تصحيح اخطاءنا – 6 – آية 5 المائدة !

الآية الخامسة من سورة المائدة – المقطع الاول

 

quaran2

حتى نتمكن من حسم الموضوع وأداء واجبنا تجاه أمتنا التي تنتظر من أمثالنا أن نُسمعهم فهما دقيقا وقريبا من الصحة؛ فسأقوم بإذن الله تعالى بدراسة موسعة للآية الخامسة من سورة المائدة ليهتدي من يهتدي على بينة ويضل من يضل على بينة. نتحدث عن منطق القرآن ولا نتحدث عن منطق أرسطو ولا منطق الفارابي. ليس القرآن بحاجة إلى من يعلمه كيف يشرع فهو كتاب السماء ومن أنزله هو الله تعالى. أما أن يتدخل كل إنسان بما يظن بأنه مسألة عقلية في تشريعات السماء فهو يعني بأن القرآن باطل.

لنعيد ذكر الآية الكريمة ونبدأ بدراستها كلمة كلمة. قال تعالى في سورة المائدة: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5).

اليوم ويعني اليوم الذي أنزلت فيه الآية الكريمة. هل يمكن أن يذكر الله تعالى تشريعا عاما مثل تشريع الأكل والزواج يوم نزول القرآن دون الأيام التي سبقت نزول القرآن؟ بالطبع لا يمكن ذلك لأن المؤمنين بالله كانوا يتزوجون وينجبون والمسلمون من أولادهم كما كانوا يأكلون ويشربون ولم ينتظروا القرآن ليشرع لهم. والطيبات التي أحلها الله تعالى ذلك اليوم كما يبدو لبعضنا كانت موجودة ومحللة من قبل. قال تعالى في سورة المؤمنون: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51). لا أظن بأن الله تعالى يعين الطيبات للرسل من قبل ثم يعين للمسلمين طيبات أخرى. فالطيبات عند الله طيبات لآدم وطيبات لآخر إنسان في الأرض.

ولكن الجواب حقيقة في القرآن نفسه. قال تعالى في سورة الشورى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13). فديننا بدأ من نوح وليس من محمد عليهما سلام الله تعالى.

وبيَن الله تعالى في سورة المائدة بوضوح كامل بأن التشريع ليس جديدا، فقال عز من قائل: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50).

فحكم الله تعالى موجود في التوراة وليس خاصا بالقرآن. ثم جاء الإنجيل مصدقا لما في التوراة وهو يعني بأن الأحكام لم تتغير بل بقيت على حالها. ثم جاء القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب وهو التوراة والإنجيل. هذه الكتب تمثل حكم الله تعالى والتالي يصدق السابق والله تعالى واحد ولا معنى فعلا لتغيير حكمه. وكل حكم غيره حكم الجاهلية ومن أحسن من الله حكما.

أتمنى أن تكون هذه الآيات كافية ليعلم الجميع بأن تشريع السماء لم يتغير ولن يتغير لأنه تشريع طبيعي يناسب الطبيعة وقد شرعه خالق ما في الطبيعة جل جلاله. فما معنى: اليوم أحل لكم الطيبات؟ هل كانت الطيبات محرمة عليهم أم كانت محللة عليهم من قبل؟ لو كانت محرمة فهي تخالف الآيات التي تقول بأن الكتب تصدق بعضها البعض. ولو كانت محللة فما فائدة أن يقول ربنا: اليوم أحل لكم الطيبات؟ لقد قلت رأيي سابقا ولا نحتاج إلى تكرار وأرجو ممن له رأي آخر أن يبدي رأيه لنناقشه ثم ننتقل إلى الموضوع الثاني في الآية.

 

الفصل الثاني من بحث الآية الخامسة من سورة المائدة

أرجو أن يعتبر القارئ الكريم هذا الفصل فصلا ثانيا وما ذكرته في بداية التفسير الموسع للآية الخامسة من سورة المائدة إضافة إلى تعليق سيادة الأستاذ الطبيب محمد سلامه وجوابي عليه حول الكلمة الأولى من الآية فصلا أولا. وسأخصص لها في النهاية رسالة أتمنى أن يضيفها أخي سيادة الأستاذ الدكتور كمال شاهين على الكتاب الالكتروني الذي استعجل بإصدارها مع الشكر مسبقا.

نكرر ذكر الآية للتذكير فقط وهي من سورة المائدة: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5).

أحل لكم الطيبات:

لنعرف معنى أحل بداية. قال الراغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن الكريم: أصل الحل: حل العقدة، ومنه قوله عز وجل: {واحلل عقدة من لساني} [طه/27]، وحللت: نزلت، أصله من حل الأحمال عند النزول، ثم جرد استعماله للنزول، فقيل: حل حلولا، وأحله غيره، قال عز وجل: {أو تحل قريبا من دارهم} [الرعد/31]، {وأحلوا قومهم دار البوار} [إبراهيم/28]، ويقال: حل الدين: وجب  أداؤه، والحلة: القوم النازلون، وحي حلال مثله، والمحلة: مكان النزول، وعن حل العقدة استعير قولهم: حل الشيء حلالا.

وقال ابن فارس في مقاييس اللغة: الحاء واللام لـه فروع كثيرة ومسائلُ، وأصلها كلُّها عندي فَتْح الشيء، لا يشذُّ عنه شيء. يقال حَلَلتُ العُقدةَ أحُلُّها حَلاًّ.

والجوهري في الصحاح يعتبر حل العقدة معنى أساسيا لجذر حلل. فعلينا أن نعرف حينما نجد جذر حلل بأن هناك عقدة يريد الله تعالى أن يفكها. تلك العقدة قد تكون فكرة خاطئة أو حراما مؤقتا أو تشريعا مجهولا أو اختلافا بين عبيده في تنفيذ تشريعاته والتمتع بما أباحه لهم أو ما شابه ذلك.

ثم نأتي للفظة “لكم”. من هم المخاطبون؟ تبدأ السورة في الآية الأولى وتكرر في الآية الثانية خطابه الكريم: يا أيها الذين آمنوا. فالمخاطبون هم الذين أنزل عليهم القرآن وهم إمامنا الأكبر محمد عليه السلام والذين آمنوا به وبرسالته في الدرجة الأولى رضي الله عنهم أجمعين. بمعنى أن الخطاب قد يكون خاصا لهم أو عاما لهم ولكل من سار على دربهم مثل التابعين حتى يصل إلينا نحن اليوم. وسنعرف المقصود حينما نتفهم معنى الآية الكريمة بالكامل. وما وصلنا من طريقة الذبح سواء من اليهود أو من المسلمين كسنة عملية هو غير ما يظن البعض بأن ذبائح المسيحيين المحرمة في الكتاب المقدس نفسه حلال على المسلمين مع الأسف.

الطيبات: تعني ما يطيب الإنسان طبعا وهي لا يمكن تصور التغيير فيها. الإنسان الذي جاء قبل حوالي أربعين ألف سنة احتمالا هو نفس الإنسان الذي نراه اليوم ولذلك قال تعالى في سورة طه: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115). أراد ربنا أن يبلغ آدم تشريعه ليبلغ أولاده ولكن آدم نسي وأثبت بأنه لا يملك العزم الكافي للنبوة فخسر الوحي. والله تعالى عطف تلك الحكاية على القرآن ليقول لنا بأن الدين والتشريع واحد هو ما ارتضاه الله تعالى لآدم وأولاده ولو بالقوة قبل الفعل.

علينا ألا ننسى حينما نتحدث عن الطيبات بأنها لا تعني ما نتلذذ منه فكل مجموعة بشرية تتلذذ وتشعر بالمتعة في ممارسة وأكل ما اعتاد عليه. إن الطيبات هي ما يريد الله تعالى أن يمتعنا بها وليس محض ما نريده نحن أو ما يطيب لنا. ولولا ذلك لكان هناك فرق بين الطيبات ولما كان لقوله تعالى أحل لكم أي معنى. لو كانت الطيبات في القرآن تعني ما تطيب لنا حسب ذوقنا فقط فلماذا حدد الله الأنعام وحرم وحلل؟ وما معنى تحريم الخبائث في القرآن؟ والخبائث كلها موضحة في التوراة والله تعالى صان تلك الخبائث كما صان كثيرا من المسائل في هذه التوراة المحرفة التي أعاد البشر كتابتها وهي في سفر اللاويين وفي سفر العدد كما أذكر.

ثم نأتي إلى المشكلة التي تواجهنا. قال الله تعالى في آية قبلها: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4). الآية تشريعية دون ريب. يسأل السائل عن الحلال ويجيب المجيب ليبين للسائل الحلال وبأنه الطيبات. فمسألة تحليل الطيبات مذكورة في الآية التي قبلها ولماذا التكرار في آية بعدها؟ ثم لماذا قيد الظرفية بعد بيان التشريع عاما مطلقا وبدون قيد الزمان؟

قال أخونا الطبيب سلامه بأن المقصود هو التأكيد أو المن. ما ضرورة التأكيد هنا وفي آية تالية لآية تشريعية واضحة؟ لم يوضح سيادة الطبيب فائدة أو ضرورة التأكيد، ولم أجد أنا ضرورة بقدر علمي القاصر كما أن غيري من المفسرين ولعل فقط الطباطبائي الذي انتبه للمسألة قالوا بأنه للمنّ ولم أجد من يقول بأنه للتأكيد. فكرت كثيرا لأجد مخرجا للاحتمال الأول لسيادة الطبيب فلم أجد فإما أن يسعفني سيادته أو نتفق على احتماله الثاني والذي احتملته واحتمله الطباطبائي ولعل مفسرين آخرين أيضا احتملوه. بالطبع أن غالبية المفسرين لم ينتبهوا أو انتبهوا وسكتوا لأنهم لم يجدوا لها مخرجا مقبولا. ومع أننا في صدد قبول سبب المن على المؤمنين فإننا سوف ندرس كل الاحتمالات في ما يأتي من مسائل أيضا.

فلو احتملنا المَنّ وهو مشترك بين الطبيب والطباطبائي وإياي، فعلينا أن نفكر في سبب لذلك المَنّ. يجب تصور تغيير في عادات أو سنن الموجودين بسبب القرآن أو الإسلام أو الرسول أو أي كرم سماوي آخر حتى يمن الله تعالى عليهم. ولنأت بمثال على كيفية من الله تعالى عليهم. قال تعالى في سورة آل عمران: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (164). واضح بأن المقصود من المؤمنين هم غير بني إسرائيل لأن الرسول لم يكن من بني إسرائيل والآية تقيد بأن الله بعث فيهم رسولا من أنفسهم فهم الذين كانوا معروفين بالمشركين أو الذين عرفهم القرآن بالمشركين. فمن الله تعالى على المؤمنين الذين كان أكثرهم مشركين من قبل ليبعث فيهم رسولا من أنفسهم لا من بني إسرائيل ولا من غيرهم كائنا من كان ليتلو عليهم آيات الله تعالى. فكانوا من قبل في ضلال مبين ثم منَّ الله عليهم بأن اصطفى من بينهم رسولا إليهم.

إذن هناك ضلال متفش فيهم فمنَّ الله تعالى عليهم بأن بعث من بينهم رسولا إليهم. فلو قلنا بأن هناك مَنًّا في الآية الخامسة من المائدة فنحن مضطرون لبيان مشكلة كبيرة من بينهم وقد قام ربهم بإزالة تلك المشكلة فقال لهم: اليوم أحل لكم الطيبات و…. على هذا الأساس قلت بأن أهل الكتاب المؤمنين بالله وبالرسل وبالكتب السماوية كانوا لا يأكلون على سفرة المشركين لأنهم كانوا يرفضون ذبحهم من حيث كيفية الذبح ومن حيث الإهلال لغير الله تعالى فهو محرم في التشريعات السماوية أيضا. لا يحتاج الأمر إلى أي بحث فنحن ننظر إلى المسلمين في كل الأرض لنراهم يرفضون أن يأكلوا ذبائح غير المسلمين عامة وقد اشتهر لحومهم بكلمة الحلال. في بريطانيا وفي كثير من الدول الغربية يكتب المطعم الإسلامي الذي يأتي باللحم من مذابح المسلمين حصريا، يكتب على واجهة محله كلمة حلال بالعربية أيضا ليعرف المسلمون بأنه حلال. والحكومات تساعدهم على ذلك. أذكر في نهاية الألفية أقفلت بلدية لندن مطعما مسلما كتب لفظة الحلال على مطعمه وشاهدته شرطة البلدية بأنه يشتري اللحم من مذابح غير المسلمين.

هكذا تعامل أهل الكتاب مع المشركين لأننا نحن اليوم أيضا أهل الكتاب. ولذلك نرى القرآن وفي بعض الآيات يؤكد بإضافة “من قبلكم” بعد “أوتوا الكتاب” لأن المسلمين من أصل غير كتابي قد أوتوا الكتاب أيضا بعد أن آمنوا بالرسول العربي عليه السلام وبيَّن لهم رسولهم معاني آيات الله تعالى.

فلا يكفي أن يخالفني أحد بل عليه أن يأتي بالبديل.

