال الحج المفروض على من يستطيع كعمل صعب يحتاج إليه أصحاب الثراء الفاحش لعلهم يذكروا عهدهم مع ربهم. بالطبع أن الدعاية التجارية للحج والتي يقيمها التجار وبعض رجال الدين فيعِدون بها الحجيج أن يعودوا إلى طفولتهم البريئة بعد أداء فريضة الحج عارين عن المعاصي والموبقات، فهي دعاية تجارية بعيدة عن روح الإسلام وخاضعة لإرادة الشيطان الرجيم لعنه الله تعالى. هناك بالطبع مجال لعودتهم إلى الله تعالى بعد أداء عمل شاق طويل مثل فريضة الحج لأن معاصيهم أكثر من الفقراء. والفقراء وإياهم يملكون فرصة سنوية للدعاء والعودة إلى الله تعالى بعد أداء الصيام الطويل أيضا. إن ما يقولونه يمثل التشريع الخاص بالأغنياء كما أن كثيرا من أحكامهم غير العادلة تمثل التشريع الذكوري.
كل الناس سواسية أمام تشريعات السماء:
ومثلُ ذلك تشريعاتُهم الحمقاء لصالح حكامهم القتلة والمجرمين الذين يظنون بأن قبائحهم مقبولة شرعا لأنهم يحكمون رقاب الناس ظلما وعدوانا. ثم إنهم وفي يوم وفاتهم فإن وعاظهم يفتحون عليهم أبواب الجنة (التي لم تخلق بعد) في خطبهم ومفترياتهم أمام أهليهم الذين بقوا بعدهم ليلحقوا بهم بعد حين. والواقع أن الملائكة سوف يضربون وجوههم وأدبارهم بصعقة طاقوية فعالة ليغيروا وجهتهم الشيطانية لتوجيههم إلى ربهم الذي ينتقلون للقاء معه سبحانه فيوفيهم حسابهم. فالعذاب الطبيعي بانتظارهم جميعا حين الموت قبل أن يواجهوا جهنم وبئس المصير بعد حساب عسير غير يسير. وليس الأثرياء والمترفون بمنأى عن العذاب الأليم فهم في العذاب مشتركون مع أسيادهم وملوكهم الذين سهلوا لهم سرقة أموال الأمة وأباحُوا لَهُم خيانة الشعوب البائسة عقليا وفكريا مع الأسف. إن الشعوب تعيش تحت ظلام الظنون الكاذبة وإن الظن لا يُغني من الحق شيئا. هذه التشريعات الكاذبة التي أفاضتها إرادة الملوك الأموية والعباسية والفاطمية ومن بعدهم العثمانية قد منحت التسهيلات الكبيرة للأثرياء وللعصاة والمذنبين ليفعلوا ما يشاءون ثم يحبوا بعض الطيبين فيدخلوا الجنة بشفاعتهم. والشفاعة بظني مقولة عباسية أكثر منها أموية، والعلم عند الله تعالى.
مواريث الملوك والخلفاء:
إن العباسيين هم الذين ادعوا حقهم الشرعي في وراثة المُلك القيصري من رسول الله عليه السلام حسب زعمهم لأنهم أهل بيت النبوة. و لا قيمة في الإسلام لأهل بيت النبوة ولا لقريش ولا للعرب إلا بالتقوى. والشفاعة ضرورية لمنح الشجاعة على معصية الله تعالى واتقاء عذابه الأبدي الأليم متجاوزين كل تهديدات رب العالمين في القرآن الذي لا يمكنهم التخلي عنه مع الاحتفاظ بهويتهم الإسلامية التي يضحكون بها على ذقون الفقراء من الأمة. ثم إن الشفاعة واختصاصها بنبي الإسلام لن تتجلى إلا إذا كان النبي العربي سيد الأنبياء والمرسلين. فقالوا بأن محمدا هو سيد الأنبياء والمرسلين. والقرآن الكريم يعتبر محمدا صاحبا للناس الذين عاصرهم وأخا لهم لا سيدا عليهم. هذا هو حال كل الأنبياء مع أممهم. فنوح وهود وصالح كلهم إخوان لأممهم بنص القرآن. ومحمد لا يملك ارتباطا فوق ارتباط الصحبة مع من في زمانه سواء كانوا مؤمنين أو فاسقين فإنهم جميعا صحابة رسول الله. إن محمدا مأمور بالاقتداء بالأنبياء وليس له أية صفة سيادية عليهم. ليس في الكتاب الكريم أية إشارة إلى أي فضل لرسولنا على بقية أنبياء الله تعالى. ولكن المسلمين جميعا يظنون بأن نبيهم هو سيد الأنبياء. هذا ما لا يعلمه الله تعالى! ولا أعرف كيف يأتي إنسان يحمل خلقا عظيما بشهادة ربه الكريم مثل رسولنا الأمين فيقول لأصحابه بأنه سيد الأنبياء ولا فخر! وأي فخر أكبر من هذا الادعاء؟ إن محمدا أكبر من أن يدعي هذا الادعاء غير الصحيح. وكيف يسود النبي محمد أناسا ماتوا قبله؟
اختلاق المعراج:
ولقد ظن كثير من أهل العلم والفضل بأن مسألة الإسراء المذكورة في القرآن الكريم هي مقدمة لحكاية المعراج. نرى اليوم بأن بعض إخواننا من الزعماء الدينيين، يقرؤون آية الإسراء ثم يقولون: ومن المسجد الأقصى صعد الرسول إلى السماوات العلا بعد أن صلى في الأنبياء وبعضهم يقول من مكان مسجد الصخرة الأموي! وسنوضح خطأ هذه الفرضية في نهاية هذا البحث. وإذا قلنا لهم بأن المعراج لم يُذكر في القرآن ولم يُشر إليها في السورة الطويلة التي ابتدأت بذكر الإسراء فكيف يكون ذلك؟ هناك نسمع منهم ردهم بأن الله تعالى ذكر المعراج في سورة النجم. وسوف نتعرف على هذا الاحتمال أيضا بعد أن نحلل بداية سورة النجم بمشيئة الله تعالى. فالشفاعة وسيادة المرسلين والمعراج بمجموعها تكفي لإثبات أن محمدا هو غير بقية الأنبياء وهو فوق البشر وهو المبشَّر بالجنة بل هو الذي يبشر غيره بالجنة أيضا إن شاء. إن كتب الحديث مشحونة بقدر كبير من قصص التبشير بالجنة. كل أهل بدر، عشرة من الصحابة، بعض من قال لهم النبي بأن يتنازلوا عن نخلتهم المزروعة في بيوت الآخرين مثل الصحابي المشكوك أمره سمرة بن جندب. حتى سمرة هذا كاد يكون من أصحاب الجنة ببشارة النبي لو كان راضيا بالتخلي عن نخلته المقامة في بيت أحد المؤمنين من صحابة النبي. وهكذا فإن معاوية الذي لا يتورع حتى عن قتل المهاجرين والأنصار فهو مبشر بالجنة ولا ضير فيما يعصي الله تعالى وهو صحابي والصحابي قد حل محل المهاجرين والأنصار بموجب كتب الحديث. وواضح أن الله تعالى مدح المهاجرين والأنصار وهم الذين مع الرسول ولم يمدح الصحابة بصورة عامة. كل التبشيرات بالجنة وكل الغلو في محمد بن عبدالله عليه السلام، مرفوض قرآنيا كما سنعرف في هذا البحث المختصر.
نسخ القرآن شيئا فشيئا:
والعناصر لا زالت غير متكاملة لدى المحدثين إلا إذا جزمنا بأن النبوة لم تُختم بمحمد فعليا بل ختمت إسميا فقط. إن سنة محمد هي التي تتولى نسخ أحكام القرآن والعياذ بالله. كما أن بعض آيات القرآن تنسخ البعض الآخر لأن بعض الإخوة المفسرين لم يتمكنوا من معرفة معاني الآيات. والواقع بأن الله تعالى قد نسخ بعض أحكام التوراة بالإنجيل ثم نسخ البعض الآخر بالقرآن الكريم ولم ينسخ أي حكم من القرآن. لو كان القرآن عاجزا عن الإتيان بأحكام قادرة على الصمود فترة 23 سنة فإنه بالتأكيد غير مناسب للعمل به طيلة آلاف السنين. قال تعالى في سورة البقرة: مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿105﴾ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿106﴾ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿107﴾ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ﴿108﴾. فالآية 106 ترد على أهل الكتاب الذين لم يودوا أن ينزل الله تعالى القرآن على المسلمين لأنه ناسخ للتوراة. وكيف يمكن أن ينسخ الله تعالى أحكامه فيقول سبحانه في الآية 107 بأنه يملك السماوات والأرض ويحكم كيف يشاء. ثم يذكر في الآية 108 بأن المقصود من هذا النسخ هو إقفال باب الاستيحاء عن طريق الأنبياء لأن هذا النبي سوف لا يخلف نبيا بعده. فبعض آيات التوراة كانت آيات مؤقتة لفترة من القرون وليس من السنين. ذلك مثل آيات تحريم الشحوم الحيوانية التي نُسخت أيام المسيح فأعاد الله تعالى إباحة الشحوم على يد رسول آخر. لكن هذا النسخ المفترض باب خطير يمكِّن بعض الحكام وأصحاب المصالح من اللعب في كتاب الله تعالى وعلى كل من يهتم بالقرآن أن يمنع من النسخ باعتقادي. والقرآن بالطبع ينسخ مسألة عودة الناس إلى أنبيائهم كما اعتادوا عليه بعد نزول التوراة وتوالي الأنبياء حتى ظهور خاتم أنبياء بني إسرائيل، عيسى بن مريم. إن نسخ مثل هذه المسائل ضروري بسبب انتهاء عصر النبوة، كما ينسخ القرآن الكريم بعضَ الأحكام الخاصة باليهود مثل عطلة السبت وكذلك عطلة المسيحيين وهو الأحد. مثل هذه الأحكام منسوخة في القرآن وليس هناك أي حكم قرآني منسوخ وأنا أقول ما أقول عن علم كسبته بالتدبر في آيات القرآن الكريم دون الكتب الأخرى والحمد لله تعالى ربي الكريم الذي علم الإنسان ما لم يعلم.
