يوم القيامة الجزء الخامس – الاخيرة- الفوارق الفيزيائية الاخر وعدم الملل في الجنة 2/2

يوم القيامة الجزء الخامس 8- الاخيرة الفوارق الفيزيائية الاخر وعدم الملل في الجنة 2/2

الثانية:

نحن في الدنيا نستمتع بالتخلص من الضغوط التي تنوء كواهلنا ولكننا في الآخرة نستمتع بطور آخر. هناك نريد أن نتلذذ ولكني سوف أضرب بعض الأمثلة لنعرف معنى اللذة النسبية بادئ ذي بدء ثم نتحدث عن اللذة الحقيقية. كل إنسان يدخل بلدا جديدا أو يترك بيت الأبوين فإنه يحتاج إلى مكان يستأجره ليستقر فيه. سوف يشعر بلذة عميقة حينما يحصل على المكان المناسب مع ميزانيته المالية، المكان الحاوي لما يعوزه من تسهيلات. سوف يستمتع كثيرا حينما ينتقل إلى البيت الجديد. وبعد فترة يتمكن من شراء البيت عن طريق البنك وترتيب رهن بنكي. إن لذته تزداد أضعاف ما كان عليه وهو باق في نفس البيت الذي يشعر بأنه يملك جزءا منه وبأنه يدفع نفس الإيجار ولكن كقسط من قيمة البيت. إنه الآن يشعر بالكثير من الغبطة بأنه استقر أخيرا في بيت مملوك له وبعد فترة سوف يتخلص من دَين البنك ويدخل قائمة المالكين الحقيقيين. وحينما يحين وقت أداء كامل دين البنك فإن الغبطة والبهجة لديه ولدى أهله وأبويه وإخوانه لا توصف. إنه تمكن من تملك بيت سكنه قبل أكثر من عشرين سنة مثلا. سوف يقيم عدة ولائم بأنه صار مالكا للبيت ويتمنى أن يموت في هذه الشقة التي أحبها وسكنها حتى اشتراها بالكامل.

إنه يعرف بأنه مقبل على الموت ولكن الاستقرار النسبي لِما تبقى من عمره يمنحه المزيد من الفرحة والشعور بأنه يحمل وزنا اجتماعيا معقولا. إنه مالك للبيت الذي يسكنه في حين أن الكثيرين من أقرانه وممن هم أكثر منه قوة وشبابا يعيشون مستأجرين في شقق الآخرين. دعنا نتصور بأن هذا الشخص يتسلم وحيا من عند الله تعالى بأنه سوف يعيش مائة عام أخرى بصحة جيدة لو رضي بأن يبقى في نفس البيت. ليس لنا أن نصف الفرحة التي تغمره إذا ما عرف بأنه سوف يعيش مائة سنة في صحة جيدة. سوف يرى جدران البيت أكثر أمانا مما مضى وبأن صبغ الجدران قد اكتسب مزيدا من الجمال ومزيدا من الرومانسية. بالطبع أن الموت ينتظره ولكن بعد حين وقد ضمن حياة صحية لمائة عام. دعنا نقارن الآن بينه وبين مشاعر أهل الجنة الموعودين بالحياة الأبدية في غمرة المتع الفردوسية التي لا تنتهي ولا تقف عند حد. حياة صحية سليمة آمنة وبدن سليم آمن من كل عيب، وإخوان على سرر متقابلين وفتيات حسناوات لم يعرفن قبله متاعب الدنيا ولم يجربن مصائب الاختبار العسير. لا يحتاج أن يفكر في الأمراض ولا في الحكومات الظالمة ولا في تقوية الحزب الذي يفيده ولا في جمع المال ولا في بناء البيت ولا في تركيبة الديكور والأثاث ولا في المأكل والملبس والمشرب. إن كل شيء متاح له ليتنعم. أضف إلى ذلك إخوانا مثل إبراهيم ومحمد وموسى وعيسى ويونس وإلياس وداود وسليمان. ورضوان من الله تعالى ملك السماوات والأرض وهو أكبر شيء في الواقع والحقيقة.

وأظن ظنا قويا بأن أكبر الأرزاق الفردوسية هو رزق العلم والمعرفة. قال تعالى في سورة مريم: إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62). بالطبع أن الرزق الذي يأتيك بكرة وعشيا لا يعني الأكل والشرب فهما متاحان متى ما شئت وأردت. أكل الصباح والمساء خاص بالسجون الدنيوية وليس بالفردوس البديع. ثم إن البكرة والعشي ليستا من أوقات الجنة. ليس هناك عشاء بل كله صباح. والرزق في قصة مريم كلها هو الرزق العلمي وليس المأكل والمشرب كما تراءى للمفسرين الكرام سامحهم الله تعالى. لو كان الرزق الذي يأتيها في المحراب مأكلا ومشربا كما تصوروا لكان الأجدر أن يأتيها يوم المخاض والولادةِ مائدةً سهلةً يسيرةً. لكن الله تعالى أعلمها على لسان الوليد الجديد بأن تهز بجذع النخلة وتشرب من السري التي تسير تحت رجلها. كانت مريم في كل يوم تأتي بباب علمي جديد فتعَلَّم منها زكريا ودعا ربه كما علمته مريم فاستجيبت دعاؤه بسرعة لم يتوقعها زكريا. فالرزق الباكر هو العلم الأولي الإبداعي الذي يصل إليه القلائل من الناس بعد تفكير طويل والعلم العشي هو العلم الذي توصل إليه الغير ولكن المتعلمين يدرسونه ويتعلمونه كما هو عليه أكثر طلاب العلم. فذان الرزقان متاحان لأهل الجنة والعلماء يعرفون قدر العلم والمعرفة ويشعرون بلذة كسب الكمال المعرفي الموجود في جنات النعيم.

هناك مشكلة في فهم لذة التحصيل العلمي التي سوف لا تزول بزوال الدنيا بل تزداد شدة وأنواعا ودقة في العالم الآخر. لكن الناس –حتى الذين يعلمون منهم- مع بالغ الأسف، لا يفكرون بأنفسهم في العالم الآخر ويكتفون بالإنصات إلى المعروفين بالعلوم الدينية. هؤلاء الإخوة ليسوا على علم عميق بالدين في الواقع، بل إنهم يتراءون كذلك. وليس صعبا معرفة ذلك، فلو ننظر إلى الكتب التي بين أيديهم فهي نفس الكتب التي كُتبت قبل مئات السنين من قِبل أناس هم أقل منهم تطورا وأقل منهم خبرة وعلما بالتبع. وفي المقابل نرى الأطباء والمهندسين وعلماء الكيمياء والفيزياء وحتى المحاماة والقانون والآداب، فإنهم يتطورون وتتطور معهم كتبهم ومؤلفاتهم. إنهم يذكرون الماضين بخير إكراما لهم ولكنهم لا يتبعونهم لأنهم كانوا أقل تطورا ممن هم في زمانهم الفعلي. هذا دليل واضح على أن الإخوة المعروفين برجال الدين يكتفون بتحقيقات الحسن البصري والبخاري وأحمد بن حنبل أو تحقيقات نصير الدين الطوسي والكليني وعلي بن موسى الرضا، رحمهم الله تعالى جميعا. إنهم جميعا سعوا لمعرفة حقائق الدين وسعوا سعيهم وعند الله مكافآتهم تبعا لنواياهم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا. لكنهم لا يعرفون شيئا عن حياتنا وحياة الأمم التي نتواصل معهم العيش في أقطار الأرض.

إننا نصلي الفجر في نيو يورك وننتقل في الظهر إلى لندن ونصلي العشاء في الرياض. نحن نركب السيارة ونجوب الفضاء ونطلع على شكل الجنين داخل أعماق الرحم. نحن اليوم وبكل سهولة يمكننا التعرف على أخطاء مسلم في حديث رضاعة الكبير وأخطاء الطوسي في حديث صلاة الغدير وأخطاء الإمام مالك في عدة الحمل.

والعلم ليس بابا ضيقا من البهجة فهو بأبوابه الوفيرة الواسعة مدعاة للفرح والحبور للذين دخلوا الجنة كأصحاب لها. وكما نعرف بأن هناك الكثير من المستلزمات التي تساعد على المعرفة كما نراها اليوم في الجامعات ولن يبخل الله تعالى على الصالحين من عبيده بكل ذلك وبالمزيد. وهناك النشر والموسيقى وفنون الرقص والرسم والنحت والشعر وأنواع الصناعات اليدوية والكثير من الحرف الجميلة مثل النجارة والصباغة والديكور والسينما والتصوير وكل الفنون البديعة والجميلة. كل ذلك في متناول يد الفردوسيين دون أي تحديد أو اقتصاد، فكل شيء موفور بلا حساب ولا حديث عن الإسراف والتبذير ولا الندرة ولا أية حالة سلبية أخرى. فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ولدى الله تعالى المزيد من المتع التي لا نعرف عنها شيئا.

لم يحدد الله تعالى متع الجنة ولكنه سبحانه حدد متع الدنيا التي لن تنتقل إلى الجنة وهي كما ذكرناها في الآية 14 من سورة آل عمران. تقتصر تلك المتع المعقولة المخصصة للدنيا دون الآخرة على الشهوة الجنسية المعروفة دنيويا والتكاثر وتملك الذهب والفضة والتفرد بالمراكب المسماة باسم أصحابها وكذلك الرعي والزراعة. هذه المتع الدنيوية بحاجة إلى الصيانة والحراسة والسعي للحصول عليها وكثيرا ما تخسرها فتشعر بالحزن على تلك الخسارة. هذه المتع متعبة لكل شخص في الواقع لأنه يشعر بالواجب تجاه كل منها فشريكة الحياة أو شريكها بالنسبة لكل من الزوجين جميل وممتع ولكنه مكلف ويصرف الفرد الكثير من وقته وإمكاناته لإرضاء الذي يعيش معه ويشعر كل منهما بمسؤولية كبيرة لا تنتهي عند حد. إن مرض الشريك يتعبه ويتعب شريكه وعاهته يزعجه ويزعج صاحبه وموته يؤلم صاحبها أو صاحبته كثيرا. هناك لكل منهما أهل يشعر المرء بأنه مسؤول عنهم أيضا ولا يمكن أن يرضى الشخص الطيب بأن يعيش مرتاح الخاطر وجاره أو قريبه أو قريب زوجته أو زوجها مريض أو فقير أو يعيش في خوف.