وأما لو قلنا بأن أحل لكم في مقابل حرم عليكم. وبما أن الأطعمة الحيوانية المحللة مذكورة بالاسم في القرآن الكريم فيجب أن ننتظر من هذه الآية أطعمة طيبة جديدة. ولنفرض ذلك فما هي الطيبات الجديدة التي أحلت لنا؟ هل هي لحوم الخنازير التي يأكلها إخواننا المسيحيون مثلا؟ هل يمكن ذلك؟ دعنا نفترض الإمكان. فما نفعل بالآية الثانية من المائدة وهي سابقة لها وهي تحرم لحم الخنزير: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ ِلأِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3). حتى الإنسان العادي الذي ينسى لا يمكن أن يحرم شيئا ثم يحلله في نفس الصفحة.

هناك مشكلة كبيرة للذين يعتقدون بحلية أطعمة المسيحيين في الآية الثالثة. هناك تصريح بالإسلام كدين والتزام فهل الدين الإسلامي يبيح الذبح الذي يقوم به المسيحيون اليوم في الغرب؟

وهل جملة: أحل لكم طعام أهل الكتاب بدون أي قيد يمكن أن يكون تشريعا. هذا يعني بأن المسيحي لو أتى بلحم كائنا ما كان ذلك اللحم فهو حلال على المسلمين ولكن المسلم لو جاء بنفس اللحم من دون تذكية أو من غير الأنعام الأربعة المصرح بها فهو حرام على المسلمين. أليس هذا هو نتيجة تفسيركم إخواني وأخواتي؛ فهل ترونه صحيحا؟ هذا يعني بأن يد المسيحي يد مباركة تطهر وتحلل كل حرام ويد المسلم المسكين يد لا تطهر شيئا.

ونترك بقية مسائل هذا المقطع من الآية للفصل الثالث حيث نريد فهم قوله تعالى “وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم”. نسعى للفهم ونرجو من ربنا التوفيق والهداية لنا جميعا.

 

مقطع إتمام الدين وإتمام النعمة من آية الذبائح:

قال تعالى في سورة المائدة: 

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ ِلأِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3). 

ليس لنا إلا أن نذكر ونشرح الآيات الخمسة الأولى من المائدة بصورة مختصرة ومبسطة لنعرف معنى الآية التي لا يمكن لنا فهمها بدون فهم مقدماتها. إن ما يتلوها من آيات تدل على صحة فهمنا لها إن شاء الله تعالى. ولنبدأ بمقدمة كلية للقرآن الكريم ابتداء من سورة الحمد. فإن الغاية من الخلق جميعا هو خلق الكائنات المدركة التي يمكنها أن تعرف الله تعالى. والدليل على معرفتها هو أن تحمد الله تعالى. ولكن الله لا يقتنع بالحمد خوفا وطمعا كما عليه كل البشر، ولا به شعورا احتماليا بل يريد سبحانه أن يختبر مسألة حمده واستحقاقه للحمد في كيان المدركين برمتها وهم الأرواح القدسية و الملائكة والإنس والجن ولا أدري فلعل هناك مدركون آخرون لم تبلغهم أذهاننا. والقرآن جاء للمدركين المختارين وذكر لنا بأن الملائكة يسبحون الله بحمده فقط ولا يعبدون الله اختيارا لكنهم لا يستنكفون عن عبادته لو منحوا الإرادة. وفي يوم القيامة وحين يروا دقة الخالق الغني في تفعيل الموازين القسط فسيقول الجميع من كل قلبهم الحمد لله رب العالمين. قال سبحانه في ختام سورة الزمر:

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75).

ولذلك لزم تعليم الناس المختارين كيفية السعي لتهذيب نفوسهم فبدأ القرآن بتعليمهم أن يقولوا باختيارهم ما سيقولونه يوم القيامة بعلمهم. وضح الله سبحانه ذلك في أسس دقيقة لا مجال لذكرها هنا ولكنها فعلا تمثل منهج القرآن الكريم بالكامل. ولعل من الضروري أن نفهم بأن الملائكة الحافين من حول العرش هم الملائكة الذين يحملون الكون كله بتبادل الجاذبية مع القبة الكونية لأن مكونات الكون العظيم تتبادل الجاذبية فيما بينها لتبقى محفوظة ولكن القبة المحيطة التي تبادل الجاذبية مع الكواكب  التي في بطنها فإنها من الخارج لا مجال للتبادل فستنهار لولا تلك الملائكة العظام والأقوياء الذين يمنحون كوننا الجاذبية من الخارج. كتبت هذا حتى لا يظن أحد بأن هنالك كرسيا خاصا بالله تعالى والعياذ بالله.

ثم بدأ سبحانه بتهذيب النفوس الاختياري في سورة البقرة وبأن الأصل في التهذيب هو أن يستمر المرء في التمسك بالله تعالى وباللقاء معه دائما وأبدا وهو معنى “الم” بإذن الله تعالى.

وبما أن السورة علمية بكل معنى الكلمة وقد شرحتها بنعمة من الله تعالى في التفسير المفصل والحمد لله، فإنه سبحانه أعقبها بذكر النماذج الناجحة الذين استفادوا من هذا التمسك المنحصر بالذات القدسية، من الأنبياء والصالحين كمرفق بياني لسورة البقرة يزيدها برهانا وينيرها بيانا وهي سورة آل عمران. بعد ذلك بدأ بالتربية البدنية التي فصلت تماما في سورة النساء. هذه السورة اهتمت بالعوائل كوسيلة لتحسين النسل ومنح البشرية دفعا سريعا إلى التطور، إذ أن المصنوعات الفيزيائية تتطور ماديا وتحتاج إلى المزيد من التطهير الفيزيائي لإعطائها المزيد من التحسن كما تم بيانه لتلاميذ القرآن عند تفسير السورة المباركة. ومن الطبيعي أن يتظنن من عرف معاني سورة النساء بأن هناك اهتماما حقيقيا للنسل بحيث يؤثر فعلا في قسط يوم القيامة فيمكن أن ينحرف فكره إلى العوائل وإلى أبناء الأنبياء المختارين فيظن بأن هناك اهتماما حقيقيا من الله تعالى بهذه العوائل.

هذا الظن يؤدي أحيانا إلى مسخ حقيقة العدالة في أذهان البشر فالله تعالى لا يمكن أن يثيب أحدا يوم القيامة باعتبار منشئه كأولاد الأنبياء أو محضره كصحابة الرسل أو مولده أو مدفنه. ذلك يعني بأن الله تعالى ليس عادلا بكل معنى الكلمة. ولذلك بادر سبحانه بوضع سورة المائدة في ذيل سورة النساء والعلم عنده جل اسمه. هذه السورة تتحدث عن العقود والعهود متناسية العوائل وبأن كل العوائل وكل الأنبياء وكل الصالحين يفقدون مصداقيتهم إن خانوا العهود والعقود. فالمائدة سورة القانون وليست سورة العوائل ولا سورة الوصايا العائلية ولا سورة تهتم بأهالي البيوت وقد وضحت ذلك بفضل من الله تعالى حينما قمت بتفسير السورة.

بدأ الله تعالى السورة المحكمة الكبرى بالأمر بالإيفاء بالعقود. والعقد الأول هو العقد الطبيعي في مادة الإنسان وفي تركيبته الفيزيائية. هذه التركيبة قد صنعت في قرية مكة التي صُنعت هي أيضا من أجل صناعة الإنسان فصنع الله تعالى الأنعام الثلاثة الصغيرة وهي البقر والمعز والضأن في نفس المكان بجوار خلق البشر حتى بدأ سبحانه منح النفس الإنسانية للنوع المتطور من الحيوانات البشرية لا من القرود كما تصور البعض بالطريقة الموضحة في سورة الحج وقد قمت بتفسيره أيضا والحمد لله تعالى. ومن الضروري أن نعلم كما نقرأ في سورة الانفطار بأن المادة البشرية لكل إنسان جديد تسبق النفس ومن بعدهما يبدأ التصوير الجيني. قال تعالى في الانفطار: يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8). الخلق يعني ارتباط الحيمن بالبويضة والتسوية تعني خلق النفس بنفس اللحظة متساوية مع البدن والتعديل يعني تنشيط الجينات التي تناسب الكائن الجديد من بين جينات الأب والأم. والعلم عند الله تعالى.

أراد الله تعالى في سورة المائدة كعادته أن يزيل الشك من قلب من يمكن أن يظن بحرمة لحوم الأنعام باعتبار اشتراكها مع الإنسان في مسرح خلقي واحد كما أراد أن يأذن لنا بأكل لحوم أخواتنا المادية من الأنعام الثلاثة ولذلك ذكر منّه علينا بتحليل الأنعام بعد الأمر بالإيفاء بالعقود كلها. ذلك لأن عقدنا مع الطبيعة تحرم علينا أن نأكل لحوم بعضنا البعض، والأنعام الثلاثة المعبر عنها ببهيمة الأنعام أخوات لنا فلا يجوز بل يعيب علينا أن نسمح لأنفسنا بأن نأكل لحومها ميتة كما نستقبح أن نأكل لحوم إخواننا من البشر ميتين. لكن الله تعالى ضمن نظام دقيق يأذن بأن نأكل هذه اللحوم إذا استوفينا شروط حرمانها من الحياة بإذن الله تعالى وأعلنا ذلك بذكر اسم ربنا حين إنزال الموت عليها. ليكون عملنا صحيحا مسموحا وبعيدا عن اللعب والاستهانة بتلك الحيوانات الأليفة التي كادت أن تكون بشرا مثلنا لأنها خلقت في نفس الظروف وفي نفس المكان وفي نفس الزمان تقريبا.

ونلاحظ بأن الله تعالى يخلط مسائل الصيد في مكة مع مسائل اللحوم المحللة والمحرمة. لعل ذلك بسبب تخصيص بدايات السورة العظيمة بالمقدمات المادية الضرورية لتطهير النفس. لقد جاءت السورة بعيدة عن المؤثرات العائلية التي تكامل بيانها في سورة النساء ولكن للمادة آثار أخرى يجب معرفتها. فالمادة العائلية تؤثر كما هو واضح من السورة السابقة في المواهب العقلية والفكرية وكذلك المواهب الرياضية المختلفة في الإنسان. لكن البدن الذي تشكل بفعل الارتباط والتداخل بين خليتي الوالدين فهو الآن يحمل صفاتا وراثية لا يمكن تغييرها كلون العينين وحركة القلب وقطر الشرايين وما شابه ذلك. ولكن التغذية اليومية تحمل دورا مهما جدا في تثبيت صفات وتضعيف صفات أخرى في كيان الإنسان. فالذي يتناسب مع المؤثرات العائلية هو بيان التغذية باللحوم والتي تتعامل مباشرة مع خلايا الناس. هذا السرد منطقي ومعقول. نحن في هذا المختصر لا يمكننا تفسير الآيات الأولى التي تحمل معاني كبيرة ولكننا بصدد بيان أسباب اهتمامها بالغذاء فقط وبأن تشريع التغذية وبالأحرى طعام اللحوم قد يدل على تكامل الدين. وسنذكر بعض الآيات الدالة على ذلك مع بيان مختصر:-

  1. قال تعالى في سورة المؤمنون: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51). فأكل الطيبات مقدمة للعمل الصالح. إنها تعني بأن المؤسسة الفيزيائية للإنسان تستعد للعمل الصالح مع أكل الطيبات. ولعلها تعني بأن المؤسسة تكون خاذلة كسولة حينما لا يسعفها صاحبها بأكل الطيبات أويعوض عنها بأكل الخبائث.
  2. قال تعالى في سورة الأنعام: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119). ويمكن لمن شاء أن يقارن بكل سهولة بين هذه المجموعة من الآيات مع آية المائدة ليجد المطلوب متجليا فيها. فهو عز اسمه يكمل كلماته على النبي وغيره بأن يأمرهم بأن يأكلوا من الأنعام بعد ذكر اسم الله تعالى عليها ويحذرهم من الامتناع عن أكل ذلك حينما يقول: وما لكم ألا تأكلوا. ويمكن ملاحظة الضلال المذكور بعد إتمام الكلمات والضلال المذكور في الآية الأخيرة ضد الذين يضلون الناس بمنعهم عن أكل لحوم الأنعام. فكلمات الربوبية لله تعالى تتم بأكل لحوم الأنعام. ومعرفة ذلك ليست صعبة لمن يتخلى عن الكم الهائل من التراث المضلل. والرب هو الذي يكمل ربوبيته بأن يأمر عبيده بما يتناسب مع مفاهيمه المقصودة كما يساعدهم على الاستعانة بما يقوي بنيانهم وكيانهم لتقديم الطاعة في سبيله سبحانه وتعالى. وسوف أشرح مفهوم الكلمات في نهاية هذا المقطع من البحث بصورة مختصرة بإذن الله تعالى. لنقرأ الآيات التالية أيضا:
  3. قال سبحانه في سورة قريش: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4). لعل قائلا يقول بأن الإشارة إلى الإطعام من جوع والأمان من خوف هي بغرض التنبيه إلى الإيمان بالله تعالى ببيان بعض أعماله المرتبطة بالإنسان وليست بهدف التعليل. والواقع أن الله تعالى لا يشير إلى عظائم صفاته هنا مثل خلق السماوات والأرض وإقامة القسط يوم القيامة وخلق الكائنات وإدارة الكون وما إلى ذلك، ولكنه سبحانه يتحدث عن جزئية خاصة بقريش ليعلل عبادته. لقد سمعنا كثيرا بأن المؤمنين يعبدون الله تعالى لأنه أهل للعبادة والله تعالى يقول بعكس ذلك. ليس هناك من يعبد الله تعالى لأنه عظيم بل يقفون خاضعين أمام وجهه الكريم ليستدروا رحمته وفضله. هذا هو دأب الأنبياء جميعا. قال تعالى في سورة السجدة: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16). وقال سبحانه في سورة الأعراف: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56). والواقع أن الكريم الرحيم يأبى أن يأمر عبيده الفقراء المعوزين أن يعبدوه ويشكروه لأنه جبار عظيم بل من اللائق لرحمته أن يبادر بالكرم قبل أن يأمر بالخضوع. قال تعالى في سورة النساء: مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147). فكان الله تعالى قبل أن ينتظر شكر الناس وخضوعهم لأمره، شاكرا لهم ومنعما عليهم بعلمه بحاجة خلقه وقدرة كل منهم على استيعاب النعمة.
  4. ونقرأ مثل الآية أعلاه في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(172)إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173). فهو سبحانه في هذه الآية الكريمة مهتم بذكر النعم الحيوانية المتاحة وبأن التحريم محدود. وعلى أي حال فالمضطر يتناول مما يشاء من المحرمات دون أن يقصد العودة إليها إلى أن ترتفع الضرورة. ومن لطائف هذه الآية المباركة أنه سبحانه يدعو الناس أن يشكروه حينما يأكلون الطيبات من الرزق ولكنه لا يطلب منهم الشكر حينما يضطرون لتناول المحرمات والممنوعات من النَّعم. والمهم أن يبحث المؤمن عن طيبات الأكل لتسنح له العبادة بثقة واطمئنان. والشكر هو مظهر من مظاهر العبادة في حقيقة معناه. ولو ينظر الإنسان إلى عظمة الأنعام والوقت الذي مر عليها لتصبح صالحة للأكل بعد التطورات الكبيرة في كيانها كما نعرفها من سورة الحج فسنشعر فعلا بالخضوع للعظيم الرحيم الذي بدأ بخلق الأنعام ملايين السنين قبل استكمال تطور الحيوان البشري لاستقبال الروح الإلهية لخلق النفس الإنسانية. نعرف ذلك بعد التدقيق في الحيثيات الفكرية و العقلية للإنسان بعيدا عن التطور الجسمي لدى الحيوان.
  5. ومشابه لما هو أعلاه قال عز من قائل في سورة النحل: وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117).
  6. قال العزيز في سورة غافر ما يدل على أن الارتزاق من الطيبات كان ضمن البنيان الإنساني: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64). فالصورة الحسنة التي اختارها الله تعالى للبشر هي تلك الصورة التي تلائم الارتزاق من الطيبات. وكلما يبتعد المرء عن تهذيب محاسنه بالجحود والكفر فإنه يتضاءل ميلا ورغبة في الطيبات بل يصبح ميالا إلى غير الطيبات كما نرى بأن الكثيرين يميلون إلى الخنازير ولحوم الحيوانات الضارية مثل الكلاب أو الحيوانات الزاحفة مثل الضب وهم يملئون الأرض عددا. والله تعالى يتبارك بربوبيته لمثل هذا البشر الذي يأكل الطيبات باعتبار أن أكل الطيبات يحسن الخلق ويزداد الشاكرين لله تعالى فهو سبحانه يتكاثر آنذاك ربا معبودا ومخضوعا له باختيار والعلم عند الله تعالى. والتبارك معناها التكاثر ولكن الله تعالى لن يتكاثر في كيانه بل يتكاثر في ربوبيته بمعنى ازدياد الخلق ويتكاثر في معبوديته بمعنى تزايد الذين يخضعون له باختيارهم.
  7. وأخيرا نذكر آيات من سورة الحج لنعلم جزئيا الهدف الأساسي من دعوة البشرية إلى الحج. ولنعلم بأن ما تظننه بعض المشهورين بالفقهاء بأن الحج عبادة سياسية أو عبادة اجتماعية أو عبادة تغسل كل الذنوب كيوم ولدته أمه، قد يكونوا خاطئين. إن الحج عبادة سياحية لا يمكن فرضها على غير الأغنياء القادرين على تحمل تبعات ومصاريف السياحة. والمقصود من هذه العبادة السياحية هو الاطلاع على آثار خلق أبينا آدم وأمنا حواء وآثار خلق الأنعام الثلاثة. وفي السورة ذاتها الكثير من آثار تلك المسائل والتي على أساسها خص الله تعالى مكة بتسميته بيته سبحانه. ذلك لأن مكة هي ورشة عمل رب العالمين لخلق الإنسان، ولم يقل سبحانه بأن بقية الأماكن أو المساجد هن بيوته ولكننا نسميها كذلك بدون إيعاز قرآني. ولعلنا جاهلون في هذه التسميات غير الدقيقة فعلينا الاستغفار وطلب الهدى والعلم من ربنا جل شأنه. والآيات هي: وَإِذْ بَوَّأْنَا ِلأِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31).

لا يمكنني أن أختصر موضوع مكة في هذا المختصر. لكنني أذكر ما يتناسب مع المقام فقط. فالسبب في فرض الحج أن يشهد الطائفون أو السائحون منافع لهم فيشكروا الله تعالى بقيامهم وركوعهم وسجودهم على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. وليكملوا موجبات الشكر بالأكل منها وبإطعام الفقير البائس من تلك النعمة الإلهية الكبرى، نعمة الأنعام. ولنعلم بأن الأنعام بطبيعتها محرمة علينا ولكن الله تعالى أحلها لنا كرما منه. ولنعلم أيضا بأن القيمة التي ندفعها للأنعام وللحم ليست هي القيمة الحقيقية بل هي قيمة التبادل الخاضعة للعرض والطلب. لكن الحقيقة أن هذه الأنعام قد مرت على ملايين السنين من التطور حتى صارت طيبة مفيدة لنا فلا يمكننا دفع قيمتها ولذلك نكتفي بتقديم الشكر من كل قلبنا للخالق العظيم الذي لم ينسانا حينما أراد أن يخلقنا ليتحفنا بأنعام نأكلها ونستزيد بها قوة غذائية ضرورية لأبداننا. ولو نفكر في حقيقة هذه الأنعام فهي التي تساعدنا على أن نترك الشرك وعبادة الأصنام لإرضاء البشر. ليس للإنسان تلك العظمة والتميز علينا نحن، فكل الطيبين بمن فيهم الأنبياء إخوان لنا. لكن الله تعالى وحده هو الذي يتميز عن خلقه وهو وحده الحي القيوم الذي يستحق أن يُخضع له ويُعبد.

أما بعد هذا، فهل هناك من شك بأن مسألة الأنعام وأكل لحومها هي من كبريات النعم والاهتمام بها علميا ومعرفيا هو من كمال النعمة الإلهية ومن متممات الدين؟ فهل للذين يدَّعون غير ما قلتُ دليلا من كتاب الله تعالى المبين الواضح أم أنهم يدْعوننا لاتباع ما خطته يد البشر القاصرة المخدوعة ولعل المأجورة؟ فلنتق الله تعالى ولا نسعى لتقطيع آياته أعضاء مجزأة تبعدنا عن فهم الحقيقة وتقربنا من النار وتُرضي الشيطان وحده، وتغضب الرحمن قطعيا.

والطريف أن العلامة الطباطبائي يعترف حين تفسيره للآية 160 من سورة النساء بأن آخر أحكام التوراة تمثل تحريم بعض أجزاء الأنعام وهذا نص قول العلامة: فإنه تعالى جعل هذا الظلم منهم سببا لتحريم الطيبات عليهم، و لم تحرم عليهم إلا في شريعة موسى المنزلة في التوراة، و بها تختتم شريعة موسى،.   انتهى النقل من تفسير الميزان.

فكيف لا تختتم شريعة محمد بنفس الأمر وهو بيان المحرم والمحلل من لحوم الحيوانات البرية؟!

ولنفهم شيئا قليلا عن تفسير الآية المتنازع عليها بإذن الله تعالى مستعينين بما سبقتها وما لحقت بها من آيات.

هذه هي الآيات الكريمة بعينها من سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ ِلأِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7).

تبدأ السورة بالأمر بإيفاء العقود لتفصلها عن سورة النساء التي تأمر بتحسين النسل. ذلك حتى لا يتظنن الباحث أن العوائل فائزة يوم القيامة، بل هي تفوز بالمزيد من الإمكانات الدنيوية لو أنها اهتمت بنفسها فقط. وكمثال للعقود المهمة يأتي سبحانه بعقد طبيعي بينه وبين عبيده وهو حلِّيةُ الأنعام للأكل. هذا العقد يتوثق بالأكل فالله تعالى قد وضح لنا أسباب تحليل الأنعام فإذا استفدنا منها فقد وقعنا العقد مع ربنا. والذي لا يستفيد من أنعام ربنا فهناك عقود طبيعية أخرى بين الله تعالى وعبيده أيضا. وبما أنه المالك فإنه يأمر بكيفية التمتع بهذه النعم الكبرى فيحل ويحرم تبعا لإرادته وليس تبعا لإرادة المستفيدين. ونعرف بأن إرادة الجبار ليست منبثقة من ضعف ولا حاجة فهي الإرادة الحقة العادلة كما نعرف بأنها ليست ضمن قانون المشيئة التي لا يمكن تغييرها أو لا يمكن أن يغيرها ربها بل هي قانون يغيرها الله تعالى متى ما رآه ضروريا كما فعل بالنسبة لبني إسرائيل حيث حرم بعض أجزاء الأنعام ثم أرسل نبيا كبيرا هو المسيح ليحل لهم بعض ما حرم عليهم.

وأما الآية الثانية فهي تبدأ بالأمر بعدم المساس بالشعائر الإلهية التي ذكرها الكتاب الكريم والذي وضع الله تعالى على عاتقه تفصيل الكتاب كله. والشعائر تمثل الأمارات الدالة على الحقيقة التي وراءها فشعار الدولة يمثل الدولة وشعار المصنع يمثل بعض اهتمامات المصنع وشعار المدرسة يمثل بعض ما تدعو إليه المدرسة. وأما الشعائر فهي هذه:

  1. الأنعام الثلاثة والتي تعتبر من أعظم الشعائر لأنه سبحانه أمر بتعظيمها واعتبر ذلك معلمة من معالم التقوى. قال سبحانه في سورة الحج: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (35). وفي هذه الآيات يبين سبحانه السبب في اعتبارها علامات مشعرة بالألوهية ودالة على اهتمام الخالق العظيم بخلقه وبأنه لا ينساهم. والأنعام الثلاث الصغيرة وهي البقر والغنم والمعز شعائر مشتركة بين الأديان السماوية الثلاثة فعلا. وأرجو من الإخوة والأخوات أن يقرؤوا هذه الآيات ولا يبالوا بما يقال لهم من الأساطير الكاذبة فليس لله شعائر كرتونية كما يصورونها لهم. إنه سبحانه ملك الطبيعة وملك الحقائق وليس ربا للأساطير والأحلام والظنون الكاذبة.
  2. الجِمال باعتبارها أكبر الأنعام المباحة للإنسان ولذلك سماها القرآن هنا البدن إشعارا بخصوصيتها تلك والعلم عنده سبحانه. قال تعالى في سورة الحج أيضا: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36). والسر في الجعل احتمالا هو أنها ليست مخلوقة في ورشة عمل رب العالمين وهو مكة المحرمة لذلك. فأهميتها الشعائرية أقل من أهمية الأنعام الثلاثة كما نعرفها من الإمعان في سورة الحج.
  3. ثالثا وأخيرا الصفا والمروة. قال تعالى في سورة البقرة: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ (159). والسر في أنه سبحانه أباح الطواف هنا ولم يفرضه بقوله الكريم: لا جناح، هو أن الناس يطوفون حول أماكن كثيرة ليثبتوا خضوعهم لتلك الأماكن أو لم تنتسب إليهم تلك الأماكن وكلها محرمة تحريما قطعيا. وكان الناس آنذاك يطوفون طوافا خطيا بين الجبلين فأقر الله تعالى هذا الطواف وأباحه لأنه لا يرمز إلى البشر بل إلى خالق البشر، سبحانه وتعالى كما نعلم عند الإمعان في سورة البقرة. وأرجو من الإخوة والأخوات الذين يطوفون حول ما أقامه البشر من أماكن مقدسة (والعياذ بالله) أن ينتبهوا إلى أن من يكتم هذه البينات القرآنية فهو ملعون يلعنه الله تعالى ويلعنه اللاعنون. بالطبع أنهم حسب ظني لا يكتمون بينات القرآن ولكنهم يجهلون فقط.