استدلالاتهم تدور حول إمكانية المعراج فقط:
ليس في الكتاب الكريم أي تصريح بحصول المعراج الذي يذكرونه مقرونا بالتأكيد الشديد في وقوعه حتما وجزما. وأخطر مسألة في المعراج المزعوم هي الاعتقاد بأنه من ضروريات الدين وبأن إنكاره يخرج المسلم من الملة. معاذ الله تعالى من هذه الغفلة الكبرى لدى علمائنا الأفاضل! والواقع أن الذي يدعي المعراج فعليه أن يأتي بالدليل عليه. من الطبيعي أن ننفي حصول أي أمر غير طبيعي لأي إنسان إلا إذا أقيم الدليل المعقول والمقبول على حصوله فعلا. فالقول بأن رسولنا الكريم لم يزر بريطانيا ولم يلتق بالملكة إليزابيث ولم يرشح نفسه لعضوية البرلمان ولم يأكل في المطاعم العربية في لندن ولم يركب الطيارة ولم ير السيارة ولم يحصل على الكمبيوتر ولم يخضع لعملية استئصال الزائدة الدودية ووو، كلها صحيحة وثابتة دون دليل. أما لو ادعى أحد حصول أي من تلك المنفيات الطبيعية فعليه أن يقدم الدليل المقبول. ولا يكفي إقامة الدليل بإمكانية الوقوع بل نحتاج إلى الدليل بفعلية الوقوع. ذلك لأن كل المنفيات التي ذكرناها قابلة للحصول ولكن ليس لشخص النبي المصطفى الذي توفي قبل 14 قرنا وكان في الجزيرة العربية. ولكن مسألة المعراج مغاير للمنفيات المذكورة بأنها غير قابل الحصول أيضا كما سيأتي، ونبدأ بإيراد الإشكالات العلمية على المعراج بالبدن الفيزيائي:
مشاكل المعراج الفيزيائي المزعوم
أولا: ضرورة تغيير ماهية الإنسان وتوابعه:
ومن المضحك المبكي في الواقع أن يتشبث المعنيون بإمكانية حصول المعراج وبأن الله تعالى قادر على أن يُنقل إنسانا من وجه الأرض إلى السماوات العلا. ولا شك بأن الله تعالى قادر على كل شيء ممكن. ونقول كل شيء ممكن مع أن الإمكان هنا بديهي لا يحتاج إلى أن يُذكر، لأن الشيطان قد أوقع بين المسلمين بأن الله تعالى القادر على كل شيء فهو قادر على عمل المستحيل أيضا وإلا نفت قدرته على عمل كل شيء. فأقول لهم: لو كان ذلك صحيحا لكان الله تعالى قادرا على أن يخلق إلها آخر مثله جل جلاله!!
والواقع بأن خلق إله مستحيل في نفسه ولا يُمكن أن يحصل إطلاقا. فكيف يقوم الله تعالى بعمل المستحيل؟ ولو قام به لكان ذلك الأمر ممكنا غير مستحيل. والمستحيل في نفسه غير ممكن الوقوع . فلو كان المطلوب موجودا في الخارج والحديث دائر حول إنزال فعل في ذلك الموجود فإن استحالة إنزال الفعل قد لا تكون راجعة للفاعل فحسب بل هي منوطة أيضا بذلك الموجود الذي لا يمكنه أن يقبل هذا الفعل إلا إذا تغيرت ماهيته. و إن الإنسان بما أنه عضو في عالم الفيزياء فإنه محكوم بالقوانين المادية المعروفة والمشهودة بيننا ولا يمكنه أن يتجاوز تلك القوانين قبل أن تتغير حقيقته. فإخراجُه من عالم المادة يتطلب تغييرَ حقيقته وهو تابع لمجموعة أخرى من قوانين الطبيعة التي تتطلب زمانا وتطورا ذاتيا لا يمكن تصورها في الليالي والأيام البشرية في الكرة الأرضية. ولو فرضنا حصوله، فإن تغيير الماهية يُخرج الموجود من حقيقته، فيصير إعادتُه إلى الحالة الأولى غيرَ جائز على الله تعالى إلا إذا تطور الموجود إلى طور أعلى من طوره الإنساني الأرضي الذي كان عليه قبل تغيير ماهيته. فلو أن الله تعالى بدَّلَ ماهيةَ إنسان بحيث يتمكن من الصعود في السماوات بسرعة أكبر بكثير من سرعة النور فهو متطور حينئذ إلى خلق أرفع بكثير من اللحم والعظم وبقية توابع المادة. فلا يجوز عودته إلى الحالة البشرية المادية وإلا ثبت القسر على الله تعالى وهو عيب وغير ممكن الحصول. والثابت أن الرسول عليه السلام بقي إنسانا بعد المعراج المزعوم وكان يأكل ويشرب ويتزوج وينام كما كان عليه قبل المعراج المفترض.
أما لو كان المطلوب إنزالُ الفعل عليه غيرَ موجود في الخارج فإن إنزال الفعل يتأخر عن خلق ذلك الموجود الخيالي ويتطلب تحويل الخيال إلى واقع قبل كل شيء. ولا يمكن إخراج الشريك الخيالي للذات القدسية من عالم الخيال إلى عالم الواقع قبل خلقه فيصير مخلوقا ولا يُمكن أن نعتبره إلها خالقا بعد أن خلقه الله تعالى. فلزم عدم إمكانية خلق الإله ولزم أن نُقَدِّرَ مسألةَ الإمكان حينما نتحدث عن أن الله تعالى قادر على فعل كل شيء.
ثانيا: نفي إمكان العروج:
قال تعالى في سورة الحجر: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ﴿14﴾ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ﴿15﴾ . ومعناها بأن الله تعالى لو فتح على الإنسان بابا يخرج منه إلى السماوات لظل يعرج فيه إلى الأبد فيتظنن بأنه قد سُحر أو سُكِّرت عينه لأنه سوف لا يصل إلى مكان في الواقع. والسبب العلمي في ذلك هو أن الكون في حال توسع بشهادة العلم وبشهادة القرآن أيضا. قال تعالى في سورة الذاريات: وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴿47﴾.وسرعة الابتعاد عن بعضها البعض أكبر بكثير من السرعة التي يتمكن الجسم البشري من تحملها دون أن يتحول إلى موجود آخر. وليس صعبا أن نقوم بتجربة تأثير السرعة في الجسم. فلو قمنا بتحريك حيوان بشدة فإننا نرى بأن أطراف الحيوان تلتصق ببدنه إثر شق الهواء وهو السبب في دراسة ديناميكية الهواء على الأجسام قبل صناعة جسم قادر على التحرك بالسرعات الكبيرة. فكلما زدنا سرعة تحريك ذلك الحيوان فإن الأطراف سوف تزداد التصاقا بوسط الجسم حتى تتداخل بعضها في بعض. ولو قمنا بتزويد السرعة شيئا فشيئا فإن الجسم المذكور سوف ينكمش على نفسه حتى يفقد خواصه المادية ويتحول إلى موجود أقل كثافة مثل جزيئات النور وهكذا حتى يفنى ماديا في الواقع.
ولمعرفة سرعة الابتعاد عن بعضها البعض فإننا نعود إلى الفيزياء لنرى أهلها يعتقدون بأن الانفجار الكوني قد حصل قبل عشرة إلى عشرين بليون سنة وبأن طول الكون يقرب من عشرة بلايين سنة ضوئية. لازم ذلك أن تكون سرعة تناثر مكونات النجوم نصف سرعة الضوء إلى ربع السرعة المذكورة، باعتبار أن الانفجار حصل في منتصف الكون الفعلي بداهة. ونحن مضطرون بأن نعتبر سرعة ابتعاد الكواكب عن بعضها البعض هو مثل سرعة اندفاعها بعد الانفجار حتى نتمكن من اعتبار السرعة الفعلية ربع إلى ثمن سرعة الضوء. وثُمنُ سرعة الضوء يعني سرعة 37500 كيلومترا في الثانية وهي سرعة تفوق قدرة الجسم كثيرا. وما نستفيده من القرآن لمعرفة تاريخ الانفجار ليس بعيدا عما ادعاه الفيزيائيون. وأما مسألة وجودنا نحن داخل هذه المنظومات الكونية التي تتحرك بهذه السرعات العالية دون أن نتأثر فهو باعتبار أنَّ شقَّ الفضاء لإنسان هو تحرُّكٌ متضادٌّ مع سرعة ابتعاد الكواكب وهو مغاير لوجودنا داخل الكواكب التي تحملنا وهي تسير بسرعات عالية. والموجودات التي تسير داخل النظام الشمسي مثل الطائرات فهي لا تتأثر كثيرا بتلك السرعة أيضا لأن التي تبتعد ليست هي الأرض من الشمس بل هي المجرة بمن فيها من المجرة التالية لها، ولعل النظام الشمسي مع النظام الشمسي الآخر.
ثالثا: عدم جدوى السفر إلى السماوات.
