يوسف أيها الصديق ح 23 – التمييز بين الصادق والكاذب من المنامات

تواصلا مع شرح سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح 23 – التمييز بين الصادق والكاذب من المنامات

لقد دعاه الملك ليبين له تفسير حلمه ولكن هذا العبد المتعجل الصالح الذي لم يتمكن من أن يصبر قليلا فلا يبدي مشكلته لعبد من عبيد الله في السجن قد تغير كثيرا. إنه الآن أبى أن يخرج من السجن وطالب بالكشف عن سرّ سجنه وحافظ على حبه للعزيز فلم يشتك عليه عند الملك.

هكذا يؤهل الله تعالى أنبياءه لحمل رسالته. كل الأنبياء مروا بمراحل اختبارية كبيرة لتتزكى نفوسهم وتتطهر قلوبهم ويتعلموا كيف يكلِّموا العالمين. ليس في منطق الرحمن من يُولد عالما ويُعين نبيا أو أفضل من الأنبياء بزعم البعض بدون أن يتعلم في مدرسة الرحمن.

حتى يحيى الذي آتاه الله الحكم صبيا فالحكم لا يعني النبوة وليس هناك حديث عن رسالة يحيى في القرآن.

كانت مهمته الكبرى أن يصدق برسالة المسيح ويقيني أنه قد فعل. لكن الحكم مرحلة عملية لتنشيط القوة المدركة وهي تسبق النبوة وليست خاصة بالأنبياء بل هناك الكثير من الناس يميزون بين الصحيح والسقيم في صباهم.

فكل الأنبياء يمرون بمرحلة القدرة على الفصل بين المسائل حتى يتمكنوا من استلام الوحي وإلا فكيف يميزوا بين وحي الرحمن ووحي الشيطان؟ حتى العبقري الكبير عيسى بن مريم فإنه مر بمراحل اختبارية حتى قام ربه بتفعيل النبوة في وجوده. وقد أبلي عليه السلام بلاء حسنا.

انتهى اختبار يوسف في السجن وأتم دراسته المتميزة بنجاح فجاءه الفرج من الله تعالى. لقد كانت فراسته صحيحة وكان الشاب السجين هو الذي سيقوم بالوساطة ولكن ليس بما تراءى له بل بشكل آخر كما سنرى بعد قليل.

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴿43﴾.

بدأت المرحلة الجديدة من صناعة بني إسرائيل. لقد رأى الملك المصري رؤيا غريبة لا يمكنه أن ينسبها إلى الخيال والوهم. يبدو أن منامه كان طويلا غير مقرون بالأوهام، فشعر بأهميته وصحته .30

(هامش 30 :   التمييز بين الصادق والكاذب من المنامات:

لعلّنا جميعا رأينا منامات. ولعلّ بعضنا فكر وسعى لمعرفة جذورها. بالطبع أن الغالبية احتمالا يكتفون بعرض مناماتهم على الغير طالبين التأويل ولكن هناك الكثيرون – عدديا لا نسبيا- يسعون لمعرفة حقيقة الظواهر التي يمرون عليها.

ولعلّ الكثيرين منا رأوا رؤى وشعروا بأنها من نسج الخيال وبأنهم يرون الصور المحفوظة في أذهانهم مع حركات بسيطة في جسم الصورة.

ومع تطور علم التصوير وقدرة الآلة على اللعب في الصورة فإن مسألة الحركات المختلفة للصور المحفوظة في أذهاننا باتت محلولة.

إن الدماغ أقوى بكثير من الآلات الحاسوبية التي نستعملها لتحريك الصور ولصناعة الرسوم المتحركة مثلا. لكن بعض الرؤى أكبر من أن يكون مجرد تحريك خيالي للصور المحفوظة في الذهن. و بما أني لست خبيرا وليس لدي الوقت الكافي لوضع جدول يوضح أنواع الرؤى كاملة غير منقوصة، فإني أكتفي بذكر بعض الأنواع مما يمر بذهني القاصر لعلها تساعدنا على التمييز بين الرؤى المختلفة.

