يوسف أيها الصديق ح 33 – هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا
تواصلا مع شرح سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 33 – هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا
وهكذا نرى الله تعالى لا يمن على أي منهم بالمساعدة ليخرج مما هو فيه من العذاب لأنه سبحانه يكره الكبرياء لمن لا يستحق أن يتكبر. وليس من حق غير الله تعالى أن يتكبر. ولو نفتح عيوننا لنرى بأن ربنا سبحانه قد أبلى المتكبرين العرب والمتكبرين من بني إسرائيل ببعضهم البعض. أليست هي سياسة حكيمة؟
أضاف الإخوة هذه المرة بأنهم سوف يخسرون كيل بعير لو ذهبوا بدون أن يصطحبوا أخاهم.
لقد منَّ عليهم العزيز فوافق على ادعائهم على مسؤوليته ولكنه أبلغهم بأنه يرفض العودة إليه مرة أخرى بدون أخيهم.
ولو نلاحظ الفرق بين التعبيرين الصادرين من يوسف ومن إخوته لنفس الموضوع. قال يوسف لفتيانه بأنه يأمل بأن يعودوا إليه مع أخيهم بعد أن ينقلبوا إلى أهلهم ومهد لقبول الأسرة بأن أعاد إليهم بضاعتهم، ولكن الله تعالى قال بأنهم بدأوا بالطلب من والدهم بعد أن رجعوا إلى أبيهم مباشرة وبدون مقدمات.
وهناك كما قلنا فرق بين الموقفين. كان عليهم أن يصبروا قليلا حتى يفتحوا متاعهم فترى الأسرة بأعينها النتيجة فيطلبون من والدهم وهم في غمرة الفرحة بأن الأولاد جاؤوا بكسب حقيقي. لكنهم أسرعوا. فما الذي ننتظره من يعقوب إلا أن يرد طلبهم ويذكرهم بأنهم خانوه من قبل؟ علل يعقوب رده عليهم بأن الكيل من الحبوب لا يمكن أن يقنعه ليسلم ابنه الأصغر بيد إخوانه بعد أن خانوه في أخيه الأكبر .
إنه مؤمن يؤمن بأن الرزق من الله تعالى وهو خير حافظا وهو أرحم الراحمين. وبقوله: فالله خير حافظا، أبلغهم بأنه يتوكل على الله تعالى ولا يبالي بخسارة حمل بعير. فالفاء على رأس الجملة الكريمة تعني بأنه يستنتج بأن الاتكال على خير الحافظين خير له من الاتكال على الوسائل المادية.
وحينما نحلل موقف يعقوب من أبنائه نشعر بمعنى الاتكال على الله تعالى ونعرف متى يجب علينا أن نترك كل المكاسب المادية وننفرد بالاتكال عليه ولو كانت حساباتنا تدل على غير ذلك.
استنتاج الإخوة كان استنتاجا ماديا دنيويا محضا. لقد ذهبوا بدون الأخ وتمكنوا من العودة مع كيل خاص بأخيهم دون أن يكون معهم. هذا يعني بأن الله تعالى قد أعانهم وأدخل في قلب العزيز المصري الذي لا يعرفونه الرحمة والشفقة عليهم وعلى أبيهم. فما الذي يحول دون أن يفعل الله تعالى ذلك مرة أخرى، بل مرات أخرى؟ لكنهم ماديون يعزون كل النتائج إلى أعمالهم الظاهرية.
من الطبيعي أن نستعين بالوسائل المادية ولكننا يجب ألا ننسى بأن الله تعالى قد يساعدنا بدون ذلك أيضا إذا قست علينا الظروف.
إذن فما الذي حصل بعدئذ ليغير يعقوب رأيه؟ يعقوب ذلك الفذ الثاقب ينتظر شيئا آخر من يوسف ليعرف بأن أبناءه رأوا يوسف لا غيره؛ ولكن يوسف لا يمكنه أن يرسل ما اتفقا عليه الآن.
إلا أن يوسف أرسل رسالة مع إخوانه لأبيه وهو يعرف قوة عقله وحدة ذكائه. لقد ذكر الإخوة قصة عزيز مصر وعرف أبوهم بأنه مسئول كبير في الدولة التي تعاني من الجفاف.
عرف بأن ملك مصر يريد مساعدة القرى المحيطة بمصر ولكن ليس على حساب أموال مصر. إن ما يأخذونه لقاء مبيعاتهم من الحبوب يمثل ما دفعوه للناس لقاء شراء الحبوب منهم. والإخوة لم يُظهروا الفقر المادي بل حملوا معهم قيمة الحبوب. كانت مشكلتهم الحاجة إلى الغذاء وليس إلى المال.
إذن لماذا أعاد المسئول الثمن إليهم؟ إنه سيدفعها من جيبه للدولة بالطبع. وما الداعي أن يخسر مسئول كبير يلقى كل يوم عشرات من أصحاب القضايا المماثلة من حسابه الشخصي؟ فهذا يعرفهم ويعرف الذين يريدون أن يتغذوا من تلك الغلة. ومن يمكن أن يعرفهم في مصر وهم أسرة فقيرة يعيشون في كنعان أو ما يقرب من كنعان؟
عرف يعقوب بأنه يوسف وبأنه يقول لأبيه لا تحزن فاللقاء قريب ولكننا علينا كأنبياء أن نؤدب الذين ظلموا من أهلنا لعلهم يعودوا إلى الله تعالى و يستغفروه بحق.
عظيمٌ يعقوب، وبحق عظيم! فلا يمكن للشخص العادي أن يمسك نفسه دون أن يظهر على وجهه آثار الأمل والشوق ودون أن تنحدر من عينيه دموع الفرح.
هذا هو سر رضوخ يعقوب لطلب أولاده بعد أن فتحوا المتاع وشرعوا بفتح رَحل بعد رحل ليروا بأن البضائع معادة وموزعة في الرحل كله. اطمأن يعقوب بأن يوسف يريد أن يستلم أبوه الرسالة ولو لم يفتح غير حمل بعير واحد. لكن الإخوة وبقية من في البيت لم يعلموا شيئا عن الرسالة البريدية. ومن الواضح أن يعقوب لم يفصح لأحد أبدا حتى أم يوسف. نعرف ذلك حينما قضت إيحاءات الشوق على كيانه النفسي فظهر بعض الآثار على أعماله التي سعى فورا لإخفائها. سنعرف ذلك بعد قليل. لنقرأ الآيات مرة أخرى:
فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴿63﴾ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴿64﴾ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ﴿65﴾.
ولنشرح الآيات باختصار حتى تنقشع كل التساؤلات بإذن العزيز العليم.
مُنع منا الكيل: يعني بأن الكيل الذي ترونه أمامكم باسم أخينا قد مُنع بعد هذه المرة. ذلك لأن العزيز قال لهم بأن عليهم أن يُحضروا أخاهم وإلا فليس لهم أن يدخلوا عليه مرة أخرى طالبين مساعدته. سيكتفون بالكيل العام الذي يحصله من وصل إلى مسئولي التوزيع من الموظفين المناط بهم التوزيع والبيع.
فأرسل معنا أخانا نكتل: تعني بأن كيل أخينا الصغير مرهون بموافقتك على إرساله معنا فلا تمانع ونحن نتعهد بحفظه.
قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل؟ سألهم سؤالا يعرفون جوابه. لقد اعتمدت عليكم من قبل بإرسال أخيه معكم فتقاعستم في حمايته، وتعرفون ما فعلتم به. مغزى استفسار يعقوب: ألا تخجلون بأن تطلبوا مني مرة أخرى أن أئتمنكم على أولادي الصغار الذين يحتاجون إلى عنايتي وقد خنتم الأمانة من قبل؟ لا تنتظروا مني أن أعتمد عليكم فأنتم تنكثون العهد وتنقضون المواثيق. هذه شهادة إسرائيل على أكبر عدد من أولاده.
فليعلم الإسرائيليون مدى تقبل الآخرين إياهم. والواقع أن غالبية الناس لا يأتمنون عامة اليهود من بني إسرائيل ولا يثقون في وعودهم. إن نكث العهد عادة لا تفارق الكثيرين منهم مع الأسف. اقرأ مسألة عدم ثقة يعقوب بأولاده العشرة في التوراة الفعلية: سفر التكوين: الإصحاح 42 من 36 – 38.
فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين: يريد يعقوب أن يؤكد لأولاده بأنه يعلم حاجتهم إلى المزيد من الحبوب ويقبل بأن ذهاب أخيهم معهم يساعدهم على بلوغ الهدف ولكن المخاطرة معهم بعد أن نكثوا عهدهم من قبل قد تدل على أنه لن يتورع عن بلاء أصابه من قبل ليتوقى التكرار.