وليس في القرآن شعائر أخرى. وكلها مرتبطة بمكة ومضافة إليها كالجمال. ذلك لأن مكة فقط هي بيت الله تعالى وليست عامة المساجد كما يدعون. والسبب في ذلك هو أن مكة هي ورشة عمل رب العالمين لخلق الإنسان الذي هو هدف هذه النشأة العظيمة. ومكة ليست مخصصة للمسلمين كما يقولون بل هي لكل الناس كما يقول القرآن ولا تجد دعوة للمسلمين إلى الحج بل الدعوة موجهة إلى الناس جميعا. إن مكة والبيت الحرام هو بيت آدم وهو أول إنسان يحتاج إلى بيت كبيوتنا ولذلك فبيته أول بيت في الأرض وكل الناس أبناؤه ومن حقهم أن يزوروا بيت أبويهم آدم وحواء رحمهما الله تعالى وإيانا وغفر لهما ولنا الذنوب. وكلهم يقولون بأن الحج هو آخر عمل أتى به الرسول عليه السلام. فبيان طيبات الحيوانات الموسومة بالطعام وبيان الحج هما من آخر الواجبات الموضحة لنا ولذلك فبهما تكامل الدين وتمت النعمة وليس بما يقولونه في كتبهم المضللة الكاذبة المفتراة على رسولنا الأمين، رسول رب العالمين. ذلك الرسول الذي دعا البشر إلى الله تعالى والذي حارب أهله في سبيل الله تعالى فكيف صور لهم الشيطان فيما بعد رسولا يدعو إلى أسرته وأهل بيته؟ أليس هذا ظلما على أجمل وأكمل رسالة أرسلها الله الرؤوف الرحيم لعبيده؟ فاعتبروا يا أولي الأبصار. أنى تؤفكون؟

وفي الآية الثالثة يوضح العليم الكريم ما حرمه علينا من الأنعام سواء بسبب الإصابة أو بالأسباب الاعتبارية البعيدة عن روح الدين والخضوع لله تعالى. إخواني وأخواتي: علينا أن نعرف بأن الذي خلق لنا هذه المأكولات الطيبة هو الذي يستحق أن نخضع له وحده لا شريك له فلا تستهينوا بأنعامه ولا تبذلوها رخيصة لما بنيتموه بأيديكم من مقابر وأماكن لم ينزل الله تعالى بها من سلطان. ذلك فسق وغير مباح فضلا عن أن يكون مستحبا كما قيل لكم. لا تخُضعوا الأنعام لأحد وفكروا حين الذبح بأنها كادت تكون بشرا مثلكم ولكن الله تعالى أباحها لكم لتأكلوا منها فتستوفوا بها حاجاتكم البدنية بأمر خالقكم العظيم الذي يحبكم لأنكم من صنائعه ولستم من صنائع البشر. لا تفتروا على الله الكذب واتقوه وحده فسوف تقفون أمامه وحده ليحكم بينكم غدا فسوف ترون كل شفعائكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء واقفين معكم ينتظرون حكم ربهم ويتمنون أن يدخلهم ربهم جناته. ليس في يوم القيامة أنبياء ولا غير أنبياء بل بشر وجن ينتظرون حكم ربهم فيما منحهم من نعم. ليس هناك أي شخص مبشر بالجنة في حياته إطلاقا وكلما سمعتموه من هذا النوع كذب وافتراء فاقرءوا القرآن لتميزوا بين الصدق والكذب. كونوا شجعانا وقاوموا المفترين حتى لو كانوا أعز أهليكم فليس هناك أهل يوم القيامة وكل الأنساب تنتهي بمجرد الموت.

وقد وضح سبحانه المحرمات فبقي الحلائل واعتبر العودة إليه سبحانه بسبب حاجة المرء إليه تعالى وحده. هناك عرف المسلمون بأن الذي يحلل ويحرم هو الله تعالى وليس محمدا. عرفوا بأنهم مسلمون لله وليس لمحمد. عرفوا بأن محمدا بنفسه أخ لهم يأكل مما يأكلون ويتزوج مثلهم وينام ويحدث مثلهم والتقديس لله وحده جل جلاله. هذا هو دأب الله تعالى فهو يشبع البطون بالأكل ثم يدعوهم إلى نفسه وإلى الخضوع له وحده. إنه سبحانه يعلمهم من هو وما منحهم وعمل لهم منذ ملايين السنين ثم يدعوهم أن يعودوا إليه وحده فهو وحده الذي يفيدهم وكل الباقين عبيد له سبحانه. ولذلك يقول: اليوم أكملت لكم دينكم، يعني عرفتم اليوم بأنني أنا الذي أكمل الدين وليس البشر. اهتمام الآيات الكريمة هنا باعتبار عودة المسائل إلى العقود الطبيعية التي يبرمها الله تعالى الخالق العظيم مع عبيده المخلوقين الضعفاء المحتاجين إليه. فالدين دينه والنعمة نعمته والكل عبيده والإسلام له وليس لغيره من العبيد. هو الذي رضي لهم الإسلام دينا وليس إبراهيم ولا محمد ولا غيرهما. عليهما وعلى كل أنبيائنا الكرام سلام ربنا وسلامنا وحبنا. الله سبحانه هو الذي خلق وهو الذي أفاض وهو الذي شرع وهو الذي أنعم وهو الذي دعا إلى نفسه وهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي علم الإنسان ما لم يعلم. جل جلاله. فالعبرة هنا في عودة المسائل إليه سبحانه دون غيره. أكملت، أنعمت، رضيت؛ وذلك بعد أن يوضح تشريعه سبحانه في بداية الآية.

وأما الآية الرابعة ففيها يوضح سبحانه الطيور المحللة ويفرق بينها وبين غيرها والتفصيل في سفر اللاويين وسفر العدد من التوراة المحرفة التي بين يدينا. وفهمنا عند السعي لتفسير آيات المائدة بأنه سبحانه يوضح هنا بأن كل الأسباب التي توفر لكم التمتع بالطيور عائدة إلى تقديرات ربكم فاذكروا اسم الله وحده عليها ليحل لكم إنزال الموت عليها بإذن خالقها وخالقكم، جل جلاله وعمت نعمته.

وفي الآية الخامسة يوضح سبحانه بأن الذين كانوا أميين ينظر إليهم أهل الكتاب بأنهم دون مستواهم قد أصبحوا اليوم إخوانا لأهل الكتاب يأكلون مما يأكلون ويتزوجون ممن يتزوجون دون فرق لو أسلموا وجههم إلى الله تعالى. كل ذلك بفضل الله تعالى وبفضل العلوم العميقة التي أباحها لهم وأفاضها عليهم بالقرآن العظيم. والحديث فيها عن الذين آمنوا من أهل الكتاب وليس الذين بقوا على دينهم. إنه سبحانه يعتبر الذين بقوا جاحدين للحق وكافرين بما ظهر لهم من إرادة ربهم فهم يعيشون مع المسلمين الحقيقيين في الدنيا ولكنهم يبتعدون عنهم في الآخرة. وكل أهل الكتاب المذكورين في القرآن باعتبار أن المسلمين سوف يصبحون أهل الكتاب أيضا بعد وفاة نبيهم. إنهم مثل من سبقهم كانوا أهل الكتاب وأهل الرسل حتى انقطعت عنهم الرسالات فبقوا أهل الكتاب فقط. فنحن اليوم جميعا أهل الكتاب لأننا فقدنا رسولنا الحبيب كما فقده إخواننا من أتباع موسى وعيسى.

وفي الآية السادسة يوضح سبحانه بعض المسائل المخصصة للمسلمين مثل الوضوء. ذلك لأن الماء لم يكن متاحا للناس بالوفرة التي أتيحت للمسلمين ففرض الله تعالى الوضوء وهو تابع لإكمال الدين وإتمام النعمة. وقد بين الوضوء دون الصلاة لأن الصلاة عادة دينية إبراهيمية يعرفها كل أصحاب الديانات الثلاث ولكن قد يكون وجوب الوضوء بالكيفية التي نأتي بها خاصا بالمسلمين وتابعا لتكامل النعم. وهكذا الغسل. بالطبع أن وضوء اليهود وغسلهم مشابه جدا لنا مع فروق بسيطة في الترتيب. ولا أدري مصدر الوجوب لديهم فهل هو التوراة المنزلة من السماء أم التلمود وغيره من كتبهم. كلما أظنه بأن الوضوء صار واجبا حتميا بعد نزول القرآن، ولذلك وضحه الله تعالى في كتابه الكريم. وهناك من يقول بأن الصلاة مرئية للناس ولم يكونوا بحاجة إلى تعليمهم ولكن الوضوء يأتي بها كل شخص في منزله غالبا فلزم بيانه. إنه رأي جميل.

وفي الآية السابعة يعود سبحانه إلى عبيده ليذكرهم بأن ما يأمرهم به من تشريعات فهو تكريم لهم ليعرفوا كيف يتجاوبوا مع الطبيعة المحيطة بهم. ولذلك سوف يشعر كل من يعلم بأوامر الله تعالى وحده دون غيره بأنه أصبح أكثر مرونة مع الطبيعة فيشعر بالفائدة ويتقبل تشريع ربه ويستفيد منه وهو يعني بأنه وافق على ميثاق ربه. وهذا الأمر واضح لمن يفكر، فالمسلمون الذين اجتنبوا لحوم الخنازير يشعرون بالاشمئزاز منها وهكذا اليهود وهو يعني قبولهم لتشريع ربهم وتوقيعهم لمواثيقه. هذا هو سر التشريع العظيم ولذلك لا يجوز أن نعتبر أي تشريع خارج من القرآن تشريعا حقيقيا بل هو بشري لا يفيدنا يوم القيامة وليس ملزما لنا. لا يحتاج الناس فعلا إلى الاهتمام بالروايات النبوية فحلال محمد لو ثبت ليس حلالا لهم وحرامه لو ثبت ليس حراما عليهم. كان هناك للرسول أحكام مؤقتة مثل الأمر بالخضاب الذي خالفه ابن عمه علي بن أبي طالب كما نقرأه في نهج البلاغة باعتبار أن الخضاب حكم اعتباري ليوم ضعف المسلمين. على المسلمين أن يكتفوا بالقرآن بعد أن يسعوا لمعرفته حقا ثم يعودوا إلى برلماناتهم وتجمعاتهم للتشريع وليس إلى كتب التراث. لم يتعهد ربنا بأن يحفظ لنا أحاديث نبيه كما يقولون ولكنه تعهد بحفظ القرآن. إن المسلمين يتبعون علماءهم الذين يحددون لهم الصحيح من السقيم وليسوا أتباع رسول الله كما يدعون في عودتهم إلى أحاديث السلف. لا زال المسلمون يصححون أحاديث النبي لأنها من إفرازات البشر ولا ارتباط لها بالوحي ولا بالسماء.

مما لا شك فيه بأن ما يلتزم به الإنسان بنفسه فهو ملزم له يوم القيامة ولذلك يتحدث ربنا دائما عن المواثيق. فالذي ينقلونه عن الرسول حتى لو كان صحيحا ولكنه خارج الميثاق القرآني فهو ليس ملزما لنا. لكن حكم البرلمان الذي انتخبه الناس ملزم لأولئك الناس لأنه يمثل التزامهم الشخصي فعلا. ولذلك ليس للمعروفين برجال الدين مفتين أو مراجع أو غيرهم أي دور في فرض آرائهم على الناس ولا قيمة لآرائهم إلا بالنسبة لأنفسهم باعتبارها التزامات شخصية. وليس لهم أن يحملوا أوزارنا بنص القرآن فلا يجوز التمسك بأقوالهم وهي كلها تعتبر آراء شخصية. هذا ما نعرفه من القرآن الكريم.

بحث مختصر حول مفهوم الكلمات في الكتاب الكريم:

كثيرا ما نرى القرآن يتحدث عن الكلمات ويهتم بها فلنمعن فيها مستكشفين معناها من القرآن نفسه وهو الكتاب الذي يفصل ويشرح نفسه والحمد لله تعالى.

قال تعالى في سورة البقرة: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37). وقال فيها أيضا: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124). ولو ننظر إلى تفاسير المفسرين فكأنهم يقولون بأن الله تعالى تلقى من آدم كلمات فتاب عليه وبأن إبراهيم أتم كلمات الله تعالى فعاد إليه الله تعالى ليجعله إماما. حتى أن البعض ومنهم الطباطبائي على استحياء يذكرون قراءة غير صحيحة من كتاب الله تعالى بأن آدم مفتوح والكلمات مضمومة وهو غير صحيح البتة. كل الكلمات في القرآن منسوبة إلى الله تعالى نفسه فهو يبليهم بالكلمات أو يمن عليهم بها وهو سبحانه نفسه الذي يكمل الكلمات وليس آدم ولا إبراهيم ولا غيره. وموضوع الكلمات أكبر بكثير من أن يتناولها الكتاب والمؤلفون من البشر ثم ينسبونها إلى رسول الله عليه سلام الله تعالى. والغريب أن العلامة الطباطبائي وكعادته تعرض للآية 37 أعلاه بصورة جميلة ومعقولة ثم عاد إلى الأحاديث والروايات المفتراة على نبينا وترك عقله وأضحى يشرح القرآن الصحيح بالأحاديث المشكوكة. ونقل بعض مقاطع التوراة المحرفة وهي أحسن بكثير من الأحاديث التي رواها عن السلف. إن مقاطع التوراة قريبة جدا من القرآن الكريم وبها القليل من التدخل الخاطئ من قبل كتبة التوراة البشرية. ومن المضحك أن يعود العاقل إلى الأحاديث ليضيف بها مفاهيم إلى مفاهيم القرآن. فكأن جعفر الصادق وعلي الرضا أو حبيبنا المصطفى حضروا خلق آدم وعرفوا عنه ما لم نسمعه لا من القرآن ولا من التوراة.

