يوسف أيها الصديق ح 41 – تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ
تواصلا مع شرح سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 41 – تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ
استمر يعقوب في الصبر والكظم فابيضت عيناه من الحزن.
إنه لا يبكي ولا يذرف الدموع ولكن قلبه الشريف يقطر دما بدل الدموع فتتأثر جوارحه الأخرى بسبب شدة صبره على الأذى.
وابيضاض العينين هنا ليس ابيضاضا فيزيائيا كما تراءى لكل من قرأت عنه من مشاهير التفسير .
فابيضت عيناه تعني بأن عينيه قد لا تريان ما هو مرغوب لدى يعقوب صاحب تلكما العينين. اسودت الدنيا في عينيه فابيضت عيناه عن الدنيا. إنه يريد أن يرى يوسف لا غير. إن رؤيته لابنه تخلصه من الشرود الذهني الذي ابتلي به إثر الانتظار الطويل والحزن الشديد.
وكلما نقل له أبناؤه أخبار يوسف ازداد شوقا إليه. إنه عليه السلام عرف دون شك بعد أول زيارة لأبنائه العشرة له بأن الذي رأوه هو يوسف وليس غيره.
وهو بعبقريته كان يقرأ علم يوسف وما انطوى عليه من دراية كبيرة في سني الفراق.
لقد تعب يوسف في تربية نفسه ليتعلم تأويل الأحاديث لدى المصريين فيتمكن من إبلاغ رسالة السماء إليهم بلغتهم وكأنه واحد منهم حسب سنة الله تعالى في إرسال الرسل.
كل ذلك يزيد من شوق الأب العجوز الذي هو بنفسه نبي عظيم ليرى هذا الابن العليم. والذي يزيد عناءه أن أبناءه الآخرين بعيدون جدا ولا زالوا يبتعدون عن يوسف في ذكائه وعلمه وأدبه وإيمانه الخالص برب العالمين جل جلاله.
إنه مثل العطشان الولهان الذي يبحث عن الماء فيقدم له أهله الخل الأبيض جرعة تلو جرعة ولا يمدونه بقليل من الماء المعين. فابيضت لا تعني الابيضاض الفيزيائي بل تعني خلو العين مما يحلو لها من مرئيات.
ولا بأس بأن يعرف القارئ الكريم بأن الإنسان يستمتع بالنظر بالعينين باعتبار أن الله تعالى حددهما لنرى الجوانب المضيئة في المرئيات. لكننا لو ننظر إلى الكائنات بالعين النفسية فسوف نراها بحقيقتها دون البصر بالعينين.
ألا ترون بأن الله تعالى يحشر بعض الكافرين عميانا يوم القيامة بمعنى فاقدي البصر ثم يُحضرهم مع غيرهم في المحكمة الكبرى للمحاكمة الأخيرة أمام الديان العظيم جل جلاله؟.
أليس هذا ظلما بأن يحشر بعض المتهمين عميانا وبعضهم مبصرين؟ والواقع أنه سبحانه يوقف هناك كل الأعضاء الفيزيائية ويتم التعامل معهم عن طريق النفوس التي لا تُطلق أصواتا بل تهمس فقط.
هناك سوف يرى الجميع كل شيء رؤية نفسية حقيقية. فالكافرون حرموا من التمتع بالعين ولم يُحرموا من الرؤية في الحقيقة. والعلم عند الله تعالى.
وقبل أن ننتقل إلى المقطع الآخر من هذا الموقف لا يفوتنا أن نعرف السبب في توسل يعقوب بعلم الله تعالى وحكمته في دعائه وتمنيه لعودة أبنائه الثلاثة.
انتبه يعقوب بأن الله تعالى يريد أن يميز بين الآثمين الحقيقيين الذين يملكون قلوبا مريضة من أبنائه وبين الذين يحملون قلوبا طيبة منهم ففعل ما فعل بعلمه وحكمته وفصلهم في حكاية عودة الإخوة بدون إخوانهم الثلاثة.
إنه سبحانه يريد أن يصب يعقوب جام غضبه على الذين أجرموا فعلا وينجي الذين لم يدنسوا أنفسهم بمعصية الله تعالى.
أراد يعقوب أن يدعو ربه ليعيد أبناءه إليه ولكن بعد تطهير الباقين فلم يتوسل برحمة الله تعالى التي تمس كل الكائنات بل توسل بعلمه وحكمته ليطلب من ربه معالجة القضية فيعيد إليه الغائبين بعد أن يقلع الخبث من قلوب الآثمين.
إنه يعلم بأنه يجهل الطريقة الصحيحة، ويعلم بأن الله تعالى كامل العلم بكل شيء فهو يبث شكواه إلى ربه ولا يريد منه سبحانه أن يبادل عواطفه تجاه أولاده بالرحمة بل يبادلها بالعلم والحكمة، لئلا تخسر الأسرة الكريمة ما وعدها ربها، والعلم عند خالقنا العزيز.
بقي التسعة الآثمون مصرين على كذبتهم الكبرى و..
قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ﴿85﴾
قالوا ذلك لأبيهم النبي يعقوب وجها لوجه. وهم يعلمون بأنه يعلم من الله ما لا يعلمون لأنه يستقبل الوحي السماوي.
قالوا ذلك وهم أهل بيت شيخ الأنبياء إبراهيم حسب التعبير الشائع بيننا نحن المسلمين. حيث أنهم ينفصلون عن إبراهيم بأبوين فقط وكلاهما نبيان.
قالوه متعجبين باعتبار أنهم حلفوا بالله تعالى مستعملين التاء التي تدل على التعجب بظني.
وقد سعى المفسرون أن يعرفوا السبب في قولهم تفتأ بدون علامة النفي فلم يهتدوا كما يبدو.
ولذلك قالوا وقال معهم أئمة النحو بأن تفتأ تعني لا تفتأ، فلماذا لم يذكر الله تعالى “ما” كما هو شائع وهو يريد لكتابه أن يكون واضحا مبينا؟ هناك دون شك فرق بينهما وهناك معنى قصده العليم الحكيم حينما فسر لنا مقولة الإخوة الإسرائيليين.
وقد أجمع المفسرون وكذلك علماء اللغة والنحو تقريبا بأن تفتأ هنا تعني لا تفتأ وبأن علامة النفي منوية مع الفعل 67.
والحرض: يعني بأنه يصير أذنا لكل من يُلقي إليه كلاما غير دقيق فيفقد مصداقيته بين الناس باعتبار أنه يستمع ويقبل كل ما قيل له دون تفكير.
وعلى ذلك فإننا نستعمل كلمة التحريض المشتقة منها لبيان معنى التشجيع ومنح القوة المعنوية.
ففعل تفتأ ليس فعلا ناقصا بل قصدوا معناه الكامل فهو لا يحتاج إلى خبر كما في الأفعال الناقصة. ونحن نستعمل الأفعال الناقصة عادة لبيان الخبر ولا نستعملها لبيان الحقائق التي سوف تحصل وخاصة في أفعال ما زال وأخواتها.
وقد قالوا بعدها: حتى تكون ولم يقولوا: فأنت، أو حتى لم يقولوا: فتكون. فمعنى قولهم: نتعجب والله من أنك تصر على ذكر يوسف لتطفئ غضبك فسيتعاطاك الجاهلون بالتحليلات الخاطئة فتقبل منهم أو تهلك في ضلالك.
و مقصدهم أن يقولوا له: أترك ذكر يوسف وأرح نفسك من التفكير فيه فهو ميت وعليك أن تتقبل الحقيقة وتنساه تماما.
نحن أبناؤك ونحن نحبك ونساعدك والأسرة كلها في خدمتك فحافظ على رصانتك ورباطة جأشك ولا تفرط في ريادتك لأسرة عريقة ومهمة ورثتها ولا زلت تسودها. وبتعبير أكثر دقة: لا تصيرن عرضة لكلام الناس الذين يقولون ما يشاؤون بلا علم ولا دليل حتى لا يستهين بك الجاهلون.
لكن وسيلتهم لنقل رسالتهم إلى أبيهم هو أن يعاتبوه بأنه لا زال يذكرهم برأيه واتهامه إياهم في فعل لم يفعلوه بقولهم: إنك تطفئ غضبك من غياب ابنك بأن تنهرنا وتزجرنا.
ثم أرادوا بأن ينصحوا أباهم ليترك زجرهم بأن وصفوا عمله بأنه ضلال يفسح المجال للجاهلين أن يستغلوا ضعفه فيسطروا له الأساطير وبأنه يهلك نفسه في خضم هذه التصورات والأحلام الخاطئة.
فيكون معنى الآية بدقة بعد إعادة ما اختصره ربنا إلى متنها هكذا: قسما بالله، نتعجب من أنك تطفئ غليل غضبك فينا بما تقوله.
إن تذكيرك لنا بقصة يوسف التي اندرست وتقبلت الأسرة والناس بأنه مقتول تجعلك عرضة لاستماع أحاديث المتحدثين عن غير علم أو تهلك نفسك بتذكيرنا بشيء ليس لنا ولا لك يد فيه ولسنا قادرين على إعادة يوسف المقتول إليك. يمكنك أن تقرأ الآية هكذا بغرض فهم القصة: “قالوا تالله تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين، و تالله تفتأ ضدنا لتطفئ نار وجدك ليوسف”. بناء على هذا الفهم للآية، قال لهم يعقوب بأنهم مخطئون في حكمهم عليه وبأنه لا يريد تذكيرهم بقصة يوسف بل يطلب أمرا من ربه لأنه يعلم ما لا يعلمون. فالتفت اليهم و..
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿86﴾
البث في أصل معناه يعني التفريق والنشر. وإني أظن بأن البث هنا والذي أجمع المفسرون على أنه يعني الحزن والغم، أظن بأن المعنى الدقيق هو أن يتفرق المرء في فكره وخياله فيصاب بما نعبر عنه اليوم بالشرود الذهني أو ما يمكن أن نسميه الذُهان ولا أقصد به المرض النفسي المعروف وإنما حالة الشرود والشعور بالإحباط والحزن.
يبتع …..
(هامش 67: إن جمال القرآن العظيم يكمن في سيطرة المنزل العظيم على كل استعمالات الكلمات العربية وانتخابه الكلمات والتصريفات المناسبة لإعطاء المعنى الذي يريده بالكامل وبدقة متناهية، فلا داعي له أن يحذف علامة النفي في هذه الآية الكريمة. والغريب أن دليل كل الذين قرأت لهم من النحاة في احتمال نية النفي هو هذه الآية ويأتي بعضهم بشعر عربي آخر باعتبار تفسير مشهور للشعر وكانوا في غنى عن ذلك التفسير.
فتبقى حجتهم هذه الآية، فكأنهم وضعوا قاعدة نحوية لهذه الآية أو لقصور فهمهم في إدراك المقصود مع احترامي وإكرامي لهم جميعا، رضي الله عنهم وعنا وغفر لهم ولنا.
ولنستمع إلى ابن عقيل الذي يمثل الواقع النحوي في عصره ليفسر لنا معنى ما فتئ وهي من أخوات زال حيث يقول في شرحه على ألفية ابن مالك هكذا: ومعنى زال وأخواتها ملازمة الخبر المخبر عنه على حسب ما يقتضيه الحال نحو ما زال زيد ضاحكا وما زال عمرو أزرق العينين ومعنى دام بقي واستمر.
فإخوان يوسف لا يريدون القول بأن أباهم مستمر في ذكر يوسف وكأنه ربه ولكنهم يريدون القول بأن أباهم سوف يصير عرضة للتحريض القاصر أو للهلاك كلما ذكر يوسف.
وعلينا أن نتصور الحال بكل عناية لنعرف المقصود من استعمالهم لكلمة فسرها الحكيم العليم بـ “تفتأ” موجبة لا منفية.
نعرف من لحن السورة الكريمة وكذلك من آخر مواجهة ليعقوب من قبل غير الذكور من أهل بيته احتمالا بأن يعقوب كان يذكر يوسف أحيانا ليقول لهم بأنه لا زال جازما بأن يوسف حي وسيعود إليهم وليذكر أولاده بأنه لازال مؤمنا بأنهم كذبوا عليه مختلقين قصة الذئب البريء من افتراس أخيهم الصغير. هذا ما نقرأه في الآيتين التاليتين من نفس السورة:
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي َلأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95).
هذه هي رسالة الأنبياء أن يسعوا لإصلاح أهليهم ومن حولهم دون أن يكرروا الألفاظ التي تزعجهم. فيعقوب قال لهم مرة بأنهم كذبوا عليه بل سولت لهم أنفسهم أمرا، ولكنه يكرر نفس الموضوع ببيان رأيه بأن يوسف لا زال حيا لعلهم يتورعوا.
واهتمام القرآن بهذا الموقف الذي خصص له عدة آيات من هذه القصة الطويلة التي اختصر الكثير من مواقفها هو لأنها آخر محاولة من إسرائيل لتصحيح مسار بني إسرائيل قبل أن ينكشف الأمر ويظهر للجميع كذب أولاده.
هذه آخر فرصة ليتورعوا ويثبتوا لأسرتهم بأنهم عازمون على ترك الكذب ولكنهم لم يتورعوا بالطبع. فالكذب يمثل الوسيلة المهمة لبني إسرائيل الذين يكذبون بكل عناية ثم يصرون عليه حتى تنكشف أمورهم أو تبقى الفرية المختلَقة سيدة الموقف.
والذي حصل في ذلك اليوم بأن يعقوب تأسف فعلا على يوسف الذي احتمل الويلات حتى وصل إلى ما وصل إليه ثم هو لا زال يحتمل الغصص ليهدي إخوانه الذين ظلموه وأبويه، لعلهم يعودوا إلى الله تعالى ويتركوا الإثم والعدوان والكذب.
لم يذكر يعقوب اسم يوسف لأولاده بقصد تكرار تكذيبه إياهم كما يبدو ولكن الأولاد ظنوا بأن أباهم يفعل ذلك ليقول لهم مرة أخرى بأنهم كذابون باعتبار حكايتهم مع يوسف.
إنهم كانوا صادقين في قصة أخيهم الصغير ولو أنهم أخطأوا في تصرفاتهم حتى استبقاه العزيز مستندا إلى قرارهم هم وليس إلى نظام فرعون.
إذن يريد الإخوة أن يقولوا لأبيهم بأنه خاطئ في تكرار اسم شخص مات فعلا وهم قد رأوه مفترسا وعادوا بقميصه ملطخا بدمه.
لا يريدون أن يحلفوا على قضية حصلت حتى يستعملوا كلمة لا تفتأ بل يريدون بيان حقيقة أن تذكير أبيهم إياهم بتفنيده لادعائهم يضر بالأب نفسه وبسمعته في الأسرة والمجتمع. نهاية الهامش 67.(
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :