المؤمنة كاترين 4 – شبح الخضر النبي الغائب

المؤمنة كاترين 4

شبح الخضر المعروف بالنبي الغائب

        توالت الأيام والأشهر وكاترين تدقق في كل يوم عدة اعتمادات مستندية للعم بو ناصر والعم بو سحيم والعم بو منشول والعم بن بومي والعم بن جريش والعم يم والعم نسر والعم بو خروف وبقية الأعمام ويوقعها علوي دون سؤال. ليست أحرص من كاترين على عملها الذي أشغلها حتى عن الحب والزواج وبقيت آنسة عانسا وهي تدخل الأربعينات. لقد ردت الأيادي الممدودة تجاهها حتى انقطعت الأيادي وهي تفقد النضارة والشباب وتعجز عن إخفاء بوادر التجاعيد تحت قشور الماكياج الثخينة.

كأنها فتاة كويتية ترى في رد الشباب المستوصلين علامة من علامات العظمة ومشبعا للغرور ومنهجا للمزيد من الفتنة والجاذبية. فإذا وافقت الكويتية وخاصة التي تحمل الجنسية الأولى فإن سلاسل الذهب وأثاث الأبنوس وسجادات الحرير العجمية لا الصينية والفيلا المليئة بالخدم والسواقين وطبعا سيارات الموضة كلها قليلة لقاء تقبلها لقيود الزوجية. إنها لا تفكر في شريك المستقبل الذي يعوضها عطف الأب وحنان الأم والذي سيدافع عنها وعن نتاجهما حتى الموت. إذا كان أبوها أبا لها فإن الزوج أب لأبنائها وبناتها ومسؤول عنهم جميعا.

المهر والصداق ليسا إلا ثمنا رمزيا للصداقة ولإثبات مسؤولية الزوج كمدير يدبر أمور الأسرة المشرفة على التكوين. فإذا خرج المهر عن ماهيته وأصبح معيارا لأهمية أسرة الزوج أو الزوجة وميزانا لاستعداد الزوج (لشراء) زوجته، فإن لبنة الزوجية سوف تمتزج بالحسك فتضعف وتوهن الترابط الزوجي. أليس كثير من العريسين يدخلون القفص وهم يرتعدون خوفا من مستقبل الديون التي تهدد ثقلهم الاجتماعي وتحف القلعة الرقيقة بالأخطار الهدامة؟ هذا هو الذي يوهن عزيمتهم ليلة الزفاف حتى يصبحوا على استحياء وخجل.

أي استقرار وطمأنينة تنشده الزوجة وأبواها من أسرة ترتكز على الديون، ومن صهر يلتزم بضعف دخله. إنهم يضمرون الطلاق في وثيقة الزواج.

وذات يوم حينما كانت كاترين منهمكة في تدقيق الاعتمادات المستندية، إذا برجل طويل القامة كث اللحية بيضاء كخيوط الفجر، عريض الجبهة مصقولة كسطح النهر المتجمد، ينظر من عينين لطيفتين كأنهما تغتسلان دائما بالدموع، يبدو الجد في سيماه الموقر ويبعث محياه الطلق بالرعب في قلب الناظر إليه حتى يفضل السكوت على الاهتمام بتحريك اللسان، سأل بكل احترام:

يا آنسة كاترين:

كم لك من العمر؟

سؤال موحش!! ألقى بالرعب في قلب كاترين التي قلما فكرت في الانحراج. دققت كاترين النظر في وجه العجوز كما تدقق الاعتمادات المستندية فلم تأنس فيه الشهوة واللعب. إذن ما المقصود من هذا السؤال الغريب يا ترى؟ ليست هي فتاة تحيى العشرات أو العشرينات حتى يدعوها العجوز للاقتران بابنه أو حفيده وليس هو مثارا لهذا النوع من الأفاعيل. همت أن تسأله عن سبب هذا الاستفسار لولا أنها هابته، فلم تر بدا من الإجابة بكل دقة: بالأمس أطفأت أربعين شمعة في عيد ميلادي الأربعين…

فقال العجوز:

علمت أكثر مما عملت فاقسطي قبل أن يفاجئك العدل“. ثم انصرف وغاب بسرعة عن نظر كاترين التي أسرعت في كتابة هذه الجملة التي ألقيت إليها كعادتها حينما تمر على طرائف الحكم.