واقع الأمر أن آدم تلقى من ربه كلمات وهذه الكلمات المنزلة على آدم تدل على أن الله تعالى قد تاب عليه. فلو لم يتب عليه فهو سبحانه لا يمكن أن ينزل عليه الكلمات.

وأما إبراهيم فإن إمامته عليه السلام كما توضحه آيات البقرة هي إمامة مكة في الواقع ومكة مكان دعا الله تعالى إليها البشرية جميعا ولذلك سمى إبراهيم إمام الناس ولم يسمه إمام المسلمين أو المؤمنين. وسؤال إبراهيم: ومن ذريتي، فهو ليس للإمامة كما تراءى لهم بل للتوفيق لزيارة المكان الذي بناه هو وابنه إسماعيل. إنه طهر مكة وبنى بناء الكعبة كرمز لمكة. وتطهير مكة يعني تذليل الصعوبات أمام الزائرين بتنظيم الطرق وتسطيح الأرض وإزالة الصخور التي بقيت بعد البكِّ الكبير في ذلك المكان. وإبراهيم يحب أبناءه وأحفاده ويدعو لهم دائما فكان يتمنى أن يكونوا جميعا من الحجيج تلبية لدعوة ربهم ليمنحهم الله تعالى المزيد من الكرامة والغفران. إنه بدأ بتسطيح المكان الذي أصبح في ما بعد مسجدا هو المسجد الحرام وهو بيته الذي قال سبحانه في شأنه “مقام إبراهيم” ويعني مكان إقامة إبراهيم. لقد جاءت كلمة المقام أربع مرات في القرآن نصفها بفتح الميم والأخريان بضم الميم. وكلها تعني المنزل والبيت؛ سواء المقام المحمود أو خير مقاما وأحسن نديا أو ساءت أو حسنت مُستقرا ومُقاما.

وحتى نتحسس معنى الكلمات بدقة أكثر ذرونا نلقي نظرة خاطفة إلى بعض الموارد الأخرى لذكر الكلمات في الكتاب العزيز. قال سبحانه في سورة الأنعام: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34). الكلمات هنا تمثل وعد الله تعالى بأن ينصر رسله وقد نصرهم جميعا ولكن بعد أن أتموا الصبر الذي أمروا به. وقال سبحانه في الأنفال ما تشابه آية الأنعام: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8). يريد الله تعالى لعبيده آنذاك أن يحضروا معركة كبيرة بخلاف ما تراءى لهم قبل أن يقصدوا المكان فينصرهم الله تعالى ولكنه سبحانه في نصره يحق الحق ويبطل الباطل. ذلك لأن المشركين سوف يستيقنون بأن محمدا منصور من عند الله تعالى فيتجلى الحق لهم بالنصر الإلهي. وجاءت الكلمات بنفس المعنى في سورة يونس: فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82). فأظهر الله تعالى الحق جليا حينما نصر رسوله موسى ضد كل الأقباط ملكا وحكومة وشعبا.

ثم إنه سبحانه يسمي النصر العلمي المقرون بالفوز بالرضوان تجليا لكلماته. قال تعالى في سورة يونس أيضا:أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65). فقد وعد الله تعالى المؤمنين بالنصر على مخالفيهم في الدنيا وبالفوز بالرضوان في الآخرة. ويكمل الله تعالى الآيات هكذا: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69). فليس في الآيات أي ذكر للنصر العسكري وإنما نصرهم على المخالفين من الذين يخضعون لغير الله تعالى.

لننتقل إلى المفرد وهو الكلمة ونرى كيف يتعامل القرآن مع الكلمة وما معنى الكلمة الصادرة عن الله تعالى. قال تعالى في سورة الأنعام: أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116). يذكر سبحانه الكلمة والكلمات في الآية 115 أعلاه. وحينما نمعن فيها نجد بأنه سبحانه سمى القرآن المفصل والمذكور في الآية السابقة سماه كلمة، ثم تحدث عن حقيقة كبيرة وهو أن لا مبدل لكلمات الله. ولتتأكدوا بأن المقصود هو الكتب السماوية نقلت الآية 116 حيث يقارن سبحانه بين ما ينزله الله تعالى فهو الحق بلا ريب وبين ما يقوله الناس وأكثره ظن و خرص فالعاقل يتبع اليقين ولا يورط نفسه باتباع المظنون.

ولنرى معنى آخر للكلمة الصادرة عن الله تعالى. قال سبحانه في سورة يونس: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19). إلى أن يقول سبحانه: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34). ما هي الكلمة التي سبقت من ربك وما هي الكلمة التي حقت على الذين فسقوا؟ سنتحدث عنها بعد قليل.

ولا نريد أن نتوسع أكثر من ذلك ونترك مسألة المسيح وكيف هو كلمة وكذلك الكلمات التي لا تنفد ولو كان البحر مدادا وأشجار الأرض أقلاما.

لننظر ما الذي يجمع الكلمة والكلمات في الآيات التي ذكرناها إلى الآن بصدد فهم المعنى. كل الآيات تصر على أن ما يصدر من الله تعالى حق لا بد منه وسوف يتحقق ولا مناص من تحقيقه. فتشير في الواقع إلى تقدير رب العالمين. إنه يعتبر تقديراته كلمات. فهو يزن كل شيء ثم يقدر لذلك الشيء الموزون أهدافا يرتب على أساس تلك الأهداف تقديراتَه المستقبلية لحركة وتطور ذلك الشيء. فحينما رأى ما صدر من إبراهيم من خضوع حقيقي ومثابرة وسعي دون توان وكذلك رأى منه إخلاصا وحبا لله تعالى ولخلقه ولأولاده الذين أنعم الله عليه بهم إلى ما لا نهاية أعطاه إمامة مكة. رأى الله تعالى فيه القوة والشهامة على أن يسعى لإعداد مكة لتكون مزارا لأهل الأرض باعتبار أن مكة مقيدة عنده ضمن الآثار القديمة التي يجب الحفاظ عليها دون أي تساهل. فالكلمة هناك تمثل النعمة التي أفاضها الله تعالى على إبراهيم لتمكينه من أداء دوره وتلتها كلمة وكلمة أو تقدير بعد تقدير حتى تمت تقديراته إلى تعيينه إماما. وهو في حد ذاته تقدير للمستقبل أيضا. فقد قدر الله تعالى لإبراهيم الكثير من الاختبارات التي أبلاه بها واحدة تلو الأخرى حتى وصل إلى اختباره بالإمامة. فكل النعم تمثل لإبراهيم اختبارات يُثاب عليها يوم القيامة. وكل النعم تمثل قضايا سبق أن قدرها الله تعالى لما كان يرى من إبراهيم من تجاوب مع تقديراته الأولية. والله تعالى يزن كل شيء وزنا دقيقا قبل أن يقضي بحصول الشيء.

ولو تتتبعون كل الآيات المذكورة فسترون بأن كلها تتحدث عن تقديراته سبحانه وتعالى والذي قدره للفاسقين من تمكينهم للفسق كان صحيحا فقد فسقوا فعلا كما يمكِّن لبعض الفاسدين أن يصيروا خدما في الحانات والبارات مثلا، فيذهبوا إليها بكل سرور لأنهم فاسقون. وهكذا يحق كلمته على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون، فهم فعلا لا يؤمنون. وهو سبحانه لا يكتفي بتقديراته بل يفسح المجال لهم ليؤمنوا ولكنهم لا يؤمنون فعلا. لقد قدر لفرعون أنه لا يؤمن فأباح له الدنيا ووسع له في الحكم ولكنه لم يتركه بل بعث له موسى وهارون ليدعوانه بكل إخلاص. لكن الأحمق أثبت لهما ولمن رآه بأنه زنخ القلب فاسد الضمير لا يبالي حتى بقتل الذين رباهم بيده لو أنهم وقفوا دون شهواته في السيطرة الظالمة على شعبه. هناك جعله الله تعالى مثالا لكل ملوك الأرض ولكل أصحاب القدرات فيها. ففرعون كان محاطا بمجموعة قوية من علماء البلاط مثل قارون أو برئاسة قارون والسياسيين بزعامة هامان وكذلك كبار الموظفين المتمرسين. وحينما قدر الله تعالى لعباده المرسلين أن يخوضوا عباب الدعوات الخطيرة ضد مصالح الزعماء فإنه سبحانه وزن كل شيء بدقة وساعدهم ضمن نظام الطبيعة وانتصروا على أعدائهم في النهاية. وما كان المعاجز إلا آيات ضرورية تساعدهم على بعث الطمأنينة في قلوب أتباعهم ولو نلاحظ فالحركات الطبيعية أكبر وأكثر بكثير من الموارد الصغيرة جدا التي أبدى الله تعالى فيها بعض تجلياته ليطمئنوا فقط.

والكتب السماوية بما فيها القرآن تقدر مستقبل الناس وعلى أساسها تبعث لهم التشريع المناسب لمستقبل حياتهم كما تذكرهم بما يفيدهم من قصص الماضين دون التوسع في تلك القصص التي قد تضر بهم إن لم تكن مقدرة تقديرا وافيا. وحينما يقول سبحانه لنبيه لا مبدل لكلماته، فهي ليست باعتبار قوته وقهره بل باعتبار حكمته وعلمه بحقائق النفوس وبحقائق العالم المحيط بهذه النفوس. فكلها كلماته وتقديراته الموزونة بكل دقة والعلم عند الله تعالى.

لكن المشكلة الكبرى لدى البشر أنهم بمختلف طبقاتهم وأزمانهم حينما يفارقوا الأنبياء وهم الوحيدون المتصلون بالوحي فإنهم يتبعون شهواتهم شيئا فشيئا بمساعدة الشيطان. إن الباحث المحقق يرى الشيطان متجليا في كل الذين ورثوا الديانات السماوية الثلاث كما يراه متجليا في الديانات البشرية المعروفة بيننا بغير السماوية مثل الزرادشتية والهندوسية والبوذية و ديانة السيخ وغيرهم. لاحظت كثيرا بصمات الشيطان على أعمال سلفنا كما لاحظت التشابه الكبير بينهم وبين المسيحيين واليهود بعد أن فقدوا أنبياءهم. ولا ضير أن نتمثل بما يفيد القارئ الكريم في خضم هذا البحث الذي أصبح طويلا أكثر مما أردته. تلك هي مشكلة الاهتمام بالناس وبذكر فضائلهم وتخيل العظمة والرهبة في وجودهم. فكلما رأوا منحة إلهية ظنوا بأن الله تعالى اختارهم دون بقية خلقه ليكونوا زعماء جنات النعيم وكأن في الجنة زعماء مثل الدنيا. إن جمال الجنة بأن لا سيادة فيها ولا زعامة ولا أمراء والأمر كله لله تعالى. سيشعر كل أهل الجنة بأن الله تعالى يديرهم مباشرة فيدركون السيادة الحقيقية. لكن كتب البشر جميعها تصر على أن الأنبياء مثلا يسودون غيرهم وهو كلام سخيف غاية السخافة وتدل على أن من قاله لم يفكر في حقيقة القيامة وفي حقيقة الآخرة. ترى كل فرقة وكل أصحاب ديانة يظنون بأن أنبياءهم أسياد بقية الأنبياء ولا يفكرون في كيفية تحقق ذلك. كيف يسود موسى من سبقه ومن أتى بعده وهو غائب عنهم أو أن عيسى سيد كل الناس وهو لم ير غير مجموعة صغيرة من أهل الأرض ولم يعش طويلا. كما يظن المسلمون مع الأسف بأن محمدا سيد الأنبياء وكيف هو سيد الذين لم يعش معهم وما فائدته لهم ولما ذا لم يذكر الله تعالى ذلك وألف سؤال واستفهام؟

أتمنى أن يرمي المسلمون والمسيحيون واليهود كل كتب الفضائل في النار ويحرقوها بأيديهم. لو لم يفعلوا ذلك فلن يتحرروا من تراثهم السخيف والباطل ولن يتمكنوا من العودة إلى الله تعالى وستبقى التوراة المحرفة والإنجيل المحرف والقرآن الصحيح كتبا موسيقية يتغنى بها ويستمتع على أنغامها المتدينون من أصحاب الأديان السماوية. لقد تفنن المسلمون كثيرا في صياغة الألحان الموسيقية لكتابنا العزيز وهو شيء ممتع ولكن لن يدخلوا الجنة بتلك التلاوات البديعة ولا بالاستماع إليها. كل ما يفعلونه في هذا الصدد تمثل متعا دنيوية مباحة وأنا شخصيا أقدم عليها وأقضي وقت فراغي القليل بالاستماع إلى الذين يعزفون لنا الموسيقى القرآنية العذبة. كما أستمتع أحيانا بالاستماع إلى علماء و -حديثا ظهر- دكاترة التجويد! كلها جميلة ولكن لا تفيدنا أخرويا أبدا كما لا تصلح شؤوننا الدنيوية شأنها شأن الموسيقى الكلاسيكية لأهلها والجاز لأهله. كل هذه الأنغام لا تصلح أمور الناس لا في الدنيا ولا في الآخرة. كل كتب الفضائل تعتبر أسسا للشرك بالله تعالى وتفخيما زائدا للبشر النواقص بأنهم خلق ممكن الوجود و

 

الفضائل تعتبر أسسا للشرك بالله تعالى وتفخيما زائدا للبشر النواقص بأنهم خلق ممكن الوجود وليس لأي منهم حالة وجوب أبدا. الوجود الواجب هو الله تعالى وحده وكل الممكنات يمكن ألا يكونوا دون أن يتغير شيء. لو لم يكن موسى لصار شخص آخر نبيا دون شك. ولو لم يكن محمد لاختار الله تعالى شخصا آخر من بين أهل مكة الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس ليكون نبيا. كل هؤلاء عبيد داخل خانة الإمكان ويمكن الاستغناء عنهم وتبديلهم.

قال تعالى في ختام سورة محمد: هَا أَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38). فلو بدل القوم وهم قوم محمد فيجب أن يبدل محمدا أيضا والخطاب في الواقع له ولهم. والتهديد ليس لأنهم جميعا بخلاء بل لأن فيهم بخلاء. ويؤكد سبحانه بأن الاستبدال قطعي وكامل لو تولوا حينما ختم الآية الكريمة بقوله: ثم لا يكونوا أمثالكم. يعني ليسوا من قريش على الأقل ولعل ليسوا عربا أو ليسوا من أهل مكة. هم خير أمة أخرجت للناس لو احتفظوا بها وإلا فالله تعالى يغيرهم ولا يبالي. أرجو أن يفتح الناس قلوبهم للحقيقة ويعرفوا ربهم بأنه هو رب الشعرى وبأنه هو رب الملائكة وبأنه هو رب المجرات الضخمة المهيبة وبأنه هو الذي قام بأضخم تفجير طاقي على الإطلاق ليخلق به الكون العظيم الذي يعيش تحت ظلاله بلايين المجرات وبكل منها بلايين الأنظمة الشمسية ونحن وأنبياؤنا نعيش في إحدى أراضي هذه الكواكب الضخمة. فليس لأحد دالة على الله تعالى وهو الواحد القهار جل جلاله إن محمدا وغير محمد يبكون خوفا منه ويضطربون حينما يفكرون في ذاته وقد خافوا طيلة عمرهم العلمي ألا يغفر الله تعالى لهم ويدخلهم النار. كلهم عاشوا خائفين مرعوبين من تلك العظمة المهيبة التي لا تقف أمامها المجرات العظيمة.

فكروا إخواني وأخواتي في هذه الآية من سورة المائدة واتركوا خزعبلاتكم والفضائل الكاذبة التي اخترعها الشيطان لأنبيائنا ولأولادهم وصحابتهم: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18). هل تعلمون بأن محمدا واحد من أهل الأرض ولو أهلك من في الأرض فقد أهلك محمدا أيضا؟ وهل تعلمون بأن محمدا بشر وقد عذب الله تعالى البشر بذنوبهم أو غفر لهم ولم يستثن منها أنبياءه أبدا؟ لو فعل الله تعالى ذلك لكان ظالما وحاشاه سبحانه من الظلم. إنه لا ولن يظلم ومن الخطإ أن نقول بأن الظلم ليس عيبا على الذات القدسية. هذا الكلام الذي قاله بعض المسلمين يعني بأن الله تعالى يظلم والعياذ بالله.

وقبل الختام أعرض ما قاله المرحوم العلامة الطباطبائي في بداية تفسيره للمقطع من الآية الكريمة وما قاله في آخر تفسيره الغريب. فقال في بدايات خوضه السخيف والمطول في الآية الكريمة:

و ينتج ذلك أن قوله: “اليوم يئس الذين كفروا” إلخ كلام معترض موضوع في وسط هذه الآية غير متوقف عليه لفظ الآية في دلالتها و بيانها، سواء قلنا: إن الآية نازلة في وسط الآية فتخللت بينها من أول ما نزلت، أو قلنا إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي أمر كتاب الوحي بوضع الآية في هذا الموضع مع انفصال الآيتين و اختلافهما نزولا.

أو قلنا: إنها موضوعة في موضعها الذي هي فيه عند التأليف من غير أن تصاحبها نزولا، فإن شيئا من هذه الاحتمالات لا يؤثر أثرا فيما ذكرناه من كون هذا الكلام المتخلل معترضا إذا قيس إلى صدر الآية و ذيلها.

و يؤيد ذلك أن جل الروايات الواردة في سبب النزول – لو لم يكن كلها، و هي أخبار جمة – يخص قوله: “اليوم يئس الذين كفروا” إلخ بالذكر من غير أن يتعرض لأصل الآية أعني قوله: “حرمت عليكم الميتة”، أصلا، و هذا يؤيد أيضا نزول قوله: “اليوم يئس” إلخ نزولا مستقلا منفصلا عن الصدر و الذيل، و إن وقوع الآية في وسط الآية مستند إلى تأليف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو إلى تأليف المؤلفين بعده.

و يؤيده ما رواه في الدر المنثور، عن عبد بن حميد عن الشعبي قال: نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية و هو بعرفة: “اليوم أكملت لكم دينكم” و كان إذا أعجبته آيات جعلهن صدر السورة، قال: و كان جبرئيل يعلمه كيف ينسك.    انتهى النقل

وقال في آخره وهو يستنتج ما يريد استنتاجه من تحقيقاته الساذجة:

فمحصل معنى الآية: اليوم – و هو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم – أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التي أنزلتها إليكم بفرض الولاية، و أتممت عليكم نعمتي و هي الولاية التي هي إدارة أمور الدين و تدبيرها تدبيرا إلهيا، فإنها كانت إلى اليوم ولاية الله و رسوله، و هي أنما تكفي ما دام الوحي ينزل، و لا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي، و لا رسول بين الناس يحمي دين الله و يذب عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك، و هو ولي الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القيم على أمور الدين و الأمة.

فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصة غير تامة حتى إذا تمت بنصب ولي الأمر بعد النبي. و إذا كمل الدين في تشريعه، و تمت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين الإسلام الذي هو دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله و لا يطاع فيه – و الطاعة عبادة – إلا الله و من أمر بطاعته من رسول أو ولي. فالآية تنبئ عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، و أن الله رضي لهم أن يتدينوا بالإسلام الذي هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا بطاعة غير الله أو من أمر بطاعته.

و إذا تدبرت قوله تعالى: “وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا و من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون”: النور: 55 ثم طبقت فقرات الآية على فقرات قوله تعالى: “اليوم يئس الذين كفروا من دينكم” إلخ وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الذي يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله: “يعبدونني لا يشركون بي شيئا” مسوقا سوق الغاية كما ربما يشعر به قوله: “و من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون”. و سورة النور قبل المائدة نزولا كما يدل عليه اشتمالها على قصة الإفك و آية الجد و آية الحجاب و غير ذلك.    انتهى النقل.

أما تعليقي المختصر عليه هو أنني أطلب ممن يريد أن يراجع تفسير الميزان ويقرأ ما كتبه المرحوم العلامة من استدلالات واهية لإثبات أمر لم يشر إليه الله تعالى في أي مكان من القرآن ولم يتورع أن ينسب إلى الرسول بأنه تدخل في وحي السماء وهو مأمور وليس آمراً ورسول وليس إلهاً. نحن نعتبر القرآن كتاب الله تعالى وليس كتاب البشر. والطباطبائي مؤلف كبير كتب عشرين مجلدا في تفسير القرآن ويعرف معنى تأليف الكتاب، فكيف سمح لنفسه أن يكذب على رسول الله وكأنه هو كاتب القرآن مع الأسف. فما الفرق بينه وبين الذين يدعون زورا وكذبا بأن النبي العربي هو الذي كتب القرآن؟

والله تعالى قال في سورة القيامة: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19). فالذي جمع القرآن هو الله تعالى وليس الرسول ولا أي من صحابته وأتباعه المكرمين. والذي بيَّن القرآن هو الله تعالى نفسه الذي فصَّل القرآن في القرآن وليس العلامة الطباطبائي ليضيف ما يشاء من مفاهيم مذهبية إلى كتاب السماء. أين قال الله تعالى بأنه أكمل الدين بفرض الولاية؟ يؤكد القرآن بأن الولاية لله تعالى وليس للبشر. قال تعالى في سورة محمد: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11). وقال سبحانه في سورة الكهف: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44). أين قال تعالى بأن هناك ولاية بالمعنى الذي يقصده الطباطبائي لبشر على بشر؟ نحن أولياء بعضنا البعض ولكن الله تعالى ولي علينا لو كنا مؤمنين والولاية علينا من حق الله تعالى وحده لا شريك له.

ثم ما معنى وما فائدة ولاية علي عليه السلام الذي توفى قبل أكثر من أربعة عشر قرنا لنا نحن اليوم؟ إنه ميت ولا يمكنه أن يفيد أحدا. نحن نحبه ونكرمه ولكن لا معنى لأن نواليه. ثم إنني ما تصديت للرد الكامل على أعظم أستاذ للفلسفة المعاصرة في إيران المرحوم العلامة الطباطبائي لعدم الضرورة وحتى لا آخذ وقت القراء الكرام لمسائل قد لا تفيدهم. فهناك الكثير من الكلام حول الآية الثالثة من سورة المائدة ولا جدوى للرد على كل ما قالوا.

 

الفصل الرابع من بحث الآية الخامسة من سورة المائدة

نكرر ذكر الآية للتذكير فقط وهي من سورة المائدة: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5).

اليوم نريد فهم المقطع التالي من الآية الكريمة: وطعام أهل الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم.

نبدأ بالواو: اعتبر ها الكثير من المفسرين واو عطف دون أن يوضحوا كيفية ذلك. واعتبرها المرحوم الأستاذ محي الدين الدرويش المعاصر واو استئناف. لنناقش الاحتمالين. فلو كان واو عطف فقد يصير المعنى بأن الله تعالى أحل لنا الطيبات إضافة إلى طعام أهل الكتاب. فهل طعام أهل الكتاب من الطيبات أم ليس من الطيبات. فلو كان من الطيبات فتكون العطف على نفس الشيء وهو ليس جميلا. فهل يصح أن نقول: قال كمال شاهين وأستاذ علم النفس الإدراكي ورئيس مركز تطوير الفقه السني. كل أولئك شخص واحد فالعطف غير متحقق أصلا. ولو لم يكن من الطيبات فكيف يمكن قبول أن الله تعالى يحل لنا طعاما غير طيب؟ لو أحل الله لنا شيئا فهو طيب قطعا. فالعطف بهذا التقدير ليس صحيحا.

وأما الاستئناف؛ فهو بالتأكيد أصح من القول بالعطف التشريعي. فكما يبدو بأن المرحوم الدرويش الذي سمى تفسيره “إعراب القرآن الكريم وبيانه” انتبه إلى المشكلة التي تواجه المحقق إذا ما رام إعراب الآية الكريمة من واقع التفاسير الموجودة فقال بأن الله تعالى شرع الطيبات ثم استأنف موضوعا خبريا وهو أن طعام أهل الكتاب حل للمسلمين. ما معنى طعام أهل الكتاب حل للمسلمين؟ هل يعني ذلك بأن ما أكله المسيحيون حلال علينا كائنا ما كان أم يعني بأن الله تعالى أحل للمسلمين كلما أحله من قبل لليهود وللمسيحيين. الوجه الأول يعني بأن الله تعالى قيد تشريعه بما يفعله الناس والوجه الثاني خال من الإشكال في أصله ولكن ما فائدة ذكر ذلك؟

اسمحوا لي أن أوضح الوجه الأول قليلا. نسمع كثيرا من سلفنا بأن الرسول قال: إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي. هذا يعني بأن الرسول الذي لا يحق له أن يشرع شيئا قد وضع أهل بيته كائنا ما كانوا موضع الله تعالى أو موضع كتاب الله تعالى. الرسول بنفسه ليس كذلك فكيف يحق له أن يعين آخرين ودون تحديد في مقام فوق مقامه؟ هو عليه السلام كان مأمورا بأن ينذر ويبشر بالقرآن فقط ولكنه عين لنا أهل بيته ليقوموا مقام القرآن. أليس هذا هراء؟ فهل يمكن أن يقول الله تعالى أحل لكم الطيبات ويعينها لنا في القرآن وفي التوراة ثم يضيف بأن الطعام الذي اتخذه أهل الكتاب لأنفسهم حلال علينا كائنا ما كان ذلك الطعام كحكم مستأنف؟ هناك تضاد واضح بين الجملتين الكريمتين فلا يمكن أن يكون ذلك التفسير صحيحا.

