نظرية ظهور العلم 38 – نظرية نمو الادراك – تخيل صنعة الله!
نظرية ظهور العلم 38 – نظرية نمو الادراك – تخيل صنعة الله!
كان من الواضح تماما لبياجيه أن إدراك الأطفال للعالم حولهم يختلف تماما عن إدراك الكبار. وعليه, اتخذ قرارًا واضحًا بأن إدراك الأطفال يختلف عن إدراك الكبار. كانت هذه أول مرة في التاريخ يتم النظر فيها إلى تفكير الأطفال على أنه “فعلا” تفكير أطفال. كانت الفكرة السائدة قبل ظهور بياجيه هي أن تفكير الأطفال لا يختلف عن تفكير الكبار إلا من ناحية الكمية, أي أن كمية المعلومات المتوافرة لديهم تختلف عن كمية المعلومات المتوافرة لدى الكبار. أثبت بياجيه أن الاختلاف إنما هو اختلاف في “النوع” وليس في الكمية وحسب. أي أثبت أن إدراك الأطفال يختلف اختلافًا “نوعيًا” عن إدراك الكبار.
كان من الواضح لبياجيه كذلك أن إدراك الأطفال يتغير بحيث يصبح “مع الوقت” من نفس نوع الإدراك الموجود لدى الكبار. يعني هذا, طبعًا, أن “إدراك الإنسان” يتغير مع الوقت, أي ينمو. وعليه, ذهب بياجيه إلى أن إدراك الكائن البشري للعالم حوله ينمو عبر أربع مراحل, هي كالتالي:
1. المرحلة الحسية الحركية
2. المرحلة الحدسية
3. المرحلة العينية
4. المرحلة التجريدية
تشير المرحلة الحسية الحركية إلى تلك المرحلة التي “يتعلم” فيها الطفل كيف يستخدم “حواسه” وكيف “يحرك” يديه وقدميه, وكيف يقف على قدميه, وكيف يتجه يمينا أو يسارا, أو يستمر في سيره إلى الأمام, وكيف يحدد مكان صدور الصوت – في حالة صدور صوت, إلى آخر ما هنالك من أشياء يتعلمها فيما يتعلق بحواسه وحركته. يظهر هذا الأمر, بوضوح تام, إذا انتبهنا إلى ما يفعله الأطفال في هذه السن (من الميلاد إلى أقل من عامين) عندما تلفت نظرهم لعبة بجوارهم ويمدون يدهم للإمساك بها. الذي يحدث هنا (دائما وليس تقريبا) أن الطفل يفشل في “إدراك” مكان اللعبة ويمد يده للإمساك بها في مكان هي لا توجد به. يعيد الطفل المحاولة عدة مرات حتى ينجح أخيرًا في الإمساك باللعبة التي يريد الإمساك بها. الذي يحدث هنا هو أن الطفل “يتعلم” التنسيق بين ما تراه عينه وبين يده, فضلا عن أنه يتعلم “أين” توجد بالضبط تلك اللعبة.
تمتد “المرحلة الحسية الحركية” من لحظة ميلاد الطفل إلى اللحظة التي ينطق فيها بأول كلمة – وهي دائمًا (وليس تقريبا) كلمة “ماما”. تعود أهمية هذه اللحظة إلى أنها تعلن ميلاد “الإنسان”. الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يستخدم “الرموز”. من الضروري هنا الإشارة إلى أن أول كلمة يستخدمها الطفل في أي لغة من لغات العالم لا بد أن تكون كلمة تشير إلى الأم. يعود ذلك إلى أن الأم هي الشخص الملازم له طوال الوقت في هذه المرحلة. من الضروري كذلك الإشارة إلى أن الدراسات التي تمت في حقل علم اللغة تشير إلى أن الطفل يحتاج في هذه المرحلة إلى أن تتردد “أي كلمة” أمامه ما لا يقل عن مئة ألف مرة لكي يمكنه اكتسابها. تخيل, مئة ألف مرة!2- المرحلة الحدسية
المرحلة الحدسية هي تلك المرحلة التي يحاول فيها ذلك الإنسان الذي ولد لتوه (بعد أن “نطق”) أن يمارس دوره كإنسان. أي أن يسيطر على العالم حوله. تذكر هنا أن الإنسان هو المخلوق الوحيد من مخلوقات الله الذي لا يكتفي بأن “يتكيف” مع البيئة حوله بل يعمل على “تغييرها” لتتواءم مع رغباته.
هل رأيت حيوانا يحرك حجرًا ليجلس عليه؟ هل رأيت قردًا يبني عشا لعروسه؟ هل رأيت قرودًا تمسك بعصي لتضرب بها قرودًا أخرى؟ أو لتتوكأ عليها؟ هل رأيت حيوانًا يبني بيتا, ويصنع له بابا, ويدخل بيته ويغلق بابه عليه؟ الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يفعل ذلك, وهذا الإنسان الذي ولد لتوه (نطق بكلمة ماما) سوف يفعل ذلك, وسوف ينجح بإذن الله في فعل ذلك. كل ما هو مطلوب منه هو أن “يتعلم” كيف يفعل ذلك.
من الضروري هنا أن نتذكر أن الله خلق “الإنسان في أحسن تقويم”, أي أن الله لم يخلق الإنسان ثم علمه كيف يصنع المنازل, والأبواب, والنوافذ, وإنما خلق إنسانا يستطيع أن يصنع المنازل, والأبواب, والنوافذ, بل يستطيع أن يصنع ما يريد. تخيل الفرق بين أن تصنع آلة حاسبة وتزودها بأعظم برامج في العالم, وبين أن تصنع آلة حاسبة تستطيع أن تصنع أي برنامج في العالم تريد صنعه. تخيل صنعة الله! فقط, تخيل صنعة الله!
لكي يحقق الإنسان إرادة الله, إذن, عليه أن “يتعلم” كيف يصنع ما يريد. أي عليه أن يتعلم كيف يسيطر على العالم حوله. مرة أخرى, تذكر أن الإنسان هو خليفة الله في أرضه. تبين قصة نمو الإدراك قصة كفاح الإنسان في التخلص من المعوقات التي تعيق فهمه لدنيا الله وبالتالي تعيق مسعاه إلى السيطرة على دنيا الله. باختصار, تبين قصة نمو الإدراك قصة كفاح الإنسان في سبيل تحقيق مراد الله.
تبين دراسة بياجيه لنمو الإدراك لدى الإنسان وجود عدد من المعوقات التي تعيق فهم الإنسان للعالم الذي نعيش فيه. من ذلك تصور الإنسان أنه “مركز الكون” وبالتالي فالكون يسعد بسعادته, ويحزن لحزنه, ويفرح لفرحه, ويشقى لشقاءه. من ذلك, كذلك, عجز الإنسان عن النظر إلى أي موضوع نظرة كلية والحكم على الأمور بالنظر إلى جانب واحد فقط منها وعدم أخذ الجوانب الأخرى في الاعتبار. من ذلك أيضا تأسيس حكمنا على أي موضوع بناء على معطيات حواسنا, إضافة إلى قائمة طويلة من الأشياء الأخرى. يحتاج كل عائق من هذه العوائق إلى دراسته مع بعض التفصيل.
يتبع…
كمال شاهين
#نظرية_ظهور_العلم
#تطوير_الفقه_الاسلامي