مهنة الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
مهنة الدين مثل بقية المهن تُعتبر وسيلة معاش للكثير من الذين يعيشون على الدين ويطورونطرق التعامل مع الدين ولو أدى ذلك أحيانا إلى تغيير كبير للمظاهر الدينية. فمثلالم يكن الدين أيام موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وسيلة للارتزاق بل كان يمثلرسالة سماوية تم تبليغها وتطبيقها جزئيا في مجتمعات مثالية صغيرة ومحددة وانتهىالأنبياء من مهماتهم وارتحلوا للقاء ربهم عز اسمه. لقد أصبح الدين اليوم علة كبيرةليقتل المتدينون من يخالفهم باسم الدين في حين أن الأنبياء المذكورين كانوايستقبلون غير المتدينين ويدعون لهم ويدعونهم بكل إخلاص. كما أن الدين لدى طبقاتأخرى أصبحت عبارة عن طقوس يُشغل الناس عن واجباتهم القومية والمعاشية ليتحولوا إلىمشاة على الأقدام باتجاه قبور بعض الطيبين لعلهم يكسبوا رضوان الموتى بعد أن كانوامكتفين بدق الصدور والطبول احتفالا بمشاهد العزاء المعروفة بيننا.
كل أولئك طقوس لا علاقة لها بالله تعالى ولا بالتوراة ولا بالإنجيل ولا بالقرآن. ولذلك نرى بأن الدين فقدَ حقيقته بين المعروفين بالتدين وفتح المجال لمن يسعى لتنوير حياته بأن يكتب ما يشاء سواء لبيان ما حصل في قلبه من شك وريب في أصل الإنسان برأي الأديان السماوية أو استيقن بعدم صحة الروايات السماوية عن حقيقة الإنسان فنقل لنا كل ما يُدخل الشكوك في قلوبنا ولو أن ما يظنه غير مشفوع بعد بالتحقيق العلمي ولم يمر بمراكز التجارب المختلفة.
والذي يهمني هنا هو أن البشرية لا زالت تجهل حقيقة الإنسان كما تجهل تركيبته البدنية والنفسية. فمن هو الإنسان؟ هل الإنسان هو ذلك الحيوان المتطور بدنيا ليصير قادرا على تحريك سلاميات أصابع يده بما يتناسب مع مراحله الفكرية فيحرك يديه بحرية ليبني ويكتب ويخط الخطوط ويرسم الرسوم ويصنع المصانع ووو؟ بمعنى أننا لو تمكنا من تطوير أي حيوان من الحيوانات مثلا لنمنحه السلاميات ونحرك لسانه ليتمكن من تركيب الأصوات بصورة منطقية فيتكلم معنا وهو يعلم ما يقول فنكون قد خلقنا إنسانا جديدا يمكنه منافستنا في التفكير والتدبير والسياسة والإدارة؟ لا أظن بأن ما احتملته من تغييرات بدنية ممكنة ولكن أريد أن أفترض ذلك. لو كانت التغييرات البدنية مانحة الإدراك لصاحب البدن فإن الربوتات يجب أن تأتي بأفكار مثلما نقوم به نحن ولقامت الربوتات بخلق الربوتات كما خلقها البشر.
وحتى لا نبتعد كثيرا فإن الانسان الافتراضي ليس هو الإنسان الذي يتحدث عنه الكتب السماوية ولا سيما القرآن الكريم. ينبؤنا الكتاب السماوي عن خليفة لله تعالى في أرضه والذي من أجله خلق الأرض ومن أجل اختبار كل الكائنات المختارة في الكون بمن فيهم البشر فإنه سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما. فأرجو من القراء الكرام أن يمعنوا في هذه الآية الكريمة من سورة يس: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36). والمقصود من الأزواج هنا هو البشر وليس كل الأزواج النباتية لقوله تعالى “من أنفسهم” ولما قال بعدها: وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41).
