نظرية ظهور العلم 11- معهد كفر نفرة للعلوم الأساسية

نظرية ظهور العلم 11-

معهد كفر نفرة للعلوم الأساسية

تتفق “الحقائق” التي كشف هذا البحث عنها مع الحقائق التي كشف عنها بحث هام لسيادة المهندس محمد خليفة عن بدايات الكتابة باللغة العربية في حقل علم الفقه وعلم الحديث.    وهو بحث هام سوف أنقل منه باستفاضة – مع بعض التصرف – لأنه يبين أهمية ما تقوم به هذه الدراسة وأثر نتائجها على علم الفقه وعلم الحديث.  كلي ثقة من أن سيادته لن يطالبني بمليم أحمر مقابل حقوق الملكية الفكرية.  كلي ثقة كذلك من أن الله سيجزيه خير جزاء على ما قام به من عمل في خدمة دين الله.   يقول محمد بك:

“إن القارئ للتاريخ سوف يكتشف أنه لا يوجد أصلا أي كتاب عربي غير القرآن طوال القرنين الأولين من الهجرة، باستثناء كتاب سيبويه في النحو – ت 180 هـ – المصنف الوحيد الذي كتب باللغة العربية قرب نهاية القرن الثاني الهجري في مخطوطة مسجلة وباقية حتى عصرنا الحالي في تفرد عجيب.  كانت وسيلة التعلم آنذاك هي “السماع” نقلا عن “المشافهة”.  لم يبدأ ظهور الكتب في الثقافة العربية – وعلى استحياء – إلا في القرن الثالث الهجري، حين بدأ العصر الحقيقي للتدوين. 

دفعتني هذه الملاحظة البسيطة إلى مراجعة مرجع متخصص في هذا الصدد هو  كتاب  “أقدم المخطوطات العربية في مكتبات العالم” لمؤلفه كوركيس عواد.   حرص المؤلف على تقصي أماكن حفظ المخطوطات العربية القديمة, وألقى الضوء على تلك المخطوطات المكتوبة منذ صدر الإسلام وحتى عام 500 هـ.    جاء تصنيف المخطوطات في هذا الكتاب هجائيا على اسم المخطوطة أو الكتاب المعنِيّ، مما استدعى إعادة تصنيف ورودها زمنيا لحصر المخطوطات في كل قرن من القرون الخمس الأولى من الهجرة كل على حدة.

من الضروري, على أية حال, قبل عرض تفاصيل هذه الدراسة, الاعتراف بإدراكي أن منهج البحث العلمي يحتم البحث في عدة مصادر وليس في مصدر واحد فقط, إذ لا يصح الاعتماد على مصدر واحد فقط في إقرار ما توصلنا إليه من نتائج.  عليه, يجب النظر إلى دراستنا هذه على أنها دراسة استكشافية ودعوة إلى بدء العمل الجاد في حقل المخطوطات العربية القديمة.

وفيما يلي عرض مختصر موجز لهذه الدراسة :

اسم الكتاب : “أقدم المخطوطات العربية في مكتبات العالم المكتوبة منذ صدر الإسلام حتى نهاية القرن الخامس الهجري”. تأليف كوركيس عواد، منشورات وزارة الثقافة والإعلام, 1982، العراق

يحتوي الكتاب على خمسة أنواع من الوثائق:

94 مخطوطة للمصاحف الشريفة، 26 مخطوطة لأوراق من المصاحف الشريفة، 32 مخطوطة للكتاب المقدس، 34 مخطوطة لأوراق البردى العربية، ثم أخيرا تأتي مخطوطات كتب التراث العربي في 535  مخطوطة  بعدد 530 وثيقة.

توزيع أعداد المخطوطات لكتب التراث العربي على الخمسة قرون الهجرية الأولى:

أورد الكتاب خمسة مخطوطات فقط من القرنين الأول والثاني، و44  من القرن الثالث، و155 من القرن الرابع، إضافة إلى 327 مخطوطة من القرن الخامس، كما أورد أربعة مخطوطات لم يحدد لها مؤلفا ولا تاريخ كتابتها.

 مما سبق عرضه يمكننا أن نخلص إلى النتائج التالية :

1.    أنه لا توجد أي مخطوطات في القرنين الأول والثاني الهجريين سوى مخطوطات القرآن الكريم، باستثناء مخطوطة كتاب سيبويه.       

2.    أن أئمة القرون الثلاثة الأولى من الهجرة لم يخطوا سطرًا واحدًا في حياتهم, كما لم  يقرءوا سطرًا واحدا في حياتهم.  يعود ذلك إلى أنه لم تكن هناك ثمة كتب أصلا.   حقيقة الأمر, يستطيع أي حاصل على شهادة محو أمية أن يدَّعي بسهولة – وهو صادق – أنه قرأ في حياته عددا من السطور أكثر منهم جميعا.

3.    أن عصر التدوين لم يبدأ في أوائل القرن الهجري الثاني كما تناقلت ذلك كتب الموروث الشعبي العربي التي زعمت أن الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز كان قد أصدر أوامره بتدوين الأحاديث النبوية المتناقلة شفاهة.

4.    أنه لم يرد أي ذكر لأي من مخطوطات الكتب الموصوفة بالصحاح, ولا لأي من مخطوطات تلاميذ الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان.   كما لم يرد أي ذكر لصحيفة همام، ولا للصحيفة الصادقة التي ادعى علماء الحديث أنها كانت من تأليف  الصاحبي عبد الله بن عمرو بن العاص وأنها كتبت في القرن الهجري الأول واستقرت عند حفيده عمر بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص.  

تثير نتائج هذه الدراسة عددًا من الأسئلة التي تحتاج إلى الإجابة عليها.    من ذلك:

1.    ما إذا كان الأئمة العظام يعرفون القراءة والكتابة أصلا, إذ لا حاجة إلى معرفة القراءة والكتابة في مجتمعات لا توجد بها كتب أصلا.  ما الداعي إلى تعلم قيادة السيارات في مجتمع لا توجد به سيارات أصلا؟

2.    ما إذا كانت هذه الكتب المنسوبة إلى الأئمة العظام إنما هي كتب قام مجهولون بكتابتها ثم نسبتها إلى الأئمة العظام لإضفاء المهابة والجدية عليها فقط.”    انتهى كلام سيادته

خالص الشكر لسيادة المهندس محمد خليفة على ما تفضل به علينا.  وعليه,

ذكر محمد بك خليفة العديد من النقاط الهامة التي يتوجب التوقف عندها, والتحقق من صحتها, أو عدم صحتها.  وهي نقاط لن أتوقف الآن عندها – وإن كنت آمل في العودة إليها – حيث إن ما يهمني الآن هو تلك الفقرة التي كتب فيها سيادته أن:

“توزيع أعداد المخطوطات لكتب التراث العربي في الخمسة قرون الهجرية الأولى يبين ورود خمس مخطوطات فقط من القرنين الأول والثاني، و44  من القرن الثالث، و155 من القرن الرابع، إضافة إلى 327 مخطوطة من القرن الخامس.”

تتفق هذه الفقرة اتفاقًا تاما مع ما كشف عنه هذا البحث من خطأ النظر إلى الإنتاج العلمي باللغة العربية الصادر عن البصرة في القرن الثاني الهجري على أنه إنتاج ثقافي “عربي”.  لم يحدث أن أنتجت القبائل العربية في نجد والحجاز كتابًا واحدًا من ساعة أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى ساعة أن خرجت من نجد والحجاز واتجهت إلى البصرة.   لا يعود ذلك إلى أن أهلنا في نجد والحجاز عاجزون بيولوجيا عن إنتاج العلم وإنما إلى أنه لم يحدث في التاريخ من ساعة أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى يوم الله هذا أن قام شعب من رعاة الضأن أو الأبقار بإنتاج علم.  لم يحدث هذا في أفريقيا, ولا في آسيا, ولا في أوربا, ولا في أمريكا, ولا في أستراليا, ولا في القارة القطبية الجنوبية, ولا في أي مكان في العالم.  كما أنه لم يحدث في جزيرة العرب.  مرة أخرى, لا يظهر العلم إلا مع ظهور الإمبراطوريات.

لا يظهر العلم إلا مع ظهور الحاجة إليه. 

تخيل لو أن أهلي في المنوفية قرروا اللحاق “بركب العلم الحديث” (تعبير منتشر جدًا ولذيذ جدًا) وبناءً عليه قرروا إنشاء “معهد كفر نفرة للعلوم الأساسية”.  و”معهد كفر نفرة للعلوم الأساسية” هذا هو معهد يهدف إلى الكشف عن “بنية الإلكترونات”, بمعنى أنه إذا كانت ذرة أي ماذدة تتكون من نيوترونات وإلكترونات, فهدف “معهد كفر نفرة للعلوم الأساسية” هو الكشف من مكونات الإلكترونات ذاتها, وهو “علم” لم تتوصل إليه البشرية بعد. 

لا يوجد لدي أدنى شك في نبل وسمو هذا الهدف.  لا يوجد لدي أدنى شك كذلك في أن هذا المعهد الجليل سيكون خير دليل على عظمة البحث العلمي في كفر نفرة.   لا يوجد لدي أي شك أيضا في أن لا أحد من أهلي في كفر نفرة سيدفع مليمًا أحمر واحدًا من أجل إنشاء هذا المعهد الجليل.  يعلم كل أهلي في كفر نفرة أن هذا معهد لا تستطيع دفع تكاليف إنشائه وتشغيله طنطا ذاتها.  هذا معهد يحتاج إلى جينيف أو لوس ألتوس.

تخيل لوأن دبي سمعت عن مشروع “معهد كفر نفرة للعلوم الأساسية” هذا وأعجبتها الفكرة.  دبي تملك من الأموال ما يمكنها من إنشاء وتشغيل عشر معاهد من هذا النوع.  تخيل ما يمكن أن يحدث لو أن دبي قررت بالفعل إنشاء هذا المعهد الجليل.  من في دبي سوف يشرف على عملية إنشائه؟  من توجد لديه أدنى فكرة عن تكلفة الإنشاء؟  من سيعمل به؟  من في دبي, أو جزيرة العرب بأكملها, يمكنه العمل في معهد يهدف إلى الكشف عن مكونات الإلكترونات؟  وحتى لو قامت دبي باستيراد طاقم المعهد بالكامل فمن في دبي يستطيع قيادة فريق العمل؟  وحتى لو سارت كل الأمور على خير حال وتم الكشف عن “مكونات الإلكترونات”, فما الفائدة التي ستعود على دبي؟  ماذا تفعل دبي إذا اتضح أنه تم تسريب كل “العلم” الذي كشفه هؤلاء العلماء إلى من يدفع أكثر سواء في الصين أو ألمانيا, أو أي بلد تحتاج مصانعها إلى هذا العلم؟  وماذا لو انفجر المعهد بما فيه ومن فيه مثلما حدث في تشرنوبيل؟  القصة طويلة, ووهمية, ومستحيلة.  كلي ثقة من أن أهلنا في دبي, مثلهم في ذلك مثل أهلنا في كفر نفرة, لن يدفعوا درهما واحدًا أخضر من أجل إنشاء “معهد دبي للعلوم الأساسية”.  في الوضع الحالي, يكفي جدًا أن تكون لدينا مدرسة ثانوية جيدة في كفر نفرة, وجامعة جيدة في دبي.  هذا كل ما نحتاجه, وهذا كل ما نقدر عليه.  لا تستطيع دبي, في الوضع الحالي, إنتاج علم, مثلها في ذلك مثل كفر نفرة.  يكفينا أن نتعلم ما هو معلوم. 

يحتاج إنتاج العلم إلى أن تتعلم, أولا, العلم الذي أنتجته البشرية.  عندئذ, وعندئذ فقط يمكنك أن “تنتج العلم” الذي لم تنتجه البشرية إلا أن مجتمعك “يحتاجه”.  ما معنى أن نخترع في مصر “صبغة الأفران مفرطة السخونة”؟  ما معنى اختراع صبغة تحتاجها عملية صناعة الأفران مفرطة السخونة إذا لم تكن لديك أصلا مصانع تقوم بتصنيع الأفران مفرطة السخونة؟  ما معنى رصد عشرات الملايين من الجنيهات من أجل حل مشاكل لا وجود لها في مجتمعك؟  ما معنى أن يهب عشرات العلماء, إن لم يكن مئات العلماء, حياتهم من أجل حل مشاكل لا يعاني مجتمعهم منها؟

هناك نوعان من التفكير: تفكير فطري يشترك فيه كل البشر, ويستخدمه كل البشر باستمرار. وتفكير علمي يستخدمه العلماء فقط.  وهو تفكير لا يستخدمه العلماء إلا عندما تكون هناك ضرورة ملزمة لذلك.  يطلق على هذا النوع من التفكير اسم “تفكير حل المشاكل”, أي أن التفكير العلمي هو ذلك النوع من التفكير الذي نستخدمه عندما نواجه مشكلة لا يمكن حلها باستخدام التفكير الفطري.  التفكير العلمي, بهذا الشكل, هو “تفكير حل المشاكل”.  لا يلجأ أي مجتمع (أي مجتمع) إلى التفكير العلمي إلا إذا كانت هناك مشكلة “يستحيل” حلها باستخدام التفكير الفطري.    لكي تفكر تفكيرًا علميًا لا بد أن تكون مشتبكًا في حل مشاكل لا يمكن حلها إلا باستخدام التفكير العلمي.  وقبل كل ذلك لا بد أن تكون لديك مشكلة.  وعليه, ما هي المشاكل التي كان يعاني منها أهلنا في نجد والحجاز ولم يكن من الممكن حلها إلا باستخدام التفكير العلمي؟  لا أعرف مشكلة واحدة.  هذا هو السبب في عدم ظهور العلم في نجد والحجاز.

يتبع 

كمال شاهين

#نظرية_ظهور_العلم

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

facebook.com/Islamijurisprudence

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.