وليس واضحا السبب الذي افترضوه للعروج، إلا أنهم يقولون بأنه وصل إلى مكان يستحيل على الروح القدس ُولُوجَه فرأى العرش والقلم واستمع إلى خرير قلم الله تعالى وما شابه ذلك من ادعاءات غير منطقية يأباها العقل السليم. فهل لله عرش يجلس عليه، والعياذ بالله أم هل تقديرات رب العالمين لإدارة الكون بهذه القلة التي يمكن أن يكتبها القلم ذو الخرير؟ وهل هناك كمبيوتر يمكن أن نتصوره لتناول تلك التقديرات المذهلة؟ الذي يُدير هذا الكون المهيب بكل جزئياته ويلاحظ كل الجزيئات بصورة مستمرة ويُصدر الأوامر بشأنها فهو بالتأكيد يتناول أكثر من بليون بليون بليون بليون أمر في كل ثانية، ولا يمكن له أن يستعمل نفس أدوات الكتابة التقليدية الموجودة يوم رواج فرضية المعراج، كما لا يمكن له أن يستعمل أقوى الأجهزة الكمبيوترية التي تعالج مئات الملايين من الأوامر في كل ثانية أيضا. ليس للعقل أن يتصور تداول هذا الكم الهائل من المتغيرات في كل لحظة قبل أن يقبل بأن الله تعالى لا يستقر في مكان و لا يتأثر بالزمان فلا يمكن العروج إليه فيزيائيا ويستحيل عليه القيام بعمله مستعينا بنفس الوسائل التي تحتاج إلى الله سبحانه في وجودها وتفاعلها. نحن نستعمل القلم والكمبيوتر لإدارة أمورنا لأننا غير مهتمين بخلقهما ولكن لا يمكن للخالق أن يستعملهما لإدارة أموره لأنهما في كيانهما محتاجان دائما لأن يمدهما ربهما بالوجود والبقاء والتخلص من الأعداء.
فليس لله تعالى مكان نزوره فيه ولا يحتاج عبيده المحتاجون إليه سبحانه أن ينتقلوا من مكان إلى مكان ليطلبوا من ربهم شيئا أو يستعينوا به هناك في علم أو عمل أو كسب شرف. قال تعالى في سورة الحديد: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿3﴾ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿4﴾ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴿5﴾. فهو سبحانه معنا أينما كنا ولا نحتاج أن ننتقل إليه مكانيا فيلزم القيام بما لا يسعنا. على المرء أن يخرج من كل هذا العالم بفكره ويسعى للبحث عن عالم آخر محيط بكل الكون المهيب وهو خارج عن المكان والزمان، حتى يتمكن من فهم معنى الألوهية. أما ما يقولونه في حكاية المعراج فهو تجسيم للذات القدسية ومخالف للعقل السليم ولا يمكن تصنيفه خارج خانة الأوهام والتخيلات مع الأسف.
وحينما شاء الله تعالى أن يُري عبده موسى ثم عبده محمداً مزيدا من نوره العرشي العظيم فإنه سبحانه تجلى داخل طور سيناء ولم يدع موسى للعروج في السماوات، كما أنه أرى محمدا ذلك النور في نزلة ونزلة أخرى وليس في صعدة ومعراج كما يقولون. قال سبحانه في سورة النجم: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴿13﴾ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴿14﴾ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴿15﴾ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴿16﴾. والغريب أن الإخوة الكرماء يجهلون معاني الآيات الأولى من سورة النجم ويتصورون أن الذي أوحى إلى النبي هو جبريل في محاولة غير منطقية لتأويل الآيات الواضحة وتقدير الفاعلين خارج نطاق النحو العربي المعروف. وليكن واضحا بأن سدرة المنتهى هي مكان داخل الكرة الأرضية ولعلها قريبة من القدس في فلسطين. كما يجدر بالقارئ الكريم أن يعرف بأن مراجع الضمير في بدايات النجم هو الله تعالى نفسه وبأن الرؤية ليست رؤية عينية للذات القدسية، وليس لجبريل شكل فيزيائي يملأ المشرق والمغرب كما تصوروه. إن نبينا عليه السلام رأى النور بعينه فشعر بالله تعالى في قلبه وبأنه واقع تحت الرحمة المباشرة التي هي جنة المأوى وليس لنبينا الحبيب حالات مع الله تعالى كما تصوره البعض وهو عبد ذليل أمام ربه كما هو عليه كل الإنس وكل الجن وكل الملائكة وكل عاقل ذي نفس. وهناك آثار أخرى لذلك النور الإلهي الخطير، سوف نوضحها في مكان آخر. والعلم عند الله تعالى.
رابعا: أين السماوات الأولى والثانية؟
السماء في القرآن تعني التي نراها فوقنا ولا نعرف عنها إلا قليلا. أما ما وردت في كتاب الله تعالى بلفظ المفرد فهي تعني القبة السماوية المحيطة بالكون كما تعني الأوزون أحيانا وتعني السحاب أحيانا أخرى. وأما ما وردت بلفظ السماوات ومعها الأرض فهي تعني الأنظمة الشمسية ولكل نظام شمسي أرضٌ قابلٌ للسكن. وأما اللفظ المفرد للأرض فهو باعتبار أنه يدل على المفرد والجمع وأما كلمة الأرضين فهي شاذة يكره الله تعالى ذكرها في كتابه الكريم. وأما كلمة الطباق في القرآن فلا تعني أن السماوات المتعددة مطبقة فوق بعضها مثل طبقات البصل، إذ أن لفظ الطباق لا يمكن أن يدل على ذلك المعنى، بل تعني أن السماوات بأراضيها مطابقة من حيث الخصوصيات مع بعضها البعض ولكل أرض منها قمر منير مثل قمرنا وشمس سراج مثل شمسنا وهما يخدمان أهل تلك الأرض. وقد تمكن الفيزيائيون اليوم من القيام بتصوير الكثير من المجرات ولم تتخلل هذه المجرات صفحات يمكن أن نسميها بالسماوات كما تصور القدماء. ومقطع سبع سماوات لا يعني أكثر من ستة وأقل من ثمانية بل يعني العدد الكامل الذي يمكن معه تصور عدد فوق إمكانية الإحصاء. لو كانت هناك أجسام محيطة بالكواكب أو المجرات القريبة وتسمى السماء لانعكست منها أنوار الكواكب الكثيرة ورأينا فوق رؤوسنا صفحة مضيئة هي السماء الأولى مثلا كما رد عليهم الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكنز. ونحن لا نرى شيئا من ذلك ، فتصور القدماء خطأ محض.
خامسا: لا يمكن الارتباط بالأنبياء الموتى:
ليس لمن هو حي في الأرض أن يرتبط بالأنبياء الذين ماتوا لأنهم قد دخلوا عالم البرزخ بنفوسهم وتركوا أجسادهم للتفاعل في تراب الأرض التي نعيش عليها. إنهم يرون ما لا يجوز لنا أن نراه وليس هناك فائدة عقلانية للتواصل معهم. حتى الارتباط بالمنام غير ممكن لنا. والله تعالى يصرح بانقطاع الارتباط معنا في أكثر من آية. قال سبحانه في سورة النمل: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴿80﴾. وقال في سورة فاطر: وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاء وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴿22﴾. فلو كان النبي عاجزا عن إسماع من في القبور فهو يعني أن الموتى ليسوا في حال يمكنهم الاستماع إليه أيضا. فإن كان الموتى عاجزين عن أن يسمعوا أصواتنا فهم أيضا عاجزون عن أن يرونا أو يعلموا عنا شيئا. ذلك لأن عدم تمكن الرسول من إسماعهم صوتَه ليس باعتبار عدم تمكن الموتى من سماع الأصوات لفقدانهم حاسة السمع، لأن القرآن يقر بأن الناس في حالتهم النفسية سوف يرون دمار الشمس وتحولها إلى دخان كما يسمعون الصاخة أيضا. ولكن عدم تمكننا من إسماعهم هو في الواقع بسبب قطع الارتباط بيننا وبينهم حتى لا نعلم عن العالم الآخر ما يمكن أن يؤثر سلبيا في اختبارنا والعلم عند الله تعالى.
والأنبياء هم ميتون وقد وزعت مواريثهم وانتهت رسالتهم ودخل البشر في عهد رسالي جديد مختلف عن العهود السابقة. إنهم بالطبع كبقية الموتى أحياء عند الله تعالى ولكن ليسوا أحياء بالنسبة لنا. والشاهد على كلامي هو أن الله تعالى يسمي انتقال النفس من البدن إلى البرزخ موتا في سورة الزمر: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿42﴾. وقد توفاهم الله تعالى جميعا قبل أن يلد نبينا محمد عليه وآله الصلاة والسلام وأمسك أنفسهم كما يمسك أنفس جميع الناس. فلا معنى لسيادة الرسول وإمامته إياهم في الصلاة كما زعمه المحدثون ولم يشر إليها القرآن الكريم. وصلاتنا في الدنيا واجبة والواجبات تنتهي بموتنا فليس الأنبياء الموتى في حال اختبار حتى يُصَلّوا الجماعة كما كان عليه الرسول وصحابته آنذاك. الصلاة التقليدية التي أمرنا الله تعالى أن نقيمها في الدنيا تمثل عبادة اختيارية يمكن أن نأتي بها فنكسب الرضوان أو لا نأتي بها فنخسر الآخرة. ولا اختبار بعد الموت فلا معنى لصلاة الجماعة بين الأنبياء.
