تصحيح اخطاءنا – 5 – آية الابتهال !
رابعا: آية الابتهال إلى الله تعالى من سورة آل عمران:
فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
لنقرأ الآيات التي توضح الموضوع من القرآن ضمن مجموعتها. بالطبع أن القصة تبدأ مع بداية الحديث عن ميلاد المسيح ولكننا نختار مقطعا لكشف حقيقة هذه القصة غير عابئين بما قاله السنة والشيعة وغيرهم. فالقرآن هو مقولة الحقيقة ولن يتغير أبدا بإجماع المسلمين أو البشر أو البشر والجن. هذا الكتاب هو الذي يتحدى الجن والإنس أن يجتمعوا ليأتوا بمثله ويؤكد بأنهم لن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. فالحديث عن توافق السنة والشيعة لا وزن له في هذا الميزان العظيم المنزل من خالق الكائنات وسيدها جل جلاله. لقد أجمعت البشرية كلها على أن العناصر أربعة ثم ثبت فيما بعد خطأهم وأجمعوا أن الأرض ثابتة وأن الشمس تدور حولها وكانوا مخطئين فكيف نؤمن بادعاء اجتماعهم في تفسير آية وحتى هذا الإجماع غير صحيح. إن اجتماعهم الحقيقي مع بقية البشر لم يكن مصيبا فكيف بما دون ذلك؟ وهذه ما أراه كافيا لمعرفة الحقيقة وهو من سورة آل عمران:
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64).
وأعود قبل التحليل فأدعو الإخوة والأخوات أن يقرؤوا سورة آل عمران من بدايتها ليقفوا على أسباب اهتمام رب العالمين بتلك الأم المثالية أم مريم التي هي نموذج فريد من الخضوع والحب للذات القدسية ودعاؤها تدل على قتلها لنفسها أمام ربها فلا ترى لنفسها وجودا حين الوقوف أمام سيد الكائنات. ثم اهتمام القدوس العظيم بمريم التي اعتبرها الله تعالى نموذجا للذين آمنوا، والنبيُّ وأصحابه هم من الذين آمنوا في القرآن حين نزول القرآن. ثم توضيح كل حقائق خلق المسيح الذي حمل الطاقة الإلهية المباشرة واحترمها بعكس أبيه آدم الذي أخطأ واتبع شهواته مخالفا إرشاد ربه ثم تاب وعفا الله تعالى عنه لكنه خسر مواهب تلك الطاقة العظيمة التي خلق الله بها أول نفس بشرية على وجه هذا الكوكب. ويختم القصة بقوله أن مثل عيسى كمثل آدم.. (الآية 59). وهو أن آدم كان خلية أنثوية مشتركة مع حواء في بويضة واحدة ليصيرا بشرين من نفس واحدة فيحبا بعضهما البعض. لكن الروح القدس حوَّل تلك الخلية الأنثوية إلى خلية ذكورية بقطع الكودات التي تخلق جهازي صنع الإنسان وصنع الحليب. تلك العملية المعقدة التي تفوق قدرة البشر كانت ضرورية لعدم إمكانية نقل الطاقة النفسية الأنثوية إلى خلية ذكورية باعتبار أن الأنثى أكثر تطورا من الذكر والروح لا يرضى العودة إلى الوراء فلو انتقل الروح من نفس أنثى فإنه لا يرضى بخلق غير الأنثى لكنه يرضى بخلق الأنثى باعتبارها متطورة على الذكر لو كان منتقلا من النفس الذكري. فالروح القدس قام بنفس العملية في إحدى خلايا العذراء لتمكينها من خلق ذكر. وبما أن الروح الذي يمد نفس مريم بالطاقة لا يرضى بخلق نفسِ متناسب مع ذكر فإن الروح القدس أتى بطاقة إلهية مباشرة جديدة لخلق نفس المسيح. وهذا هو وجه الشبه بين آدم والمسيح وإليه تشير الآية 60 بأن الحق من ربك، ويعني بأن الحقيقة التي حصلت هي من الرب العظيم الذي أراد ذلك منفصلا عن بقية الناس، والعلم عند الله تعالى.