فنحن بأبداننا نباتات أرضية متطورة فقط ولكننا بنفوسنا لسنا كذلك. ليست نفوسنا مصنوعة من بعضها البعض كما عليه أبداننا. النفس الإنسانية خاصة بكل إنسان وهناك ما لا نعلم في خلق الإنسان. وكل عاقل يمد الطرف الفكري إلى الإنسان ويقارن بينه وبين أقرانه من الحيوانات سيشعر بالفرق الهائل والكبير بينهما. كما أننا حينما ندرس الفروق دراسة علمية نرى الفروق الجوهرية التي لا يمكن بعدها أن نتصور صناعة الإنسان للإنسان عن غير طريق الأرحام. يرينا الله تعالى قدرة المرأة على خلق إنسان بدون رجل ولكنه ما أرانا خلق إنسان بدون أن يمر عن طريق التطور المرسوم له والذي يميزه عن بقية المخلوقات ليكون قادرا على استلام النفس الإنسانية من ربه.
حتى يومنا هذا فإن الأرحام هي الأماكن التي يتم فيها تصوير الخلايا الإنسانيةـ وأما النفس الإنسانية كما أظن فهي خلق خاص ضمن الخلية الأولى قبل عملية التصوير الجيني. هذا ما أفهمه من القرآن الكريم. لكن النفس لا يمكن أن تُخلق بمجرد تكامل ارتباط المجموعة الكروموزومية التي انتقلت من الأب مع مشابهها الأموي. فهناك قوة خاصة انتقلت مع الخلية المنتقلة من الأب سواء كانت ذكورية أو أنثوية. تلك القوة هي التي تسمى الروح وهي التي تخلق النفس. والقرآن يحدثنا بأن خلق المسيح بلا أب كان محتاجا إلى مسألتين: هما تحويل خلية أنثوية إلى خلية ذكورية أو بالأحرى تحويل بويضة أنثوية إلى خلية أحادية ذكورية وقد قام بها الروح القدس كما فعل بالخلية التوأمية المشابهة (identical)؛ ثم خلق نفسا إنسانية جديدة من روح سماوي غير موجود ضمن خلايا مريم التي كانت أما وأبا للمسيح. ذلك ما قام به الروح القدس أيضا.
نحن اليوم قد نتمكن من صناعة بدن إنسان كامل من ربط خليتين ببعضهما البعض بعيدا عن الأرحام. هذه العملية لا تمثل خلق إنسان طبعا. الإنسان حتى ببدنه دون نفسه يمثل تطويرا طويل الأمد من خلية أحادية من طحلب أحادي الخلية احتمالا. هناك فعلا مئات الملايين من السنين التي تم فيها عملية التطوير ولكنها لم تتجاوز البليون سنة برأيي. ذلك لأن عملية التطوير بكاملها تمت داخل مكة ومكة أرض جديدة لم تكن موجودة قبل بليون سنة. هذا ما يرشدني إليه القرآن الكريم وقد وضحت المسألة مرارا في مقالاتي السابقة. ولذلك لا يمكن أن يكون الإنسان متطورا فعلا من قرد أو كائن مشابه بل هناك تطوير خاص لكائن آخر كان مقصودا ليصير إنسانا من يوم أن بدأت عملية الإنبات الأولى من الأرض وهذا ما يصر به القرآن في سورة السجدة بأنه سبحانه بدأ خلق الإنسان من طين: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9).
الآية 7 توضح بداية تطوير الإنسان من مادة أرضية أولية. والآية 8 تحدثنا عن الانتقال من طفرات تطورية خلوية ليتم تطوير بدن إنساني مشابه لأبداننا ولكنه بلا نفس إنسانية. معناها بأن النفس الإنسانية ليست وليدة البدن البشري وليست قائمة بذاتها بل هي محتاجة إلى أن تصل مراحل التطور إلى الارتباط الجنسي بين ذكر وأنثى. هناك يتم خلق النفس وسواه تعني منحه النفس الإنسانية. النفس الإنسانية ليست خلقا تطوريا بل هي خلق جديد تمت بواسطة وحدة طاقوية أو نورية مباشرة من الله تعالى تماما مثل الحركة الأولى لخلق السماوات والأرض. ولذلك صار البشر كائنا مدركا يسمع ويبصر ويحمل مشاعر مغايرة لمشاعر الحيوانات المشابهة. يذكر القرآن بأنه سبحانه خلق الأنعام الصغيرة الثلاث (البقر والغنم والمعز) معنا في مكة ولكنها مخلوقة بحيث لا تشعر للسبب التالي:
نحن مخلوقون من أب واحد وأم واحدة ولذلك تطورنا تطورا سريعا حتى وصل أحد آبائنا حد القدرة على استلام النفس الإنسانية بسبب أب بشري قوي غير إنساني أقسم به الله تعالى في سورة البلد: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ (4). والكبد بظني هو الخلية التي خلق فيها آدم وزوجه. لكنه سبحانه خلق الأنعام من أربعة أزواج لا من زوجين ولذلك تباطأ تطورهم ولن يصلوا حد البدن الإنساني. قال تعالى في سورة الأنعام: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144).
وقال سبحانه في سورة الزمر: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6). ويمكن لنا أن ننظر إلى تجاوب الخالق مع خلقه لنرى بأنه سبحانه يؤت كل ذي قوة بقدر قوته ونراه بأنه يرسل السماء مدرارا لمن يستعد للأمطار وأنه يملأ الأرض من النبات والحيوان حينما يقوم أصحابها ببعض الاستعدادات البسيطة من إعداد الأرض والبذور كما أننا نرى بأن من يستعد لاستقبال الأولاد ويهيئ أسباب ذلك فإنه عادة ما يصل إلى مأربه. يقتضي نظام العدالة الربوبية بأن يمنح الله تعالى نفسا مدركة لأي كائن قادر على استقبالها ولذلك فإن الحيوانات لو تمكنت من التجاوب مع النفس بأبدانها فإنها لا محالة تصير أناسي مثلنا. ولذلك فإنه تعالى لم يقدر للأنعام أن يتطوروا مثلنا فخلق كلا منهم من أبوين وأمهين. وقد توصل البشر اليوم إلى بعض الحقائق الجينية فمثلا انتبهوا إلى أن النحلة ترث من أبيها ربع جيناتها ولكننا نحن نرث من آبائنا نصف جيناتنا. ولذلك فإننا نتطور بسرعة لوجود التجانس الطبيعي في جيناتنا الأولية في الخلية الأولى بعكس الحيوانات والعلم عند المولى.
ولو نمعن في إمكانات الحياة الإنسانية الموجودة على ظهر الأرض وكذلك المخزونة في باطن الأرض وهكذا التغييرات المناخية التي بلغت أفضل حالاتها قبل حوالي 30000 سنة وبلغت ذروتها قبل حوالي خمسة عشر قرنا ولا زالت؛ فإننا قد نصل إلى حقيقة أن الأرض غير قابلة لاستقبال الإنسان بعد 3 إلى 4 سنة فلا حياة إنسانية بعد ذلك والعلم عند المولى.
ولا ننس في النهاية بأننا نتصرف في الخلق الموجود ولا نخلق شيئا من البداية. ولذلك فنحن قد نصنع قنابل تدمر الكائنات ولكن ذلك لا يعني بأننا قد نقوم بأعمال إيجابية كبرى مثل خلق الإنسان أو حتى خلق الذبابة ولو اجتمع كل علماء الأرض على ذلك.
تحياتي ودعواتي للجميع
أحمد المُهري
2/12/2018
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :
او الاشتراك في المجموعة
https://groups.google.com/forum/?hl=ar#!forum/islamjurisdev