الفرق بين سورتي الانفال والتوبة

بسم الله الرحمن الرحيم

طلب مني أحد إخواننا الكرماء في المغرب بأن أوضح الارتباط بين سورتي الأنفال والتوبة. ولذلك فإنني أقدم له ولمن يشاء من المؤمنين مقدمة تفسيري المتواضع للسورتين الكريمتين وبهما يمكن التمييز بين السورتين. كما أقدم بيانا مختصرا للآية الأولى من كل منهما. وأبدأ بسورة الأنفال.

هذه السورة الكريمة تعقب سورة الأعراف التي وضحت لنا بعض خصائص صحابة الرسل وخاصة صحابة الرسولين العظيمين موسى ومحمد عليهما السلام، اللذين استلما أعظم كتابين سماويين إلى المكلفين من أهل الأرض أو أهل الكوكب الذي نعيش فيه بالتحديد. لقد عرفنا حين تفسير السور السابقة في بداية القرآن الكريم بأنه سبحانه أنزل السور التالية من قبل كمقدمات لما بعدها.

فالفاتحة توضح هدف القرآن الكريم وهو الإيمان بالله تعالى وباللقاء مع الله والتمسك بهما بالكيفية التي يوضحها القرآن الكريم المنزل من السماء بلغة أهل مكة والمدينة قبل خمسة عشر قرنا. وبتحديد أكثر بلغة رسول الله محمد بن عبد الله عليه السلام كما يصرح به القرآن الكريم.

والبقرة تبين تشريعات السماء الأساسية بما فيها اهتمامات الرحمن بالحضارة وبالتطور الحضاري لعبيده في هذا الكوكب.

وآل عمران تذكر لنا النماذج الخيرة من البشر الذين عملوا بالأوامر العامة في البقرة واستفادوا منها سواء كانوا رسلا أو أصحاب رسل أو غيرهم. فهي سورة ملازمة للبقرة وشاهدة على صحة أحكامها ومواعظها.

والنساء تعين الأسس القويمة لصناعة الإنسان وتهتم بالأسرة وبالفرد وتذكر نماذج للأسر القوية في الأرض.

والمائدة تستدرك اهتمامات سورة النساء بالعائلة فتوضح للناس بأن صناعة الإنسان القوي والمدرك عمل دنيوي محض وأما الآخرة فلا يصلح أحوال الناس فيها إلا بالوفاء بالعقود التي أبرمها الله تعالى سواء في كيان البشر كالأطعمة المحللة أو في تشريعاته وتوصياته. وبدون إيفاء العقود فإن الخسارة حتمية يوم الحساب لأن الإنسان لا يفيد الإنسان يوم القيامة كائنا من كان.

وأما الأنعام فهي تهدف كما أظن إلى دعوة المؤمنين لإظهار دينهم وترك التقية ولكن ذلك غير متاح لأحد قبل أن يتعلم. فالسورة تهتم بتزويد الطالبين بالعلم السماوي المفيد لهم للتعرف على ربهم ولفهم ما فعله سبحانه لصالحهم من قبل أن يأتوا ومن بعد ما أتوا إلى الحياة. فلو عرفوا ذلك فإن دعوتهم لغيرهم تكون مفيدة ومقبولة عند الله تعالى.

والأعراف مع السورتين التاليتين لها تتحدث عن أحوال أصحاب الرسل ووظائفهم وواجباتهم وما يجنونه من خير لو عملوا بما وعظهم ربهم. والموضوع مفصل على ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: خصائص وميزات صحابة الرسل بعد الموت وفرقهم مع غيرهم وهي من مسؤوليات الأعراف. فكأن السورة جاءت لتشجيعهم على التضحية.

المرحلة الثانية: واجبات الصحابة في تأسيس الكيان القوي لمن يأتي بعدهم من المسلمين وهي موضحة في الأنفال.

