المؤمنة كاترين 11- مفاجأة سارة 2

Happy and smiling pretty young girl with glasses, writing diary on her working desk. Vector illustration character, cartoon, outline, thin art line, linear, hand drawn sketch design, simple style.

المؤمنة كاترين

المقطع الحادي عشر

مفاجأة سارّة (2)

تخيل لعلوي أن مائدة السماء قد نزلت في شقة كاترين، كل شيء نظيف وجميل ورائحة الطعام تهف نسيم الربيع على نتوءات الوجه فيغمر الأنف بالشمائم كما تستريح النفس والقلب لعطره الفائح. إن يدا ساحرة نضدت السفرة وأفاضت عليها الألوان القسطلانية البهية. فكر علوي قليلا في كاترين قائلا في نفسه: متى تقوم هذه الفتاة الغارقة بالعمل والتفكير بتنظيم هذه الشقة الفاتنة وتنظيفها وكيف تجيد الطهو والتزيين وترتيب طاولة الأكل. إنها حقا امرأة رائعة.

توجه لحظة إلى السقف ليخفي خجله فإذا به يقول: كاترين، هل هذا سقف الشقة أم قبة النجوم؟

كاترين:

طالما تخيلت النجوم والمجرات وما في السماوات بدلا من النوم ليلا، فعمدت على رسم خريطة البروج   على هذا السقف ورسم خريطة مصغرة لدرب اللبانة على سقف غرفة النوم كما رسمت خريطة افتراضية للعالم العلوي على سقف  الصالة.

علوي: 

ياله من رسم جميل يوحي بعظمة الرسام ودقة تعبيرها عن نجوم السماء. إنك امرأة مثالية يا آنسة كاترين. كلما أفكر فيك أزداد إعجابا و..  (انتبه إلى وحي الخيال فأمسك عن التفوه بكلمة وحبا) ثم أردف: واحتراما.

ماري: 

يا أستاذ علوي: كلاكما توحيان بالإعجاب والاحترام وتزيدان من يتأملكما إعظاما لشأنكما. إنني أتعجب من….

كاترين:

تفضل يا علوي عصير البرتقال الطازج فأنت مرهق قليلا.

علوي: 

شكرا كاترين وأنا مرهق فعلا.

ماري: 

يا آنسة كاترين، لقد سألتك عن العم محمود التمار ولكنك نسيت أن تردي علي بعد أن نزلنا من السيارة. أنا مهتمة جدا بإيجاد حل لقضية صديقتي وأتمنى أن أحل مشكلتها مع زوجها.

تحدثت كاترين عن العم محمود التمار الذي يسكن قريبا منها وعن علمه وأدبه فاتفق الجمع على دعوته للمشاركة معهم في عشائهم. لكن كاترين استدركت بعد لحظات عظمة شخصية العم محمود التمار وهابت من الإقدام على دعوته بهذه السرعة. أظهرت كاترين تهيبها إلى علوي وماري، لكن ماري طلبت منها عنوان العم محمود وقالت: سوف أذهب إليه وأدعوه فأنا لا أخاف من هذه الوجوه  المحبوبة. قامت وقامت معها كاترين لتصاحبها إلى بيت العم محمود بعد أن فكرت أن عدم ذهابها إلى بيته مصيبة أخرى مادامت ماري مصرة على دعوته.

عادت الفتاتان إلى البيت دون العم محمود لأنه كان غائبا عن البيت، لكن ماري جلست على الشرفة تنتظر عودة العم حسب مواصفات كاترين لتكرر الذهاب إلى بيته.

ماري: 

ها هو الرجل الرباني الذي يمشي الهوينا ولا يفارق التفكير، تعالي يا كاترين لتؤكدي على فراستي.

كاترين:

إنه هو يا ماري وانظري إلى الهيبة التي تتألق من ظاهره البسيط.

ماري: 

حقا، إنه ملاك كريم وليس إنسانا. ولكننا لا نخاف الملائكة مادمنا مؤمنين بربهم وربنا.

كاترين: 

ولكن لا تغفلي أنه يخاطب ربه يوميا خمس مرات أو أكثر، يقف أمامه بخشوع ليؤكد له عبوديته ويجلب رضاه ومغفرته. أما نحن فلا نصلي إلا مرة واحدة في الأسبوع وكم من خطابات جاهلة نخاطب بها ربنا العظيم خالق الكون. هل رأيت مسلما يدعو ربه بالأب ويدعو عبيده وأنبياءه بل وعامة الناس بأبناء الله، كما نفعله نحن. بالله عليك هل يمكن توظيف الارتباط العائلي بين الابن والأب لبيان الارتباط العبودي بين فاطر السماوات والأرض وبين مخلوقيه الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة إلا به.

كل ابن يمكن أن يصير أبا بعد سنوات وكل ابن مسبوق بعلاقات عاطفية تمت بين أبويه وكل ابن يضاهي أباه ولكن بنسبة أصغر. الأبناء يرثون آباءهم والآباء يموتون كما يموت أبناؤهم. الآباء ضعفاء أمام طلبات أبنائهم والأبناء يطمعون في مجاراة آبائهم. الآباء والأبناء من جنس واحد ومن فصيلة واحدة والابن جزء من جسد أبويه كما أنه يخلق من نطفة أمشاج. فأي هذه الروابط موجودة بين القديم الأزلي الجميل البديع وبين أي ممن دونه؟ وهل من دونه أحد سوى الذين خلقهم بيديه وأفاض عليهم الحياة من فضله وهو يمدهم ويمدهم بإمكانات البقاء لحظة تلو لحظة دون توقف كما يمد المولدُ الأسلاك بالطاقة وحدة بعد وحدة بعد أخرى.

ما الذي يحصل إذا توقف الخالق لحظة واحدة عن مد ذرات الكون بالطاقة الخفية للدوران حول النواة فلو حصل ذلك فإن الكون سوف ينهار خلال تلك اللحظة  ثم هو بحاجة إلى بلايين السنين ليعود إلى ما هو عليه اليوم. فهل من ارتباط مثل الأبوة والبنوة بين الخالق وعبيده؟ ما الذي يحصل لو أهلك الله المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا؟

ماري: 

إنني متشوقة جدا لأحاديثك ولكني وإياك بحاجة أكبر للتزود من علم العم محمود التمار فهلم نذهب إليه.

استأذنتا مرة أخرى من علوي وابنيه ونزلتا من الشقة باتجاه بيت العم محمود.

ماري: 

السلام عليك يا عم محمود أنا ماري صديقة كاترين وهي واقفة خلفي. أتيناك ندعوك لتشاركنا عشاءنا مع السيد علوي وابنيه الصغيرين الذين فقدا أمهما في السنة الماضية.

العم محمود:

عليكما السلام يا ماري ويا كاترين. أشكركما، اذهبا فسوف ألتحق بكما قريبا، لعلي أشارككما الثواب في مداعبة الطفلين اللذين فقدا أمهما.

تأثر العم محمود من قصة ابني علوي وتأوه في قلبه ثم قال يارب: لا تبل صغيرا بفقد أبيه أو أمه.

دخل العم محمود لأول مرة بيت جارته المسيحية المؤمنة وبعد السلام التقليدي توجه بكل قلبه نحو الطفلين ليمسح وجهيهما ورأسيهما ويقبلهما كأنهما حفيداه. استكان الطفلان كثيرا للشيخ الودود وسُرّا به كما سرّ هو بهما.

توجهت كاترين إلى السماء تشكر ربها على هذه المناسبات والمفاجآت السعيدة التي هيأها الله لها في ذلك اليوم الأغر وعلمت يقينا أنها إرادته تعالى الذي يسبب الأسباب ويخلق المودة والرحمة بين الناس بلمح البصر. لم تكن تفكر أبدا بأنها سوف تستقبل في يوم واحد هذه الوجوه الطيبة واحدا تلو الآخر. إنها مغتبطة جدا ولا تعرف كيف تقدم الشكر لخالقها العليم الحكيم.

ماري: 

نحن سعداء اليوم بأن تكمل يا عم محمود اجتماعنا على مائدة كاترين فلم نقبل إلى هنا إلا على خير نأمل أن يرضي ربنا. هذا اليوم هو أجمل يوم في حياتي التي مضت، فقد تعلمت الكثير من جارتك كاترين بعد أن تعرفت عليها صدفة على شاطئ السالمية. كما أن تقدير العزيز العليم أتى بعلوي المهذب والكريم في نفس المكان لأتعرف عليه وأتلذذ كثيرا بمصاحبة ابنيه البهيين زيد ولبيد.

محمود:

إن قلبي يعرفكم ويمنحني السكينة بوجودكم. أشعر بالإيمان حينما أستقبل الطيبين الذين ينطوون على مكارم الأخلاق وينشرون بأقوالهم وأفعالهم شذا الخير وعبق العلم والكمال. أتمنى أن تطول هذه الليلة لأتزود من مجلسكم ما أرضي به ربي وأحتسبه لذنوبي وسيئاتي.

علوي: 

كم أنا سعيد اليوم فإن ابنيّ لا زالا إلى هذه الساعة يستزيدان الحنان والأنس كما أني كذلك. يا عم محمود: قلما يمر يوم دون أن تنيرنا كاترين بقبس من ضياء علمك. كنت أزداد اشتياقا وولعا لرؤية طلعتك الكريمة  كلما أسمع عنك وإني فخور بالالتقاء بك وأتمنى أن يتكرر هذا اللقاء.

كاترين:

يا عم محمود قبل أن نخوض في حديث أطول فإن لماري مشكلة ابتلت بها صديقتها ولعلك تسعفنا بحل لها.

توجه العم محمود إلى ماري التي ذكرت قصة الطلاق الأسطورية بين ذين الحبيبين، فتنهد قائلا:

كفى الله المسلمين شر الذين وضعوا أنفسهم أولياء عليهم. لقد أنزل  الله كتابه على نبيه ليكون هدى للناس والقرآن هو المعجزة التي بقيت بحكمة السميع العليم بين المسلمين دون تغيير إلى اليوم محفوظا من كل مس. إن الكثير من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله مسته يد المارقين والكثير من سيرته وتاريخه اختلف فيه بين طوائف المسلمين. إن هناك بين الروايات ما لا يقبله الوجدان البشري، فكيف نؤمن به في مقابل القرآن. نرى في صحيح مسلم رحمه الله بابا بعنوان باب رضاعة الكبير. مسلم يروي في هذا الباب روايات من السيدة عائشة رضي الله عنها ما يفيد تأثير الرضاعة بعد سن البلوغ. يا ترى هل من مسلم يرضى بأن يرتضع من ثدي امرأة أجنبية وهو مكلف في سن البلوغ وهل رضاعة الكبير بالحرام تجعل الانسان أخا رضاعيا لطفل أو طفلة بريئة؟ ثم يصححه بعض البسطاء بقوله: “لعلها حلبته ثم شربته من غير أن تمس ثديها!”. ثم يلتفت آخرون بأن الله حرم الرضاعة بعد السنتين فيقولون: لعله مختص بشخص معين!

بالله عليكم أليس النبي جاء ليبلغ حكم الله علينا فهل له أن يخص بعض أصحابه ومواليه بحكم معين يخالف القرآن. ولنا في مسألة ارتفاع عدد أزواج النبي عن الحد المسموح للمؤمنين بأمر الله في القرآن عبرة بعدم جواز مخالفة النبي للقرآن المنزل من ربه وسيده جل وعلا. كيف نتقي من تكذيب الإمام مسلم رحمه الله ولا نتقي من الكذب على نبي الله وخاتم رسله (ص)؟ إن من الخير لنا في مثل هذا الباب أن نكذّب الرواية ونضرب بها عرض الحائط.

إنهم لا يعون أن الرضاعة تؤثر في تكوين البدن ونموه خلال السنتين الأوليين فكما كان الطفل يتغذى على دم أمه في الرحم وبذلك أصبح أخا أو أختا لمن يتغذى من نفس الرحم، فهو بالرضاعة ينمو على حليب المرضعة وبه يصير أخا أو أختا لمن نمى بدنه من نفس الحليب. فالأخوة بالرضاعة مسألة طبيعية وضحها لنا المشرع من رحمته ولطفه علينا فحسب.

فما بالنا بالذين اجتهدوا في مقابل القرآن. ولعلهم لم يفعلوا ذلك ولكن التغيير الذي مس أحاديث الرسول يمكن أن يمس آراء أولئك الفقهاء أيضا. إذا اجتهد فقيه في زمن ما فكيف يبقى حكمه ملزما للمسلمين إلى يوم القيامة؟ هل هو نبي نادى بحكم الله ليكون حلاله حلالا وحرامه حراما بعده وهل هو خاتم الأنبياء ليكون عموم حلاله حلالا إلى يوم  القيامة وعموم حرامه حراما إلى يوم القيامة باعتباره ناقلا لتشريعات السماء وليس مشرعا؟

إنني أخجل حينما أسمع من بعض شيوخنا هداهم الله وهم يذكرون هذه الفتاوى البائسة في الإذاعات. لقد سمعت مرة شيخا من شيوخ الدين في الإمارات العربية المتحدة وهو يرد على سؤال سائلة قالت بأن زوجا قال لزوجته وهو في حال الغضب: لو وضعت قدميك خارج البيت فأنت طالق ثلاثا. واضطرت المرأة لحفظ ابنها من دهسة السيارة أن تخرج أمتارا خارج البيت لتنقذ ابنها فقال الشيخ إنها طالق ثلاثا ولا علاج للمسألة. ألحت المرأة عليه بأن يفتي بغير ذلك فإن الرجل نادم أكثر من المرأة  وقد كان في حالة غضب لا يؤاخذه الله عليه، فكان الجواب هو الطلاق بالثلاث!!

عيب على شيوخ الدين أن يهينوا المرأة إلى هذا الحد الشائن. ما ذنب هذه المسكينة أن تطلق بالثلاث على خلاف القرآن لأن مفتيا أخطأ قبل أكثر من ألف سنة؟ هكذا يبعدون الناس عن الإسلام وعن أحكامه الإلهية التي تفيد البشر في كل  زمان ومكان. ليس للرجل هذا الحد من الولاية على المرأة. إنما هو   مدير لبيت الزوجية تبعا لطبيعته التي تتناسب مع أخذ القرارات الصعبة. كل ذلك إذا كان هو الذي ينفق على البيت فعلا. ولا يملك الزوج الذي لا ينفق على البيت المشترك أية ولاية على من في البيت. إن طلاقا مثل هذا  يرعب الناس ويبعدهم عن سنة رسول الله في الزواج. وما حَكَم الله بهذا أبدا.

هذه المرأة لا زالت في قيد الزوجية، أما الطلاق فهو مرفوض بصريح  القرآن. فهو لم يصدر حتى مرة واحدة. هذا الرباط يحبه الله ولا يفكه بهذه السهولة ولا طلاق حين الغضب كما لا اعتراف حين الغضب أيضا. ولا قسم حين الغضب. لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان. والطلاق عقد من العقود ويحتاج إلى التعقيد بروية وتعقل وبكمال الصحة وصحة الإرادة.  وللزوج أن يطلق زوجته مرتين يعود بعد كل منهما عليها ثم إن طلقها ثالثة حرمت عليه ما لم تتزوج بآخر، والطلاق بالثلاث باطل قطعا ولا نقاش فيه لأنه يخالف نص القرآن. إن الله تعالى أمر بأن يُحصوا العدة لكل طلقة فلا يجوز تجاوزها أبدا. ثم إن شهادة الشاهدين العادلين لازم بحكم الله في سورة الطلاق:2 “وأشهدوا ذوي عدل منكم” ثم إن خطاب الطلاق للنبي باعتباره الحاكم الشرعي وليس للرجال باعتبار الزوجية: سورة الطلاق:1 “يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن…”

كاترين:

وما تقول يا عم محمود في ما يفتونه بأن كل عقد تم على الشريعة التي تعتقد بها فهو ملزم لك.

محمود:

هذه الفتوى غير ملزمة دائما. إنها ضرورية لأن الإنسان يتحول أحيانا من دين إلى دين ومن مذهب إلى مذهب، فاللذين تزوجا وأنجبا في اليهودية ثم اعتنقا الإسلام فإن الزواج السابق يعتبر زواجا شرعيا والأولاد شرعيون يرثون على مذهب الجميع. أما الذي عمل بفتوى مجتهد مات قبل اثني عشر قرنا ثم انتبه أنه كان قد أخطأ في فتواه ولم يستتبع العمل بالفتوى فهو غير ملزم. ولكن لو أن المطلقة كانت قد تزوجت من شخص آخر في ما بعد فلا مناص من قبول ذلك الطلاق  الخاطئ رجاء رحمة من الله تعالى.

إن قبول الزوجين المذكورين للإسلام أقوى بكثير من اعتناقهما لأحد المذاهب الإسلامية، فهما مسلمان قبل أن يكونا حنفيين أو مالكيين. التزامهما بالإسلام أهم بكثير من التزامهما بالعمل بفتوى المجتهد المسلم وهذه الفتوى تخالف النص القرآني. ثم إن الأعمال بالنيات فلو سئل الزوج لقال أنه لم ينو الطلاق فعلا ولكنه أخطأ في حال الغضب، فهل تقبل أية عبادة بلا قصد حتى يتحقق الطلاق بدون أن يقصد. الطلاق هو فسخ موافقة الزوج على نكاح المرأة نفسها له من قبل وهو مثل العقد يترتب عليه آثار أهم مما يترتب على عقد الزواج نفسه ويجب فيه القصد والانتباه بل يجب فيه حضور شاهدين عادلين أيضا، فلعل الشاهدان يمنعانه من الإتيان بالطلاق ويسعيان للإصلاح ؟

ثم إن خطاب الله تعالى للنبي ليمنحه حق الطلاق يعني تماما بأن الطلاق ليس بيد الزوج فكيف ينسبون إليه عليه السلام قوله: الطلاق لمن بيده الساق؟ هل يجوز للرسول أن يخالف ربه وهل هناك في القرآن أي تصريح بأن الرسول مُشرِّع؟ ما فعلاه ليس طلاقا وبما أنهما لم يرتبا على ذلك الطلاق المزعوم شيئا فهما لا زالا في قيد الزوجية دون أدنى ريب. وكل من يريد النقاش حول الموضوع فأنا على أتم الاستعداد.

 و بالنسبة للذين يرون بأن الطلاق حق للزوج وهو بالطبع غير صحيح؛ ولكن بفرض الصحة، فلو كان الزوج قد توفى بعد قولته هذه فلعلنا بنينا على أنه قصد الطلاق فعلا لأننا نحكم بالظاهر ولكنه حي يقول بأنه لم ينو ذلك فعلا فهو لغو واللغو غير ملزم حتى ولو أفتى المجتهد بذلك. ولو مات الذي قام بذلك التطليق الخاطئ فكيف يتعاملون مع الميراث بالنسبة للمرأة التي طلقت بتلك الطريقة الحمقاء. لكن الطلاق الشرعي في القرآن فهو طلاق يفرض على الزوج دفع مال لزوجته المطلقة. قال تعالى في سورة النساء: وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (21).

وقال سبحانه في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً (49). متعوهن تعني أعطوهن المال الكافي ليتمتعوا به ويعيشوا عليه. وقال تعالى في نفس السورة مخاطبا نبينا عليه السلام: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل ِلأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً (28). وقد لاحظت بأن بعض الناس يقسمون المهر قسمين حاضر وغائب وهو خطأ فاحش. المهر هو ما يسلمه الزوج بيد زوجته قبل المس ولا يوجد في القرآن مهر غائب. لكن آية الأحزاب تأمر بإعطائها مالاً آخر من زوجها. فلو كان الزوج مدينا لزوجته بالمهر فإن آية الأحزاب لا تدل على الاكتفاء برد المهر على الزوجة بل تبقى المنحة المفروضة شرعا على الزوج بقوتها. والعلم عند المولى.

حتى المبايعة التي تتم ويتم القبض والتسليم فيها، فإن حقوق الجهالة والغرر والغبن تبقى لأي من البائع والمشتري قبل أن يتم التصرف الفعلي في المبيع. لكن هذه الحقوق تزول عند فسخ رباط الزوجية المحترمة! لا يتم الزواج إلا بالشاهدين ولكن الطلاق يتم بالغضب والخطأ وبالثلاث! هذا مالم ينزل الله به من سلطان. حاش لله أن يحكم بهذه الأحكام السفيهة. يعني أن البضاعة أثمن من الزوجة وأن عقد المشاركة المالية أكمل من عقد المشاركة في الحياة.

وإنني أتعجب من الذين اشتهروا بالعلماء كيف يعتبرون قبول فتوى مجتهد ما، التزاما يستتبع وجوب العمل بجميع فتاوى ذلك المجتهد. المجتهد مثل الطبيب أو المهندس الذي يستشيره الإنسان ليتعلم منه العلاج الصحيح أو البناء المتقن فلو أخطأ الطبيب خطأ فاحشا كأن يقول علاج إصبعك المجروح أن تقطعه فهل تتقبل ذلك قبل أن تتأكد بنفسك علة هذه الوصفة وحيثيات المرض ولو كان الطبيب خيرَ من في الأرض في الطب. كل إنسان غير الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى لهداية البشر فهو معرض للخطأ، ولا يمكن للعاقل أن يلتزم بكل ما تفوه به المجتهد حتى ولو خالف عقيدته الأصلية.

علينا أن نغير نظرتنا إلى المجتهدين وخاصة الذين توفوا منهم. إن أكثرهم يجهلون شؤون الحياة العامة لاسيما حياة الإنسان في القرن العشرين وأكثرهم لا يعرفون أسس المدنية. إنهم قضوا كل عمرهم في البحث والتعليم دون محاولة التطبيق إلا ما ندر، وكان مأكلهم وملبسهم وبقية مستلزماتهم تمنح لهم دون أن يتحملوا عناء الكسب فقليل منهم يدرك مشاكل الأمة. أكثر هؤلاء كانوا محصورين في حدود جغرافية، من منهم سافر إلى الصين أو عبر المحيطات ليتعرف على حياة  بقية البشر؟ الإسلام دين الله الذي أراده الله للجن والإنس، والمجتهدون لا يعرفون إلا بعض البشر. دين الله ليس بحد ذاته قابلا للتطبيق في أكثر موارده بل هو بحاجة إلى نظام تطبيقي عهد الله به إلى البشر أنفسهم. أكثر المسائل الدينية بحاجة إلى الدقة والتعمق والتفسير الصحيح. وهذا لا يمثل نقصا في دين الله بل هو ضرورة الزمان والمكان والتطبيق المتغير.

ذلك لأن الناس يتعارفون بلغات مختلفة ويتفاهمون بمباني غير متطابقة من الأوليات الذهنية، ولولا ذلك لكان يمكن إنزال القرآن بشكل آخر. ثم إن  القرآن والسنة قدر لهما أن يمرا على عهود وبين أيادي غير مهتمة بأحكام الله اهتمامَها بمصالحها. الخلفاء والملوك الغابرون -عدا القليل منهم- كانوا يريدون العلو في الأرض عن طريق الخداع وتسفيه عقول شعوبهم. لا يمكن لهؤلاء المجرمين أن يحافظوا على أحكام الله بل كانوا يحاولون الدس فيها حتى يأمنوا اعتراض أتباعهم واحتجاجهم عليهم بأحكام الاسلام الذي سيطروا على الرقاب تحت لوائه.

حتى أحكام وآراء المجتهدين الكبار مثل أبي حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى لم تكن لتبقى على ما هي عليه. إذا لم تنج سنة رسول الله من التغيير فهل يصان نظر الإمام الشافعي رحمه الله أو الإمام جعفر الصادق عليه السلام ويبقى دون اعوجاج؟

ماري: 

يعني أنهما لا زالا زوجين أم بحاجة إلى إجراء صيغة الزواج مرة أخرى؟

محمود:

إنهما لا زالا زوجين وعلى الزوج أن يعوض زوجته بما سبق من النفقة، لأنها لم تكن ناشزة. ولكنهما إن أرادا إجراء الصيغة مرة أخرى واعتبار ذلك الطلاق الخاطئ الباطل طلقة واحدة فهو عائد لهما ولكن لا ضرورة له. أنا لا أظن بأن يلزم الله أحدا بما لم يلزم به نفسه. إنهما مسلمان وطلاقهما لم يضر بأحد. المسألة محصورة بينهما فلا إلزام أصلا، على فرض أنهما ألزما أنفسهما بما أفتى به أئمة المذاهب فإن ذلك ليس بسبب الاعتقاد الفعلي بل بأنهما انخدعا وظنا أن هذا الالتزام فرض واجب عليهما. فإن أتيا بعمل لا يضر بأحد ثم شعرا بأن التزامهما خطأ من الأساس بنيا على عدم الالتزام وتركا اتباع المذاهب.

إن كل فرد عاقل يمكنه أن يعمل بالقرآن وفيما لا حكم فيه فهو يعود إلى أحد المجتهدين ويسعى بنفسه للكشف على حقيقة الفتوى. كل الفتاوى التي ترونها ظنون وليست ملزمة لأحد. وليست علوما فلا يجوز نسبتها إلى الله ورسوله عدا ما هو ظاهر للجميع مثل حرمة الكذب والسرقة والزنا ومثل وجوب الصلاة والصيام والزكاة  والحج.

ولعلمكما فإن الرسول عليه السلام غير مخول ليفتي لأحد. بل هناك آيتان في سورة النساء تدلان على أنه غير مخول. قال تعالى في الآية 127 من سورة النساء: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ…. وقال سبحانه في نهاية نفس سورة النساء: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ…. ولا توجد في القرآن الكريم أية آية تبيح للرسول الأمين أن يفتي، فكيف نتقبل فتاوى غير الرسول؟

نحن نتطلع إلى اليوم الذي يتفق المسلمون فيه على دعم أكاديمية إسلامية تهتم بالمسائل الشرعية وتستخرج أحكام الله بدقة وعمق من الكتاب ومن السنة العملية التي توارثناها عن طريق آبائنا وليس عن طريق الكتب والمحدثين، مثل كيفية الصلاة. وكل مسألة غير مذكورة في القرآن فإن من حق الأمة بنفسها أن تنتخب برلمانا وتعطيه الحق للتشريع. ستكون تشريعات البرلمان بعد ذلك ملزمة لأهل ذلك البلد باعتبار إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم وليس باعتبار الدين وحكم الله تعالى. بالطبع ليس لأي مسلم الحق في رفض أي حكم صدر من الله تعالى وثبت لدينا من القرآن الكريم.

أحمد المُهري

يتبع: مفاجأة سارة (3).

16/3/2019

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.