جنّت كاترين من وقع ما حصل، قوة الإلقاء، عظمة الشخصية، سحر البيان أرعدت فرائص الفتاة وذهبت بها إلى أبعد الأفكار.

تذكرت يوم ما كانت تعاكس فتى مؤمنا قائلة له: أين الرسول الذي يقول القرآن: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. ثم كانت تضيف: فما لم يبعث هذا الرسول فنحن في حل من أمرنا وفي حل من العذاب. لسانها الطلق البليغ وخبرتها الواسعة في كتب الغير تعطيها السيطرة على من تتحدث إليه، فكما يقال: من تعلم لغة قوم أمن مكرهم.

لكن الذين يعيشون مع ما ألقي إليهم من آبائهم أو من بعض الشيوخ المذهبيين، أصحاب المصالح أو من أجهزة الإعلام الموجهة فلا طاقة لهم بالمنطق والبيان المستدل.

وصلت كاترين في تجوالها الفكري إلى ذلك اليوم وأصبحت تهز الرأس يمينا لتمعن النظر في سفرها الفكري وشمالا لتعيد التطلع إلى الحكمة التي كتبتها بيمينها ثم انتقلت الهزة الطرفية إلى هزة بين الوجه والقفا وهي تقول:

هاه، هذا هو الرسول، وأصبحت لا شعوريا تتلو من كتاب المسلمين: {قل فلله الحجة البالغة}، دخل علوي بسرعة مناديا: كاترين:

هل دققت اعتمادات العم بو سحيم، إنه في مكتبي، يسأل عنها؟

لم تلتفت كاترين كثيرا، فهي في دوامة من مساءلة الوجدان، تشعر كأنها في قارب قليل العمق، يسير بها في بحر لجي يحيط به أمواج الطوفان من كل مكان.

ظن علوي في البداية أنها واجهت طخية عمياء في أحد الاعتمادات ولكنه ذهل حينما رأى طاولة كاترين مكسوة بالأوراق التي كتب فيها جملة مكررة واحدة:

“لقد علمت أكثر مما عملت فاقسطي قبل أن يفاجئك العدل”

هدأ علوي أمام كلمة الحكمة المكتوبة بخط مدققة الاعتمادات المستندية في البنك المدني وتغير مسير فكره من الاعتمادات المستندية إلى العلم بلا عمل وإلى لزوم إيجاد التعادل بين ما يعلمه الفرد وما يعمله باعتبار أن العلم هو عمل أيضا في كنهه ولكنه عمل بمعنى إضافة المعلومات في الذهن تماما كعمل كاتب القرآن أو طباع الكتب، فما أن استقر العلم في حافظة الذهن ازداد معه قدرة الفرد كما يزيد قدرته حينما يضاف مال جديد إلى خزائنه فيزداد في عاتقه الحقوق الشرعية والحكومية والأخلاقية. وهكذا فإن المعلومات أيضا تطور قدرتك على العمل والإنتاج وتشجعك على النشاط العملي لاقترابك من الصحة في النتائج، فالويل لمن يعلم كيف يعمل وكيف يجب أن يعمل ولكنه يعمل برغبة أهوائه دون التوجه للعلم أو يتكاسل عن العمل وعن خدمة خلق الله بعلمه وبمعلوماته.

هذا هو المقصود من القسط بين العلم والعمل، بأن يشعر الإنسان بتكاثر مسؤولياته كلما تكاثر علمه ثم يساوق الشعور الباطني بالعمل المفيد في الخارج ليكون من الشاكرين على ما قذف الله تعالى في قلبه من نور العلم، وإلا فهو من الخاسرين حينما يفاجئه العدل المنطقي والحتمي لخالق الكون فلا يعطيه مجالا للعمل الصالح. لذلك فإن على الإنسان أن يتسارع إلى الخير ويستبق غيره باتجاه الصلح والصلاح قبل أن يفاجئه الموت دون أن يقوى على استجابة ما يوحيه إليه العلم من واجب تجاه الغير.

قال تعالى في سورة المائدة: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48). فالقرآن علم صحيح دون ريب لمن يؤمن به ولكنه في نفس الوقت واجب من واجبات مَن علم به ليعمل به ويضحي في سبيله.

ألم ننظر إلى الصالحين لا يهجعون إلا قليلا لأنهم خائفون من عدم التجاوب القاسط مع العلم الذي يستمر الكريم الحكيم في إفاضته عليهم؟

ما زالت كاترين في روعة الموقف وما زالت تجول بين الماضي والحاضر في البنك وخارج البنك، في الكويت وفي كل مكان خارج الكويت، والآن دخل معها علوي في نفس الدوامة الدوارية خائضا في أعمق الأفكار.

أطالا النظر في بعضهما البعض وهما لا ينظران إلى وجهيهما بل يقرآن فكري بعضهما البعض من الوجنات.

بعد لحظات من التأمل أجابت كاترين:

مهلا يا علوي، حتى أدقق الاعتماد الذي سألتني عنه. لكن علوي كان قد بدأ مما انتهت إليه كاترين فأجابها:

من علمك هذه الحكمة الرائعة يا كاترين؟

كاترين:

القصة طويلة يا علوي، دعني أنتهي من تدقيق اعتماد العم بو سحيم فهو في انتظارك ثم أكلمك، لكن علوي كان مذعورا مما رأى فلم يعبأ بأبي سحيم بل عاود السؤال بإلحاح أكثر.

فما كان من كاترين إلا أنها بدأت بذكر قصة العجوز في غرفتها وما جال في أفكارها وقصة الشاب الذي كانت تعاكسه في صباها.

طال انتظار العم بو سحيم فتبع علوي إلى غرفة كاترين التي أنشتها قصة ماضيها وحاضرها لتنعكس على لسانها البليغ وأدبها الرائع وسيطرتها الكبيرة على كلمات اللغة العربية وتمكنها من خلق التركيبات الرنانة والعذبة للجمل فأحاطت بالعم بو سحيم لتسلب منه القوة على الاستفسار عن الاعتماد المستندي بل جلس يؤدي دور المستمع بجوار علوي.

هذا الحديث الشيق جذب العم بو سحيم الذي يفوقهما سنا بالإضافة إلى ثرائه الواسع فهو في عيشة راضية وغفلة باقية وجنة عالية ورقاد مستمر ونعيم منهمر وحسنات قليلة وسيئات كثيرة.

نسي العم بو سحيم أن يسأل عن الاعتماد، وفي المقابل ألقى سيلا من الأسئلة على كاترين لعله يتعرف على الشخص العجوز:

بو سحيم:

صفي لنا ملامحه يا كاترين.

كاترين:

كان رقيق المنظر تبعد عيناه عن منبت شعره ليزداد عرض الجبهة التي غيرتها التراب، فكأنه يعفر جبينه على الأرض طويلا حتى استلت التربة نظارته وميزته عن باقي قسمات وجهه المشع مثل القمح الذي يسطع كالذهب. إنك لا تشعر بكبر سنه إلا ما أخذ العمر من سواد لحيته وأذبل جفنيه وما يحيط بعينيه البراقتين اللتين تحويان عدستين كأنهما قمران مصغران تحت بلورة ملونة. ينزل من وسط العينين عظمة منشورة مصقولة تزداد عرضا وسعة ورقة كلما انحدرت باتجاه الشفة ليمثل جبلين منحوتين ذا كهفين متعادلين، وقد زرع بأسفلها شعيرات بيضاء صفت كطاق نصف دائري اتصلت جانباه بمحاسنه كأنها أيوان كسرى أمام الناظر من بعد.

كان يلبس فوق رأسه غترة (كوفية) معقلة بيضاء أسدل طرفيها على منكبيه ثم لصقهما بالأذنين وبطرفي عنقه الموزون، ثم جمع حافة طرف من الغترة ليلف بها عنقه من تحت الحنك. الوجه عريض والخدان فقدا بريقهما وذبلا تحت وطأة الزمان ولكنهما لم يفقدا نضارتهما وكأن العجوز كان شاعرا بهما فلم يترك عليهما شعرة ولم يعف عليهما اللحية ليبقيا مكشوفين.

وجه العم بو سحيم أسئلة أخرى حول ملابس العجوز ووضعه في المشي وصوته وملامحه الأخرى وقامت كاترين بالرد على ما أمكن من الأسئلة فلم يفلح وظن في قرارة نفسه أنه بالتأكيد شخص غير عادي إن لم يكن ملاكا أو أيا مما وراء المشهود للإنسان. هذه الظنة أحاطت بالعم بو سحيم الذي كافح بشدة دهشته وذهوله ولكن بعد وجوم طويل تمكن من جر نفسه بثقل إلى غرفة رئيس الاعتمادات لئلا يشتبه فيه المجون وهو في غرفة فتاة حسناء غير متزوجة.

عاد أبو سحيم إلى بيته وهو يحمل في خياله صورة مرسومة للعجوز الذي حاول أن يطبقها مرة أخرى على من في ذهنه من وجوه الشياب الكويتيين فلم يهتد إلى أحد. وعلى مائدة الغداء سألته زوجته وأولاده عن مستقر تفكيره فأخبرهم بالقصة، فما كانت من زوجته المؤمنة التي عاشرت أبا سحيما في حياته الزوجية وأنجبت له أولاده وفارقته في إسرافه وترفه وعبثه بسائر الخلائق وبأموال الله تعالى، فما كانت منها إلا أن تقول هو سيدنا الخضر عليه السلام دون أدنى شك.

كان أبو سحيم غير مهتم بمسائل الحريم وعقائدهن المليئة بالخرافات ولكنه لم يكن قادرا على مواجهتهن بالمنطق، فهو بعيد عن الحقائق الدينية والإسلامية ولا يعرف عنها غير أن الله سبحانه موجود يقبله الانسان بالفطرة ولا يمكن إنكاره إلا إذا تمكن الشيطان من قلب الانسان وعقله.

لم يكن الخوف والذعر من احتمال الصحة في بعض أقوال النساء وخاصة اللاتي يصلين ويصمن منهن، ينفك من خيال أبي سحيم ولذلك سكت وهو محتمل لصحة ظنون زوجته. ثم قال في نفسه: ما لي وللأنبياء لا سيما الذين لا يظهرون أمام الناس ولا ترى لهم معجزة ظاهرة أو آثارا مشهودة؟

يتراءى للكثير من ذوي الأموال والثروات بأن لهم ثقلا على ظهر الأرض وبأن المال أكثر وزنا من العلم الذي يعجز حامله أحيانا من تحقيق أرخص العمر لنفسه ولأسرته. يتظنن هؤلاء أن القوة الشرائية للمال تتعدى الملذات الدنيوية بل تضع مفاتيح الجنان في يد صاحبه. كما أن بعض المدلسين الخادعين من الذين يحملون المظاهر الدينية يربّون هذه الفكرة الحمقاء في أذهان خزان الأموال والمسرفين استدرارا لبعض ما بيدهم من مال مقابل جنة زائفة يهبونها لمن يدفع لهم.

والواقع أن الله هو مالك كل الأموال وأنه يشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، ولا يشتري شيئا من الفاسقين مهما أتوا بالخيرات. سيدخلون هم ومن أغراهم نارَ جهنم وسوف يلعن بعضهم بعضا. إن الله لا يتقبل إلا من المتقين، ولكن هؤلاء يخادعون أنفسهم ويظنون أنهم يخادعون الله تعالى. إن الكثير من فساق أهل الأرض يبنون المساجد والكنائس الجميلة والكبيرة لمخادعة رب العالمين ولكن الله لهم بالمرصاد وهو لن ينسى عباده الذين يخلصون له النيات ويضحون بكل ما أوتوا من قوة ومال ولو كان قليلا في سبيله جل وعلا.

وأبو سحيم واحد من هذه الطغاة الذين يترقبون الفرصة لمخادعة العليم القدير ولا يهتمون بالحقائق التي سوف تفرض نفسها عليهم شاءوا أم أبوا. إن أموالهم ستمر على طريق جهنم ولو انتهت إلى ما فيه الخير للناس لما اندمج عليه هؤلاء الأشقياء من قلوب مدلهمة وضمائر زنخة ونيات مشوبة.

شاعت القصة بين النساء وأصبحت كاترين، تلك الفتاة المسيحية التي لا تلبس الحجاب المعروف بالحجاب الإسلامي ولا تهتم بالمظاهر الإسلامية، أصبحت موئلا لنساء المسلمين في الكويت لأنها رأت سيدنا الخضر -بزعم أم سحيم- وأخذت منه الحكمة. أصبحت الأموال تغدق على كاترين بشكل نذورات وهدايا ووسائل للتقرب إلى الفتاة التي ثبت مشاهدتها وتحدثها إلى نبي الله الخضر عليه السلام، ذلك النبي الذي لم يذكر اسمه في القرآن!

لكن كاترين، المرأة العصرية المتعلمة التي تحسن القرآن بجوار خبرتها العلمية والعملية في المسائل الاقتصادية والمالية، كانت تدرك بأن هذه الأموال ليست من حقها، وبأن هذه النسوة على بساطتهن وطيب قلوبهن يدفعنها مقابل ما ليس لها يد فيها، فلا هي قادرة على قضاء الحوائج أو التوسط لقضائها عند الله تعالى ولا هي رأت نبيا أو كلمت وليا.

فكرت طويلا عندما وصلها أول دفعة من هذه النذورات وهي ظرف به خمسمائة دينار كويتي من أم سحيم، فكرت بأن تردها، ولكنها هابت ذلك فأم سحيم هي زوجة أبو سحيم، وليس من الحكمة أن تزعجها أو تزعلها (على حد تعبيرنا). وثم هي تخشى الله وتخاف من التصرف بهذه الأموال. وبعد تفكير طويل اهتدت إلى أن تفتح حسابا في البنك المدني باسمها وتخصصه للفقراء والمحتاجين. أعلنت ذلك لصديقاتها وزملائها وفيهم السيد علوي الذي كان مقهورا لحد الخجل على بنات وطنه الساذجات.

ازدادت مسؤوليات كاترين، فهي مدققة اعتمادات البنك المدني ثم هي تملك دائرة خيرية تجذب الفقراء من كل مكان. طغى حسابها الخيري الذي تعتبره من أموال الله أضعاف حسابها الشخصي وهل من مزيد. كلما تزيد من الصرف على المعوزين تزداد عليها العطيات من كل جانب. كانت تقضي بعض وقتها مع الفقراء تتعرف على مشاكلهم حتى لا تفرط في أموال الله، ولكنها كانت في نفس الوقت تستأثر بالدروس والعبر لنفسها. عرفت الكثير من مآسي الآخرين بجانب تعرفها على الكثير من أكاذيب المتظاهرين بالفقر.

انكشفت لكاترين خفايا بعض المعوزين وتجلت أمامها أكاذيبهم وتستراتهم المشينة. كانت ذكية موهوبة تحفظ في ذاكرتها كل ما تسمعه وتراه، أكثر من الكاذبين أنفسهم الذين يأتون بالمتناقضات عند ذكر شجاياهم حتى في الجلسة الواحدة أحيانا.

وكان من الرزايا المفتعلة ما ذكره أحد الفقراء بأن زوجته أعمى لا ترى شيئا وله منها اثنا عشر طفلا، كلهم دون سن العمل وهو يصرف وقته لتربيتهم وتغذيتهم ولا يملك وقتا للعمل. ولكنه بعد شهر اختلق فرية جديدة بقوله: طردت يا آنسة من عملي كزبال بالبلدية كما طردت زوجتى كخدامة في المستشفى الأميري، لأننا غبنا عن العمل ثلاثة أشهر قضيناها في البصرة مع والدي الذي كان يصارع الموت وبحاجة إلي وإلى زوجتي.

كاترين تتذكر الرجل تماما وتتذكر أقواله وادعاءاته في الشهر الماضي وتعرف كذبته ولكن حياءها تمنعها من كشف أكذوبته أمامه بل تمنعها أيضا من حرمانه من العطاء، وتكتفي بتقليل المبلغ لعله يرعوي عن غيه.

أحمد المُهري

26/1/2019

يتبع: (تأملات كاترين)

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلاميhttps://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.