ثم إن إعادة الحياة الدنيوية للأنبياء حتى يصلي النبي محمد أمامهم تستوجب خلق بدن جديد لهم. وخلق البدن الجديد يمثل تحركا فيزيائيا كبيرا وطويلا من حيث الزمان وعند حصوله في نفس هذه الأرض فإن مشكلة القسر تفرض نفسها ولا يمكن قبولها. وما هو الداعي لذلك؟ إن الله تعالى يأمر محمدا أن يسير على هداهم ويقتدي بهم ولم يأمر الأنبياء أن يقتدوا بمحمد. قال تعالى في سورة الأنعام: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿90﴾. فمسألة إقامة نبينا للصلاة جماعة بأنبياء الله تعالى ليس صحيحا بل هي تخالف النصوص القرآنية ولا تدل على سيادة عليهم. والعقل يهدينا إلى أن السيادة تعني قيام الشخص بشؤون المَسُوْدِين وليس للموتى الذين هم عند الله شؤون دنيوية يقوم بها إنسان دنيوي يجتاز مرحلة الاختبار. فسيادة نبينا عليهم غير صحيحة وغير عقلانية. كل ذلك يمثل ادعاءات لم يرد لها ذكر في الكتاب المنزل. كما أن فضيلة نبينا عليهم ليس مذكورا في القرآن وهو بالتأكيد كلام عار عن الصحة. لو كان محمد خير الأنبياء لقاله الله تعالى وأما أن يقوله محمد بنفسه فهو من أعيب المعايب ورسولنا الكريم بريء من هذه الدعاوي الباطلة غير المستدلة.
سادسا: عروج جبريل يستغرق 50000سنة :
دعنا نفترض جدلا أن المعراج حصل كما يدعون، ولكنهم أجمعوا بأنه حصل بمعية الروح القدس وهو جبريل. يقول الله تعالى في سورة المعارج: مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ﴿3﴾ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴿4﴾. بالطبع أنني الآن أكتب وأنا في طور المغالطة ردا على ادعاءات إخواني المعروفين بعلماء الدين. إنني أعتقد بأن الله تعالى ليس موجودا فيزيائيا وليس له مكان في الكون وهو ليس في الكون بل هو محيط بهذا الكون العظيم. فهو سبحانه ليس محاطا بمكان ولا محاطا بزمان. ثم إنني أعرف معنى علميا لهاتين الآيتين الكريمتين وقد وضحته لتلاميذ القرآن وهم يعرفونه بإذن الله تعالى. فعروج الملائكة والروح إلى الله تعالى ليس على غرار المعراج المزعوم للبشر. ولكني أفترض صحة فرضية المعراج وبأن رسول الله ذهب بمعية الروح القدس إلى الله تعالى في مكان من الكون. فعليه بأن يمضي 50000سنة مع جبريل الأمين حتى يصل إلى الله تعالى وليس ليلة واحدة. ثم إنه بالطبع يحتاج إلى 50000 سنة أخرى يعود فيها إلى الأرض. و حتى يزداد المسألة تعقيدا فإن الله تعالى لم يقل بأن هذه السنوات هي من جنس سنواتنا التي نعدُّها فهي إذن سنواته هو وسنواته هو تعالى تعادل 360000 سنة من سنواتنا. ذلك لأن كل يوم عنده يعادل ألف سنة من سنوات كوكبنا الأرض بنص القرآن الكريم. فيصير طول الفترة 18 بليون سنة من سنواتنا!
سابعا: لا دليل في سورة النجم:
ويقولون بأن بداية سورة النجم تدل على المعراج لقوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴿13﴾ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴿14﴾ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴿15﴾. فسدرة المنتهى وبتفصيل مضحك لتلك الشجرة الخيالية التي أبدعها الروائيون من المحدثين تقع عند الجنة وقد رأى النبي جبريل في ذلك المكان وهو دليل على عروجه إلى السماوات العلا حتى وصوله إلى سدرة المنتهى في جنات النعيم وهو على حيوان أسموه البراق أصغر من البغل وأكبر من الحمار! ثم قالوا بأن المقصود من المنتهى هي شجرة تنتهي إليها علوم الأولين والآخرين ولا يتعداها، وما شابه ذلك من مفاهيم خاطئة لا تمت إلى الصدق بصلة. ولا أدري ما معنى انتهاء العلوم إلى الشجرة؟ هي أقل وزنا وأبخس ثمنا من قصة ليالي شهرزاد أو علاء الدين والفانوس السحري. ثم إنهم يتململون كالمصدوع في مرجع الضمائر وهو مرجع واحد في الواقع. لكنهم يعتبرونه عدة مراجع. فيقولون فيها كما يلي وقد اكتفيت بقول العلامة الطباطبائي الذي أسعفني في أن جمع كل الأقوال السنية والشيعية تقريبا في تفسيره والسبب في ذلك أنه هو أيضا لا يعرف المعنى الصحيح مع الأسف:
أخطاء تفسيرهم لسورة النجم:
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴿3﴾ إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى (4): قال الطباطبائي:
{ قوله تعالى: “و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى” المراد بالهوى هوى النفس و رأيها، و النطق و إن كان مطلقا ورد عليه النفي و كان مقتضاه نفي الهوى عن مطلق نطقه (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنه لما كان خطابا للمشركين و هم يرمونه في دعوته و ما يتلو عليهم من القرآن بأنه كاذب متقول مفتر على الله سبحانه كان المراد بقرينة المقام أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما ينطق فيما يدعوكم إلى الله أو فيما يتلوه عليكم من القرآن عن هوى نفسه و رأيه بل ليس ذلك إلا وحيا يوحى إليه من الله سبحانه}. انتهى
قال المُهري:
ولا مناص من أن نذكر العلامة الطباطبائي بخير هنا ونستغفر له مادحين، فإنه أنصف واعترف بأن النطق هنا ليس هو مطلق النطق بل هو النطق بالقرآن الكريم أو بالدعوة إلى الله تعالى، واستدل العلامة في ذلك. والغريب أن الكثير من السنة والشيعة يستشيرون بهذه الآية الكريمة لإثبات أن الرسول لا ينطق أبدا بكلمة قبل أن يستلم الوحي. والتناقض الواضح في قولهم هو أنهم جميعا يعترفون بأنه عليه السلام أصيب بانقطاع الوحي فترة غير قصيرة حتى أكرمه ربه فيما بعد بسورة الضحى. ولازم اعتقادهم بأن الرسول كان لا يفتح فمه بالنطق طيلة زمن الانقطاع. كما أن لازم اعتقادهم هو أن يستلم النبي وحيا من رب العزة في كل مرة يريد أن يتحدث إلى زوجاته الكريمات مغازلا أو مازحا!! ولا يشعر بعضهم بالضير في ذلك. لقد ناظرني أحد الإخوة المعممين في مسألة المعراج فقال بأن رسول الله قد عرج 120 مرة إلى السماوات العلا!!وسـوف أتناول المناظرة في هذا البحث. فلابد وأن جبريل قد نصب له محطة فضائية مثل المحطة الأممية الفعلية لينتقل إليه الرسول كل مرة فينطلق منها إلى الفضاء وإلا فإن صوت صاروخ مركبته كان يصم آذان أهل مكة والمدينة!!
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴿5﴾ جبريل علم النبي و جبريل هو شديد القوى. قال العلامة :
{و المراد بشديد القوى – على ما قالوا – جبريل و قد وصفه الله بالقوة في قوله: “ذي قوة عند ذي العرش مكين”: التكوير: 20، و قيل: المراد به هو الله سبحانه.} انتهى
قال المُهري:
بالطبع أن ذي قوة لا تُعادل شديد القوى في المعنى. فذي قوة تصدق على كل إنسان أيضا. نحن كلنا ذووا قوى في الواقع. ولكن “شديد القوى” تعني صاحبُ القوى الشديدة في التأثير، وإطلاقُه لا يتناسب مع غير الله تعالى نفسه. وأما قوله تعالى في سورة التكوير فهو في شأن النبي محمد بنفسه. هكذا تتوالى الآيات الكريمة في التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴿19﴾ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴿20﴾ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴿21﴾ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ ﴿22﴾ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ﴿23﴾. والقرآن ليس قولَ جبريل ولا قولَ الرسول بل هو قولُ الله تعالى. ولكن البشر سمعه من رسول الله وقد سمعه أجدادنا خارجا من بين شفتيه الكريمتين عليه السلام. أما الروح جبريل فإنه لم ينطق به بلسانه لأن جبريل لا يملك لسانا فيزيائيا مثلنا ولم يتمثل بشرا أمام الرسول. هذا من الأخطاء الشائعة لدى المفسرين الكرام. إنه كان يُنزل القرآن على قلب رسول الله فلا معنى لأن ننسب القول إلى الروح الأمين. والله تعالى أراد تثبيت العقل وعدم الجنون لرسوله بأن نسب قول القرآن إليه وبأن الله تعالى من منطلق إدارة الكون وهي المنوية مع “ذي العرش” فقد قدر له أن يُطاع. وقال سبحانه في سورة النساء عن عامة الرسل الإنسيين: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ﴿64﴾. وأضاف سبحانه بأنه هناك وفي مورد الوحي أمين وهو السبب في تقدير الطاعة له عليه السلام.
والدليل على أن الروح القدس أنزله على قلبه هو ما ذكره سبحانه في سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿192﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ﴿193﴾ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴿194﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴿195﴾. ولم يرد في القرآن بأن الرسول كان يتحدث مع جبريل أو ينظر إليه وكأنه إنسان مثله. كل ما يقولونه في هذا الشأن محض خيال ووهم أتى به المحدثون القدامى وأكثرهم مع الأسف كانوا حشويين لا يتورعون عن ذكر المفتريات أو لعلهم كانوا يجهلون الحقيقة إلا قليلا منهم. غفر الله تعالى لهم ولنا.
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ﴿6﴾ جبريل ذو قوة أو ذو مرور على الرسول. وقيل هو الرسول نفسه. قال العلامة الطباطبائي:
{قوله تعالى: “ذو مرة فاستوى” المرة بكسر الميم الشدة، و حصافة العقل و الرأي و بناء نوع عن المرور و قد فسرت المرة في الآية بكل من المعاني الثلاثة مع القول بأن المراد بذي مرة جبريل، و المعنى: هو أي جبريل ذو شدة في جنب الله أو هو ذو حصافة في عقله و رأيه، أو هو ذو نوع من المرور بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو في الهواء. و قيل: المراد بذو مرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو ذو شدة في جنب الله أو ذو حصافة في عقله و رأيه أو ذو نوع من المرور عرج فيه إلى السماوات. و قوله: “فاستوى” بمعنى استقام أو استولى و ضمير الفاعل راجع إلى جبريل و المعنى: فاستقام جبريل على صورته الأصلية التي خلق عليها على ما روي أن جبريل كان ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صور مختلفة، و إنما ظهر له في صورته الأصلية مرتين أو المعنى: فاستولى جبريل بقوته على ما جعل له من الأمر. و إن كان الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالمعنى فاستقام و استقر.} انتهى
قال المُهري:
وما قاله العلامة أعلاه لا يختلف كثيرا مع بقية المفسرين. ولكن جبريل لم يستو على شيء بالقوة. إن قوته محصورة في تنفيذ أوامر الله تعالى وليس في السيطرة على شيء في الوجود. وليس جبريل قادرا على الإتيان بشيء بنفسه دون مساعدة ملك آخر سماه الله تعالى لعلمنا ميكال كما أظن. وأقول إجمالا بأن الملائكة جميعا يمثلون شيئا من القوة التنفيذية لرب العالمين والسبب ليس هو ضعف الله تعالى في القيام بكل شيء بنفسه، ولكن ضعف الكائنات على التعرض للإشعاعات الربوبية الخطيرة مباشرة. إن الكائنات بحاجة إلى من يتوسط بينها وبين رب العزة ليسهل عليها التمتع بنور رب العالمين وليس في الوجود غير الملائكة الذين يقدرون على ذلك كما أظن. وأما الأرواح القدسية ومنهم جبريل فإنهم مسلطون على بقية الملائكة كما يبدو، ولكن ليس للتصرف كوزراء أو مدراء معهم بل لتسهيل أمورهم من حيث فهم أمر الله تعالى وتطبيق الأمر على بقية الخلق. مثال ذلك التوسط بين الأوامر الربوبية والبشر، فإن الملائكة لا يعرفون الأسماء والبشر يستعمل الأسماء في التعرف على بعضهم البعض فيحتار الملك لولا الروح القدس الذي يُعلمهم كيفية التعرف عليهم كما أحتمل. وهناك الكثير من المسائل الأخرى التي يحتاجون فيها إلى الروح القدس ولا مجال لذكرها هنا، والعلم عند الله تعالى.
وأما الرسول محمد عليه السلام فهو عاقل بالطبع وهو يستعمل عقله للسيطرة على الأمور وهو يستفيد من القرآن لإدارة أموره وأمور قومه ولا ضير في أن يكون هو المقصود ببعض تلك الآيات. ولكن ما هي فائدة ذكر هذا الموضوع في هذه الآيات؟ إن الآيات الكريمة تبين كيفية خاصة من الوحي لإثبات أن رسولنا الكريم كان على ارتباط وثيق بربه عن طريق الوحي فهو يأتي بالقرآن منه سبحانه وليس القرآن من تأليفه هو.
وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلَى ﴿7﴾ وجبريل بالأفق الأعلى. قال العلامة الطباطبائي:
{قوله تعالى: “و هو بالأفق الأعلى” الأفق الناحية قيل: المراد بالأفق الأعلى ناحية الشرق من السماء لأن أفق المشرق فوق المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء و هو كما ترى و الظاهر أن المراد به أفق أعلى من السماء من غير اعتبار كونه أفقا شرقيا. و ضمير هو في الآية راجع إلى جبريل أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الجملة حال من ضمير “استوى”.}. انتهى
قال المُهري:
دعنا نحلل استواء جبريل وهو بالأفق الأعلى. لقد تراءى للعلامة الطباطبائي بأن جبريل موجود فيزيائي يحمل الأبعاد الثلاثة. فتخيل بأنه يحمل شكلا فيزيائيا يملأ الأفق الشرقي وبأنه في ذلك الحين وللمرة الثانية ظهر لنبينا صلى الله عليه وآله بصورته الحقيقية. بالطبع إنه هو وبقية المفسرين لم يذكروا أي سبب معقول لقيام جبريل بهذا الاستعراض لشكله الفيزيائي في خيالهم. فلو كان المقصود إراءة النبي حقيقة شكل جبريل فلماذا تكرر هذه الإراءة للمرة الثانية؟ ولو كان جبريل موجودا فيزيائيا فكيف تمكن من حمل الطاقة الإلهية والدخول في رحم مريم وإجراء التغييرات الجينية في الرحم لتتمكن السيدة العذراء من الإنجاب لوحدها؟ ولو كان ذا أبعاد فهو عاجز عن إخفاء نفسه أمام الناس. ولم يشع بين المسلمين الأوائل رؤية الملائكة وقد نفى القرآن ذلك بشدة. قال تعالى في سورة الأنعام: وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ﴿8﴾.وقال في سورة الحجر: وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴿6﴾ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿7﴾ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ ﴿8﴾. لو كان لجبريل شكل ذو أبعاد يملأ الأفق لكان سيره وتحركه في أجواء الأرض غير مريح للملائكة ومزعج للناس.
إنه طالما نزل إلى الأرض وقام ببعض واجباته وينزل معه مجموعات من الملائكة. ولو كان قادرا على تغيير شكله وإزالة الجناح المفترض فلماذا لا تكون حقيقته كذلك؟. إن الله تعالى يتحدث عن الملائكة بالذين هم عند ربنا فما معنى كونهم عند ربنا؟ أليس ذلك يعني فيما يعني بأنهم أقرب إلى الله تعالى منا باعتبارهم موجودات مجردة عن المادة ونظيفة من شوائبها؟ إن الإخوة يجهلون بأن الموجودات الفيزيائية لا تتحمل السرعات الكبيرة ولو كانت الملائكة كذلك لما تسنى لهم السرعة التي يسيرون عليها وهي في الواقع أسرع من الضوء بكثير. ومما لا شك فيه برأيي أن موقع الملائكة في نظامنا الشمسي هو فوق موقع الشهب وما يُعرف اليوم بسحابة أورط. (Oort cloud). وذلك لقوله تعالى في سورة الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ﴿8﴾ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا ﴿9﴾. فالجن كانوا قادرين على السمع قبل أن تمتلأ السماء بالحرس والشهب. والملائكة فو ق منطقة الحرس والشهب. ومما لا شك فيه بأن منطقة الحرس والشهب المذكورة في هذه الآية لا تصدق على الصخور التي تحيط بالكوكب الأرضي قليلا خلف الأوزون. ذلك لأن الجن والبشر كلاهما قادران على عبور تلك المنطقة واختراقها واختراق الصخور أيضا بتوسط الآلة. ونعرف بأن اختراق هذه الصخور ناجحة وبكل قوة بالنسبة لنا نحن البشر. ولكننا عاجزون عن اختراق المذنبات ويبدو أن الجن أيضا عاجزون عن ذلك. قال تعالى في سورة الرحمن: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ ﴿33﴾. فالمنطقة المحرمة المشار إليها في سورة الجن لا تمثل غير منطقة سحب أورط ولا يوجد حزام شهابي آخر حول أرضنا. ومنطقة سحب أورط تبتعد عنا سنة ضوئية كاملة. ثم إن قطر هذه المنطقة أكثر من نصف سنة ضوئية. فالملائكة والروح القدس يسيرون بسرعة أكبر بكثير من سرعة الضوء ليصلوا إلينا في أقل كثيرا من ثلاث سنوات، ولعلها أقل من ساعات أو دقائق. فهل يمكن أن يكونوا مقيدين بأجسام مادية ذوات أبعاد مثلنا؟ ولا نلوم الذين مضوا لأن معلوماتهم كانت أقل بكثير من معلوماتنا وقد استمعوا إلى الكذابين المفترين وظنوا بأنهم صدقوا. لكننا لا ننتظر هذا النوع من التفكير من عالم معاصر مثل العلامة الطباطبائي رحمه الله تعالى وإيانا.
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴿8﴾ جبريل الذي دنى. قال العلامة الطباطبائي:
{ قوله تعالى: “ثم دنا فتدلى” الدنو القرب، و التدلي التعلق بالشيء و يكنى به عن شدة القرب، و قيل: الامتداد إلى جهة السفل مأخوذ من الدلو. و المعنى: على تقدير رجوع الضميرين لجبريل: ثم قرب جبريل فتعلق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعرج به إلى السماوات، و قيل: ثم تدلى جبريل من الأفق الأعلى فدنا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعرج به.}. انتهى
قال المُهري:
يبدو أن العلامة الذي سعى لتطبيق فرضية عودة الضمائر إلى النبي قد عجز فعلا عن إيجاد معنى متصل مناسب لذلك التفسير حين وصوله إلى هذه الآية. إنه اضطر على تقدير عود الضمائر إلى جبريل وحده دون النبي. لقد نسي العلامة أن جبريله قد ملأ الأفق الشرقي بجناحيه فكيف تخلص منهما لينزل إلى رسول الله ويدنو منه ليرفعه إلى السماوات العلا. ليس في مكة ولا المدينة مكان لهذين الجناحين المهيبين الذين يملآن أفقا محيطا بكل مكة بل بكل الجزيرة العربية بل بكل نصف الكرة الأرضية في الواقع. نحن نرى بعيوننا أفقا يبعد عنا أكثر بكثير من مسافة ابتعاد الشمس عنا. فنحن نرى نجوم درب اللبانة بعيوننا في ليالي الصحو، كما نرى بعض المجرات أحيانا بعيوننا.