وفي الآية 61 التي سموها آية المباهلة؛ تنتقل السورة إلى الاحتجاج مع المسيحيين الذين يعتبرون المسيح ابنا لله تعالى. فيقول للنبي بأن ما جاءه من العلم بالمسيح يكفي لإثبات حقيقة المسألة فيكون برهانا لمن يريد الحقيقة. بالطبع أن الرسول لم يقل كما قلته أنا في تفسير الآية 59 ويمكن لنا أن نخمن ما قاله الرسول ولكننا نحتاج إلى فرقة علمية لاستكشاف حدود فهم البشر المحيطين بنبينا ومدى انطوائهم على الحقائق العلمية التي كانت متاحة آنذاك بعد استكشاف تلك الحقائق الزمانية. وهو فوق قدرة شخص منفرد مثلي مع قلة العلم. والاحتجاج الوارد في الآية 61 سهل الفهم. فالآية تقول بأن الإنسان موجود ضعيف وناقص يشعر بالنقص إن لم يتكامل بالزواج كما يشعر بالنقص أيضا إن لم ينجب. فالزوجية والإنجاب والحاجة إلى الأبوين كلها مظاهر الضعف وعدم القوة فلا يمكن أن نتصورها في الساحة القدسية لسيد الكائنات جل جلاله. فيقول لهم تعالوا نذهب إلى الله تعالى لنبتهل ونتضرع إليه ونطلب منه جميعا أن يجعل اللعنة على الكاذبين فيَمنَّ علينا ربنا بالهدى. ولنشعر أنفسنا بأننا آباء وأمهات وأبناء وبنات وأزواج وأنفس ضعيفة محتاجة لنكون صادقين مع ربنا فيطهر الله قلوبنا ويبعد المضللين الخادعين عنا فنهتدي بهدى ربنا. والكاذبون هم رجال الدين المسيحي الذين مسخوا الإنجيل و حاخامات الدين اليهودي الذين حرفوا التوراة.
ثم يقول لهم كما في الآية 62 بأن هذا هو حقيقة قصة المسيح فهو ابن لأم وما تقولونه بأنه ابن لله لهو دليل واضح على شعوركم الطبيعي بأن المسيح ابن يحتاج إلى أب وأن مريم أم تحتاج بصورة طبيعية إلى زوج للإنجاب كما أنها تستمتع بأن تنجب ولدا وتقر عينها بذلك. كل هذا دلائل الضعف لدى هؤلاء فلنعترف معا بأن الله تعالى هو وحده الذي يستحق أن يُعبَد وهو وحده الذي أخضع لِذاته الكريمة كلَّ الكائنات فهي كلها ممكنة وهو الواجب الذي لا يمكن أن يُغلب وهو حكيم في كل أفعاله؛ وفي الآية إشارة بديعة إلى معالجة الرب الرؤوف للمشكلة التي ابتلي بها النصارى والتي زينها الشيطان لهم كما زين لغيرهم أساطيرهم ومبالغاتهم في أنبيائهم.
وأما في الآية 63 فإن الله تعالى يُحيل أمر الذين يتولون عن رسول الله إلى الله تعالى نفسه فهو الذي يعلم حقائق القلوب ويميز المفسد من المخدوع وليس للنبي شأن في معرفة الناس. ثم يكمل الله تعالى عنايته بالنصارى من أهل الكتاب بأن يأمر رسوله في الآية 64 ليدعوهم إلى كلمة متفق عليها بين المسلمين والنصارى وهو كلمة الألوهية. فيدعوهم النبي إلى الاتفاق معه أن لا يعبدوا إلا الله تعالى ولا يشركوا به شيئا، ولا يتخذ البشرُ البشرَ أربابا من دون الله. والأرباب جمع الرب واتخاذ البشر ربا يتحقق بأن ننسب إليه أعمالا لا يمكن لبشر أن يأتي بها. ذلك لأن الحديث عن أناس يؤمنون بالله ويؤمنون بأنه هو الخالق ولكنهم يؤمنون بأن المسيح يقوم بهدايتهم ومساعدتهم في النوائب ويشفي مرضاهم ولو أنه غير موجود بينهم ويقضي حوائجهم لأنه مقرب من الله تعالى فيدعو الله ليقضي حوائجهم. هو هذا المبدأ الخاطئ بين الذين يؤمنون بالله والمبدأ الذي أرسل الله تعالى الأنبياء من أجل أن يقنعوا الناس بعدم وجود واسطة بين الخالق والمخلوق. هذه الواسطة سيُعبد ويُخضع له وهو غير مقبول عند الله تعالى.
يجب أن ينحصر الخضوع بكل أنواعه لله. فلا يجوز الطاعة الخاضعة ولا الشكر الخاضع ولا الحب بخضوع لغير القدوس جل جلاله. وآخر محاولة ذكرت في هذه المجموعة من الآيات هي ما قاله سبحانه له في نهاية الآية 64 هذه وهي أن يقول لمن يتولى منهم: اشهدوا بأنا مسلمون. وهذه الكلمة كبيرة إذ تصدر من شخص يدعي النبوة ولكنه يسلم وجهه لربه ويقطع كل محاولة لأن يخضع له قومه كما أنه يدعو الناس للإسلام ليس ليسلموا له بل ليسلموا معه لله تعالى سيد الكائنات جل جلاله.
والآن دعنا نحلل ما قاله إخواننا المفسرون لنرى إمكانية استخراج تلك المعاني من الآية التي اختاروها ضمن مجموعة متراصة متكاملة من المفاهيم القرآنية. فنذكر ما قاله الزمخشري صاحب الكشاف:
“فمن حاجك “من النصارى “فيه “في عيسى “من بعد ما جاءك من العلم “أي من البينات الموجبة للعلم “تعالوا “هلموا. والمراد المجيء بالرأي والعزم كما تقول تعال نفكر في هذه المسألة “ندع أبناءنا وأبناءكم“أي يدع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة “ثم نبتهل “ثم نتباهل بأن نقول بهلة الله على الكاذب منا ومنكم. والبهلة بالفتح والضم: اللعنة. وبهله الله لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله. وناقة باهل: لا صرار عليها وأصل الابتهال هذا ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً. وروي: “أنهم لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيِهم: يا عبد المسيح ما ترى فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل وقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي وعلي خلفها وهو يقول: “إذا أنا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة فقالوا: يا أباالقاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا قال: “فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم “فأبوا. قال: “فإني أناجزكم “فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا ترددنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة: ألف في صفر وألف في رجب وثلاثين درعاً عادية من حديد. فصالحهم على ذلك وقال: “والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا “. انتهى ما نقلته من كلام الزمخشري.
وأما الطباطبائي فهو ينقل نفس الكلام بتفصيل أكثر ونحن نكتفي بالرد على الزمخشري فيكون كلام الطباطبائي مردودا أيضا.
فسر الزمخشري الابتهال بالمباهلة وقال بأن البَهلة أو البُهلة تعني اللعنة وناقة باهل لا صرار لها. (لا صرار يعني لا سمة أو لا خطام عليها فيحلبها الجميع) وتطلق عادة على المحررة من كل قيد. ثم يقول بأن أصل الابتهال هذا ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا. هذا المعنى ينقله الطباطبائي أيضا وهو نفس ما يقوله الراغب تقريبا وهو هذا:
أصل البهل: كون الشيء غير مراعى، والباهل: البعير المخلى عن قيده أو عن سمة، أو المخلى ضرعها عن صرار….. وأبهلت فلانا: خليته وإرادته، تشبيها بالبعير الباهل. والبهل والابتهال في الدعاء: الاسترسال فيه والتضرع، نحو قوله عز وجل: {ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} [آل عمران/61]، ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن،. انتهى ما نقلته عن الراغب.
ولعل السبب هو أن اللعنة تعني الدعاء ضد أحد بالحرمان من الرحمة. والدعاء ضد أحد بأن يتركه الله تعالى كالناقة الباهل تعطي نفس المعنى لأن ترك العبد دون هدى يؤدي إلى الضلال وهو بمثابة اللعن. والعربي الذي وضع اللغة كان يتعامل مع الطبيعة المحيطة به ثم ينتقل إلى الغيب فيختار من كلامه ما يناسب تطوره المعرفي بالغيب. إنه يعرف الناقة الباهلة قبل أن يتحدث عن الملاعنة مدركا بأن اللعن يعني إبعاد شخص من رحمة الله. تلك منطق علمي لا يصل إليه البدوي إلا بعد قرون من التعامل مع الناقة. ولا ندري هل اتبع الزمخشري التدرج العلمي في الكلمة ليختار معنى احتماليا يفسر به هذه الآية، وهو إمام نحو ولغة؟ ولا أدري كيف فسر الابتهال بالمباهلة وهو فعلا غير صحيح. ولم يأت الزمخشري ولا غيره بأي شعر عربي قبل أن يسترسلوا في تفاسيرهم الخيالية لهذه الآية تدل على أن العرب استعملوا المباهلة في الملاعنة فضلا عن الابتهال الذي يعني التضرع إلى الله تعالى.
نرى بأن الراغب يذكر المعنى على استحياء لأنه يعلم بأن التفسير تعسفي ولكنه ينقل ذلك ويسعى لإيجاد مخرج لهم حتى لا يعزله الناس المتبعون للمفسرين. ولذلك دعني أوضحها لغويا قبل كل شيء وأنا بالطبع أعترف بقصور يدي في اللغة ولكني عاقل أشعر معنى الكلمات القرآنية.
المباهلة من باب المفاعلة وتحتاج إلى طرفين لتحققها. ويكفي قيام طرف بإنزال فعل ضد طرف آخر وقبول الطرف الآخر للفعل الوارد عليه. مثل المضاربة التي تعني قيام طرف بالضرب في الأرض بمعنى التجارة وقبول الطرف الآخر بدفع المال وليس بالضرب في الأرض فأحدهما مضارب مع الآخر أو المتاجرة وهو يعني قيام شخص بالاتجار في المال وانفعال المال أمامه فهو متاجر مع ذلك المال. وقد ورد كلمة المخادعة في سورة النساء بأن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم. بالطبع الخادع اسم فاعل من خدع فتعني الآية أن المنافقين يريدون أن يخدعوا ربهم ظانين بأنه يُخدع فيتحقق المخادعة ولكنهم يجهلون أن الذي يخدع هو الله تعالى وهم المخدوعون. فنرى بأن القيام بعملية الخداع من جانب واحد يحقق المخادعة.
وإذا أردنا أن نعبر عن تعاون طرفين في عمل واحد فإننا نستعين بباب التفاعل. مثل التضارب في القول وهو يعني أن يقول أحد قولا ثم يعقبه بقول مناقض له. أو يصدم أحد شخصا وهو يصدمه أيضا بأنهما كانا راكضين باتجاه بعضهما البعض ولو لم يكن الطرف الآخر راكضا باتجاهه فهو اصطدام من باب الافتعال وليس تصادم. ويمكن أن نسمي عملية قيام طرف باللعن المشروط ضد آخر وردِّ الطرف الثاني اللعن عليه بالملاعنة أو المباهلة ولكن لا يمكن أن نسميها الالتعان أو الابتهال. ذلك لأن باب الافتعال تعني أن يفعل شخص شيئا بنفسه فالالتعان تعني أن يلعن نفسه كما في الملاعنة بين الزوجين فأيهما قبل بأن يلعن نفسه إن فعل كذا فقد التعن وإذا التعن كلاهما يقال: التعنا. فإذا فسر فعل بهل بمعنى لعن فيكون الابتهال بمعنى لعن نفسه. والحال أنهم يقولون بأنهم اتفقوا أن يلعن كل طرف الطرف الآخر.
والآن دعنا نحلل بَهَلَ لنرى إمكانية توظيف الفعل لمعنى اللعن. عرفنا من كلام الراغب بأن البهل تعني الاسترسال فتحتاج الكلمة إلى قرينة لتعطي معنى اللعن بأن يقولوا نبهل أو نبتهل لنلعن. وقد انتبه الراغب فقال:
ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن.
هذا يعني بأنهم يخلطون التاريخ والحديث بالقرآن ولولا ذلك لما أمكن استفادة معنى اللعن من الابتهال أبدا.
حتى الابتهال بمعنى التضرع فنحن نقول نبتهل إلى الله أن يساعدنا مثلا. والآية تقول: ثم نبتهل فنجعل لعنة الله. لو قال نبتهل لنجعل لكان ممكنا البحث فيه ولكنه استعمل الفاء وهو لا يمكن أين يحدد نوع الابتهال هل هو دعاء كالعادة أم طلب سلبي لسلب الخير عن الآخر.
فكلام الزمخشري غير بليغ في هذا الشأن. بالطبع أن يدعو الرسول قوما إلى الملاعنة أمر مرفوض تماما ولا يدل إلا على الشراسة التي كانت بعيدة عن شخصية رسولنا الحبيب للأسباب التالية:
- إن الرسول نذير وبشير وليس مصرا على فرض الدين على أحد. وخاصة الدين الإسلامي الذي جاء ختاما للأديان السماوية باعتبار التطور البشري العام والذي وصل حد تمكن الناس من انتخاب الدين بمحض اختيارهم فقال سبحانه: لا إكراه في الدين. إنه سبحانه يريد وضوح الرؤية ليتخذ كل شخص دينه بعلم فتنكشف حقيقة نفسه إن كانت ميالة إلى الحق أو إلى الشهوات. وقصة الملاعنة تدل على إصرار فرض الدين.
- وصف الله تعالى رسولنا بأنه على خلق عظيم فأين الملاعنة من الخلق العظيم؟ ليس في القرآن ذكر لأي نبي لاعَنَ قومه بل كانوا يسعون حتى النهاية لدعوتهم إلى الله تعالى لعلهم ينجوا من غضب الرحمن.
