يوم القيامة الجزء الخامس 5- وجاهة الرسول موسى كما في القرآن الكريم
يوم القيامة الجزء الخامس 5
وجاهة الرسول موسى كما في القرآن الكريم:
وقد ذكر سبحانه في القرآن الكريم وجيها آخر وهو موسى. قال تعالى في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا (69). والوجيه عند الله تعالى يعني الوجيه في الآخرة ولا تعني الوجيه في الدنيا. إن تعبير “عند الله” في القرآن يشير إلى فقدان الإرادة ولذلك فإن الملائكة عند الله دائما باعتبار أنهم فاقدون للإرادة. أو بأنهم لا إرادة لهم وهم مدركون فهم عند الله إذن. ونحن في الدنيا لا نُعتبر عند الله تعالى بل نحن تحت سيطرة الله تعالى هنا، لكننا بعد الموت سنكون عند الله فعلا.
صحيح أننا في الآخرة نتعرف على وجاهة المسيح في الدنيا ولكن الوجاهة في الدنيا قد لا تعطي معنى آخر غير ما قلته في المقطع السابق. وأما وجاهة موسى فهو عند الله تعالى والمقصود بأنه كذلك في منطق رب العالمين ولكن موسى لن يُعتبر كائنا عند الله تعالى إلا بعد الوفاة. هناك احتمال أن يسأل سائل عن السبب في ذكر هذين النبيين بالوجاهة فقط وليس بقية الأنبياء؟ هذا استفسار يستحق الجواب، فلو ننظر إلى مزية النبيين الصالحين موسى وعيسى بين بقية الأنبياء، لنراهما الوحيدين الذين كانا يقومان بأعمال إعجازية في الكرة الأرضية. وقد أثبت موسى أمام فرعون ووزرائه بأن ما يأتي به من حركات فهي منه وليست من العصا، وقد عرف أصحاب فرعون ذلك حينما أخرج يده وهي تشع نوراً لتكون حجة عليهم أمام ربهم. والموضوع مشروح قرآنيا في سورة طه. وأما المسيح فإنه كان ينفخ في الطين فتطير بإذن الله تعالى. هذا يدل بأنه هو أيضا كان يحمل طاقة خاصة قادرة على فعل الغرائب والمعجزات.
وليس لبقية الأنبياء الكرام هذه الخاصية. وأما السبب في عدم ذكر أية وجاهة دنيوية لموسى وهو مثل المسيح يحمل قوة ذاتية فهو بأنه عليه السلام قد تزوج من قبل وأنجب ولا لوم عليه كما لا لوم على الباقين الذين تزوجوا كما يشاءون بل بأمر الله أحيانا. وبالطبع يجب أن نعرف بأن الله تعالى حينما يأمر بالزواج لغرض سياسي أو اجتماعي مثلا كما فعله مع نبينا المصطفى فذلك لا يعني أنه سبحانه يحبذ العمل الجنسي. لقد سمى الله تعالى آدم وحواء زوجين وهما لا يعلمان شيئا عن الحركات الجنسية. إن مفهوم الزوجية عند الله تعالى مختلف تماما عما دأبنا عليه. وقد قلت لتلاميذ القرآن الكريم حينما كنت أفسر سورة طه بأن الله تعالى لم يتحدث بعد توجه موسى إلى النار في طور سيناء أيَّ حديث عن زوجته. واحتملت السبب بأن موسى قد انغمر في الطاقة الربوبية حتى اكتسب تلك الخاصية الإعجازية ولا يمكن لمن يصل إلى تلك المكرمة الكبرى أن يمارس الجنس. ولعل الله تعالى تعمد عدم ذكر شيء عنها بعد ذلك الموقف لعلنا ننتبه لهذه الخصوصية. وأنا واثق تقريبا بأن موسى فقد القوة الجنسية بعد ذلك المس المهيب. ولو ننظر إلى نبينا الذي رأى ربَّه بشكل نور كما رأى موسى ربَّه على شكل نار وقد رأى كل منهما ذلك المشهد الممتع والمهيب مرتين، ولكن نبينا لم يدخل حقل النار أو النور كما أمر سبحانه موسى به. والله يوضح ذلك في سورة النجم هكذا: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11). فيؤكد سبحانه بأنه قاب قوسين ولكن موسى دخل النار إلا أنه دخلها من زاوية خاصة لألا يحترق بالنار العظمى. قال سبحانه في هذا الشأن بسورة مريم: وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52).
كما يؤكد الذات القدسية بأن المرة الثانية لنبينا كانت عند سدرة المنتهى وهي منطقة قريبة من المسجد الأقصى احتمالا. هناك أيضا غشي النور السدرةَ ولم يغش رسولَ الله نفسه. قال تعالى في نفس سورة النجم: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17). وكلا الرؤيتين قلبيتان في الواقع كما أكد سبحانه تلك في الآية 11. ونقصد بالرؤية القلبية بأن النبي رأى الله بقلبه لكن النور كان حقيقيا ورؤية النور المشع كانت بالعينِ، والعلمُ عنده سبحانه. لم يكن نبينا بحاجة إلى مثل تلك المعاجز فلم يتعبه ربه بتلك القوة الهائلة بعكس موسى الذي كان محتاجا لها في رسالته، وهو مع كل ذلك لم يفلح في إقناع فرعون وحاشيته ولا الشعب القبطي. وما يقوله بعض قليلي العلم بأن الآيات تدل على المعراج فهم غير بليغين. المعراج تعني الصعود والله تعالى يقول نزلة أخرى ولم يقل سبحانه صعودا أو عروجا آخر. هداهم الله تعالى وإيانا إلى طريق الحق والصواب، آمين. ولعلنا نتعرف في المستقبل على سر عدم الإنجاب لدى رسولنا بعد وفاة أمنا خديجة.
وخلاصة الأمر أن المعاجز لم تظهر على يد أي نبي غير موسى وعيسى وكان ظهور المعاجز مشروطا بعدم ممارسة الجنس كما نرى. فموسى ظهرت المعجزات التسع على يده بعد أن ترك الجنس وعيسى كانت القدرة لديه لأنه لم يمارس الجنس قطعا. ولو ننتبه إلى إحدى الآيات الكريمة التي يوبخ الله تعالى محمدا فيها بالشكل التالي وهي في سورة الأنعام: وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35). فهي مثل قولنا لمن لا يعرف عواقب أمر يطلبه: لا تكن جاهلا، ونقصد بأنه لا يعرف مخاطر ما يطلبه ولذلك نسِمُه بالجهل إن استمر يطلبه.
ومثلها ما قاله سبحانه له في بدايات سورة طه: مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إلى أن يقول سبحانه: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ ِلأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10). بالطبع أن الرسول ما كان يشعر بالشقاء حينما يُكثر من الصلاة كما تراءى لبعض علماء الحديث من السنة والشيعة بل كان يشعر بالراحة النفسية وبالبهجة والحبور. وما أضافه هؤلاء المحدثون بأن الرسول كان يتعب نفسه عمدا في الصلاة فهو محض خيال خال من الحقيقة وقد تكلف أخونا العلامة الطباطبائي مشكورا بصرف الوقت على ردهم وإثبات خطئهم. ولكن السورة في الواقع جاءت لتطمين رسول الله عليه السلام لئلا يتوقع من المعارضين اليهود مزيدا من الإيمان به. شأن هذه السورة شأن سور الشعراء والنمل والقصص. وقوله سبحانه في الآية التاسعة مشابه لقولنا لنفس الشخص المحتمل في المثال السابق إن تشبَّثَ بمَن طلبَ نفسَ الشيء: هل تعرف حكاية من تتحدث عنه وما حصل له في النهاية؟ ثم يذكر الله تعالى القصة الخطيرة ويبدأ بأنه قال لأهله امكثوا. وفي الواقع أنه قال امكثوا ولم يعد أبا لهم بظني وإنما أصبحت زوجته وأولاده إخوانا وأخوات لموسى مثل بقية أقاربه وأهله حسب مفاهيمنا عن الزوجية. ذلك لأن موسى قد غرق فعلا في طاقة كبيرة تُغيِّر كلَّ كيانه وتجعله إنسانا آخر لا يشابه الناس إلا في الشكل الظاهري. وما قام به أمام فرعون والسحرة ومع البحر شاهد على ما نقول. ولو أراد الله تعالى نفس الشيء لمحمد كما كان يطلبه الرسول فكان عليه أن يقول لأهله امكثوا أيضا! والعلم عند الله تعالى.
وليس غريبا أن يقول أحد بأن الله تعالى ذكر وجاهة موسى بعد ما ذكر أحوال نبينا المصطفى مع زوجاته. وهناك مسألة غريبة أخرى وهي أن الله تعالى يتحدث عن الطلاق بالنسبة لنساء النبي أكثر من مرة والطلاق يعني الحرية من البقاء قيدَ الزوجية لشخص ما والترخيص لها بالزواج من آخر وعدم جواز فرض العضل عليها. لكنه سبحانه في سورة الأحزاب بالذات يمنع المؤمنين من التزوج بحلائل رسول الله عليه السلام بعد وفاته وبأنه ثقيل عليه وكبير عند الله تعالى. هناك شيء ما قد حصل للرسول بعد أن كان مسموحا له التطليق وقد طلق الرسول زوجته الثانية التي تزوج بها أياما قبل عائشة كما يذكره المؤرخون. أنا لا أعلم شيئا عن داخل البيت النبوي ولكني أعرف أن مقدار النور الذي أحاط بمحمد إثر تكاثر إنزال الروح القدس على قلبه قد فعل في كيانه شيئا مبهما لنا وكان الله تعالى لا يريد أن يعرف الناس شيئا عن ذلك حماية لكرامة رسوله الأمين. حقا إن مسألة التواصل مع الله تعالى واستلام وحيه حتى عن طريق الملائكة ليس سهلا. ومن هنا يمكننا أن نتصور خطورة نزول الملائكة على الإنسان ونعرف السر في أمر الله تعالى إياهم بأن يكمشوا نورهم حين المرور بهذا الموجود الحيواني الضعيف والعلم عند الخالق الكريم جل جلاله.
وبعد فهم حكاية موسى مع نور الله تعالى فإنه صار عند الله تعالى مثل الملائكة ومثلنا نحن بعد الموت ومثل المسيح باختياره فاحترم حمله لنور الله تعالى ولم يمارس الجنس بعد ذلك كما أحتمل فكان من يوم صار أكثر من غيره عند الله تعالى، صار وجيها، والعلم عند المولى عز اسمه.
يتبع …..
#يوم_القيامة
أحمد المُهري
#تطوير_الفقه_الاسلامي