إنهم لم يوضحوا لنا بُعد ذلك الأفق وهل كان ليلا أو نهارا. بالطبع أنه كان ليلا لأنهم يفترضون خرصا أن المعراج تم ليلة الإسراء. هذا الجسم المهيب الذي ملأ الأفق الأعلى وهو ملايين الكيلومترات من بؤرة عيوننا، فهو كان مرئيا بواسطة الكثيرين من غير رسول الله نفسه. لقد نسي الإخوة المفسرون حاجتهم إلى مزيد من المفتريات لإثبات ادعاءاتهم. كان عليهم أن يبحثوا عن كذاب يقول بأن فلانا رآه في أرض الصين وآخر رآه في أرض المغرب وهلم جرا. وكيف مرت الأمة بهذا المنظر المرعب دون أن تشهد لرسول الله بالصدق حينما قال لهم بأنه كان في تلك الساعة في سفرة سماوية، وهم يرون ضخامة بدن الروح القدس، والعياذ بالله من الجهل.
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴿9﴾ كان جبريل قاب قوسين من محمد. قال العلامة الطباطبائي:
{و المعنى: فكان البعد قدر قوسين أو قدر ذراعين أو أقرب من ذلك.}. انتهى.
قال المُهري:
عجبا من هذا التناقض. فإما أن يكون الأفق غير الأفق الأعلى ليستقر فيه جسم قابل للاقتراب من جسم الرسول في مكة أو المدينة، في بيته أو مسجده أو أي مسجد آخر ولكن ليس بحجم الأفق الأعلى. وقاب قوسين يعني أن ذلك الجسم كان صغير ا ولا يكبر كثيرا عن جسم الإنسان هناك. فيكون الأفق الأعلى خطأ أو أنه لم يقرب قاب قوسين أو أدنى. هذه المشكلة لم يتفطن لها العلامة ولا زملاؤه أو تفطنوا وتركوه عرضة للتأويلات ومثارا للجدل بين أتباعهم.
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴿10) فأوحى جبريل إلى محمد عبد الله !
قال المُهري:
والعجيب أنه لم يُذكر اسم الله تعالى في الآيات التسع السابقة لنُعيد الضمير إليه سبحانه، فكيف فسروها هكذا؟! والواقع أننا لا يمكن أن نعتبر الهاء في عبده مرجعا لغير الذي أوحى. لنراهم كيف يحلون هذه المشكلة. قال العلامة الطباطبائي:
{قوله تعالى: “فأوحى إلى عبده ما أوحى” ضمير أوحى في الموضعين لجبريل على تقدير رجوع الضمائر السابقة إلى جبريل، و المعنى: فأوحى جبريل إلى عبد الله و هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أوحى، قيل: و لا ضير في رجوع الضمير إليه تعالى من عدم سبق الذكر لكونه في غاية الوضوح.
أو الضمائر الثلاث لله و المعنى: فأوحى الله بتوسط جبريل إلى عبده ما أوحى أو الضمير الأول لجبريل و الثاني و الثالث لله و المعنى فأوحى جبريل ما أوحى الله إليه إلى عبد الله.
و الضمائر الثلاث كلها لله على تقدير رجوع الضمائر السابقة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى: فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، و هذا المعنى أقرب إلى الذهن من المعنى السابق الذي لا يرتضيه الذوق السليم و إن كان صحيحا.}. انتهى.
قال المُهري:
لو نلاحظ التقديرات والاحتمالات التي أتى بها العلامة في تفسير هذه الآية فسوف نبكي على المساكين الذين يريدون من تفسير الميزان أن يوضح لهم ما غاب عنهم من معاني آيات الرحمن. والذي يشترك في كل هذه الاحتمالات هو أن الضمائر لا ينسجم أبدا مع بقية الضمائر في ما سبقها من الآيات الخمس. وسوف يضل القارئ المستهدي في خضم الاحتمالات التي احتملها مجموعة المفسرين ورواها العلامة دون أن ينجو بنفسه من الضياع في مهاويها. إن العلامة رحمه الله تعالى لا يعرف فعلا ما حصل ولا يدري هل السورة تتحدث عن المعراج المزعوم أم عن شيء آخر وهل المعراج كان بالبدن الفيزيائي أم بالنفس أم بالرؤيا، ولا يدري هل الروح القدس موجود فيزيائي أم موجود طاقوي ولا يدري هل الروح القدس يستوي على ما بحوزته كما يستوي الله تعالى على خلقه أم هو مجرد وسيلة للتنفيذ وخاضع لإرادة رب العالمين دون أي تدخل منه؟
ثم إن العلامة حائر بين المعلومات العلمية الحديثة التي سمع عنها الكثير وبين معلومات كتب الحديث التي يعجز عن التخلي عنها لأنه يمثل شريحة تؤمن بهذه الكتب و يرى من واجبه التعليل لإثبات صحة ما ورد فيها ومحاولة تأويلها حتى لا ينكشف هشاشة معتقدات الآباء والأجداد. إن هذه المعلومات تناقض تلك المرويات التي كتبها أناس غير مسؤولين وغير دقيقين في تحقيقاتهم. وحتى لا أطيل الحديث ضد أناس انحدرت منهم وأكره أن أعيبهم ولكن الحقيقة غير ما قالوا، فإني أكتفي بشرح مختصر لتلك الآيات الكريمة ليحيى من حي عن بينة ويضل من ضل عن بينة أيضا. وما أقوله هنا لا يمثل التفسير التحليلي الذي عودت عليه تلاميذ القرآن ولكنه شرح بسيط ومختصر ممن يعرف ما ذا يقول والحمد لله على ذلك. والمقصود هو بيان سفاهة مسألة المعراج التي يعيرنا عليها علماء الأرض وهم على حق في هذه المسألة الخرافية التي يرفضها كتاب الله بكل قوة وشدة. ويرفضها العقل السليم والمنطق والطبيعة.
وأما تفسيري لبدايات سورة النجم باختصار
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ﴿1﴾ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴿2﴾
النجم يعني كل كوكب يشابه شمسنا ويتوسط مجموعةً من الكواكب التي يمكن لها كمجموعة أن تشكل نظاما شمسيا. وهوى يعني مات أو هلك. وكل نجمة تموت حينما تنتهي التفاعل النووي في باطنها وتتحول كل الهيدروجين إلى غاز الشمس المعروف بالهليوم بعد المرور بعملية نووية معقدة تعرف بالبروتون بروتون. وبعد مجموعة انفجارات محتملة إثر الحرارة الشديدة المنبعثة من جاذبية لب ذلك النجم حين انهيار مكوناتها فتتحول النجمة العملاقة إلى قزم أبيض صغير نسبيا بسبب توقف الإلكترونات عن الدوران حول نواياها. فالقزم الصغير تمثل كتلة جامدة من المادة الأصلية الصلبة والثقيلة جدا. إن كل ملعقة منها تزن مئات الأطنان من الوزن المعروف لدينا في الأرض كما يقوله الفيزيائيون. ولعل السر في القَسَم بالنجم بعد أن يهوى هو أن القزم الثقيل لو لم يتحول إلى ثقب أسود فإنه سوف يفقد كل القدرة على التفاعل الذاتي فلا يُحتمل فيه أن يُقدم على أمر مناقض للنظام الطبيعي أو لبقية الكواكب، كما أنه سوف لا يضل تائها في الفضاء بل سوف تتجاذبه النجوم الأخرى فتأخذ مدارا جديدا في الفضاء وتسير سيرا منظما.
والنبي على أنه بشر مثلنا ومعرَّض للاختبار فهو معرَّض لأن يعمل عملا صالحا أو غير صالح، ولكنه حين استلام الوحي فإن قوة الإشعاعات التي تنبعث من الروح القدس أو من الله تعالى سوف لا تترك له مجالا للإرادة الذاتية وسوف يكون تحت مجهر الربوبية بالكامل. إنه مثل ذلك القزم الذي يمثل النجم إذا هوى فهو في تلك الحالة لا يقول إلا الحق فيفقد الإرادة أمام الوحي ولا يمكن أن يغوى كما أنه عليه السلام لن يُخطأ في التبليغ لأنه في حالة غير شخصية بعيدة عن احتمال الخطأ كبشر. قال تعالى في سورة الجن: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ﴿26﴾ إِ لاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴿27﴾ لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ﴿28﴾.
وهذا لا يعني بالطبع أن الرسول غير مكلف أو أنه عاجز عن المعصية إطلاقا فلا يستحق الجنة ولا يستحق النار، وشأنه كشأن الملائكة. كلا، بل إن الرسل الإنسيين بشر يخطئون في ما عدا تبليغ الوحي ويصيبون ويمكن أن يعصوا ويمكن أن يدخلوا النار لو عصوا ربهم. بالطبع أنهم أجلُّ من أن يعصوا فعلا وهم أكثر علما وورعا من التورط في المعاصي ولكن ذلك ليس تحت ضغط العصمة كما تراءى للمشاهير من أهل العلوم الدينية. إنهم إن أطاعوا فمن عند أنفسهم وإن عصوا فمن عند أنفسهم ولذلك فهم يستحقون الجنة كما يمكن أن يستحقوا النار.قال تعالى في سورة الأنعام: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿84﴾ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿85﴾ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿86﴾ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿87﴾ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿88﴾. وقال سبحانه مخاطبا نبينا في سورة الزمر: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿65﴾ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ﴿66﴾. والإشارة إليه بصاحبكم دليل واضح على أن العلاقة بين النبي وقومه ليست علاقة سيادة كما يتراءى للناس بل هي علاقة صحبة وأخوة وهو مثلهم في كل شيء عدا استلام الوحي. واستلامه للوحي ليس بالضرورة لنفسه بل هو عادة له ولقومه بغية نشر هدى الله تعالى بين عبيد الله تعالى.
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴿3﴾ إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ﴿4﴾ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴿5﴾. وبما أن الرسول ليس كاتبا للوحي ولا مختلقا له فما ينقله إلى الناس لا يمكن أن يكون من تلقاء نفسه بل هو وحي يوحى. بالتأكيد أن هذا الوحي لا يشمل كل ما يقوله الرسول. لو كان ذلك صحيحا لكان الرسول ممنوعا من الكلام حينما غاب عنه الوحي فترة غير قصيرة قبل أن يستوحي سورة الضحى المعروفة. ولا يُعقل ألا يتكلم الرسول إلا بعد استلامه الوحي. إنه شخص عادي يمزح ويغازل زوجاته ويتحدث بكل حديث عادي كما أنه يقوم بالواجبات الكلامية مثل الصلاة. ولو كانت الصلاة اليومية كل مرة وحيا لما سدت عن التكليف. ولعل هذا هو السر أو هو أحد أسباب عدم فرض كيفية خاصة للصلاة وتركها للرسول الأمين وصحابته الذين ورثوا الصلاة من إبراهيم احتمالا. فما ينطق عن الهوى لا يدل إلا على كتاب الله تعالى بدليل أنه هو الثابت وحيا ولم يثبت غيره. فالذي ينطق هو الرسول ولكن الذي يوحي مجهول إلا أن الذي يعلّم الرسول مفاهيم كتابه الذي ينطق به هو شديدُ القوى. وتسمية المعلم بشديد القوى لإثبات أن الرسول ليس ناقل معلومات فقط بل هو ناقل منذر بين يدي عذاب شديد لمن يُخالف ولو تأخر ذلك العذاب إلى يوم الحساب. وبما أن المعلم هو شديد القوى فلا يمكن أن يتضمن المفاهيم الموحاة أي اختلاف أو تناقض أو خطإ، لأن القوى شاملة تعم العلم والقدرة الكاملة على تفعيل ما يشاء من تحريك أو خلق أو إدارة لما خَلَق.
وليس في اللغة العربية كلمة أقوى من الشديد ليصف به العليم الخبير قواه التي يخلق بها ويُعلِّم بها ويُدير الكون بها ويستوي على كل شيء بها. هذه القوى تتوسط سيد الكائنات الذي يغيب بذاته الكريمة عن التماس مع الكائنات الممكنة ولكنه يحيط بها جميعا ويديرها كما يريد بقواه التي تربطنا وكل ما في الكون من ممكنات بالذات القدسية جل جلاله. فشديد القوى بهذا التفسير هو الله تعالى نفسُه، والذي يتعلم هو الرسول.
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ﴿6﴾ وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلَى ﴿7﴾. وذو مرة هو نفس شديد القوى الذي فسرناه بالله تعالى، فكيف هو ذو مرة؟
المِرّة في جوهرها تعني القوة ولكنها تعني قوة حاصلة من الإمرار أو مرتبطة بالإمرار. ولذلك يفسر علماء اللغة المِرّة بالفتل وبجر طرفي الحبل لتشديد العروة. والله تعالى يُمسك بقوته السماوات والأرض ويشدها ببعضها البعض ولكن هذا الشد محدود حتى لا تنهار ولا تتفتت مكونات الكون بل تسير وفق إرادته ولكن بقوة وإحكام. وقد عبر الله تعالى عن ذلك في مواضع من الكتاب الكريم وننقل منها ما قاله سبحانه في سورة النازعات: أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ﴿27﴾ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴿28﴾. السمْك يعني السقف وقد رفعها الله تعالى ليبني بالرفع سماء الكون وهي القبة المحيطة بالكون التي تمد الكواكب الجانبية بالجاذبية. وقد عبر الله تعالى عن بنائها بشدة الخلق. ذلك لأن قبة الكون مركبة من قوالب خاصة مشروحة في القرآن الكريم ولا مجال لذكرها ولكنها يشد بعضها بعضا شدا معقولا فيزداد استحكاما. ولو كان الشد أكثر من المطلوب لتداخل موادها في بعضها البعض وانهارت السماء المحيطة بالكون. ولذلك قال سبحانه عن نفسه “ذو مِرَّة” ولم يقل “ذو المِرَّة” لمحدودية الفتل حسب الضرورة. وبهذا الفتل والشد المعقول يستوي الله تعالى على الممكنات المادية وغير المادية. ويستوي يعني يسيطر عليها ويديرها إدارة حسنة بكل قوة بحيث تتجاوب معه الكائنات طائعة دون أن تنهار أمام قدرته المهيبة جل جلاله.
وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلَى ﴿7﴾. الأفق هو نهاية ما يمكن للمرء رؤيته سواء بالعين أو بالبصيرة. فأفق الرؤية العينية هو الأفق المعروف وهو ليس نهاية الكون بل نهاية ما نراه. وأما أفق البصيرة فيمثل النهاية التي نصل إليها في العلل التي توجِد وتكوِّن الكائنات. فأبواك هما علتك وأبوا كل منهما علة كل منهما وآدم وحواء يمثلان علة كل البشر ولكن هذه العلة ليست علة كاملة ولا نهائية. فهناك الكثير من العلل قبل آدم وحواء وحتى قبل الشمس والأرض المترابطين. وأنت حينما تخوض في تعاقب العلل المتداخلة والمتسلسلة فإنك لا محالة تصل إلى الله تعالى الذي أوجد كل ذلك وركبها تركيبا متقنا ثم استوى عليها وأدارها إدارة حسنة أدت إلى تمكن موجود ضعيف بَدَنيًّا مثل الإنسان من الحياة بين كواكب ضخمة مهيبة وشديدة في فعالياتها.
فالأفق الأعلى للبصيرة هو الله تعالى. وقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة بأنه شديد القوى فهو يرتبط بنا بهذه القوى. وقد عبر سبحانه عن نفسه بأنه نور السماوات والأرض. والسماوات والأرض هما الموجودان الماديان اللذان انبثقنا نحن البشر منهما ومن تعاونهما. هذا النور هو الذي يشار إليه في الآية التالية:
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴿8﴾. هذا النور الذي يربطنا برب السماوات والأرض هو موجود فعلا وهو الذي يمدنا بالوجود والحياة وبكل مقومات البقاء لنا ولمن حولنا ولملائكتنا ولكل الممكنات. هذا هو نفس النور الذي تحول إلى نار أمام موسى في طور سيناء في تلك الليلة العظمى. أرى الله تعالى موسى ذلك النور ليقوي ثقته بنفسه وليمنحه القدرة على مد العصا بالطاقة الذاتية لديه وتحويلها إلى ما يريده ربه سبحانه. كل ذلك لأن موسى بُعث ليحمل أول تشريع سماوي إلى أهل الأرض جميعا متمثلين في أقوى سلطة أرضية آنذاك وهو سلطة فرعون مصر. ومحمد بن عبد الله جاء ليحمل التشريع العالمي الثاني الذي أراد الله تعالى له أن يحل محل تشريع التوراة. هذا التشريع يتناسب مع تطور البشر ويُناسب عصر انتهاء النبوة. إن الإنسان من حيث حاجته إلى مرشدين يستوحون من السماء مرَّ بمراحل تطورية كثيرة انتهت إلى عصر ظهور النبي محمد. وكون النبي محمد أقل من زملائه علما بالعلوم المتعارفة مثل القراءة والكتابة يتناسب مع آخر مرحلة بشرية يحمل نفسا شبه بدائية غير متطورة كثيرا ليتمكن من استلام الوحي المباشر. وعدم مد الرسول العربي بما أمده الله تعالى عبده الآخر الإسرائيلي بالمعجزات هو باعتبار من حضرهم رسولنُا وليس باعتبار الرسول نفسه. إن العصر عصر أناس قادرين على إدارة أنفسهم وغير محتاجين للمزيد من الأنبياء ولا إلى المعجزات لأنهم أكثر بصيرة ممن سبق.
لكن محمدا بطبيعته محتاج كما احتاج موسى إلى رؤية الحقيقة إلى حدٍ مّا ليزداد يقينا فيتحدث بقوة واطمئنان أكثر مع قومه ويدعوهم إلى الله تعالى المحيط بهم والممد لهم بكل ما ينقصهم ويقوي كيانهم. فأراه سبحانه نوره على شكل ضياء متدل من السماء. ليس السماء المادي مصدرا لذلك النور العظيم ولكن الإنسان المادي يحتاج إلى رؤية مصدر لذلك النور ولا يمكن إراءته إياه من الأرض لحجب الرؤية تبعا لكثافة الأرض. هذا هو السبب الذي أرى الله تعالى نبيه النور متدليا من السماء احتمالا. والنور بطبيعته سيار لا يقف حتى يرتطم بجدار قوي مثل جدار الأرض، ولكن الله تعالى أراد أن يوقف سير النور حتى لا يتأثر نبينا الكريم بإشعاعاته المميتة والمحرقة. ولو نمعن في قصة موسى فنرى الله تعالى يصف الزاوية التي أراها لموسى حتى يدخل مكان النار دون أن يحترق فعلا كما قال سبحانه في سورة مريم: وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴿52﴾. كان اقتراب موسى من النار أكثر من اقتراب محمد من النور لغرض تمكين موسى نفسيا من حمل الطاقة معه وتحويلها إلى أفعى وإلى فاصل للمياه وإلى قوة مدمرة للحجر الذي يمنع المياه الجوفية من الظهور إلا بعد الانبجاس. لكن نبينا الحبيب ليس بحاجة إلى تلك القوة الإعجازية التي تؤثر كثيرا في نفس الشخص الذي يقوم بالإعجاز. ولذلك توقف النور حينما اقترب من الرسول قدر قوسين أو أقل من قوسين وهي آية كبيرة جدا.
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴿9﴾. كان ذلك النور قاب قوسين أو أدنى من عبد الله محمد لئلا يتأثر بإشعاعاته الخطيرة فهو لا يحتاج إلا إلى رؤية تلك الآية. هذا هو نور الله تعالى وقد بدأ الله تعالى بالإيحاء مباشرة إلى عبده.
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴿10﴾ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴿11﴾. وهكذا أوحى الله تعالى إلى عبده محمد الوحي المباشر فأنزل عليه بعض آيات الذكر الحكيم مباشرة دون وساطة الروح القدس ليزداد الرسول معه اطمئنانا. ولمعرفة ضرورة ذلك يمكننا الإمعان في الآيات التالية وما شابهها في القرآن الكريم.
قال تعالى في سورة البقرة: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿146﴾ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿147﴾. وقال سبحانه في سورة يونس: فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿94﴾ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿95﴾. وقال سبحانه في سورة هود: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴿17﴾.
ولا ضير أن يشك الرسول فيما أنزل إليه بسبب كثرة ما يُلقي المشركون وبعض أهل الكتاب من موجبات الريب في حضرته. إنه بالتأكيد لم ير الروح القدس متمثلا أمامه ولم ير مَلَكاً قط، ولو كان رأى ذلك لذكره الله تعالى في الكتاب الكريم. إن هذا القرآن كتاب هدى جاء ليخرجنا من الظلمات إلى النور فلا يمكن أن يفوته موضوع مهم مثل رؤية الملائكة بصورة استثنائية حيث أن رؤية الملائكة منفية تماما في القرآن باعتبارها من علامات الحساب.
وقد مهد الله تعالى لهذه الرؤية المشابهة لرؤية موسى بن عمران في بداية سورة المزمل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴿1﴾ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً ﴿2﴾ نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ﴿3﴾ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴿4﴾ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً. لو كان المقصود هو إنزال القرآن بصورة عامة فإن الآيات المذكورة هي من القرآن وتعني أن القرآن كان قد ابتدأ بالتنزيل إليه فعلا. فالمقصود هو إنزال بعض القرآن بالوحي المباشر من الله تعالى والذي حصل للرسول مرتين كما سنعرف في الآيات التالية. ورؤية النور كانت بالعين المباشرة وأما رؤية الله تعالى فكانت بعين البصيرة وقد عبر الله تعالى عنها بالفؤاد. بالطبع ليس ممكنا رؤيةُ الله تعالى بالعين المجردة لأنه غير مادي وليس له أبعاد. وأما الذين يتوهمون رؤيته في يوم القيامة فهم الذين يظنون بأن له يدين ووجها ورجلين وغير ذلك من الأعضاء. معاذ الله تعالى من أن يحتاج إلى أعضاء فهو إذن ليس خالقا بل هو مخلوق!!
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ﴿12﴾ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴿13﴾ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴿14﴾ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴿15﴾ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴿16﴾ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴿17﴾ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴿18﴾. المرية تعني التردد في الأمر وهي أخص من الشك كما قال الراغب في المفردات. وقال الراغب أيضا بأن الامتراء والمماراة تعنيان المحاجة فيما فيه مرية. ولعلي أقول بأن المماراة تعني إلقاء الشك في قلب الشخص لأنها من باب المفاعلة وهو باب يختص بتبادل الفعل بين المتخاطِبَين أو المتعامِلَين. فيقوم الذي يشك في أمر بإلقاء الشك في قلب الذي يبدو عليه اليقين في نفس الأمر. والله تعالى يفرق بينهما وهو يسألهم: أفتمارونه على ما يرى. يعني كيف تلقون إليه الشك على أنه يرى الحقيقةَ والآيةَ بعينها فيستيقن ويطمئن لها قلبه. ثم يكرر سبحانه بأنه عليه السلام رأى هذا المنظر الربوبي في نزلة ربوبية أخرى عند سدرة المنتهى. والسدرة حسبما يفهمها العرب تعني شجرة السدرة المعروفة وهي هي بالتأكيد. ولو كانت سدرة من نوع خاص لوضحها الله سبحانه وتعالى. والمنتهى اسم لتلك السدرة. وأكثر الظن أنها في فلسطين. ولعلها هي السدرة المقدسة المعروفة عند اليهود. ولعل النزلة كانت في ليلة الإسراء فيكون هذا معنى قوله تعالى في بداية سورة الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴿1﴾. فأراه الله تعالى ذلك المنظر المهيب لنوره الكريم حول المسجد الأقصى.
ولعل السر في هذا الانتقال الليلي هو أن الله تعالى لم يقدس مكة كما لم يقدس أي مكان في الأرض غير طور سيناء والأرض المقدسة المعروفة اليوم بالقدس. ولا يمكننا في هذا المختصر بحث معنى التقديس. وأما الناس فهم يقدسون كثيرا من الأماكن وكثيرا من الناس وفق رغباتهم وشهواتهم وهو غير صحيح وغير مطابق لمفاهيم القرآن الكريم. ليس في القرآن أي إنسان مقدس بل القدوس هو الله تعالى وحده وأما الروح القدس فقد انتسب إلى القدس باعتباره يمثل البطارية القادرة على حمل النور الإلهي المباشر كما أظن والعلم عند الله تعالى. ولعل النزلة الثانية المذكورة في بدايات النجم حصلت في الحجاز ولكن النور لم يمس أي موجود أرضي بل اقترب من النبي نفسه ليراه وبعد الوحي اختفى النور طبعا فلم يتم تقديس أي مكان. وأما السدرة التي غشاها النور العظيم فهي واقعة في المكان الذي قدسه الله تعالى فلا ضير من تقديسها باعتبارها داخل الأرض المقدسة فعلا.
وأما جنة المأوى فهي ليست جنة الفردوس التي يدخلها الصالحون بعد الحساب دون أدنى شك. ذلك لأن تلك الجنة هي من جنات النشأة الآخرة والتي لم تُصنع بعد. قال تعالى في سورة العنكبوت: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿19﴾ قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿20﴾.
وأنا أتعجب من الذين يظنون بأن الجنة مخلوقة وفيها الحور العين وبعض المسلمين يدعون إخوانهم لأن يفجروا أنفسهم فيقتلوا بتفجيرهم إخوانا لهم أو بشرا أو أبرياء ثم يلتحقوا بالحور العين!! هذه أوهام وخرافات وهؤلاء هم طلاب النار وليسوا طلاب الجنة التي خصصها الله تعالى لمن لا يفسد في الأرض. تلك الجنة لم تُخلق بعد ولا معنى لخلقها وخلق سكنتها قبل يوم الحساب. إنهم يجهلون بأن كل الكون سوف يندك في بعضها البعض وقد أشار إليها سبحانه في الآية 19 أعلاه بقوله : ثم يعيده. وهو يعني بأنه سبحانه سوف يعيد الخلق الذي بدأه والخلق الذي بدأه يمثل كل الكائنات التي سوف تُعاد إلى نفس المكان الذي خلقت فيها بادئ ذي بدئ. والمقصود من إعادتها هو إعادة صياغتها ليتناسب مع البقاء الأبدي الموعود كما قال سبحانه في سورة ق: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿15﴾. ذلك لأن الإنسان بطبيعته سيعاد خلقه وصناعته من الأرض الجديدة التي سوف يخلقها الله تعالى كما قال في سورة إبراهيم: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴿48﴾. وقد انتقل الظن الخاطئ بوجود الجنة والنار من كتب اليهود إلى المسلمين مع الأسف.
والجنة التي انتقل إليها آدم وحواء بعد سقوط رأسيهما هي في الأرض وفي طور سيناء وليست في السماء. فالنور الأول لم يمس الرسول بل مس السدرة ولكن الرسول رآه مغشيا السدرة ليطمئن قلبه. والآيات الكبرى التي رآها الرسول هي أكبر الدلالات على وجود القدوس سبحانه وهي نوره وبرهان قدرته وقوته. إنه سبحانه نور السماوات والأرض والقوة التي تمسك كل الكون وظهور هذا النور يعني تجليه وتكاثره في مكان ما بإرادة الله سبحانه لغرض خاص. وبما أنه يمثل أقوى طاقة في الوجود فإن تجليه خطير ومدمر أحيانا. إن تجلي هذا النور بمختلف درجاته يعني ظهور الطاقة المضاعفة التي تصل حد الانفجار أحيانا كما حصل للجبل الذي أراد الله تعالى تدميره في وجه موسى وقومه ليثبت له عمليا عدم إمكانية الاقتراب من الذات القدسية جل جلاله.
و نكتفي بهذا القدر من تفسير الآيات الكريمة والعظيمة لبيان زيف المعراج الذي اتفق عليه السنة والشيعة مع الأسف وهو بظني ادعاء أموي اختلقه معاوية أو بنو مروان واختلقوا معه مسائل أخرى لتضليل أهل الشام. وقد لمسنا في هذا التفسير البسيط عدم الحاجة إلى القفز من مرجع إلى مرجع آخر دون دليل وعرفنا بأن الضمائر المحيرة تعود جميعا إلى الله تعالى نفسه وتعني ما تستهدفه الآيات الكريمة بإذن الله تعالى.
أحمد المُهري
13/11/2016
الأصل كتب في 5/7/2007
#تطويرالفقهالاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence