نظرية ظهور العلم -28ظهور الحضارة – شمس الحضارة تشرق على الشرق 1/2

نظرية ظهور العلم -28ظهور الحضارة –  شمس الحضارة تشرق على الشرق 1/2

وهكذا ظهرت الحضارة.  هكذا سطعت شمس الحضارة في الشرق القديم.  تلك المنطقة الممتدة من جبال زاجروس في إيران شرقا إلى بداية الصحراء اللوبية غربا حيث اخترع الإنسان – لأول مرة في تاريخ الكون – الزراعة.  هنا على ضفاف الفرات قامت أول مدينة في التاريخ.  هنا قامت “إريدو”.  وهنا على ضفاف النيل قامت أول “دولة” في التاريخ.  وهنا على ضفاف دجلة قامت أول إمبراطورية في التاريخ.  هنا قامت آشور.  هنا في فارس, والعراق, وسوريا, ولبنان, وفلسطين, ومصر ولدت الحضارة.  هنا اخترع الإنسان الزراعة وهنا اخترع الحضارة.

حدث منذ سبعة آلاف عام (أو سبعة آلاف عام وخمسمئة) أن ظهر قوم لا يعرف أحد من أين جاؤا, يتحدثون لغة لا يعرف أحد من خلق الله إلى يوم الله هذا من أين جاءت.  لغة لا علاقة لها بأي لغة يتحدثها البشر الذين نعرفهم.  استقر هؤلاء الناس في تلك المنطقة الممتدة من الناصرية شمالا إلى البصرة جنوبا.  كان هؤلاء القوم هم السومريون.

استأنس هؤلاء القوم القمح والشعير.  لم تعد سنابل القمح, ولا الشعير, تنفرط وتلقي ببذورها على الأرض كما هي عادة سنابل القمح البري, بل “تعلمت” كيف “تحافظ” على حملها إلى أن يأتي السومريون ليحملوها إلى منازلهم ويفتضوها هنالك.  كان السومريون كذلك أول من استأنس الأغنام والأبقار, وأول من بنى المدن.  كانت إريدو أول مدينة في التاريخ.  كان السومريون كذلك أول من بنى الأسوار حول المدن, وأول من أنشأ الجيوش.  جيوش محترفة من رجال لا عمل لها إلا القتل.  كان السومريون كذلك أول من اخترع العجلة, وأول من اخترع العجلات الحربية, وأول من قسم الجيوش إلى مشاة, وفرسان, ونبَّالة.

لم يكن السومريون أول من بنى المدن وحسب, بل كانوا كذلك أول من بنى المدارس – ما زالت الكتب التي قام أبناء السومريين بدراستها متوافرة بأيدينا – وأول من وضع نظمًا إدارية, وأنشأ سجلات حكومية, ووضع “مدونة قانونية”, وأنشأ محاكمَ وسجونا.   كان السومريون كذلك هم من اخترع “الحساب” ومازلنا إلى يوم الله هذا نتبع نظامهم الحسابي عندما نتحدث عن الوقت.  يعود ذلك إلى أن قاعدة النظام الحسابي المتبع الآن هي قاعدة عشرية (أي أنه لا تتوافر لدينا أكثر من عشرة أرقام فقط هي الأرقام من 1 إلى 9 ثم نعود إلى 1 ونضيف صفرا) على حين أن قاعدة النظام الحسابي السومري كانت سداسية (أي أنه لم يتوافر لديهم سوى أرقام من 1 إلى 5 فقط ثم نعود إلى 1 ونضيف صفرا).  هذا هو السبب في أن أن الساعة تتكون من ستين دقيقة (أي حاصل ضرب 6 في عشرة), وأن الدقيقة تتكون من 60 ثانية, وهذا هو السبب في أن عدد الساعات في اليوم هو أربع وعشرون ساعة (أي حاصل ضرب 6 في 4).  هذا هو السبب كذلك في أن الدائرة تتكون من 360 درجة (6 في 6 في 10).  

كان السومريون كذلك أول من استطاع الوصول إلى مساحة المثلث وحجم المكعب, كما كانوا هم الذين اخترعوا النظام الحسابي الذي نستخدمه الآن والذي يستمد فيه الرقم قيمته من “مكانه” بالنسبة إلى الأرقام الأخرى.  تختلف قيمة الرقم 7 في المجموعة 837 عن قيمته في المجموعة 873, أو المجموعة 783.  يشير الرقم 7 في المجموعة الأولى إلى 7 آحاد, بينما يشير في المجموعة الثانية إلى 7 عشرات, بينما يشير في المجموعة الثالثة إلى 7 مئات.  أي أن “مكان الرقم” يحدد “قيمة الرقم”.  كان هذا اختراعا سومريا, وهو اختراع ما زالت البشرية تستخدمه إلى يوم الله هذا, وإن كان خبره لم يبلغ اليونان ولا الرومان.

لم يترك لنا السومريون اختراعات “عملية” وحسب بل تركوا لنا “قصة حياتهم كلها”.  تبين عشرات الألوف من الرقائم (ألواح الطين المطبوخ التي كتبوا عليها بالخط المسماري)  التي تركها لنا السومريون أسماء المدارس التي أنشأوها, والطلبة الذين درسوا فيها, والأعمال التي قام بها آباء هؤلاء الطلبة, وتاريخ سومر, وأساطير سومر, ومراسلات الناس لبعضها البعض في سومر.   لم يكتفِ السومريون بإقامة كل هذه الحضارة على الأرض بل نظروا كذلك إلى السماء ووضعوا خرائط للنجوم, وهي خرائط ما زالت تعيش معنا إلى الآن. 

تبين لنا الرقائم السومرية كذلك – وهذا أمر شديد الأهمية, إذ سوف يتكرر كثيرا في التاريخ – كيف تحولت “الكتابة” من مجرد اختراع لحل مشاكل مخزن الرجل العظيم إلى اختراع استخدمته البشر في أشياء لم يكن مخترع الكتابة يحلم أصلا باستخدامها فيها.  تبين الرقائم السومرية, بوضوح تام, أن استخدام هذا الاختراع العظيم قد اقتصر لعدة مئات من السنوات على تسجيل “عدد” البط, والأوز, وأرادب الغلة, في مخزن “الرجل العظيم”, والمعاملات التجارية لكبار التجار, من تسجيل ديون, وتدوين قوائم البضائع الموجودة بمخازنهم, إلى أذون صرف.   إلا أنها تبين كذلك أن هذا الأمر, في نهاية الأمر, لم يتعدَّ أكثر من عدة مئات من السنين وبعدها تم استخدام هذا الاختراع في تسجيل كل شيء.  كل شيء على الإطلاق.   حدث كل هذا حوالي عام 2400 قبل الميلاد.

إذا كانت البشرية قد أمضت مئة ألف عام ( تقريبًا) وهي تعتاش على الصيد والتقاط الثمار إلى أن اخترعت إحدى السيدات الفاضلات الزراعة.  وإذا كانت البشرية قد أمضت عشرة آلاف عام (ايضا تقريبا) بعد اختراع الزراعة إلى أن اخترعت الكتابة/الحضارة.  فإن السومريين لم يستمتعوا بالحضارة التي اخترعوها أكثر من ألف عام (أيضا تقريبا).  اخترع السومريون الحضارة/الكتابة عام 3400  وخرجوا نهائيا من التاريخ عام 2270.  حدث ذلك عندما قامت الجيوش الإمبراطورية الأكادية بقيادة سارجون العظيم بالهجوم على سومر عام 2270 قبل الميلاد.   نهض لوجال زاج جي آخر الملوك السومريين للدفاع عن إمبراطوريته إلا أن خيول جيوشه تعثرت, وعجلاتها تكسرت أمام جيوش سارجون العظيم, وهكذا سقطت سومر.   أغلقت مدارس سومر أبوابها – أو تركتها مفتوحة – ونسيها الناس ونسوا مدونتها القانونية, ونظمها الحكومية, وأسماء مدراسها, وحسابها, وفلكها, وقانونها, وأساطيرها, بل نسوا كل شيء بما في ذلك لغتها.     مرت أربعة آلاف سنة من ساعة سقوط الجيوش الإمبراطورية السومرية إلى ساعة أن استطاع أهل لندن فك طلاسم الألواح المسمارية السومرية عام 1851. 

لم يسقط الإمبراطور فقط عندما سقطت الجيوش الإمبراطورية السومرية بل سقط كل شيء. أعطت سومر البشرية ما كان لديها وخرجت نهائيا من التاريخ.     توقفت نهائيا عن العطاء.  خرجت وخرج السومريون أنفسهم من التاريخ.  كان ما حدث وكأنه “بروفة” لما سيحدث بعد.   لم يخرج محمد الثاني عشر من غرناطة بمفرده عندما سقطت الجيوش الإمبراطورية العربية أمام الجيوش الإمبراطورية القسطلية والأراجونية وإنما خرج معه كل شيء.  صلى الإمبراطور صلاة العصر وخرج من غرناطة ولم يرفع بعدها أذان المغرب أبدا.  عندما يسقط الإمبراطور يسقط كل شيء.

يتبع…..

كمال شاهين

#نظرية_ظهور_العلم

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.