وأرجو من أخي الكريم الدكتور كمال شاهين أن يفكر بعمق فيما تؤول إليه فهمه للآية قبل أن يستشكل على أخيه. ما يقوله أخي كمال يعني بأن الله تعالى أحل أكل المسيحيين كائنا ما كان في حين أنه أحل ما وضحه الله تعالى في القرآن فقط للمسلمين. مغزى كلام الأخ كمال هو أن المسيحي لو أكل القطة صارت القطة حلالا والمسلم لا يحق له أن يأكل القطة إلا إذا رأى أخاه المسيحي يأكل القطة. القطة حرام على المسلم ولكن لو أكله المسيحي صار حلالا. فالمسيحي مثل أهل بيت النبي أصبحوا آلهة لنا يشرعون لنا مثل القرآن. سيأتي يوم لا نحتاج فيه إلى القرآن بل ننظر إلى إخواننا المسيحيين فما فعلوه حجة علينا وهو الحق وسندخل الجنة بناء على اتباعنا لما فعله الآلهة الجدد المسيحيون!!!

وقد تصدى أخي العزيز قصي الموسوي للمسألة فأراد أن يكحلها ولكنه عماها كما يقولون. فالمثل الكويتي يقول: بغا يكحله عماها. قام قصي بتغيير معاني الكلمات العربية فقال بأن الذكر يعني استدعاء الأمر من مكان الحفظ والاسم هو الرمز القادر على ربط وتفعيل العناصر المكونة للاسم حتى يكون فاعلا والله هو القانون المسير لهذا الكون!!!

واستنتج في النهاية بأن ذكر اسم الله على الأنعام يعني اتباع الأصول الصحية في الذبح كما يفعله المسيحيون أخيرا في الغرب! قال زميلنا حسين نجم الدين بأن ذلك يعني بأن كل المسلمين وكل اليهود وكل المسيحيين من يوم نزول التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن كانوا يأكلون اللحوم المحرمة حتى انتبه الغرب قبل قرن بأن يراعوا الأصول الصحية حسب تعبير أخينا قصي فصارت اللحوم حلالا كما يأكله المسيحيون في الغرب والبوذيون في الشرق. ومع الأسف أن المسلمين لا زالوا يأكلون اللحم الحرام وهكذا اليهود!!! يجب أن نكثر من علامات التعجب فكل أنبيائنا أيضا أكلوا الحرام ولكن الأوروبيين اليوم اكتشفوا الحلال برأي أخينا العزيز قصي الموسوي حفظه الله تعالى!!!

وحتى لا يخلو ما نكتبه من بعض النكت البديعة أحكي لكم كيفية تحول الملحد أو البوذي إلى البهائية. البهائيون ليسوا مسلمين ولا يؤمنون بالقرآن ولكن لو أردت أن تصير بهائيا فإنهم مضطرون أن يعالجوا انتقالك إلى دينهم هكذا: يجب أن تصير مسلما وتؤمن بالقرآن وبالرسول ثم تصير شيعيا اثني عشريا وتؤمن بالمهدي المنتظر ثم تؤمن بأن علي محمد الباب هو المهدي المنتظر ثم تؤمن بأن حسين علي بهاء هو خليفته ثم يمكنك أن تصير بهائيا. ودليلهم القرآني على إمامة الباب هو هذه الآية من سورة السجدة: يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5). بالطبع سوف تتساءلون عن كيفية الاستدلال بالآية؟ يقولون بأن ميلاد الإمام العسكري كان في سنة 232 هجرية وميلاد علي محمد الباب كان في سنة 1235 هجرية في حدود ألف سنة بعد ميلاد العسكري. فالله تعالى دبر الأمر بعد ألف سنة ليأتي علي محمد الباب. لا تضحكوا كثيرا فالحكاية لها نهاية بديعة.

يقولون بأن علي محمد الباب الذي ادعى بأنه الإمام المهدي المنتظر وبعد أن سجن في مدينة تبريز كما أظن، كان يقول في سجنه: لا إله إلا أنا المسجون الفريد. أقاموا دينا على هذه الاستدلالات إخواني وأخواتي!! وحينما صرتَ بهائيا فأنت تنكر القرآن وتنكر رسالة الرسول محمد عليه السلام وتنكر التشيع وتنكر كل أحكام المسلمين. والبهائيون يسعون لكسب اعتراف الأمم بدينهم!!!

هو عينا ما يقوله الأخوان كمال و قصي  في تفسير الآية. يجب أن تكون مسلما تؤمن بالقرآن وتؤمن بأن القرآن هو الكتاب المقدس الذي لا يمكن أن يخطئ ثم تؤمن بأن الآية الخامسة من سورة المائدة تقول بأن المسيحيين واليهود من حقهم أن يشرعوا للمسلمين ثم تأكل لحم الخنزير ولا يحتاج إلى ذبح إسلامي فاتباع القواعد الصحية هي التي تحلل اللحم بقراً أو خنزيرا!!!

أتمنى أن ينتبه إخواني وأخواتي المكرمين بأن جملة: اليوم أحل لكم الطيبات؛ جملة كاملة عامة جامعة مانعة لا يمكن أن يضاف إليها أي شيء عدا غير الطيبات. فالواو ليست عاطفة بالمعنى الذي احتملناه لدى المفسرين الذين قالوا عاطفة ولم يوضحوا وليست واوا استئنافية. لكن ما قلته و وافقني عليه سيادة الطبيب محمد سلامه دون أن ينتبه طبعا إضافة إلى ما قاله العلامة الطباطبائي هو المعنى الملائم للمقام. قلت بأن الله تعالى لا يريد أن يشرع في هذه الآية الكريمة بل يريد بيان مننه على المسلمين ووضحت ذلك ولا داعي للتكرار. هكذا تكون الواو عاطفة للمن وليس للتشريع.

طعام أهل الكتاب: انتبه الكثير من المفسرين إلى التضادات الغريبة في فهمهم لهذه الآية فتوصلوا إلى حل أكثر غرابة. قالوا بأن المقصود هو الحبوب والفواكه وعامة النباتات وليس الحيوانات. لو كان صحيحا فهو بيان غير ضروري. حبوب السيخ والهندوس والبوذيين والكفار والملحدين والمشركين والمجوس كلها حلال للمسلمين. فما فائدة تخصيص الحبوب بأهل الكتاب. ليس هناك تشريع سماوي للحبوب من حيث الحلال والحرام. كل المشاكل في الحيوانات. ذلك لأن الحيوانات تحمل نفوسا شاعرة بل مدركة إدراكا بسيطا فلا يجوز سفك دمائها إلا لغرض مفيد ومعقول أو لدفع ضرر أو خطر. ولذلك وكما أظن ظنا قويا طبعا فإن الله تعالى يأمرنا بذكر اسم الله تعالى عليها لنستأذن من خالقها أن نسفك دماءها لطعامنا فقط.

وهاهنا مشكلة يجب الإشارة إليها ريثما نناقشها في المستقبل. هي مشكلة انتظار المؤمنين ومنهم أخونا الدكتور كمال شاهين حفظه الله تعالى، أن يقول الله تعالى لا تقتلوا الأنعام إلا للأكل. يجب أن نعرف بأن الأصل ألا نسفك الدماء إلا إذا أذن الله تعالى لنا وبالكيفية التي يسمح بها وللهدف الذي يدعونا إليه. فمثلا لو ننظر إلى إباحته سبحانه أكل لحوم الإبل. يقول تعالى في سورة الحج: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37). وههنا مسائل يجب الانتباه إليها:

  1. إن الله تعالى لا يذكر بالضبط كيفية الإماتة ولكنه يشير إليها. هذا هو دأب القرآن لأنه منزل من ربنا ورب الأنعام ورب كل شيء. والإبل من النعم ولها مشاعر فلا يحبذ ربنا أن يصرح بالنحر. وكذلك مسألة ذبح البهم وهن الأبقار والأغنام والمعز فهو سبحانه لما يصرح بقتلها وسفك دمها ولكنه يشير فقط. ونراه سبحانه حينما يأمرنا بالصيام فإنه لا يمنعنا صراحة من الأكل والشرب والتمتع الجنسي ولكنه يبيح لنا كل ذلك في أمسيات رمضان ليقول لنا بأنها محرمة علينا في نهار رمضان. إنه سمح لنا بالأكل و الشرب والجنس فلا يحبذ أن يمنعنا إلا بالإشارة. هذا هو أدب الكتاب المجيد جل جلال منزله العظيم.
  2. لن تجد في القرآن أي منع لسفك الدماء بصورة عامة إلا هذه الآية من سورة البقرة وهي تخاطب بني إسرائيل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84). لكننا نعرف بأن سفك الدماء محرم إلا فيما أذن الله تعالى له. فهل يمكن الاستناد إلى هذه الآية وإباحة سفك الدماء لغير بني إسرائيل؟ لا نريد مناقشة الآية الكريمة هنا ولكننا يجب أن نعرف بأن احترام الدم بديهي لا يحتاج إلى دليل؛ وإذا ذكر الله تعالى مثل هذا البديهي فقد يعني بأن بني إسرائيل مثلا كانوا لا يستنكفون عن سفك الدماء فأراد منعهم من ذلك وتذكيرهم بعهد طبيعي بين الله تعالى وخلقه بأن لا يميتوا أحدا فالإماتة من حق ربنا فقط.
  3. كل البشر نوع واحد وكلهم إخوان لأنهم وبصريح القرآن منحدرون من أبوين لا ثالث لهما. فتشريعات ربنا للبشر لا يمكن أن تكون تشريعات متباينة. لكنه سبحانه ولمرة واحدة قرآنيا حرم على بني إسرائيل شحوم الحيوانات وصرح بأن التحريم كان عقابا لهم ثم أباحها على يد المسيح عليه السلام فيما بعد. لكنه سبحانه يبلغ تشريعاته للبشر حينما يتمكنوا من فهم التشريع وليس قبل ذلك. قال تعالى في سورة المائدة: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ َلأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) إلى أن يقول: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32). هناك أنبياء جاؤوا قبل موسى ولكن شعوبهم لم تكن متطورة حد فهم التشريعات ولذلك لم يشرع الله تعالى ذلك الحكم إلا بعد توفر الشروط لدى عبيده.

ولذلك حينما يحرم شيئا على بني إسرائيل ثم لا يصرح بزوال التحريم فهو تحريم لكل البشر. فكل ذي ظفر محرم على بني إسرائيل وعلى كل الناس وليس خاصا بهم. وقد أحل الله تعالى بعض ما حرم عليهم وهو الشحوم وليس كل ذي ظفر.

  1. يحرص ربنا الرؤوف أن يذكرنا دائما ببعض المسائل الهامة حتى لا نضيع في خضم المسائل الكبرى في القرآن العظيم. فنراه سبحانه يؤكد بعد إباحة لحم الإبل بأن لحوم الإبل ودماءها لن ينال الله ولكن يناله التقوى من البشر. فما هو السر في هذا الكلام السماوي؟ ولذلك ذكرت بيان الآية الكريمة في نهاية هذا الفصل حتى لا يضيع القارئ الكريم.
  2. والواقع أن الله تعالى ذكر في القرآن السماح لنا بأكل النبات وبعض الحيوانات ولا يمكن أن نقول بأنه تعالى قال ذلك عبثا. قال لنا ذلك لنعلم بأنه أباح لنا أكل ذلك. قال تعالى في سورة الأنعام: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144). وضح تعالى بكل دقة ما يمكن لنا أكله وهو كل النبات دون استثناء وبعض الحيوانات التي خلقها لنا.

فلا نرى في الآية الكريمة داعيا ليشرع للمسلمين بأن طعام أهل الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم لا دخل لها بالتشريع ولا نحتاج إلى تفكير عميق لنفهم معنى الجملة الكريمة أو الجملتين الكريمتين. إنه تعالى يعني بأن طعام أهل الكتاب الذي أباحه لهم هو عين طعام المسلمين الذي أباحه لهم وهناك بعض العوائق بينهم وقد أزيلت تلك العوائق اليوم فصار المسلمون من أصل شركي يأكلون تماما مثل المسلمين من أصل يهودي أو نصراني. أرجو أن نفهم بأن اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا برسالة نبينا فإنهم يحرمون الجمل حتى يومنا هذا كما أن المسيحيين منهم يحللون لحم الخنزير حتى يومنا هذا. فكيف يكون طعامهم حلالا لنا وطعامنا حلالا لهم؟ على الأخ الكريم كمال شاهين أن يجيب على هذا السؤال قبل أن يذهب إلى استنتاجاته.

ثم ما ذا يفعل سيادته في الآيات التي تحرم أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه وهي تتعارض مع تفسير سيادته وتفسير أخي قصي للآية الخامسة من سورة المائدة. قال تعالى في سورة الأنعام محرما ومحللا: أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ (120) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121). الذين آتاهم الله الكتاب يعلمون بأن القرآن كتاب الله وقد فصل فيه ربنا الحلال والحرام. فنأكل مما ذكر اسم الل عليه ولا نأكل مما لم يذكر اسم الله عليه. وحينما يخاطب الرسول وصحابته فهو لا يمكن أن يعني القواعد الصحية الحديثة بعد خمسة عشر قرنا بل يعنى قواعد الذبح في مكة والمدينة يوم نزول القرآن.

ولكن لو سرنا بنفس الدرب الذي سار فيه سيادة الأستاذ الدكتور كمال شاهين واعتبرنا كل قول في القرآن تشريعا فعلينا أن نعتبر كل بني إسرائيل ملوكا. قال تعالى في سورة المائدة على لسان موسى ولم يرد عليه: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ (20). والواقع بأن موسى لا يريد تعيين بني عمومته ملوكا بأمر الله تعالى بل يريد أن يذكر نعم الله تعالى عليهم بأن جعلهم قادرين على إيلاد من يستحقون أن يجعلهم الله تعالى ملوكا مثل طالوت وداوود و سليمان.

أتمنى أن نتمكن بعد هذا أن ننتقل إلى مسألة الزواج في الآية الكريمة. بانتظار تعليقاتكم طبعا قبل الشروع في المسألة التالية.

وإليكم بيان الآية 37 من سورة الحج وهي مع لاحقتها: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38).

على المرء أن يعلم بأن التعامل مع الحقيقة المطلقة يتطلب المزيد من توخي الحقيقة والصدق وليس ممكنا أن ننال رضا الفياض العظيم بالمظاهر والأحاديث اللسانية وحتى الأعمال الخيرية المفيدة. وقد تظنن المفسرون ظنونا غير بليغة في فهم هذه الآية الكريمة فظن بعضهم أن المقصود هو الإنفاق بنية كسب الرضوان لننال الرضوان ولعله أجمل ما قرأته على سلفنا الطيب وعلى المعاصرين منهم ولكنه ليس بليغا برأيي. والسر في عدم بلاغتهم هو أن حديثهم يدور حول كيفية التفاعل مع النعمة ولكن حديث القرآن يدور مدار التقوى وحده ويعتبر هذا النوع من التفاعل مع النعمة مثالا للتقوى بالنسبة لمن أمده الله تعالى بنعمة المال. فالمقصود هو التقوى وليس غيره وهو مشترك بين الأغنياء والفقراء وبين المعطي والمعطى له وبين الذي يُطعم والذي يُطعَم.

نيل الله تعالى لا يعني التعرض لرحمة الله تعالى فإن كل الكائنات تتمتع برحمته فهو الرحمان دون منازع. والنيل كما قاله الراغب رحمه الله تعالى، هو ما يناله الإنسان بيده. ولذلك فالنيل لا يشمل ما يقدمه شخص لشخص آخر فالثاني آنذاك قد فاز وحظي ولكنه لم ينل في الواقع. ولعلنا نعبر عن الحظوة بالنيل باعتبار أن النائل قد تعب وأدى عملا استحق معه هذه العطية وإلا فهو ليس نائلا حقيقة إلا إذا استعملناها مجازا باعتبار انتقال نعمة أو كسب حظوة. فالمقصود هو أنك لا يمكن أن تريق دما حلالا لكسب الله تعالى أو تطعم لحما مملوكا لك لنفس الهدف. وهكذا نعلم بأن الأغنياء الذين يقدمون القرابين ويقيمون المساجد المزينة ويأتون بالكثير من الأعمال الخيرية الكبرى وخاصة في أواخر عمرهم بغرض كسب رضوان ربهم فهم سوف يخيبون قطعا. حتى الذين يسعون فعلا لإسعاد بعض عبيد الله تعالى فهم لن يحققوا هدفهم السماوي أيضا. من السهل أن نفكر في الكثير من فاعلي الخير لنراهم يقومون بما يقومون به بدافع التغطية على بعض أعمالهم التي ما زالوا يمارسونها لأنهم يظنون بأن ذلك يمثل إزالة السيئات بالحسنات وهو خطأ كبير وشائع ويروج له أصحاب المصالح من أصحاب الملابس الكبرى.

يجب أن نفرق بين حياتنا الدنيا وحياتنا الأخرى تماما لنعلم ما الذي يؤثر في آخرتنا من دنيانا. ويتناول القرآن الكريم الكثير من المسائل الدنيوية في الكثير من السور وكلها دنيوية فعلا. علمنا الله تعالى كل ذلك من لطفه وكرمه ليسهل علينا التعامل مع نظام الطبيعة في فترة الاختيار التي نعيشها للاختبار. هناك الكثير من الأعمال الطيبة التي تؤتي ثمارها دنيويا فقط ولا ارتباط لها في الآخرة. ويمكن للمرء إذا اتبع القرآن فعلا أن يكسب المزيد من المعرفة حينما يقوم بتفعيل القوانين الطبيعية لتحسين معاشه ومعاش من يرتبط معه بمصالح من أي نوع كانت تلك المصالح. بالطبع أن هناك ارتباطا وثيقا بين الحياتين من حيث أن الذي يقوم بعمل دنيوي لتعديل حياته ولكنه يخفي نفسا طيبة تسعى للمزيد من معرفة الله تعالى وتجعل هذه المعرفة نصب عينيها ليمتلئ خوفا منه وحذرا فإنه سوف يستفيد من تفاعلاته الدنيوية لصالح نفسه التي تتحول إلى نفس سعيدة تجني ثمار الأبدية والعكس بالعكس. لكن ذلك لا يعني بأن الأعمال الدنيوية كلها مفيدة لكسب الآخرة، بل يعني بأن كيفية تفاعل النفس هي التي أكسبت صاحبها الآخرة بعيدا عن العمل الدنيوي بعينه. ولو كان الأمر غير ذلك لكان الفقير مظلوما في كسب الرضوان والأمر تماما بعكس ذلك. إنه أكثر تعرضا للرضوان من المحسنين من الأثرياء. ذلك لأنهم يتمتعون بثرواتهم ولا يعلمون مدى الظلم الذي قد يكونوا مارسوه لتجميع تلك الثروة، لكن الفقير لا يملك شيئا حتى يخاف من تبعات الكسب ولو أنه قصد أمرا طيبا فإن الرحمة الإلهية سوف تتحرك قطعا لصالحه باعتبار أنه ليس من المترفين وكل فقير يستحق رأفة الغني الرحيم عز اسمه.

إن الاعتقاد بتنفع المتبرعين من تبرعاتهم مشابه للاعتقاد بأن توفيق قاتل مجرم في لحظاته الأخيرة بإطلاق الشهادتين تنجيه من العذاب الذي يستحقه. ذلك لأن الذي يتبرع باللحم هو الذي وفقه الله تعالى لأن يعيش في أسرة مسلمة تعلم منهم الإحسان فجمع ما يشاء من أموال باعتبار حبه للمال ثم قدم بعض هذه الأموال ليضمن النجاة من العذاب المحتمل يوم الحساب. وهكذا الذي يأتي بالشهادتين فهو جنا ما جناه طيلة عمره ثم خضع في اللحظة الأخيرة لعظمة رب العالمين فشهد بأن لا إله إلا الله. ولو نتصور عودة الشخص الأول إلى شبابه فسيعود إلى معاصيه بانتظار اقتراب الموت الثاني كما لو عاد القاتل حين موته إلى شبابه فسيقوم بالمزيد من القتل والتعذيب لأن نفسيتهما لم تتغير بل خافا قليلا وأرادا تجنب المسائلة المحتملة يوم القيامة وليس شيئا آخر.

ولو نلاحظ الآية التالية لها فسوف نشعر بأن المخاطبين ليسوا هم الذين يتبرعون باللحوم بل هم الطرفان المتبرع والمستفيد من هذا التبرع. إن الله تعالى خصص دفاعه عن الذين آمنوا ولم يتحدث شيئا عن الذين أهدوا إلى الكعبة وقدموا الذبائح لمن يحتاج مثلا. ثم يذكر سبحانه حقيقة علمية في نهاية الآية التالية وهي لا تختص بقوم دون قوم أو مجموعة دون مجموعة حتى أنها لا تختص بالمسلمين. المهم عند الله تعالى أن نشعر بحقيقته فكلما ازددنا شعورا بحقيقته تعرفنا على المزيد من عظمته وازددنا خوفا منه وهو مفاد التقوى. ونحتاج إلى أن نفهم المزيد من مفهوم التقوى ولكن ليس هنا. وباختصار فإن التقوى هنا عمل نفسي يقوم به المرء ليساعده على نيل فعلي لله تعالى. ونيل الله يعني التمتع بألوهية رب العالمين في مقابل خسارة الله تعالى وهو تحول النور الإلهي إلى جحيم يعذب الذي خسر الألوهية. إن من شأن الله تعالى أن ينعم ويُكرم فإذا عذب فهو يعني بأن الذي تعرض للعذاب قد خسر الألوهية بمفهومها الصحيح وتعرض فعلا للطرد والغضب. وقوله سبحانه هذا هو في حد ذاته دفاع عن الذين آمنوا في مقابل الذين يملكون الثروات  بغض النظر عن إيمانهم أو عدم إيمانهم. فأراد الله تعالى بهذه الجملة إزالة مسألة الثروة من الحظوظ الأخروية بالكامل ليشعر الأثرياء بأن ثرواتهم تزيدهم وزرا وتفرض عليهم المزيد من الواجبات التي قد تؤدي التغافل عنها أن التغافل عن الدقة في أدائها إلى الحرمان الأبدي من رحمة الله تعالى، معاذ الله من ذلك.

وجملة يناله التقوى منكم، يؤكد أن المقصود من النيل هو القيام بعمل فلم يقل يناله تقواكم. وشكل الجملة يوحي بأن المقصود أن يكون المتقي قاصدا تقديم التقوى على كل أمر آخر فيكون كل ما يفعله تعبيرا عن تأثره النفسي بالخوف والحذر الحقيقي من رب الكائنات كلها جل جلاله. وأما المقطع الثاني من الآية الكريمة الذي ذكره الله تعالى كهدف موصل للتقوى فعلا عن طريق التمتع بما سخره الله تعالى لهم من البُدْن فهو أيضا لا يعني أن نقول الله أكبر مثلا كما تراءى لبعض البسطاء. ودعنا نتمثل بمثال دنيوي طالبين الخوض في أعماق المسألة عن طريقه. فلو أن ملكا يسيطر على رقعة كبيرة من الأرض مثل ملكة بريطانيا سمعت بأن فلانا من رعاياها يحب الخيول ولكنه يخاف منها ومن تفوقها البدني عليه. فقامة الملكة بنفسها بترويض فرس من اسطبلها الخاص ليصبح ذلولا مطيعا لراكبه ثم قدمت ذلك الفرس الذي قامت بتذليله بنفسها لذلك المواطن من بين 50 مليون مواطن  بريطاني آخر. دعنا نتصور شعور هذا الشخص الذي يعرف أهمية ملكة بريطانيا وسعة حكمها وهي تقوم بنفسها بعمل يفيده هو بالذات. إنها عناية كبيرة تفوق التصور بالنسبة لهذا الشخص الذي وافاه الحظ فاهتم به  ملكة بريطانيا التي لا يمكن أن تقوم بعمل مماثل لأي شخص آخر. فلو أن الشخص لا ينظر إلى سلبيات الملكة المحترمة فإنه سوف يكبرها كثيرا وهو على حق لأنه ينظر إلى الفارق الكبير بين مواطن عادي مثله وملكة تخضع له أركان الدولة العظمى ويحترمها كل ملوك الأرض.

دعنا نوظف هذا المثال البسيط لننظر إلى خالق السماوات والأرض الذي خلق لنا خلال مئات الملايين من السنين أنعاما نتلذذ بلحومها وقد فعل كل  ذلك بنفسه دون مشاركة  أحد ودون أن يكون بيننا وبينه مصلحة مشتركة ودون أن نعرف لذة ذلك فنرجوها منه سبحانه بل فعل كل ذلك بعلمه وإرادته ليس لشيء إلا لأنه كريم رحيم. ثم سخر لنا هذه الأنعام التي هي أقوى منا كثيرا وقادرة على تطويعنا لصالحها لو شاء الله ذلك. وقد طوعتنا ملكة بريطانيا التي هي إنسانة مثلنا لنفسها فكيف بالجمل لو أراد ربه له ذلك؟ ثم إنه سبحانه لم يفرق بيننا أبدا فأمر الأثرياء مقابل وعود منه بأن يُطعموا المحرومين سألوا أم لم يسألوا. ألا يفوق عمله سبحانه التصور في قلب إنسان ضعيف يمثل واحدا من البلايين في أرض هي واحدة من البلايين في مجرة هي واحدة من البلايين من المجرات في ملك العظيم الجليل؟ ولو ننظر إلى أكل اللحم الذي يفوق كثيرا ركوب الخيل ولكن ليس بمقدور الملكة أن تقدم الأكل بهذا الشكل وبحيث يبقى فترة مع المنعم عليه ليرى نعمتها عليه كل يوم. لكننا لأننا نأكل كل يوم فإننا نظن بأن ركوب الخيل أكثر متعة من الأكل فلو حرمنا الله تعالى من الأكل في مقابل منحنا مجموعة من الخيول التي يمكن أن نستمتع بركوبها كثيرا؛ هناك وكلما نزداد جوعا نشعر بالاشمئزاز من ركوب الخيل وننتظر من ربنا قطعة من اللحم المطبوخ نأكلها ونشفي بها غليل الجوع الذي يأكل جوفنا ويهدم كيان بدننا ويرهق نفوسنا.

شكرا للجميع

أحمد المُهري

 

#تطويرالفقهالاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.