اشكالات القبنجي 11-القرآن في قوقعة الزمان والمكان

اشكالات القبتجي 11- 

القرآن في قوقعة الزمان والمكان

هذه المقولة هي ما صرح صديقي الجديد بذلك وفحوى ما أشار إليه القبنجي والأستاذ سروش أيضا.

من الطبيعي أن كل شخص يكتب كتابا فإنه ينقل لغيره أفكاره الشخصية وتحليلاته للموضوع الذي يشرحه. إنه يرى بقلبه حقائق ترتبط بمرئياته ومعايناته ومسموعاته ومدركاته في الغالب. بالطبع أن هناك مسائل أخرى وراء ما نرى ونسمع ولا داعي لمناقشتها هنا. والأنبياء لا ينفصلون عن البشر في أنهم يتأثرون بالزمان والمكان بدليل أنهم ولدوا ثم ماتوا. إنهم تزوجوا وأنجبوا وقرءوا وكتبوا ودرسوا. إنهم كانوا يخطئون فيستغفرون. هنالك يغفر لهم ربهم أو يعاقبهم كما فعل بالكثيرين منهم بناء على القرآن الكريم. ثم نحلل أعمالهم التي ذكرها القرآن فنراهم يخضعون للتطور الفكري والعلمي؛ والتطورُ بكل أنواعه يتأثر بالزمان والمكان.

إن خطأ الكثيرين يكمن في أنهم ينظرون إلى قول النبي نظرهم إلى كلام الله تعالى فيوهمون العامة من الناس بأن النبي لا يمكن أن يخطئ حتى خارج الوحي. وحينما نقرأ القرآن نجد بأن أقرب الناس إلى الأنبياء من الصحابة والأهل لم يكونوا ليذعنوا لأوامر أنبيائهم بل كانوا يتجاهرون بالمخالفة من منطلق المعرفة وليس من منطلق العزة بالنفس. كانوا يطيعون الأنبياء في تفسيرهم للوحي ولكنهم يخالفونهم في تفسيرهم للأحداث حتى بعد أن يبايعوهم بالإمارة مثلا. فنحن هنا لا نتحدث عن المولعين بالأحاديث والتاريخ والسيرة ومن جاراهم. إنني أكتب عن القرآن فحسب وأرد على من يدعي ضد هذا الكتاب أو ضد ربي جل جلاله. ليس للأحاديث أية أهمية عندي ولا أؤمن بها. إنني أحب رسول الله عليه السلام وكل الرسل الإلهيين عليهم جميعا سلام الله تعالى. وأعتقد بأن الذي يعاديهم لا يستحق الجنة ولكن حبهم ليس من موجبات دخول الجنة، والعلم عند الله تعالى.

لكن الأخ القبنجي وصديقي الجديد والكثير من المعترضين على القرآن بمن فيهم الملحدون يخلطون بين الحديث والقرآن. إنهم ينظرون إلى القرآن من نافذة تفاسيره ولا يفكرون فيه بأنفسهم ولا يسعون لفهم رسالته بغض النظر عن أقوال المفسرين الكرام. إنني على ثقة بأن الذي خلقني حكيم عليم وقد أعطاني الفكر والعقل والعلم فلا يمكن أن يتركني سدى. ولا يمكن أن لا يكون له مرجع يمكنني الرجوع إليه. ولو رجعت إلى أصحاب العمائم والألقاب الكبيرة والادعاءات الكبيرة فإنهم سيضلونني لأنهم ببساطة غير متفقين فيما بينهم على أمر.

إن لكل مجموعة من الناس الواقعين تحت لواء مذهبي أو ديني رجالا يقودونهم بكل الوسائل غير العلمية التي ذكرتها هنا. فأين أذهب؟ ثم إنهم يجهلون أكثر المسائل القرآنية المرتبطة بالعلم والفكر. ما أقول لمن يظنّ بأننا كبشر يمكن أن نرجع إلى بشر مثلنا بدون أن يكون قد أوحي إليه أو نعود إلى كتب خطتها أيدي الناس أو نقول بأن القرآن كتاب منقول لنا مثل كتاب البخاري أو الكافي؟ فأنا أتحدث فقط عن القرآن ولا أؤمن به باعتباره كتابا منقولا عن طريق الناس. وسوف أناقش بعد قليل مسألة القرآن باختصار من عدة زوايا لنعلم بأنه كتاب الله تعالى وليس لمحمد القدرة على فهمه بالكامل فضلا عن الإتيان بمثله.

الزمان والمكان بالنسبة للقرآن:

من الواضح أن هناك زمانا نزل فيه القرآن ثم توقف كما أن أماكن النزول محصورة في الحجاز كما يقولون. لكن الحقائق العامة موجودة ويمكن الوصول إليها ولا يمكن إنكارها. يستحيل إنكار وجودنا كما يستحيل إنكار ماهياتنا فنحن موجودون ونحن حقيقة لنا أجسام وعقول. كل هذا يحتاج إلى الزمان والمكان ولكن فهم الحقيقة لا يحتاج إلى الزمان والمكان بل إنهما يزاحمان الفهم. فلو نظرنا إلى الزنا في أي زمان أو مكان ملاحظين مسألة النفور والقبح فقط فسوف نشعر بالتفاوت الكبير بين الناس في الأزمنة والأمكنة وتحت تأثير الأديان والنظم الاجتماعية. لكن حقيقة أن الزنا يربك تشكيل الأسرة ويعرض الأمة لخطر الزوال والقصور الفكري أمر غير قابل للإنكار. هذه الحقيقة تابعة لطبيعة الإنسان والمجتمع الإنساني الذي يسير وفق إرادة خالقه ولا دخل للزمكان فيها.  

إن كل قوم يتأثرون بالظروف الطبيعية التي يعيشون فيها ليختاروا مطعمهم ولكن لا شك في أن بعض الأطعمة ضارة وبعضها مفيدة تساعد البدن الإنساني على البقاء وتساعد الفكر على كسب النشاط. ليس هناك اختلاف زمكاني في هذه الحقيقة ولكن يصعب فهمها والكشف عنها يتولاها أهل العلم في كل مكان وتبقى استنتاجاتهم عرضة للمناقشة والجدل لتكون في مكان ما بين الرفض والقبول.

لا يتحدث القرآن عن كيفية الزواج واختيار الشريك إلا في حدود النصح والوعظ ولكنه يتحدث عن لزوم الزواج والابتعاد عن الزنا. يترك القرآن كل المسائل الجانبية لبرلمانات الأمم ولا يعطي فيها رأيه حتى لا يؤثر في شعور الناس بالحرية وحتى لا يوقف تطورهم الفكري ليتناسب الحكم مع الزمكان.

يتناول القرآن موضوع الطعام الحيواني باعتبار أن الإنسان يريد أن يقتل حيوانا ويريق دما فيحتاج إلى إذن من الله تعالى ثم إنه يمكن أن يتناول طعاما حيوانيا يضر ببدنه ضررا بليغا لا تظهر آثاره بسرعة أو أنّه قد يؤدي الى ضرر في نشوئه التطوري ورقيه وتقدم مسيرته التطورية إلى الأمام.

نعم هناك مسائل زمكانية خاصة بعصر النبوة وهو عصر مهم جدا للأمة الإسلامية وكذلك لمحاسبات يوم القيامة باعتبارهم نماذج للحساب وليس للاقتداء بهم. لم يقل الله تعالى بأن الصحابة نماذج عملية لنا بل قال بأن الرسول أسوة حسنة لهم. إنهم يرونه ويعيشون معه فماذا لو اقتدوا به و بهداه؟ ونرى اليوم بأن الكثيرين يستشهدون بالآية المعروفة ليقولوا لنا بأن الرسول عليه السلام أسوة لنا فعلينا بأن نتبع الأحاديث المروية عنه لنتأسى به وننظر إلى سيرته لنسير مثله. وبما أن الأحاديث والسيرة غير مصونة من الله تعالى وخليط من الصدق والكذب فإنهم يدعوننا نحن الناس العاديين أن نتبعهم هم أصحاب العمائم والألقاب ليعينوا لنا الحديث الصحيح والسيرة الصحيحة!

سنكون عمليا أتباعا لهم ولسنا أتباعا للرسول. ولننظر ما الذي قاله ربنا سبحانه وهي في سورة الأحزاب:

يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22).

إن الآيات تتحدث عن هجوم الأحزاب على المسلمين ويخاطب صحابة النبي بأنهم كان لهم خلال الحرب أسوة حسنة في رسول الله عليه السلام الذي ثبت ولم يهتز ولم يهرب من المواجهة. لو كان الرسول أسوة حسنة في كل شيء لكان من حقهم أن يتزوجوا تسع زوجات وأن يدعوا استلام الوحي من الله تعالى.

وحينما يأمر الله تعالى النبي وقومه بأن يتأسوا بإبراهيم فإنه يحدد المورد الذي يتأسون فيه بإبراهيم ومن معه. قال تعالى في سورة الممتحنة:

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5).

ويمكن ملاحظة أن مورد التأسي بإبراهيم محدود في البراءة من المشركين بعد أن ثبت لديهم أنهم أعداء الله تعالى. ثم إنه سبحانه يستثني من التأسي، قول إبراهيم لأبيه بأنه سيدعو له.

ليس في القرآن أي أمر عام بأن نتأسى بالرسل فكيف بغيرهم؟ وللعلم، فإن التأسي بالأنبياء لا يماثل كونهم شهداء. التأسي لاتباع سيرتهم في الدنيا وهي كما قلت محدودة ولكنهم شهداء ليس للدنيا بل ليوم القيامة فقط وقد وضحتها مرارا وأشرت إليها في نفس هذا الموجز أيضا.

نعم، هناك مسائل خاصة بالرسول نفسه لأغراض اجتماعية تخص الدعوة إلى الله تعالى. كما أن في القرآن سورا وآيات محكمة للقتال تحت لواء الرسول وليس بشكل عام. لا ينطوي القرآن على أي إذن للرسول بأن يعلن الحرب ضد أيّ أحد وليس هناك أي إذن بالطبع لأي شخص آخر أن يعلن الحروب. وكل الغزوات التي يذكرونها خارج نطاق القرآن ما هي إلا أكاذيب وضعها الملوك الأمويون والعباسيون ليبرروا حروبهم الهجومية وفتوحاتهم البربرية الظالمة. وقد اتبعهم الفاطميون والعثمانيون في الإجرام والهجوم على البشر وسينالون العقاب الأليم من ربهم دون شك.

بين أيدينا الكثير من التشريعات المرتبطة بالأزمان والأمكنة وكلها غير قرآنية وغير ملزمة لأحد. إن من حق البرلمانات وما يعادلها بتفويض من أممهم أن يشرعوا لشعوبهم ما لم يروه واضحا في كتاب الله تعالى. إنها تشريعات قومية يلتزم بها الناس باعتبارهم قد صوّتوا لنوابهم ولزعمائهم فهو من باب التزام كل شخص باختياره ثم إلزام الأقليات التي تعيش مع الأكثرية بتشريعات الأكثرية وليس بتشريع سماوي ولا أمر إلهي. ولا ننس بأن الأقلية تتمتع بقوة الأكثرية وبالسلام الذي تحققه الأكثرية للأمة والوطن فهما في الواقع متوازنان في الحقوق والمكاسب.

يتبع ….

أحمد المُهري

#تطوير_الفقه_الاسلامي 


https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.