المرحلة الثالثة: تطهير عاصمة المسلمين مكة ممن يريد الشر والسوء ويسعى لتقويض كيان المسلمين. هي من اهتمامات سورة التوبة ولذلك توضح السورة حدود وحقوق الناس كاملة تجاه عاصمة المسلمين لتكون مكة مزارا آمنا لكل أهل الأرض بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم ويكون المسلمون في خدمة زوار مكة. وليس من حق أحد أن يتملك تلك القطعة المحرمة من كوكب الأرض إلا في حدود السكن والزيارة والطواف وكما تعلمنا من رسول الله عليه السلام أن لا ننقل ترابها إلى بقية مدن الأرض. والأحكام في التوبة خاصة بالصحابة لا سيما أحكام القتال لانقطاع الوحي بعد الرسول. ولذلك تستنتج سورة التوبة بأن غير الذين أمرهم الرسول الأمين بخوض المعارك فإن الباقين يسعون لتعلم الدين وتقديم الإنذار السماوي إلى قومهم فقط. بمعنى أن دعوة الرسول وإنذاره سيبقى بين الناس ولكن حروبه لن تبقى. ولو عرفنا كل ذلك فإن كل الإشكالات العلمية التي يذكرها بعض الفضلاء في تفاسيرهم سوف تتلاشى بإذن الله تعالى.

وبعد سورة التوبة يعمد القرآن أن يسرد لنا قصص المرسلين ويذكر لنا أهمية الرسل الكرام وإكرام الله تعالى لهم. وفي نفس الوقت تتحدث السور عن ضعفهم وهوانهم أمام إراداتهم الخيرة لهداية قومهم. بل إنهم في النهاية أصبحوا عرضة للظلم من قبل أقرب الناس إليهم فاحتاجوا إلى أن ينجيهم ربهم من شر أهليهم وأقاربهم وأصدقائهم وبني جلدتهم. فهم ضعفاء في بلوغ أهدافهم وهم يتطورون مع التطور العام ويموتون مع من يموت ولذلك لا يجوز التمسك بهم. على العاقل أن يتمسك بالحي الذي لا يموت وبالقوي القهار جل جلاله الغالب على أمره والقادر على فعل ما يشاء. ثم عليه أن يتمسك باللقاء معه سبحانه لأننا نمر في مرحلة الاختبار ولا يمكننا أن نرى عظمة الجبار العظيم كما يجب. فالتمسك باللقاء مع الحي القيوم يهدئ من طموحاتنا الزائدة.

هذه خلاصة أهداف ورسالات السور القرآنية الكريمة من البداية حتى نهاية سورة إبراهيم والعلم عند الله تعالى.

والآن لنتحدث عن سورة الأنفال بصورة عامة ببعض التفصيل قبل أن نسعى لفهم الآيات الكريمة وخاصة الآية الأولى منها. نعرف بأن الله تعالى لا يمكن أن يقوم بعمل دون أن يكون هناك مبرر عادل وصحيح ومفيد للقيام به. ولنقدم مثالين معلومين للإخوة والأخوات دون شرح.

1. لم يرسل القرآن إلى أم القرى مع أهميتها عند القدوس العزيز قبل أن تتواجد في أم القرى أمة كانت خير أمة للناس. ولعلنا نعرف بأن المقصود من خير أمة ليس ما اشتهر بيننا بل المقصود خير أمة لاستقبال الرسالة السماوية العظمى آنذاك. ومكة كانت مزارا عاما وأهلها كانوا يستقبلون الناس من كل حدب وصوب ويحترمونهم ويضيفونهم ويرفعون عنهم الظلم والأذى. كان أهل مكة وما زالوا مهتمين بتقديم الطعام والشراب لمن يزور مكة الخير وكانوا مهتمين بإقامة أسواق الشعر العربي الذي يقوي لغة القرآن الكريم المقصود إنزاله في ما بعد. على هذا الأساس كانوا خير أمة أخرجت للناس بمعنى خير أمة تساعد الناس في الاستضافة وفي نشر اللغة العربية وليس أفضل كل الأمم كما ظن قليلو العلم، والعلم عند مولانا.

2. وحينما أراد الله تعالى أن يمنح رسوله فتح مكة رأى بأن شروط الفتح غير متكاملة لدى شخص الرسول نفسه فضلا عن صحابته، فقال سبحانه في بداية سورة الفتح: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4). فهناك ضرورة لمنح المسلمين فتحا لم تتكامل شروطه لديهم ولكنهم يحتاجون إلى مزيد من الإيمان، والإيمان يتقوى بمنحهم المزيد من النصر.

على هذا الأساس العادل يريد الله تعالى أن يمنح المسلمين عاصمة قوية تبقى مع بقاء الكوكب الأرضي احتمالا. تكوين هذه العاصمة تحتاج إلى مال والله تعالى لا يحب أن يأخذ المال غصبا من الناس بل يحب أن يتبرعوا باختيارهم إضافة إلى بعض المنح منه سبحانه.

الله ورسوله:

لنقرأ بعض الآيات التي تتحدث عن هذه المسألة المهمة في القرآن لنعرف معنى هذا التعبير السماوي.

