الجنة ليست سبهللة – ح 3

لماذا خلقنا الله تعالى:

ظن زميلنا المرحوم الدكتور أحمد حسني عمر سعد بأن الله تعالى خلقنا لنساعد بعضنا البعض ولنصلح الأرض ونقدم خدمات كبرى للبشرية. وما يقوله أخونا الدكتور كمال هو مشابه لما قاله المرحوم الدكتور أحمد سعد أيام النقاش. مساعدة الناس وخدمة البشرية ممدوحة جدا ولكننا لم نُخلق لنخدم البشرية. إن خدمة البشرية هي ضرورة الحياة الدنيا وليس سببا للخلق. مثالها مثال إصلاح الأرض الذي يظن البعض الآخر بأنها سبب خلق الإنسان. كلا وألف كلا.

قال تعالى في سورة الذاريات: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58). ذروني أشرح الآيات باختصار فهي سر خلق الكون أيضا. أظن بأن الجميع يعلمون بأن الله تعالى لم يكن بحاجة إلى الخلق. فلماذا خلق إذن؟ حينما بدأ الله تعالى الخلق كان واضحا له عدم حاجته إليه ولكن هناك أمر آخر قد يغيب عن بعضنا. ذلك هو الشأن. إن شأن الجبار ذي القوة المتين أن يخلق؛ فإذا لم يخلق فإنه لم يفعل ما في شأنه وهو نوع من عدم الاهتمام بالشؤون. حاشاه سبحانه من ذلك. خلقنا لأن من شؤون الخالق القوي القهار أن يُظهر قوته إظهارا لشأنه. هذا الشأن العظيم يحبذ أن يقوم الخالق بالخلق ولذلك بدأ سبحانه الخلق.

وأما الشأن الثاني أو الآخَر للخالق هو أن يرى كل الكائنات خاضعة له سبحانه. هذا الخضوع جبر تفرضه الحاجة على المخلوق. ولكنه سبحانه أراد إظهار شأنه كما يبدو بأن يخلق خلقا يفكر في القدوس فيخضع له باختياره وليس جبرا. هذا الخيار متاح للجن والإنس. فالعبادة تعني الخضوع الاختياري. لا يمكن أن يخضع كائن باختياره للقدوس الذي يمسك كل شيء بقوته القاهرة إلا إذا منحه ربه الإرادة ليقوم بالعمل بغض النظر عن الفروض الطبيعية. تتجلى الإرادة في واقعها لدى الإنسان دون الجن ولذلك قال سبحانه في سورة الأحزاب: إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً (72).

نحن نعلم من القرآن الكريم بأن الجن مريد مثلنا بدليل تمرد الشيطان الجني على الله تعالى وسعيه لعدم الخضوع لأمر ربه؛ لكن الله تعالى أوقفه سواء عن طريق الملائكة أو بحرمانه من بعض قواه الطبيعية. كما نعلم من القرآن أيضا بأن الجن لا يعيشون في فيزياء الأبعاد الثلاثة مثلنا. فلو استفادوا من الأكل فهم يستفيدون من رائحته أو بعض طعمه أو لونه وما يشابه ذلك. ليس لهم أن يأكلوا من طعامنا لأن ذلك بحاجة إلى فم وأسنان وبطن وبقية المركبات الفيزيائية التي يفقدونها. فالجن عاجز عن أن يستفيد من كل نعم الله تعالى ولكن الإنس قادر على ذلك. وبما أن الله تعالى كريم ويحب الكرم فإنه يفضلنا على الجن بأننا قادرون على التمتع بكل نعمه بما فيها نعمة العلم والكمال والمعرفة وغيرها. بالطبع أن كل نعمة تقابلها فرائض مناسبة. هذا ما أظن والعلم عنده سبحانه.

والآن لنلاحظ هذه الآيات الكريمة من سورة يونس: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10).

ومما نتعلم منها:

1. خلق الله تعالى السماوات والأرض ليعبده الذين هم قادرون على العبادة. فالعبادة هي سر الخلق كله.

2. الله تعالى هو مدير الكون العظيم ولا يوجد له شفعاء مختارون إلا الملائكة الذين هم فاقدو الخيار ومسلوبو الإرادة. والاستثناء في الجملة منقطع غير متصل.

3. نحن البشر جزء من المنظومة المختارة وسنعود إليه جميعا وسنعلم بأنه تعالى بدأ الخلق ثم أعاد الخلق من جديد ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط. وأولئك هم الجانب الآخر المباين مع الذين كفروا وليس مع الذين لم يعملوا ما هو صالح للأمة. وكل أفراد الجانب المباين فهم من أهل النار.

4. كل الحركات الكوكبية التي نراها ونتعلم منها الحساب وغير الحساب فهي لنتدبر آيات الله تعالى وهو يعلمنا حتى نتدبر ونتعلم ونكون من المتقين.

5. والآية رقم 7 ترد على كل المهتمين بالحياة الدنيا والمطمئنين إليها وتبشرهم بالنار. فلا قيمة عند الله تعالى لكل من يكتفي بالاهتمام بالدنيا بخيرها وشرها.

6. الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الذين يهديهم الله تعالى بإيمانهم. هناك من يهتدي بعمله الطيب وهناك من يهتدي بإيمانه. الذين يهتدون بإيمانهم يسعون ليتعلموا ويتعرفوا على ما يرضي الله تعالى الذي آمنوا به ثم يعملوا بما علموا من موارد رضا ربهم. إنهم الشاكرون الذين يحمدون الله تعالى في الدنيا وفي الآخرة.

فالمرجع هو الله تعالى وليس البشر وليس ما يرضي ويمتع البشر. يجب أن نساعد البشر ونحميهم ونسعدهم طلبا لرضوان الله تعالى حتى نكسب وإلا فنحن دنيويون مطمئنون بالحياة الدنيا فقط وليس لنا في الآخرة من خلاق. نساعد البشر لأنهم عبيد الرحمن ولو كانوا كافرين. نحن لا نجازي الكفور في الدنيا لكن الله تعالى يتعامل معهم في الآخرة. نحن علينا أن نساعد الجميع طلبا لمرضاة الله تعالى لا مرضاة الذين نساعدهم. ولذلك فإن الذي يساعد الناس دون أن يشعر به الناس فهو أقرب إلى الرحمن من الذي يساعدهم ليروا مساعدته ويسعدوا به. نحن نرى بأن ربنا يساعد الجميع مؤمنا وغير مؤمن فنقوم بمساعدة الجميع مؤمنين وغير مؤمنين لأننا نطلب رضوان ربنا ولا نهتم كثيرا برضا الناس.

وأما قول أخي كمال شاهين بأن الله تعالى لم يُعرِّف العمل الصالح لنقوم نحن بتعريفه فهو ادعاء لا أساس له من القرآن الكريم. وأما توضيحاته التي وضحها في مقالته الأخيرة فإني أكررها هنا لأنني مؤمن بها تماما ولا خلاف بيني وبينه حول هذه المسائل. إنما الخلاف حول أن الله تعالى لا يمكن أن يُدخل المصلحين الجنة إن لم يعبدوا الله تعالى مخلصين له الدين. بالطبع أنني أظن ولست جازما بأن الذين لا يعلمون شيئا عن القرآن وعن الحقائق المنزلة من السماء فقد يغفر الله تعالى لهم ويدخلهم الجنة لو أتوا بما يسعد الناس بقدر علمهم وامتنعوا على ما يضر بالناس بقدر فهمهم واستطاعتهم.

قال تعالى في سورة المائدة: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48). هذه الآية التي توضح بأن المطلوب هو أن تعمل صالحا فيما آتاك الله لا فيما لا تملكه.

يتبع …

أحمد المُهري

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.