وليكن معلوما بأنني أؤمن بصحة القرآن الكريم وبأنه كتاب الرحمن وبأنه الصحيفة الوحيدة المحفوظة بكل جملها بقوة العزيز الحكيم عز اسمه. ولذلك فإني أهتم كثيرا بمقولات القرآن أكثر من الدراسات التي تمت خارج نطاق الكتاب الكريم. فلنذكر بعض أنواعها لتتفتح أذهاننا فقط.

ولا بد من معرفة أننا نرى المنامات بغير عيوننا التي تكون مغمضة حين الرؤيا. هذا دليل باهر على أن الإنسان أكثر من هذا البدن الفيزيائي الذي نلمسه ونشعر به. كل إنسان يشعر بأنه هو الذي يرى في المنام فهو يرى الشيء بنفسه التي تمثله بالكامل.

ومن الطبيعي أن نعرف بأن الرؤية النفسية ليست شبيهة بالرؤية العينية فلا يمكن أن يتصور أحد بأن للنفس عيونا ترى ولكنها رؤية طاقوية شبيهة بحساسية الإلكترونات التي ترى الأشياء بطريقتها الخاصة.

والنفس لابد أن تكون كائنا طاقويا كالجن أو الملائكة، فهي تتحسس الأشياء باعتبار تماس إشعاعاتها معها، ولكني أحتمل بأن الذي يفسر لنا ما نراه في المنام هو الدماغ.

فالنفس التي هي الإنسان بحقيقته تنقل حينما تعود إلى البدن بعد اليقظة الصور والمشاهدات إلى المخ الذي يستقبلها ويخزنها في خلاياه، النفس تقوم بذلك بهدف إبقاء حالة الاتحاد مع البدن.

ولذلك فلا يمكن أن نتصور بأن ما ننقله للغير وما نشعر به بعد اليقظة هو عين الذي رأيناه في النوم. لعل المخ يفسر الصورة النفسية لنا أو أن النفس تفسرها للمخ الإنساني. ولذلك فإن الارتباك في النقل متوقع بشدة. 

فحينما نرى مناما دقيقا ينطوي على أرقام نتمكن من عدّها بالكامل فإننا سنشعر بأن هذه الرؤى ليست من نسج الخيال. دعنا نستعرض أنواعا من الرؤى والمنامات التي يمكن للبشر أن يروها وكما يلي: 

1.      أحلام نرى فيها الميتين من أفراد عوائلنا وأصدقائنا وبعضهم يحملنا رسائل لقومه وأهله وقرابته. هذه الأحلام مرفوضة قرآنيا ولا يمكن أن ننسبها إلا إلى الخيال المحض. إنها تمثل حركات وهمية للصور الذهنية فحسب. ذلك لأن الله تعالى لا يمكن أن يفتح باب ارتباط بيننا وبين الموتى. قال تعالى في سورة المؤمنون:

حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100).

والبرزخ هو الحدود الفاصلة التي تقطع سبل الارتباط. قال تعالى في سورة الرحمن:

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ (20).

والبحران الكبيران هما ما نسميهما اليوم بالمحيطين الأطلسي والهادي والقارة الأمريكية التي بينهما تمثل البرزخ.

وقال سبحانه أيضا في سورة النمل:

إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80).

والآية بصدد الحديث عن عدم قدرة الرسول على منح الهدى لمن شاء ولكنها تستشهد بحقيقة علمية وهي أنه عليه السلام لا يمكنه أن يُسمع الموتى.

ولازم ذلك أن ينقطع الارتباط بيننا وبينهم. فتلك الرؤى مجرد خيال ولا حجة فيما يذكرونه من وصايا واعترافات للموتى بعد موتهم. كل ذلك من وحي الشيطان ليلعب في أذهان الأحياء ولا قيمة لمثل هذه الأحلام.

2.      رؤى نشعر بها أن الله تعالى يأمرنا فيها بالسلبيات. فهي مما لا يعتد به لأن الله تعالى لا يمكن أن يأمر بالسلبيات. مثال ذلك المنام الذي رآه أبونا إبراهيم عليه السلام فظنّ بأن الله تعالى يأمره بذبح ابنه.

بالطبع أنه كان يعيش قبل التطور الفكري وقد أثبت بجدارة أنه يحب الله تعالى أكثر من أبنائه وحتى نفسه وقد جزاه الله تعالى خير جزاء لثبوت إيمانه العميق بربه. يجب أن نعلم بأن الذي يأمر بالسلب هو الشيطان ومن يسير على دربه ولكن الله تعالى وملائكته لا يمكن أن يوحوا بالسلبيات. إنه سبحانه إيجابي محض وملائكته لا تطيع غير الله تعالى فلا يمكن أن ننسب مثل هذه الأحلام إلى الله تعالى.

3.      رؤى نرى فيها الحقائق العلمية بدقة فهي أحلام صادقة لا يمكن أن يوحي بها الشياطين. إنها من وحي الرحمن أو ملائكته وهي مفيدة ولطالما انتظر العلماء والمفكرون حصولها لهم ليحلوا مشاكلهم العلمية.

إن الإنسان ينطوي على مكنونات ذهنية ورثها من الغير أو اكتشفها بنفسه؛ وحينما يواجه مشكلة جديدة بكل معنى الكلمة فلا يجد في محفوظاته الذهنية حلا لها فإنه لا محالة يسعى للارتباط بالغيب لكسب المعرفة والوصول إلى الجواب الصحيح. والله تعالى هو الذي يتولى إلقاء المعلومات الجديدة التي يحتاج إليها عبيده ليخدموا البشرية.

4.      رؤى نرى فيها أخبارا مستقبلية قريبة الوقوع مثل موت شخص أو شفائه أو حصول حريق أو سرقة أو اغتصاب أو احتلال أو تحرير أو زواج أو كسب مال أو ثروة قريبة. أظن بأن هذه الأحلام لا يعتد بها بادئ ذي بدء لأن الله تعالى لا يُخبر الناس بما سيفعله غدا ولكنه يخبر الأخبار المستقبلية البعيدة أحيانا ليتهيأ الناس أو المسؤولون لها.

فإذا أراد الله تعالى لشخص أن يموت بعد أيام باعتبار أنه مبتلى بالسرطان في كبده مثلا ولا يمكن علاجه ولا يريد سبحانه أن يمن عليه بعلاج خاص أو عكس ذلك فإنه سوف يموت بعد ساعات أو يشفى بعد ساعات أو أيام قليلة؛ فإنه لا يبلغه لعدم الضرورة. لكن الذي يقوم بإبلاغ مثل هذه الأخبار هو الشيطان احتمالا لأنه يريد أن يستفيد منها لصالح أهدافه الشريرة فيبلغ أحد أتباعه عن طريق الأحلام. وهي ليست صادقة دائما لأن اللعين ليس على علم دقيق بما سيحصل ولو رأى بعض آثار المستقبل لكنه لا يخسر شيئا بل الذي يخسر هو البشر الذي ينقل رؤياه للغير.

والشيطان يعرف ذلك أحيانا لأنه يرى الملائكة فيعلم من تصرفاتهم بعض الأخبار المستقبلية القريبة. إن الملائكة الموكلين بنا لا يعلمون شيئا عن المستقبل البعيد. الذين يعلمون أكثر من هؤلاء لا يعيشون بالقرب منا بل هم بعيدون جدا والشياطين ممنوعون من الاقتراب منهم. حينما كانوا يخبرون أولياءهم ببعض الأخبار الغيبية فإن الأنبياء كانوا موجودين لإحباط مقولاتهم ولكن بعد ظهور خاتم النبيين منعوا من الارتباط بالعوالم البعيدة للملائكة تثبيتا لعدالة السماء في غياب الأنبياء.

5.      رؤى يراها القليل النادر من الناس حيث يشاهدون في منامهم قضايا حصلت في نفس اللحظات التي كانوا نائمين ولكن في مناطق نائية وبعيدة. ثم تتجلى لهم بأنها كانت حقيقية.

هذه الأحلام صادقة تؤكد لنا بأن النفس مختلفة عن البدن وبأنها تترك البدن حين النوم أو تشعر بعدم الالتزام بالبقاء في البدن. والله تعالى يؤكد لنا في القرآن بأنه سبحانه يتوفانا حين النوم ومعناه بأنه سبحانه يعيدنا إلى فقدان الاختيار تماما مثل الملائكة الذين يعبر عنهم بالذين عند ربهم كما سنكون عليه بعد الموت وفي الحياة الأبدية.

ذلك لأننا صُنعنا بطاقة رب العالمين ثم يرسلنا مرة أخرى إلى الدنيا بعد اليقظة لنكمل مسيرتنا الإختبارية. قال تعالى في سورة الزمر:

 اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا؛ وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا؛ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَيُرْسِلُ الأخرى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42).

ولا ضير أن نعرف بأن النفس موجود طاقوي يسير بسرعة كبيرة لا تقلّ عن سرعة الضوء. إن أغلب الاحتمال عندي بأنها أسرع من الضوء والسبب في هذا الاحتمال هو أنني لاحظت بأن النفس تعود فورا إلى البدن بمجرد سعي الغير لإيقاظ النائم.

أما الرؤى التي تكون من وحي الشياطين وهي كثيرة، أو التي تكون من وحي الخيال البشري نفسه فهي مبثوثة إلى النفس حال عودتها إلى البدن احتمالا. ونعرف بأن للنوم مراحل متعددة ومن الصعب معرفة طول كل مرحلة. وأكثر العلماء الجدد يظنون بأن الرؤى تحصل في المرحلة الأخيرة من النوم بحيث يكون المرء قريبا من اليقظة. والشيطان يبعث بوحيه على شكل وحدة متكاملة ليضمن وصولها إلى النفس بالسرعة الممكنة. ولذلك فإن وحي الشياطين إما أن يكون قصيرا أو أننا نراه متقطعا. ولو نلاحظ فان منام إبراهيم كان قصيرا جدا فقد خُيل له بأنه يقتل ابنه دون أرقام ودون تفصيلات.

6.      رؤى ترد على بعض أصحاب الشأن وتريهم بعض المسائل الكبرى التي ستحصل في المستقبل ليستعدوا لها. هذه الأحلام تمثل وحي الرحمن لمساعدة البشر وهي صادقة. وعلامتها أنها مركزة وتنطوي على أعداد دقيقة. مثال ذلك المنامين المذكورين في سورة يوسف ليوسف والملك. كلاهما ينطويان على أرقام مما يدل على أن الذي رآهما تمكن من عد الأفراد الذين ظهروا له في المنام. فيوسف رأى إخوانه وعدهم ولمسهم بالعدد الكامل دون زيادة أو نقصان. وأما الملك فإنه رأى الأعداد أربع مرات في منام واحد. إنه رأى سبع بقرات سمان ثم سبع بقرات عجاف ثم سبع سنبلات خضر ثم سبع سنبلات يابسات. لقد تكرر العدد أربع مرات وتمكن الملك من أن يعدها في كل مرة فهو منام صحيح يجب الاعتداد به عقليا.

وأما الرؤى التي رآها رسولنا محمد (ص) فلا نعلم عن تفصيلاتها شيئا. لقد أشار الله تعالى إليها دون تفصيل. فلا بد أن تنطوي على مسائل دقيقة تنبئ عن صحتها ولعلها أرقام أو أشياء أخرى. ولعل السبب في أن الله تعالى أشار إليها في القرآن ليقول بأن الرسول لا يستلم كلمات قرآنية غير القرآن نفسه. ولعله لا يستلم وحيا غير القرآن ولذلك كان يستلم الوحي المنامي لمسائله الكبرى دون الوحي القرآني الذي هو أكثر وضوحا بالضرورة. إنه موحى للناس جميعا عن طريق الرسول الأمين. نهاية الهامش 30.)

يتبع …

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.