التوبة:

يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62)

التوبة:

يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74)

النور:

وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48)

الفتح:

لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)

النساء:

مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (79) مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80).

فهل الرسول شريك مع الله تعالى، والعياذ بالله؟

ولو كان الفرض صحيحا فلماذا تشير الآيات إلى فرد وليس إلى اثنين، (تعزروه، تسبحوه، ليحكم بينكم، يرضوه)؟

والواقع أن للرسول البشري دور تبليغي فقط ولكنه دور لا يمكنه أن يتخطى عنه أو يُخطئ فيه. وقد شرحنا سابقا الفرق بين السفير المبعوث إلى أمة أخرى وبين رسول الله المبعوث إلى أمته. والآية 80 من سورة النساء المذكورة أعلاه تصرح بهذا الدور.

ولنقرأ الآية الأولى لنتعرف على شقي الآية الكريمة أولا ثم نشرحها:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿1

تنطوي الآية الكريمة على شقين أساسيين هما واجب الرسول تجاه صحابته والمسلمين جميعا ثم واجب المسلمين متمثلين بصحابة الرسول تجاه الرسول ليتم بلوغ الهدف. فواجب الرسول هو أن يبني للمسلمين كيانا قويا يبقى ولا يهتز بالعواصف والله تعالى يساعده علميا وماليا. المساعدة المالية مذكورة في بداية الآية والمساعدة العلمية مشار إليها في نهاية الآية الكريمة.

وأما الشق الثاني من الآية فهو أن يقوي المسلمون كياناتهم النفسية والشخصية بأن يتقوا الله تعالى في أدغال قلوبهم وفي خلافاتهم الكثيرة ويسعوا لإصلاح ذات بينهم حتى يتم بناء الكيان المفيد لهم ولمن يأتي بعدهم من المسلمين. فالآية الكريمة تفرق بين الرسول البشري وبين صحابته عمليا وتوضح دور كل واحد منهم كما توضح دور الرحمن في مساعدة الجميع. فالله تعالى يقوي رسولهم ماليا وعلميا ويمكنهم أن يستفيدوا من تلك القوة لو تركوا خلافاتهم الشخصية والرسول يقوم ببناء الكيان علميا وماديا ليبقى البناء صرحا لا يتأثر بالعواصف وعليهم أن يطيعوه ليتمكن من القيام بعمله دون عائق من الداخل. أما العوائق الخارجية فإن الله تعالى كفيل بإزالتها لو أنهم استحقوا ذلك.

هذه هي خلاصة رسالة الآية الكريمة بظني القاصر والعلم عند الله تعالى. والآن نفصل معنى الآية. هي تتحدث عن الأنفال والأنفال اسم للسورة ولم تُذكر كلمة الأنفال في القرآن إلا في الآية الأولى من هذه السورة. فلنعرف أولا معنى الأنفال لنعرف السبب في أن المسلمين يسألون رسولهم عن الأنفال.

يوجد في القرآن ثلاثة تعابير لمكاسب المسلمين وقد ظن المفسرون بأنها جميعا مكاسب حربية وهن الغنيمة والفيء والأنفال.

الغنيمة كما قال أهل اللغة والمفسرون تقريبا هي ما كسبه المسلمون بشق الأنفس وبدخول المعارك العسكرية مع أعدائهم.

والفيء والأنفال هما ما كسبوه بدون شق الأنفس وبدون أن يتعبوا بل بتقدير من الله تعالى لصالحهم. لم يتمكن المفسرون من التفريق بينهما وهما في الواقع شيئان مختلفان برأيي المتواضع. وسوف أشرح الكلمات الثلاث بإذن الرحمن.

الغنيمة: من غنم يغنم ويعني المكسب التي تدفع قيمة اقتنائه فقط مثل الغنم المعروف الذي صنعه الله تعالى خلال مرور الحيوان بحركات تطورية في مئات الملايين من السنين. نحن لا يسعنا دفع قيمتها الحقيقية لكننا ندفع لمن يملكها ثمن التنازل عنها فقط. والغنيمة التي يكسبها المحارب فهي ليست نتاج يده ولكنه يُمنح ذلك جزاء سعيه لكسب رضوان الله تعالى. فهو لم يكسبها بيده لكنه كسبها بعمل آخر.

الفيء هو ما يهبه الله تعالى من أملاك المحاربين الذين قذف الله تعالى الرعب في قلوبهم فتنازلوا عما يملكونه لينجوا من قهر الحرب والدمار أو هربوا من بيوتهم وتركوا أموالهم دون الخوض في حرب مع الذين آمنوا.

الأنفال هي الأموال العامة التي يوقفها غير المسلمين لتقوية عقائدهم الفاسدة مثل ما جعلها المشركون من حلي ومجوهرات وقفا لأصنامهم أو ما صنعوا بها أصنامهم ومعابدهم أو ما يوقفه المسلمون من حلي ومجوهرات ثمينة على قبور ومزارات الطيبين.

فالأنفال الموجودة في مكة والتي كانت تمثل أفكار المشركين وتكبر وتعظم رموزهم صارت بلا فائدة بعد فتح مكة. وقد نظن بأن البعض سأل الرسول عليه السلام عن الأنفال لعله يُحظى بنصيب منها. لكن الله تعالى منحها للرسول ليتصرف فيها بما يقوي دعوته ويساعده على بلوغ أهدافه السامية في سبيل نشر الكلمة العليا وفي سبيل بناء الكيان الإسلامي في مكة المكرمة.

وطاعة الله ورسول شرط أساسي للدخول في الإسلام ولا سيما في حضور الرسول عليه السلام.

وأما فهمي لبداية سورة التوبة.

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة التوبة مكتوبة بلا بسملة ولعل السبب هو أنها تتحدث عن موضوع واحد مع الأنفال وهو تشكيل الكيان العام للمسلمين في الأرض. هذا الكيان يحتاج إلى بناء أمة قادرة على حمل أعباء الحماية لمدينة المسلمين أو قرية البشرية مكة وللمسلمين عامة في أقطار الارض. وهو موضح في الأنفال. كما أنه بحاجة إلى تنظيف المدينة الأولى من الذين يحاربون المسلمين ويسعون لإفنائهم وإفناء دينهم وكيانهم. فهما سورتان باعتبار أهمية كل مهمة من المهمتين وهما موضوع واحد وهو البناء الفعلي للكيان الإسلامي بقوة لتبقى مدينتهم مكة بعيدة عن كيد الأعادي.

هناك مسألتان يجب الانتباه إليهما حين السعي لفهم السورة وهما:

1. أن الله تعالى قال في سورة الحج: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25). فوعد سبحانه بأن يحمي الحرم المكي الشريف المحرم ورمز الحرم هو المسجد الحرام والكعبة المشرفة. والمشركون الخاسرون مثل بقية القوميات الخاسرة التي تسعى لاستعادة مجدها المفقود كانوا يسعون للعودة إلى حكمهم وقدرتهم في مكة فيقومون بكل ما في وسعهم للقضاء على المسلمين. فلزم القضاء عليهم.

2. سارت سنة الله تعالى في كل الأمم الرسالية السابقة أن يحطم الله تعالى كيان المشركين بعد انتهاء الفترة الكافية لهدايتهم وبعد أن يمد الله تعالى رسلهم بكل البينات والدلائل الواضحة التي تجلي حقيقة دعوة الرسل. ذلك لأن الأمم غير الرسالية لم تر البراهين القوية على دين الله فمن حقها أن تبقى فترة أطول من الأمم الرسالية؛ ولكن الأمم الرسالية القليلة التي قدر لها الله تعالى ليكون أفرادها شهداء على غيرهم من الناس فإنها رأت الحجة ولمستها وكفرت بها ظلما وعدوانا. الشهداء تعني النماذج حسب تعبيرنا. إنهم حاربوا الله تعالى جهرة ولا داعي للإبقاء عليهم ولا ضرورة بل هم يضرون غيرهم ومن الخير والحكمة القضاء عليهم. لقد وعد سبحانه شخصا واحدا وهو إبليس أبو الشياطين أن يبقيه حتى يوم الوقت المعلوم ولم يعِد غيره في القرآن الكريم بقدر فهمي.

والله تعالى قد وضع سياسة حكيمة لتبقى الدعوة إليه سارية حتى يوم القيامة ووضحها في الآيات التالية للآية التي ذكرناها من سورة الحج وهي:

وَإِذْ بَوَّأْنَا ِلأِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34).

هناك منسك عام لكل المؤمنين بالرسالات السماوية وهم اليهود والنصارى والمسلمون. ذلك المنسك هو ذكر اسم الله تعالى على بهيمة الأنعام حين الذبح. ذلك هو علامة الإيمان بالله وليس علامة اليهودية ولا النصرانية ولا الإسلام. وبهيمة الأنعام هي الأنعام المخلوقة في مكة مع الإنسان وهي البقر والغنم والمعز. وقد ذكر الله تعالى أهمية الجَمل بعد ذلك للمسلمين فقط على أنه سبحانه ذكر في سورة آل عمران بأنه لم يحرم الجمل وإنما حرمه إسرائيل على نفسه بمعنى أنه عليه السلام ما كان يحب أكل لحم الجمل فهو ليس شريعة سماوية. قال تعالى إكمالا للآيات أعلاه في سورة الحج:

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44). أتمنى أن ينتبه المسلمون إلى أن الله تعالى لم يحرم دخول مكة على غير المسلمين كما هو الحال اليوم فما يفعلونه خطأ جسيم ومكة هي أجمل مكان لدعوة غير المسلمين إلى الله تعالى ولكننا للأسف نخطئ ولا نسعى لتصحيح أخطائنا.  

والفرق بين هدمه سبحانه للأمم السابقة على موسى وهدمه سبحانه لأمة موسى ومحمد هو التالي. قام سبحانه بتحريك الطبيعة ضدهم جميعا عدا قوم موسى فقتلهم بعد أن نجى المؤمنين. ولكنه سبحانه قتل فرعون وملأه وجنوده بالغرق على يد موسى نفسه حسب الظاهر وخسف بقارون الأرض لأنه لم يكن مع فرعون وهو من المحكوم عليهم بالموت عقابا من الله تعالى لأنه عالمِ البلاط الفرعوني لكنه لم يسافر مع فرعون ليحارب موسى عليه السلام.

وأما أمة محمد عليه السلام، فإنه سبحانه بعد انتهاء المهلة التي سنها في الأمم الرسالية فإنه أمر المسلمين بأن يقضوا على الكافرين بطريقة خاصة مشروحة في سورة التوبة. قال تعالى في التوبة:

وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15).

وقد كرر الله سبحانه بأن العذاب على أئمة المشركين وزعماء المنافقين هو من الله تعالى وليس من المسلمين في عدة آيات من نفس سورة التوبة:

فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55).

يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74).

وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85).

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ ِلأمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106).

والآخرون هم غير أئمة الكفر والنفاق الذين حكم الله تعالى عليهم بالموت أو الدخول رسميا في جماعة المسلمين.

التوبة

بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿1.

بداية نستمع إلى علماء اللغة في تحليلهم لمعنى برأ، براءة. قال الراغب في المفردات:

أصل البرء والبراء والتبري: التقصي مما يكره مجاورته، ولذلك قيل: برأت من المرض وبرئت من فلان وتبرأت وأبرأته من كذا، وبرأته، ورجل بريء، وقوم برآء وبريئون.

قال عز وجل: {براءة من الله ورسوله} [التوبة/1]، {أن الله بريء من المشركين ورسوله} [التوبة/3]، وقال:: {أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون} [يونس/41]، {إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله} [الممتحنة/4]، {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون} [الزخرف/26]، {فبرأه الله مما قالوا} [الأحزاب/69]، وقال: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} [البقرة/166].

والبارئ خص بوصف الله تعالى، نحو قوله: {الباريء المصور} [الحشر/24]، وقوله تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم} [البقرة/54]، والبرية: الخلق، قيل: أصله الهمز فترك  

وقيل: بل ذلك من قولهم: بريت العود، وسميت برية لكونها مبرية من البرى أي: التراب، بدلالة قوله تعالى: {خلقكم من تراب} [غافر/67]، وقوله تعالى: {أولئك هم خير البرية} [البينة/7]، وقال: {شر البرية} [البينة/6] .     انتهى النقل.

وأما صاحب المقاييس فقال :

فأما الباء والراء والهمزة فأصلان إليهما ترجع فُروع الباب: أحدهما الخَلْق، يقال بَرَأَ الله الخلقَ يَبْرَؤُهم بَرْءَاً.
والبارئ الله جَلَّ ثناؤه. قال الله تعالى: فَتُوبُوا إلى بَارِئِكُمْ [البقرة 54]،

والأصل الآخَر: التباعُد مِن الشيء ومُزايَلَتُه، من ذلك البُرْءُ وهو السَّلامة من السُّقم، يقال بَرِئْت وبرَأْتُ. قال اللحيانيّ: يقول أهل الحجاز: بَرَأت من المرض أبرُؤُ بُرُوءَاً.
وأهل العالِيَة يقولون: [بَرَأْتُ أَبْرَأ] بَرْءاً. انتهى الضروري من النقل.

وأنا أظن بأن برأ لا تعني إلا التباعد سواء من المرض أو من العقائد أو من أصحاب العقائد. وأما الباري فهو اسم له سبحانه باعتبار أنه يبرئ المخلوق الجديد الذي تحقق من تعاون خليتين عقيمتين، يبرؤه من العقم قبل أن تتمكن الخلية الجديدة من التصوير. ولولا ذلك لما تمكنت الخلية من عملية التصوير ولذلك قال سبحانه: البارئ المصور. والعلم عند سيدنا المتعالي.

فقوله تعالى في أول السورة براءة تعني كما أظن بأن هذه السورة بيان براءة وتباعد بين الله تعالى مع رسوله وبين الذين عاهد المسلمون معهم من المشركين. ولذلك قال سبحانه إلى الذين ليعني بأن هذه البراءة ليست عامة فالله تعالى لن يبرأ من عبيده ولكن هؤلاء آبقون انتهى دورهم.

والذين عاهد المسلمون معهم من المشركين ليسوا كل المشركين فالذين وقعوا صلح الحديبية مثلا هم زعماء المشركين وليسوا كل المشركين. فالبراءة لا تشمل عامة المشركين ولا أزواجهم ولا أولادهم بل تشمل الزعماء. كما أن الذين أسلموا منهم ليسوا داخلين في البراءة لأن الآية تصرح بأنها براءة إلى الذين عاهد المسلمون معهم من المشركين وليس من المؤمنين. فالذين أسلموا منهم خارجون بصورة طبيعية لأنهم غير متصفين بالشرك. ولنعرف هنا ضرورة بأن المشرك ليس هو الذي يشرك بالله تعالى بل هو الذي يتصف بصفة الشرك كصفة ملازمة له. قال تعالى في سورة يوسف:

وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106).

ولعل السبب في الفصل بين رسول الله وبين المسلمين في الآية هو بسبب أن الرسول هو أول من تقبل براءة الله تعالى مع أنه هو الذي وقع المعاهدة مع المشركين بمعية المسلمين. وحينما نستمر في قراءة السورة نشعر بأن هناك عدم توافق عام بين المسلمين للابتعاد عن المشركين بسبب التمازج النسبي والتجاري والاجتماعي بينهم. ولعل هذا هو السبب الأساسي في أن الله تعالى أراد أن يعذب المشركين على يد المسلمين أنفسهم ليثبتوا براءتهم من المشركين وعدم اهتمامهم بما بينهم من قرابة حتى لو كانوا أقرب الناس إليهم. فالسورة برمتها جزئيات البراءة وهي في واقعها موجهة إلى المسلمين أنفسهم بداية. المسلمون الذين حضروا توقيع المعاهدة مع المشركين وهم أيضا ليسوا كل المسلمين. فطبقة مميزة مختارة من المسلمين خوطبوا بأن الله تعالى أنزل سورة تبين براءته ورسوله من طبقة مميزة من المشركين.

ولذلك قال كثير من المفسرين بأن الآية التالية (فسيحوا في الأرض) تعني قولوا للمشركين سيحوا في الأرض. وأنا لا أخالفهم في ذلك. فنقول بأن الفاء في بداية الآية الثانية تعني يا أيها المسلمون بما أن الله تعالى ورسوله بريء من المشركين فأبلغوهم التالي:

فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴿2.

أما بعد هذا فإن السور الثلاث الأعراف والأنفال والتوبة سور تخص صحابة الرسل ولا سيما صحابة رسولنا وليس لنا أن نعمل بها إلا ما عم منها. ويمكن لكل منصف ذي مسكة أن يشعر بأن سورتي الأنفال والتوبة على الأقل سورتان تخاطبان وتشيران إلى مجموعات بشرية معلومة في مكة ولا تخاطبان عامة البشر ولا عامة المسلمين ولا تشيران إليهم إلا قليلا. بالطبع أنني نقلت مختصر تفسيري لمقدمة السورتين وللآيتين الأوليين منهما استجابة لطلب أحد الإخوة المؤمنين ولا أدري هل يمكن لأحد أن يستفيد من هاتين المقدمتين؟ إنهما على كل حال شاهدان على طريقة التفسير التي أقدمها لزملائكم في لندن.

تحياتي لأهل الحق والعدل وسلامي على كل من اطلع على رقيمتي المتواضعة.

أحمد المُهري

2/12/2018

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

او الاشتراك في المجموعة

https://groups.google.com/forum/?hl=ar#!forum/islamjurisdev

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.