- لو قالوا بأن النصارى طلبوا الملاعنة والرسول رفضها لكان أكثر واقعية وأكثر انطباقا مع الرسول الكريم الذي يقول له ربه في سورة الكهف واصفا قصة تألمه من عدم استجابة النصارى:فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6). والراغب يفسرها هكذا: البخع: قتل النفس غما، قال تعالى: {فلعلك باخع نفسك} [الكهف/6] حث على ترك التأسف، نحو: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر/8].. انتهى النقل من الراغب. إن الذي يلاعن فهو يقصد إنهاء البحث والجدال بالملاعنة؛ فلماذا يقول له ربه بأن يدعوهم إلى كلمة واحدة هو ألا يعبدوا إلا الله بعد قصة الابتهال؟
- أين ذكر الحسنين وفاطمة وعليا في القرآن فهو ادعاء لا يصح قبولها وفرضها على القرآن. هذا الكتاب جاء ليهدي لا ليضلل، فلما ذا سكت الله تعالى عن ذكر هذه الأشخاص وهم صلب موضوع المباهلة المزعومة؟ هذا القرآن تبيان لكل شيء فما معنى حاجتنا إلى المؤرخين الذين يكتبون لمن ينفق عليهم وهم الحكومات والأثرياء أصحاب المصالح؟ وهل هذا الأمر يتناسب مع رجل يملك منطقا قويا مستمدا من قوة الكتاب العظيم الذي يحمله أن يأتي بأطفاله الصغار أمام قوم يحاجونه في دعوته؟ أليس هذا يعني استنفاد كل ما لديه من قوة منطقية واللجوء إلى إظهار الضعف والعجز بإحضار الأطفال أمام علماء يجادلونه بالمنطق؟ هل سمعتم بنبي أو عالم قوي المنطق يقوم بهذه الأعمال الضعيفة إخواني وأخواتي حتى تنسبونها إلى خاتم الأنبياء؟ عيب هذا الكلام وألف عيب. إنما ذلكم الشيطان قد خدعكم به فاتركوه والعنوه وعودوا إلى عقولكم وفكروا في كتاب ربكم.
- يقول سبحانه بعد الآية الكريمة مشيرا إلى ما سبق بأن: هذا هو القصص الحق. هذا يعني بأن القصة قد كملت في حين أنه سبحانه لم يقل أبدا بأنهم اتفقوا على الملاعنة وجاء النبي بأهله ووقف أمامهم فنصحهم عبد المسيح أن يتركوا المباهلة. ثم صالحوا النبي على دفع الجزية. بل قال سبحانه:فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين. هل هذه الجملة في لغة المفسرين تعني المطالبة بالجزية أم تعني تركهم والاكتفاء بما عرضه عليهم من الابتهال والتضرع إلى الله تعالى في حال اعتراف بالضعف، وإرجاع الأمر إلى الله تعالى؟
إخواني الكرماء، لقد فسرت لكم الآية تفسيرا بسيطا ولكن علميا وهو بيان ضعف الإنسان أن يكون ابنا لله تعالى لإثبات عدم إمكانية أن يكون المسيح ابنا لله تعالى؛ فكيف تتركون هذه المعاني الرفيعة في كتابكم الكريم وتتشبثون بمعاني ضعيفة متناقضة تقطع الآية تقطيعا وتجعل الموضوع القرآني العلمي موضوعا قبليا يتناغم مع تنافس القبائل على المباريات البهلوانية ولا يتناغم مع دعوة الرسول الأمين قومَه الذين عاش بينهم إلى الله تعالى؟ بالله عليكم، ما الفرق بين الذي يباهل الناس ثم يقبل المال مقابل سكوته عن المباهلة مع الذين يخوفون الناس بالغيب ليفرضوا عليهم الجزية كما فعله ويفعله بعض علماء النصارى واليهود والبوذيين والهندوس والسيك وكذلك المسلمين؟ أليس هذا التفسير مبررا لهم ليأكلوا أموال الناس بالباطل باسم الله تعالى وباسم الدين؟ ليس في تفسيرهم هذا أي منطق علمي ولكنه تفسير مبتن على ادعاءات أسطورية وعلى قصص خرافية اختلقها الخلفاء ليأخذوا أموال الناس ويوزعوها بينهم وبين رجال الدين الذين ساعدوهم على مسخ كتاب الله تعالى. فكروا في ما أقول قبل أن تردوا ما لم تسمعوه من قبل دفاعا عن تراثنا السخيف، والله من وراء القصد.
أحمد المُهري
15/10/2016
#تطويرالفقهالاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence