المؤمنة كاترين -6 – العم محمود التمار

المؤمنة كاترين

المقطع السادس

العم محمود التمار (1)

خرجت كاترين من البنك وهي تفكر فيما قاله لها علوي وتشعر بأنه فتح أمامها رحابا واسعة من طرق الخدمة للناس وأنها يجب أن تستعجل في تنفيذ رأي رئيسها الصائب والصحيح.

توجهت كاترين نحو سوق الخضرة بعد أن استفسرت عن مكان بيع التمور ووقفت أمام أحد التمّارين تطلب التمر لعلها تستفيد منه في التغذية الخفيفة وفي مكافحة الأمراض وازدياد المناعة البدنية. إن عليها أن تتحمل عناء النوم القليل في أمسياتها الفكرية.

وانتبهت فجأة أنها أمام العجوز الذي ظنته أم سحيم أنه سيدنا الخضر عليه السلام وهي تسأله عن أسعار أنواع التمور! نعم إنه هو العجوز الذي ألقى إلي تلك الجملة الربانية المليئة بالحكمة والموعظة.

ارتجفت كاترين من وقار الشيخ العجوز وهيبته واتزانه في الرد عليها وإعطائها تفاصيل أسعار مختلف أنواع التمور. حاولت كثيرا أن تملك نفسها ولكن الرجفة أخذت منها ومن بدنها كل مكان حتى أشرفت على الإغماء من هيبة العجوز ووحي محياه الجاد.

التفت العجوز إلى ما تعانيه كاترين فهون عليها قائلا بابتسام:

كيف الأحوال يا آنسة كاترين؟ فهان عليها الجواب وهان الوقوف على قدميها.

قالت في نفسها: سبحان ربي عجوز تمار أوحت قصته معي إلى أم سحيم أنه الخضر، فسالت صوبي النذورات وأموال السفه. لكن هذا العجوز الذي يغل من تجارة التمور، أنى له ذلك القول الحكيم وكيف تعرف علي وعلى عنواني؟

زال الذعر وتمت المعاملة وابتيع التمر، لكن كاترين تريد أن تستطلع قصة التمار أكثر من معاملة كيلو التمر. فكرت في نفسها بأن كل سؤال في هذا اللقاء أقل صعوبة مما وراءه من لقاءات المبايعة في المستقبل، ولذلك خاطبت العجوز بقولها:

يا عم، كيف تعرف اسمي ومن هداك إلى عنواني؟

العجوز:

ألست ساكنة في عمارة بن سويسان في شارع الجهرة؟

كاترين:

أنا في عمارة بن سويسان ولكنها ليست في شارع الجهراء بل هي في شارع فهد السالم.

العجوز:

يا بنتي، فهد السالم هو الاسم الجديد لشارع الجهرة وأنت جديدة في هذا البلد.

كاترين:

لا يا عم، أنا هنا منذ عشرين سنة.

العجوز:

ولكني أنا وقعت هنا قبل ثمان وسبعين سنة.

كاترين:

وأين تسكن يا عم؟

العجوز:

في بيوت الشؤون التي تقع خلف عمارة بن سويسان في البراحة الكبيرة.

كاترين:

يعني بإمكانك أن تراقبني من شباك شقتي المطلة على البراحة؟

العجوز:

أنا لا أراقبك ولكنك منذ عشرين عاما تمرين أمامي عدة مرات في الأسبوع، وأنت راجعة إلى البيت أو ذاهبة إلى البنك، وأنا في طريقي من البيت إلى الدكان أو إلى المسجد أو منهما إلى البيت.

كاترين:

في تعجب: يا عم، ومن أين لك تلك الحكمة الرائعة التي ألقيتها إلي يوم عيد ميلادي الأربعين في البنك؟

العجوز:

إن عملي لا يأخذ من وقتي إلا القليل، أتابع بعده الكتب العربية والعلمية وأسعى لفهم القرآن الكريم وأتصفح الكتب الحديثة أحيانا، ولي ذاكرة قوية جمعت فيها مجموعة غفيرة من حكم التراث ومن أقوال العظماء. صرت أحمل ملكة التفكر في الكون، وفيما يحيط بي، ولست قاصرا عن تفسير الأحداث السياسية، ولكني وضعت اهتمامي فيما يخص المجتمع الإنساني ككل والكويتي بصورة أخص.

إنني بحكم الجيرة عرفت اسمك وأنك مدققة اعتمادات بالبنك المدني. كنت أراك امرأة محافظة لا تسرفين في متع الحياة ولا تمدين الطرف هنا وهناك، مما يدل على الحياء المطلوبة للمرأة. كنت معجبا بك فأحسست بأنني مذنب إن لم أقدم لك شيئا يفيدك وأنت تصارعين مقارع الحياة، فأخلصت النية لرضا خالقنا العلي القدير، وقدمت لك الهدية التي تناسبك في أي شأن كنت، لعلي أوفي بحق الجوار الذي أوصى به نبينا العظيم حتى ظُن أنه سيورث الجار من الجار كما يروون عنه عليه السلام. وبغض النظر عن صحة الأحاديث فإنه عليه السلام أهل لأن ينطق بما يصلح أحوال المجتمع وينشر بينهم المحبة ويبعدهم عن الكراهية.

كاترين:

وكيف عرفت اسمي ورأيتني دون أراك أو أعرف اسمك؟

العجوز:

لعلك تريدين معرفة اسمي فأنا محمود التمار، ومما يكبرك في عيني أنك طوال عقدي الجيرة، لم تحاولي معرفة من يعيش حولك وهي من علائم إيمانك الذي أرجو أن يتكامل لديك فتهدين بهدى أنبياء الله تعالى.

كاترين:

وهل تعلم يا عم محمود أنني مسيحية ولست مسلمة؟

محمود:

يقول الله تعالى في القرآن الكريم وفي سورة البقرة منه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62). فالمطلوب هو الإيمان بالله وهو مفتاح الهداية. ما الإسلام إلا تشريع ابتغاه الله لخلقه بعد أن نما العقل الاجتماعي لدى البشر، وبلغ مرحلة من الكمال تمكّنه من النهوض إلى الأمام ومن استخدام الطبيعة بصورة مكثفة أكثر وأصح من ذي قبل. والإسلام هو دين الطبيعة وهو الطريق الطبيعي للحياة السعيدة. لقد مَنَّ الله تعالى علينا بأن وضحه لنا حتى لا نحتاج إلى البحث الشاق والطويل وتحمل التعب والعنت للوصول إليه شيئا فشيئا.

كاترين:

والله تعالى يقول في سورة آل عمران: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85). فالإسلام -بنظر القرآن- شرط أساسي لقبول الأعمال ولتقييم النيات الخالصة التي يثاب عليها الفرد.

محمود:

ويقول سبحانه بعدها: كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86). فهل رأيت الرسول وجاءتك البينات ثم تعمدتِ أن تكفري بالحقيقة التي توصلتِ إليه بعقلك وبما قدر الله تعالى لك من فرص؟ أنتِ لم تكفري بشيء ولكنك متبعة دين آبائك ولم تقتنعي بعد بأن المسيحية التي هي فعلا دين الله تعالى ولكنه دين انتهى أجله باعتبار أن الذي أرسل المسيح وموسى والإنجيل والتوراة، قد أنزل رسولا آخر كما أرسل كتابا متطورا أوفق لمتطلبات الحياة الإنسانية بعد التطور الفعلي مما سبقه من كتب السماء.

فيا آنسة كاترين، ألست مسيحية تؤمنين بالله وتسلمين له أمرك وتخلصين له عملك.

كاترين:

هذا صحيح ولكنني فضلت أن أتبع خيار آبائي وأجدادي على خيار عقلي وعلمي. هو هذا الذي يؤرقني في الليل ويضغط على قلبي في النهار.

محمود:

كل إنسان يسلم أمره إلى الله فهو مسلم وكل مسلم لا يسلم أمره إلى الله فهو من سواد المسلمين وهو في الآخرة من الخاسرين. ولكن تسليم الأمر إلى الله يخرج الخيار من حومة الأهواء والرغبات النفسية ويفرض على صاحبه اتباع أمر الله ولو بقيمة زوال أمواله وهجرة أحبابه والنفي من وطنه وخسارة مأواه وزهاق روحه. ولولا ذلك فهو يكذب على الله ولم يسلم أمره إليه سبحانه. لكن من حقك أن تستمري في البحث عن الحقيقة لتطمئني بأن الله تعالى أرسل رسولا جديدا قبل أكثر من أربعة عشر قرنا مصحوبا بكتاب جديد أكثر تفصيلا وأشمل مما سبقه من الكتب. لكنه سبحانه لم يلغ التوراة ولا الإنجيل بل أكملهما.

هناك بعض التشريعات التوراتية لم تتغير وعلى المسلمين اتباعها ومنها تشريع الطيور والأسماك المحللة شرعا. لا تجد تفصيلها في القرآن وعليك بأن تستنجد بالتوراة والله تعالى دون شك كفيل بأن يصون ما يريد منا أن نعمل به من التوراة، يصونه من التحريف. لكن بني إسرائيل لعبوا بحكم الأنعام ليغيروا حكم حلية الجمل فيحرموه في التوراة بعد التحريف؛ ولذلك وضح الله تعالى ذلك لنا بالكامل في القرآن الكريم.

تسليم الأمر إلى الله تعالى يغير مجرى الحياة ويصبغ الإنسان بصبغة إلهية بدلا عن الصبغة النفسية المحضة. أنت تعلمين أن الإنسان الذي يتبع رغبات نفسه يظهر أمام المجتمع بصورة الشخص الأناني الذي ينظر إلى مصالحه الفردية السريعة دون مصالح المجتمع الذي يعيش فيه. إنه الشخص الذي لا يقتنع بما تعود عليه الخدمة العامة من سهم من النتائج بعد أن توزع على كل أفراد المجتمع. إنه يطلب كل الأرباح لنفسه فورا.

انظري إلى المال الذي بيدكِ فلو أنفقتيه على متع الحياة فأنت تستأنسين بها لحين نفاد المال الذي بيدك وتصلين قريبا من إشباع شهواتك النفسية. لكنك لو صرفت ما بيدك من مال لتعبيد طريق عام يسير فيه الناس وتسيرين فيه أنت وأولادك أيضا فأنت أشركت معك غيرك في الانتفاع من مالك. هذا العمل بالطبع لا يؤدي إلى إشباع شهواتك لأن أرباحه قد وزعت على كل أفراد مجتمعك. فلو لم تقصدي بهذا العمل السيطرة على الناس وكسب القدرة الاجتماعية بل قصدت مجرد الخير فأنت مصبوغة بصبغة إلهية، لأنك أخلصت الخدمة لعبيد رب العباد وتمتعت أنت بجزء منها. إنك اعتبرت ما بيدك من مال ملكا لله تعالى وأنه أفاضه عليك لتصرفيه فيما يرضيه.

وهكذا فلو أنك اعتبرت كل ما بيدك من قدرات وقيم ملكا لله تعالى، أولاها إياك ليختبرك في الدنيا، فأنت حينئذ لا تفكرين بمجتمعك ولا بأسرتك ولا بأولادك ولا بنفسك بل تفكرين بربك وحده. لو بلغت هذا المبلغ من الإخلاص فإن اتباع دين الآباء والأجداد يتحول في ذهنك إلى عيب تتذمرين منه وتعتبرينه شركا بالله تعالى. هل يتبع العبد ربه وحده أم يتبع ربه وآباءه وقومه ومن يهواه من رفاقه وأصدقائه؟

واعلمي يا كاترين أن من تجاوز حاجز النفس وكسر جدار العلائق والعلاقات الدنيوية فإن الله سوف يحييه حياة طيبة. سيزيل الله كل العقبات والصخور من طريقه ويُسَيِّرُه بهديه ورشاده في الطريق الأمثل بيسر ورضا واطمئنان. إنني أعلم بأن كسر حاجز الأهل والقربى ليس سهلا ولا ميسورا. هل لاحظت كسر حاجز الصوت الذي تأتي به بعض الطائرات الحديثة التي تتجاوز الحاجز الصوتي؟

كاترين:

نعم، لا حظته عدة مرات في استعراضات الجيش، له صوت مدو مثل صوت القنبلة حين الانفجار.

محمود:

وهل تعلمين ما معنى كسر حاجز الصوت وما هي آثاره؟

كاترين:

يعني أن يخرق الجسم الأجواء بسرعة تفوق سرعة الصوت. فحينما تسير السيارة أو الطائرة بسرعة مئات الكيلو مترات في الساعة فإن صوت هذا الخرق يتحرك بسرعة أكثر من سرعة الجسم. نسمع صوت الطائرات العادية والسيارات السريعة قبل أن تصل إلينا، لأن الصوت يسير بسرعة 1192 كيلو مترا في الساعة في الهواء الجاف على سطح البحر، ولكن هذه الطائرات تطير بسرعة أقل. فإذا ما اقتربت سرعة الجسم من سرعة الصوت تراكمت الأصوات لتشكل جدارا قويا يصعب تجاوزه. فلو قدر للطائرات العادية أن تصل إلى سرعة الصوت فإنها قد تتمزق وتتلاشى.

ويحتاج الجسم إلى اندفاع قوي جدا لعبور هذا الجدار الحاجز، بالإضافة إلى هيكل منيع ونفاذ، فلما ارتفعت قوة الاندفاع ترتفع معها سرعة الجسم وتتهيأ لعبور هذا الحاجز المتكون من تراكم أصوات نفس الجسم في مكان واحد نتيجة الاندفاع المهيب للجسم فإذا عبر الجسم من ذلك الحاجز بكسر الحاجز ودفع الموجات التي ركب عليها الصوت  إلى الخلف أدى كسر الحاجز إلى صوت مدو مثل صوت الانفجار وينتج عنه عودة  الجسم إلى حالته السابقة قبل الاقتراب من حاجز الصوت وتتقلص حاجته الطاقوية للسير إلى نفس المعدل الذي كان يسير فيه قبل عبور حاجز الصوت.

محمود:

حسنا، فالإنسان الذي يطلب ربه يجب أن يكسر هذا الحاجز ويستعد له بقوة الإيمان. ثم بعد ذلك فسوف يلحقه صوت الأسرة والقرابة دون أن يصل إليه أو يؤثر فيه. سوف لا يرى الفرد حاجزا أمامه عدا إرادة ربه وعدا تشريعه الذي أنزله إلى عبيده عن طريق أنبيائه. ألا تفضلين هذه الحركة المعنوية على الوضع الذي أنتِ فيه اليوم. أنت تلاحظين كل شيء وتهتمين به عدا الله تعالى. ولئلا أكون ظالما في حقك، أنت تلاحظين الله بعد إرضاء والديك وأسرتك والمجتمع المحيط بك وحينما تتعارض إرادة الله مع إرادتهم فهم المتبعون والله هو الذي يُعصى.

كاترين:

يا عم، أخذت الكثير من وقتك والزبائن قد اصطفوا خلفي بانتظار التمر وأنا أعتذر منك ومنهم ولو أنني فقيرة إلى هذه الكلمات الطيبة ومحتاجة إلى أن أستهدي بهدى الله تعالى وأستضيء بنور علمك.

يتبع (العم محمود التمار 2)

أحمد المُهري 

9/2/2019

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.