وأما الأموال والثمرات فإن تحققت فسوف تأتي ببعض المتعة لك ولطالما انتهت السنة وأنت لا تجبي ثمرة ولا تجني قطافا. إن ثمار المزارع ونتاج المصانع محدودة ومعرضة لكل شروط المنافسة ومعرضة للآفات والفساد وكل مصائب الدنيا. وفي النهاية فأنت تتخرج من المزرعة الشخصية فلاحا أو من المرعى الشخصي راعي غنم وكفى! فهل يتشبع طموح الإنسان الذي يحمل نفسا كبيرة جدا وقادرة على استيعاب الكثير من العلوم والفنون وعلى كسب رضوان الله تعالى وجنات الأبدية أن ينتهي في الدنيا وهو يهش الغنم أو يبيع الحبوب والزرع؟ ولهذه الأسباب يشعر كل شخص بأن الحياة الطويلة تضره. إنه يقيس النشأة الثانية التي لا مفر منها بالمقاييس الدنيوية فيتظنن بأن جنات النعيم مملة مثلا. لكن الذي يفكر في العلم وكسب مراتب الكمال فإنه يرى بأن الحياة الدنيا قصيرة لا تخوله لإصابة طموحاته. إنه ينتظر الجنة بفارغ الصبر حتى يروي ظمأه في المزيد من العلم والمعرفة ودرك كنه الوجود والاطلاع على حقائقه. نحن هنا نتمنى أن نعرف شيئا عن الكواكب المحيطة بنا ولكننا لو دخلنا الجنة فسوف نزورها ونتواصل مع أهلها بإذن الله تعالى. كل مظاهر الخمول غائبة عن الدار الآخرة. فالشيب والكسل والنوم والموت والمرض والعاهة والسرقة والكذب والحكم الجائر وكل مظاهر الظلم والجور، كلها من تبعات حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث. 

لكن الآخرة فهي دار الرضا للجميع والله تعالى سوف يقوم ببسط القسط والعدل فيشعر كل فرد بأنه لم يُظلم من الغير ولكنه هو الذي ظلم نفسه ولم يعبأ بآخرته وصرف كل إمكاناته في الملذات الزائلة ونسي الدار الآخرة. أضف إلى الرضا من حكم الله تعالى فإن كل شيء متاح بوفرة وكثرة لجميع أهل الجنة بمختلف درجاتهم. حتى درجات الفنادق المجانية يمكن أن تكون متفاوتة تبعا لدرجة الإنسان الفردوسي وكذلك درجات الطائرات والقطارات والسيارات المختلفة وحتى وسائل الزينة والراحة والملابس فهي كلها مرتبة ضمن درجات تمنح لكل مجموعة ما يناسبها من تحف الجنة وأدواتها وتسهيلاتها. فلا تحتاج إلى مال لتشتري شيئا وليس مسموحا لمن هم في الدرجات العادية أن يتنعموا بمثل من هو أعلى منهم رتبة وكانوا أكثر منهم تقوى وإيمانا في الحياة الدنيا. قال تعالى في سورة الإسراء: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21).

والخلاصة أن الموت والشيب وفقدان طاقة الشباب والرضوخ لسلطان النوم ليس مطلوبا للإنسان ولكنه مضطر لها. وهذا لا يعني بأن الإنسان سوف يطلب الموت لو بقي على شبابه ألف سنة مثلا. كلا، سوف يتمنى المزيد من العمر ليستمتع بالحياة ومقوماتها. وحتى العجوز يتمنى البقاء على قيد الحياة مع أنه فاقد للكثير من موارد المتعة الدنيوية، لكنه يشعر بأن الحياة خير من الموت. فكيف بحياة يبقى فيها الإنسان نشطا قويا دون أن يفقد أي مظهر من مظاهر الشباب والجمال ودون أن يخسر أياً من مقتنياته ومتعه ودون أن يشعر بالإسراف أو بأنه شبع وحوله بطون غرثى وأكباد حرّى؟

نهاية القسم الخامس من يوم القيامة ويليه ملحق بأحوال صحابة الرسل ويبدأ بأنواع العذاب الأخروي.

احمد المُهري

كتبت الأصل في أبريل 2007 احتمالا 

#يوم_القيامة

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.