وحينما يشعر المرء بخطر الموت فعليه أن يترك خطر المجاعة لربه. إنه سبحانه أرحم الراحمين ولا مبرر للتوسل بالوسائل العادية التي ثبت اقترانها بخطر فادح. دع الذي يحفظهم من كل سوء ليحفظهم من المجاعة أيضا.
قال لهم بكل ثقة بأن الله أرحم إليه وإليهم من أنفسهم ولا يجوز له المخاطرة مع تجربته السابقة معهم. هذا هو مورد صحيح للتوكل على الله تعالى وترك كل الوسائل الأخرى بانتظار رحمة أرحم الراحمين.
هذا درس نبوي في حدود ما يجوز فيه المخاطرة بأن لا تتكرر نفس المخاطرة لتجنب خطر أقل مما يتوقعه بعد أن تمت تجربة عملية مماثلة مع نفس الأشخاص.
ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم: بقي قرار يعقوب ساريا بعد أن عجز الإخوة عن إقناع أبيهم ويئسوا فعلا مستسلمين لما يقدره لهم ربهم.
لقد وعدوا العزيز وعلموا الآن بأنهم دون مستوى القدرة على إقناع أبيهم. فمما لا ريب فيه أنهم فقدوا اللغة التي يمكنهم بها إرضاء الأب العجوز وعلموا بأن كل تدابيرهم ومساعيهم لتحقيق الهدف قد باءت بالفشل الذريع.
ومع تحقق اليأس من إقناع يعقوب بدأوا بفتح المتاع فوجدوا 49 الرحل الأول يحمل قسما مما قدموه من الثمن للعزيز!.
فالآية الكريمة من سورة يوسف تشير فعلا إلى تغيير مفاجئ في حالتهم النفسية حينما لمسوا حقا بأنهم لم يخسروا مالا مقابل ما جلبوه لأهليهم من متاع! نحتاج أن نفكر بأننا نلاحظ قصة آباء بني إسرائيل الذين يهتمون بالمال أكثر من أي أمر آخر. أنا لا أتهم يعقوب عليه السلام ولكنني أشعر تماما بأن ،الأبناء العشرة الكبار قد تفتحت أساريرهم حينما وجدوا المال المعاد إليهم وبغض النظر عن مصدر المال واحتمال أي نوع من الحيلة في الأمر فإن قريحتهم تفتحت ليقولوا عند لمس المال المعاد فعلا:
يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي؟ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا؛ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا؛ وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ؛ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ.
تشير نبراتهم إلى الفرحة الغامرة التي ملأت قلوبهم فزادتهم ثقة ليعيدوا الطلب من أبيهم لأنهم ظنوا بأن الأب لابد وأنه يهتم بالمال كما اهتم به أبناؤه. ولذلك فتحوا خطابهم بعد اليأس إلى أبيهم هكذا:
يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي؟ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا:
والسؤال يعني بأن ليس هناك ابتغاء أفضل وأكثر رجاء مما رأيناه من عودة المال إلينا مصحوبا بالمتاع الذي يسد جوعنا.
لو يسعى القارئ الكريم أن يفكر في حديثهم عن الحبوب التي لولاها لكان الهلاك جوعا بانتظارهم ويقارنَه مع سؤالهم هذا ليستيقن بأن هناك صدمة فرح كبيرة فاجأتهم فملأت قلوبهم قبل عيونهم فعلا.
أنظر إليهم، تحدثوا عن البضاعة قبل القدرة على أن يميروا أهلهم. هذه هي حالة الذين يبالغون في حب المال فتأتي أبدانهم وحياتهم في المرحلة التالية.
هناك بعض الناس ولعل الكثير من اليهود يموتون في سبيل المال ولا يشعرون بالخطأ لأن المال عندهم هو الأصل والهدف وهو الحياة بعينها. وهنا نعرف بأنهم كانوا في ضغط نفسي شديد بأنهم قدموا مالا وبضاعة مقابل حبوب كانوا يجلبونها مجانا من مزارعهم قبل القحط .
لقد اختصر الراغب الإصفهاني معنى البغي بـ “طلب تجاوز الاقتصاد” وهو تفسير جميل ومتكافئ للكلمة.
وهم أرادوا أن يقولوا بأن ما وجدوه هو أكثر بكثير مما كان يمكن توقعه من جمال في المفاجئات الممتعة. فعنوا بأنهم هل يمكن أن يطلبوا أو ينتظروا أكثر من ذلك؟.
وكأن الدنيا برمتها أقبلت إليهم حينما شرحوا بكل فرح: هذه بضاعتنا؛ ردت إلينا. ثم استرسلوا في بيان المزايا الأخرى لأن يأخذوا معهم أخاهم.
وقبل أن نفحص ما قالوا بعد ذلك دعنا ننتبه بأنهم اتباعا للمنطق اليهودي الذي بنوه لكل أبنائهم استيقنوا بأن مسألة مصاحبة الأخ الصغير لهم قد حُلَّت وليس لإسرائيل عليه السلام إلا أن يبارك لهم ما طلبوه في حين أنهم أرادوا إرضاءه قبل قليل. ولذلك لم يطلبوا الإذن مرة أخرى لأنهم الآن مأذونون وما عليهم إلا أن يتغنوا بما كسبوه من فضل العزيز المصري الذي أعاد إليهم بضاعتهم.
ونمير أهلنا ونحفظ أخانا: يعني نزود أهلنا بالميرة من الطعام وهو الذي يحتاج إليه الناس لإشباع بطونهم؛ وليس الطعام الزائد مثل الحلويات والفواكه ميرة في واقعها.
ولذلك فميرة الأهل هو ما يسد الجوع فقط. وعليه فإن حفظ الإنسان منوط به؛ فأخوهم يحتاج إلى أن يسد جوعه قبل كل شيء ليقي نفسه وقد تحقق ، وسوف يتحقق في المستقبل ولا يحتاج أن يقتات من ميرة بقية الأسرة.
ونلاحظ بأن الأولوية للثمن المستعاد والمكسب التالي هو الميرة والثالث هو حفظ الأخ. ولم يكتفوا بذلك بل أرادوا أن يشرحوا لوالدهم المزيد من مكاسبهم المنتظرة بقولهم التالي:
ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير: لا أدري هل لا زال الخوف من رفض الأب باقياً في قلوبهم أم قالوا تلك الجملة من منطلق آخر. فلو كان الخوف باقيا فهم بتلك الجملة أرادوا أن يقولوا لأبيهم بأن قصتنا مع يوسف تختلف عن قصتنا مع أخيه. لم نجن من يوسف مالا وما كان يوسف منتجا ولكنه تكبر علينا على الرغم من حاجته. لكن هذا الأخ الصغير الآن هو سبب لجلب المال – والعزة عندهم في المال طبعا – فسوف نحافظ عليه بكل قلوبنا لما فيه من خير لنا وله وللأسرة. ولذلك لا نرى داعيا لخوفك يا أبانا من أن نتآمر عليه 50.
يتبع …..
( هامش 49: علينا الانتباه بأن الوجدان يختلف عن الرؤية. ألا نرى بأن المرء لا يستعمل كلمة الرؤية حينما يجد ضالته بل يستعمل الوجود عادة؟ إنها أبلغ من الرؤية حينما يتحقق المرء من شيء أكثر من أن يمر أمام عينه أو أن يكون التفكر فيه مؤثرا بحيث يمكن أن يستعمل المرء كلمة الرؤية حتى لو لم ير شيئا بعينه ولكنه لا يمكن أن يستعمل الوجود بغير التحقق الفعلي وبعد الحصول لا قبله.
وحينما يريد المزيد من التأكيد للمستقبل يستعمل كلمة الوجدان أيضا مثل قول إسماعيل لأبيه كما في سورة الصافات:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102).
أو قول موسى لذلك العبد الصالح كما في سورة الكهف:
قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69).
وقوله تعالى حول الفاسقين من أصحاب أنبياء السلف كما في الأعراف:
وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102).
فهو سبحانه يتحدث بعد أن فعلوا ما فعلوا فعلا ولا يتحدث عن علمه.
ومثلها ما أمر الله تعالى به المسلمين على عهد الرسول أن يبحثوا عن الذين يمارسون الإرهاب من المشركين فإذا وجدوهم بالجرم المشهود قتلوهم حتى لا يكتفوا بالعلم الإجمالي والاحتمال والاعتماد على شهادة الناس. فقال تعالى في سورة التوبة:
فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5).
ولو أراد سبحانه أن يأمر بقتل المشركين دون الجرم المشهود لما أمر بأن يقعدوا لهم كل مرصد بل اكتفى بحكم القتل واخراج المسلمين لهم من بيوتهم ليقتلوهم. لكنه سبحانه لا يقبل أن يقتلوا أحدا قبل أن يجدوه فعلا متلبسا بالجريمة ويسعى سبحانه جهد الإمكان ليمنع من قتل أحد ولذلك لم يترك الحكم دون أن يفتح لهم مجالا للتوبة حتى في آخر لحظة. وأعقب سبحانه أمرا لرسوله كما يلي:
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6).
وأعقبها سبحانه أيضا بإعذارهم بأنهم قوم لا يعلمون. سبحانه من رحيم لا تتوقف رحمته أبدا. نهاية الهامش 49.)
(هامش50: فهل يتآمر بنو إسرائيل على من يسبب لهم المكاسب؟ وواقع الأمر أن أكبر وسيلة لدرء خطر اليهود هو أن تساعدهم على كسب المال كما أن أكبر خطر يهدد الآخرين من اليهود هو أن تقف أمام مكاسبهم المادية. فكأنك تقتلهم آنذاك.
ولا أدري هل فكر العرب بأن مقاطعة إسرائيل لن تجدي نفعا ولن يقلص من خطر اليهود بل يزيدهم حرصا على محاربة العرب والسعي لسحقهم كما فعلوا.
قال تعالى مخاطبا نبينا الأمين في سورة الجمعة التي نزلت لتُعلِّم المسلمين ونبيهم كيفية المواجهة الحكيمة مع اليهود:
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11).
فموضوع سورة الجمعة يدور مدار التعامل مع اليهود وقد ختم الله تعالى التعليمات بأن أخبر رسوله الأمين بأنَّ ترك الأمور التجارية لليهود الذين يحبونها لأنها تأتي لهم بالمال؛ سيشجعهم على تركك قائما على دعوتك لدين الله تعالى.
واعلم بأن ما عند الله تعالى من خير وحبور بعد الحساب يوم القيامة، خير لك من لهو الدنيا ومن التجارة فيها. ولا تنس بأن الله تعالى هو الذي يرزقك وهو خير الرازقين. إنه يرزقك ما يكفيك ويقدر لك حياة مليئة بالأفراح لمستقرك الأخير فرزقه في الواقع رزق ممتد لا نهائي ولذلك فهو خير الرازقين.
والسورة الكريمة تدعو المسلمين للاهتمام بالجمعة كوسيلة مثلى لتجميعهم حول ذكر الله تعالى وتقوية بنيانهم وعدم الاكتراث كثيرا بالمال وبالتجارة فالله تعالى غير مهتم بالمسائل الدنيوية التي لا تؤثر في مكاسبهم الأخروية. نهاية الهامش 50.
هذه حالة يهودية أخرى وهو أنهم يحسبون حساباتهم ولا يتوقعون أن تكون خاطئة فيكون خطابهم مع الآخرين أكثر جزما وثقتهم بأنفسهم أكثر واقعية. كأنهم ينتظرون من بقية الناس ألا يخالفوهم أبدا ويحزنون كثيرا إذا ما واجهوا منطق الرفض من الغير.
ولنكن واقعيين فإن منطق الثقة بالنفس مفيد جدا ودافع من دوافع التقدم ولكن الحسابات يجب أن تكون متناهية الدقة وأن يصغي المرء معها للآخرين أيضا. ذلك لأن القوة ليست في الأعمال والأسباب وحدها فلدوافع الناس واهتماماتهم أكبر الأثر في تحقق النجاح أو الخسارة الفادحة.
وعلى هذا الأساس فإن خسائر اليهود قليلة ولكنها كبيرة جدا. كما رأينا خسارتهم الكبرى مع النازيين. ورأينا في المقابل نجاحهم الباهر مع بقية دول العالم حينما سعوا لإحياء الدولة العبرية على مقابر جدودهم. هذا منطقهم وهو قوي ولكنهم قلما يسقطون ويكون سقوطهم قويا أيضا. ومن يدري فلعلهم يسقطون مرة أخرى، وسيسقطون مرة أخرى بظن من يعرف شيئا عن كتاب الله تعالى. ولا ضير بأن نعرف أن العرب ليسوا بعيدين من هذا المنطق بل هناك بين العرب من هو متشبث به تماما وهكذا بقية الأمم. ويمكن أن نطلق عليه اسم منطق المغامرات الكبرى. كل إخوان يوسف ما عدا الكبير قد غامروا في إبعاد يوسف وأعلنوا موته على أساس ذلك المنطق الخطير. نهاية الهامش 51.)
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :