وقتية بعث النبيين

تصحيح أخطائنا التراثية

وقتية بعث النبيين

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه المقالة المختصرة نوعيا تتحدث عن بداية بعث النبيين ونهايتها من واقع كتاب الله. قال تعالى في سورة البقرة: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿213.

قال الراغب في المفردات: {والأمة: كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرا أو اختيارا، وجمعها: أمم}.           انتهى النقل.

وأما برأيي المتواضع فإن الأمة تعني المجموعة التي يتقوم بنيانها على أسس دينية أو اقتصادية أو لغوية أو طائفية ترتبط بالسلالات الاجتماعية المختلفة في الأرض. فلا أمة بدون قوام وكيان في الواقع. ولذلك فإن الإنسانية لم تكن لتكوّن الأمة الإنسانية الأولى قبل أن يمر فترة غير قصيرة يتكاثر فيها الناس ليشكلوا لأنفسهم قواما وكيانا تعطيهم القوة والقابلية على الظهور والدفاع والتعارف والتزاوج والبناء والزراعة وما يتبع ذلك من مقومات الحياة الخاصة بالبشر. هناك صار الناس أمة واحدة بادئ ذي بدأ في مقابل الأمم الحيوانية الأخرى التي سبقتهم فعلا.

وهذه الآية المجيدة تتحدث عما فعله الله تعالى حينما تكونت أول أمة بشرية في الأرض. نحن المسلمون نعتقد كما يعتقد المسيحيون واليهود بأن البشرية جميعا هم أبناء آدم وحواء الذين سبقانا جميعا في تكوين أول وأصغر عائلة بشرية قبل آلاف السنين ولعل عشرات الآلاف من السنين. ومنهما تكونت العوائل الأخرى شيئا فشيئا. لم يذكر القرآن وجود أنبياء قبل تكوين أول أمة بشرية متكاملة، وأما المعروف بين المسلمين بأن آدم وشيت بن آدم نبيان، فهو لا يستند إلى دليل قرآني. إن القرآن بهذه الآية يخبرنا بأن أول الأنبياء بُعثوا حين تكوين أول أمة وليس قبل ذلك. وأما إشكالهم في عدم وجود حجة على آدم وحواء غير آدم نفسه فهو غير وارد. ليس لدينا نبي ولا رسول يمكن الرجوع إليه اليوم أيضا، وخاصة في المناطق التي لا تعرف شيئا عن اللغة العربية وحتى في الدول الغربية فليس للإسلام حضور قوي وصحيح. والباعث للأسف أن الإسلام في أيامنا هذا ظهر في الغرب بقوة مع المخالب والأنياب وبقية مظاهر التوحش وسفك الدماء. ليس الاغتيال والقتل العشوائي ظاهرة حضارية حتى نفتخر بها ولم يكن النبي العربي داعما للاغتيال وليس في القرآن ما يبيح ذلك. إنها من صنع الذين يبحثون عن السلطة المطلقة ويرغبون في التسلط المستبد على رقاب الناس باسم الدين وتحرير الأرض من غير المسلمين وما شابه ذلك من ادعاءات تخالف نصوص القرآن الكريم.

فالثابت قرآنيا أن الأنبياء بدأوا بالظهور بعد تكوين أول أمة بشرية. فحينما كانوا أمة واحدة بعث الله النبيين. وأما السبب الداعي لذلك فهو لمكافحة ما ظهر بين الناس من اختلاف. ولكن هذا الاختلاف لم يكن غائبا من قبل بدليل وجود الكثير من الاختلافات في آحاد العوائل حتى المتقدمة ثقافيا، وكذلك التجمعات الصغيرة حتى الثنائية منها. وحتى نعرف السبب في عدم إرسال رسل قبل أول أمة متكاملة، أتمثل بالمولدات الكهربائية الكبرى (Power Plants) التي لا يمكن تحقيقها وإعدادها إن اقتصرت موارد الطلب على قرية لا تضم أكثر من عشرين أسرة مثلا. إنها غير اقتصادية وغير مجدية ولا يمكن صيانة منشآتها لهذا العدد الصغير من الناس. فلا يمكن تعريف النبي بالذي يستلم الوحي من السماء لإصلاح أسرة أو قرية صغيرة أو حتى بلد واحد. أما الأنبياء الذين ظهروا في البلدان الصغيرة مثل لوط فهم كانوا تبعا لنبي كبير آخر كان يدير شؤونهم ويتولى أمورهم. شأن لوط شأن الولاة الذين يبعثهم الحاكم في الأمصار والقرى البعيدة. وهناك أسباب أخرى لرسالة لوط أيضا. وبالطبع فإن القرية التي بُعث فيها لوط ليست بذلك الصغر. كلما أظن هو أنهم هم الفينيقيون وهم ليسوا قلائل أو أمة مشابهة لهم كانت تسكن لبنان الفعلية.

وما عدا ذلك فلا يتناسب مع شأن الله تعالى ولا تُجلّي مفهوم النبوة الرسالية. نعم هناك أنبياء غير مرسلين يساعدون المرسلين في الواقع كما يمكننا التعرف عليهم إذا قمنا برحلة علمية واسعة طيات القرآن الكريم بمشيئة الرحمان. إن هناك أنبياء مستعدون لحمل الرسالة إن دعت الحاجة لذلك كما حصل لإبراهيم احتمالا بعد أن ترك العراق حيث بقي نبيا يرسل الأنبياء ولم يحمل نفسُه رسالة خاصة لقوم بعينهم. ولعل السبب في ذلك هو أن الرسل يظهرون بين أقوامهم وإبراهيم كان قد ترك قومه وهم العراقيون كما يحتمل الكثيرون. قال تعالى في سورة إبراهيم: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿4﴾. ومن الممكن تصور أنبياء غير مبعوثين قبل تكوين أول أمة بشرية، بمعنى أن هذه الآية لا تدل على عدم وجود أنبياء قبل تكوين الأمة بل تدل على عدم بعث الأنبياء قبل ذلك. هذا لو فسرنا البعث بالإرسال وفسرنا النبوة باستلام الوحي. يبقى سؤال يصعب الجواب عليه ولكن يمكن ترتيب المحاورة التالية بين زيد وزيدان إيضاحا:

·              زيد: ما هو معنى النبوة؟

·              زيدان: إن الله تعالى يُكرم عبيده من البشر بالعلوم الأولية بأن يُلهمهم عن طريق ملائكته أجوبة المسائل العلمية الصعبة التي تدور في أذهانهم بعد أن يسعوا ويجتهدوا لفهمها. لكن المُلهَمين لم يكونوا ليشعروا بالإلهام بل يقتصر شعورهم بأنهم تعرفوا على حل غير موجود في ثنايا الذاكرة. لعلهم يظنوا بأن عبقريتهم وذكاءهم هي التي دلتهم على ذلك وهو ليس إلا قصور فهم بالحقائق كما تهدينا إليه الآية 202 من سورة البقرة. وحينما تشتد الحاجة إلى المزيد من المعلومات العلمية التي لم يفكر فيها طلاب العلم ولا يمكن أن يصلوا إليها بل تتطلبها الضرورات الاجتماعية فإن الله تعالى يختار من بين الناس الموجودين من هو مؤهل للنبوة. يتم إبلاغ المؤهل بهذا الاختيار عن طريق الوحي. هذا الإبلاغ يسمى بعثا. ولعل السر في بعض الإلهامات الصريحة أو النداءات السماوية في القرآن الكريم لبعض الناس مثل آدم وإبراهيم هو أن المجال لم يكن مساعدا للنبوة أو للرسالة.

·              زيد: أليس البعث هو الإرسال كما هو معروف بيننا؟

·              زيدان: لو كان كذلك لكان البعث في يوم القيامة يعني الإرسال ولم يقل الله تعالى بأننا مرسلون في يوم القيامة بل قال بأننا مبعوثون آنذاك.

·              زيد: إذا ما الفرق بين الكلمتين؟

·              زيدان: البعث والإرسال كلاهما يعنيان الإثارة لتحقيق هدف معين ولكن الإرسال يغطي رقعة أوسع من معنى البعث ليشمل معنى الانتقال بغية إيصال المعلومة التي تحققت لديه إلى أشخاص أخر بأمر الذي أثار العلم –وهو الله تعالى- في نفس المبعوث -وهو النبي- ليصبح رسولاً أيضاً.

·              زيد: فكيف توظف المعنى الذي ارتأيته للبعث في يوم القيامة.

·              زيدان: في يوم الحشر تُثار وتنشط الخلايا الجديدة التي تتشكل لدى كل فرد من الناس بعد أن يُعادوا من عالم المجردات إلى الأرض الجديدة لترتبط كل نفس بخلية نباتية بغية تحويلها إلى جسم مناسب لصاحب تلك النفس. فكل نفس تَركَبُ خلية نباتية كاملة لتثير فيها الكروموزومات بما حفظ فيها من معلومات جينية بأمر الله تعالى كما يشير إليها القرآن الكريم في سورة ق، فتطُور تلك النفس جينات بدنها إلى جينات الشخص المطلوب صناعته وتبدأ عملية التكاثر الخلوي ثم صناعة البدن كالمعتاد احتمالا. هذه الإثارة تسمى بعثا والمقصود من كل ذلك أن يحصل الشخص على بدن شبيه بما كان فيه يوم تركِه للدنيا. وذلك من أجل أن يقف الجميع أمام رب العالمين بأبدان لا تختلف عن أبدانهم الأصلية ويستمعوا إلى الحكم النهائي الذي يصدر بشأنهم. والعلم عند الله.

·              زيد: شكرا لربي وربك يا زيدان؛ وقبل أن أستودعك الله تعالى، هل تقدر أن تخمن ما كان يدور في خلدي من إشكال علمي يصعب الإجابة عليه؛ ولكنك قمت أنت برفعه من نفسي بهذه المحاورة السريعة؟

·              زيدان: نعم أظن بأنك كنت تفكر في كيفية توظيف القرآن لمعنى البعث على النبيين في الدنيا ومعرفة الفرق بين المبعوثين والمرسلين. ودعني قبل أن أرجو لك مزيدا من التوفيق حين المغادرة بأن أضيف بأن السبب في عدم بعث مزيد من الأنبياء ليس هو عدم الحاجة إليهم اليوم فحسب بل هو انتفاء ضرورة إثارة حقائق غيبية أخرى أكثر مما ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم. لقد انتهى زمن التربية لعامة البشر وبدأ فعلا دور العمل الحقيقي للبشرية. إنهم جميعا قادرون على التوصل إلى الحقائق التي يحتاجونها بأنفسهم بمساعدة القرآن وكتب اللغة وبعض المدرسين المساعدين.

لكن الناس مع الأسف يتكاسلون عن البحث والتحري بأنفسهم لمعرفة واجباتهم التي كتبها عليهم ربهم ويكتفون بدفع بعض المال لمن يعيش على الدين ويمنحهم صكوك الغفران عن الذنوب أو الوعود الكاذبة بما هي غير مصرح بها في القرآن المجيد. ولا بأس بتقديم المساعدة المالية للذين يدرسون الدين ولكن يجب على كل شخص أن يتعلم الدين بنفسه بمساعدة المتخصصين في الدين. لو فعلوا ذلك اضطر طلاب العلوم الدينية أن يمارسوا مهنتهم بجد ويتركوا التراث البائد المقبور الذي اخترعته أيادي مأجورة اكتراها الحكام الظالمون لمصالحهم. عليهم أن يجتهدوا في فهم كتاب الله عز وجل ويتركوا عادة الببغاوات والقرود الذين يقلدون غيرهم ولا يبدعون. وفي الختام عليك سلامي.   انتهت المحاورة.

هؤلاء النبيون الذين بُعثوا حين تكوين أول أمة أو بدأ بعثهم آنذاك حتى بنبي واحد فإنهم إضافة إلى البعث تمثلوا بالتبشير والإنذار. والمطلوب معرفته الآن هو ما يتعلق به التبشير والإنذار. هل كانوا يبشرون بالجنة وينذرون من النار بالنسبة لأناس لم يتعرفوا بعد على كيفية الحياة والعيش حتى يفكروا في الدار الآخرة؟ ليس من شيم العزيز الحكيم أن يطالب أحدا بالالتزام بالأحكام الشرعية قبل أن يهديه سنن الحياة ويعلمه الكسب والصناعة والبناء وإعداد اللباس والطعام وإصلاح الخلل والفصل بين الخصوم وسائر ما يحتاج إليه المجتمع من مقومات تمنح الأمان. هذه المسألة موضحة قرآنيا وعلى أساسها يمكن أن نتعرف على واجب أول الأنبياء. قال تعالى سورة قريش: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ﴿3﴾ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴿4﴾

ويقول سبحانه على لسان إبراهيم في سورة إبراهيم: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴿37﴾ فلا صلاة قبل الأكل ويمكن القول بأن الله تعالى الكريم الرحيم يعطي الكثير ويطلب القليل فكيف يأمر الناس بعبادته قبل أن يُفيض عليهم من رزقه. ولذلك نرى نوحا الذي يُحتمل أن يكون أول الأنبياء لا يتحدث عن الجنة والنار بداية بل يدعوهم إلى الاستغفار فقط ويعدهم معه المزيد من الخيرات الدنيوية. هكذا يسترسل سورة نوح مبينا:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ   إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿1﴾ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿2﴾ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ﴿3﴾ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿4﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا ﴿5﴾ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاّ فِرَارًا ﴿6﴾ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴿7﴾ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ﴿8﴾ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴿9﴾ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴿10﴾ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ﴿11﴾ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ﴿12﴾ مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴿13﴾

وبنظرة بسيطة ولكن فاحصة في آيات سورة نوح نستنتج الآتي:

1-           ليس هناك أي إنذار بنار جهنم ولا بشارة بجنات النعيم.

2-           لا توجد في السورة الكريمة أية دعوة للصلاة والصيام وحتى الإنفاق بل الدعوة مقتصرة على الاستغفار وعبادة الله وهي هنا تعني الطلب من الله تعالى مباشرة لا من الأصنام الهامدة التي لا حراك لها، باعتباره ربهم الذي أنشأهم من الأرض. والدليل عليه قوله تعالى في سورة يونس: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿18﴾ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿19﴾ فقولهم هؤلاء شفعاؤنا عبادة لهم من دون الله كما نفهمه من الآية 18.

3-           يعتقد المؤمنون بالله بأن التقوى وطاعة الرسل تسبق العبادة وعادة ما لا يذكرهما الله تعالى مقرونتين بالعبادة في القرآن الكريم عدا سورة نوح فقد ذكر الله تعالى التقوى وطاعة الرسول مسبوقتين بالعبادة. وقد ذكر العبادة مسبوقة بالتقوى في العنكبوت بالنسبة لقوم إبراهيم كما ذكر العبادة تسبق الصلاة بالنسبة لقوم موسى. ذلك لأن العبادة في جوهر معناها تعني الخضوع الاختياري أمام الله تعالى ويتجلى ذلك في البشر المتطورين جزئيا بأن يطلبوا من الله تعالى الرزق وبقية حوائجهم. فالإنسان يجب أن يقتصر دعاؤه إلى الله وحده بداية ثم يتعلم التقوى فيعبد الله تعالى بعد التقوى عبادةَ من يعلم. إن الدعاء إلى الله وحده عبادة والدعاء إلى غير الله شرك وهذا المعنى يتجلى في سورة نوح مما يدل دلالة واضحة على بدائية قوم نوح وبأنهم استلموا أول الرسالات السماوية بدون كتاب طبعا.

4-           كل الوعود لقوم نوح كانت دنيوية فقد وعدهم نوح مقابل العبادة: يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى كما وعدهم بدل الاستغفار: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴿10﴾ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ﴿11﴾ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ﴿12﴾. الأجل المسمى يعني الأجل الطبيعي بأن لا يموت الإنسان قبل نفاد قدراته البدنية كالذي يتعرض لمرض قاتل أو قتل بالآلة.

وسواء كان نوح أول الأنبياء –كما أظن- أو من الأنبياء الأوائل –كما يظن غيري- فإن التبشير والإنذار كان مقتصرا على الوعود الدنيوية. ذلك لأن ترسُّخ العقيدة بالله وحده والابتعاد عن إشراك غير الله بالله تعالى ضرورة ملحة في تحقيق الإيمان بالله وباليوم الآخر. ولذلك كان التبشير بما سوف يُكرمهم به الله تعالى في الدنيا مقابل تركهم لعبادة غير الله وإنذارهم بالعذاب الدنيوي هما ما دعا بهما نوح ليتم اختبار نفوس قومه بتلك الطريقة. وقد سبق التبشيرُ الإنذارَ بسبب أن الإنذار كان بعذاب لا قِبَل لهم بها ولا حياة لهم بعدها فلا يمكن إعطاؤهم فرصة اختبار بالعذاب. ولكن التبشير بالنعمة كانت غير ضارة بهم وقابلة لأن يمتحنوها فيلمسوا فوائدها فورا ولكنهم من جهلهم رفضوا حتى اختبار ترك الأوثان مؤقتا ليروا النعيم الدنيوي. سبحان الله من جهلهم وعماهم.  ونحن نرى اليوم نفس الجهل والعمى متفشيا بين المسيحيين واليهود والمسلمين والله تعالى مازال يبلي المؤمنين بالله، عذابا وسحقا وتدميرا دون أن يرضوا بترك تمسكهم بعبيد الله وعودتهم إلى ربهم ليفتح عليهم أبواب رحمته. معاذ الله من الجهل.

يقتل المسلمُ المسلمَ اليوم أو يقتل نفسه ليقتل بريئا أو يهلك مرفقا حيويا يستفيد منه الناس! ما هذا إلاّ أن أبلانا الله تعالى ببعضنا البعض لنقضي على أنفسنا بأنفسنا وذلك جزاء من أعرض عن آيات ربه واتبع الهوى. يبدو بأننا وفي عصر الاستقلال الإنساني وعدم الحاجة إلى الأنبياء، ذهبنا مع الشيطان بعيدا عن تعليمات السماء فظهر بيننا سمات قوم نوح وعاد وثمود. فعلى الحكماء والعلماء أن يعالجوا المسألة قبل أن تتفاقم ويتعسر العلاج. علينا بأن نبشر أنفسنا وننذر أنفسنا حيث لا نبي بعد نبينا ولا وحي يُنتظر في يومنا؛ والمعاذ الله تعالى وإليه سبحانه الشكوى. 

هكذا بدأ التبشير والإنذار ليتطور فيما بعد مع تطور الناس فيشمل الدنيا والآخرة. وليعلم الذين يحبون أن يدعوا إلى الله بأن الناس يريدون الأكل والشرب والأمان في دنياهم قبل أن يعدوا أنفسهم بنعيم الآخرة أو يهابوا عذاب جهنم. هكذا يكون الناس في حالاتهم الطبيعية التي خلقهم الله تعالى عليها.

لعل الذين آمنوا مع نوح وهم نفر قليل من قومه، سمعوا من نوح بعض الشيء عن الآخرة ونعيمها وعذابها لأنهم صاروا في عداد الذين يعلمون. كما أن نوحا بنفسه كان يزداد علما مع مرور الزمن. ومع ازدياد العلم يزداد المرء تقوىً. وكلما ازداد الناس علما ومعرفة وتوجها إلى الله تعالى احتاجوا إلى المزيد من الحقائق المعرفية الموجهة والمرتبطة بالسماء. والله تعالى ليس ضنينا على عبيده، فهو يرزقهم العلم كما يرزقهم طيبات الطعام والشراب والكساء والمأوى. أصبح الناس بعد فترة من توافد الأنبياء واحدا تلو الآخر، بحاجة إلى مرجع علمي كبير يمكنهم الرجوع إليه في كل مسألة ناقشوها ولم يصلوا إلى حل لما اختلفوا حولها بالنسبة لما وراء الطبيعة وخاصة غيب الحياة الثانية.

لم يكن الأنبياء بأنفسهم قادرين على فهم كل ما اختلف فيه الناس بل كانوا هم بأنفسهم محتاجين مع المقربين من أقوامهم إلى ما يقوّم المعرفة والعلم بينهم. ولذلك أنزل الكريم الرحيم الكتاب مع الأنبياء. والإنزال غير البعث كما نعلم، حيث أن البعث يتم بين الناس أنفسهم فيهيأ الله تعالى بالبعث شخصا مؤهلا منهم ليستلم الوحي منه سبحانه. ولكن الإنزال هو نقل العلم من مصدر الحقيقة إلى مهبط الإنسانية، أو من مصدر العلم إلى مربط الجهل والعمى بغية التنوير وبث الهدى ومحاربة الضلال والسذاجة. فالذي يمكنه أن يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ليس هو النبي بل هو الكتاب الحكيم. ليس بين النبي والكتاب أية ندية، بل النبي بنفسه تلميذ للكتاب. وعلى هذا قال الله تعالى في هذه الآية الكريمة: وأنزل معهم الكتاب ليحكمَ، ولم يقل: ليحكموا؛ لأن الأنبياء يموتون وليسوا باقين ما بقي الناس، ولأن الأنبياء متعلمون وليسوا علماء بالنسبة للكتاب السماوي بدليل أنهم يزدادون علما بالكتاب على مر الزمن وما فهموه من الكتاب غير مفيد لمن دخل في زمان غير زمانهم. ولذلك يأمر الله تعالى خاتم النبيين بأن يقول: {رب زدني علما، طه: 114}.

فالكتاب المنزل هو المعلم الذي يعلم الأنبياء وأقوام الأنبياء وهو الفيصل الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. هناك الكثير من الادعاءات التي تناقض هذا الحديث العلمي وكلها مرفوضة ومردودة وسوف أتولى أو يقوم زملائي الكرام ببيان الرد للناس في مكانها بإذن الله تعالى. والأحاديث التي ينافسون بها القرآنَ اليوم ليست هي الكلام الذي صدر من رسول الله جزما بل هي منقولة بواسطة مجموعة من علماء الفرس الذين درسوا العربية وليسوا عربا فعلا والنبي حقا عربي. لو نمد الطرف إلى مدرستي الحديث الشيعية والسنية فنرى بأن الكليني والطوسي وابن بابويه القمي وكلهم إيرانيون هم كتاب الكتب الأربعة الشيعية في الحديث. ثم نرى مسلم وابن ماجة وأبو داوود والترمذي وكلهم نيسابوريون بالإضافة إلى البخاري وهم جميعا فارسيون وقد درسوا جميعا مع الحاكم النيسابوري في مدينة نيسابور الإيرانية لدى معلم واحد وهو يحيى بن محمد الذهلي الحياك وأبيه محمد بن يحيى الذهلي. وحتى النسائي فارسي من قرية نسا بإيران. وهؤلاء كلهم معاصرون مع بعضهم.

والكتاب اسم جنس يشمل الكتب السماوية جميعا وأهمها كتابا التشريع وهما التوراة والقرآن. ولذلك قال سبحانه: وأنزل معهم الكتاب. والكتاب ليس واحدا يكرَّر بل هو مجموعة كتب. ولعل السر في أن سماه الله تعالى كتابا هو ما يكتبه فيه على نفسه من مظاهر العطف وعلى عبيده من أوامر تشريعية ويروي لنا ما كتبه على الذين سبقوا وغير ذلك. وبما أن الكتاب منزل من السماء فهو ملزم شرعا لمن يروم الحقيقة ويسعى لإرضاء ربه، وهو حق لا يشوبه الباطل قطعا. ونحن البشر نهتم بالمكتوب ونعتبره مسندا ولا نهتم بظاهر القول الصادر من بين الشفاه. فكل كاتب من الناس يهتم بما يكتبه أكثر مما يخطب به لأن الكتاب بطبيعته باق يتداوله القريب والبعيد ويطلع عليه الحاضر والغائب ولا يعلم الكاتب شيئا عن الذين سوف يطلعون على ما كتبه. والعبرة دائما في المعاملات والمعلومات العلمية والأبحاث بالكتابة.

واقتران الإنزال السماوي بالرسل يعطي المزيد من الثقة فيهم باعتبارهم حاملين للرسالة كتابا باقيا يعقبهم إذا ماتوا كما أنه يؤيدهم بدليل علمي منزل من مصدر الحقيقة ومن جهة ثالثة فإن الله تعالى بهذه الجملة الصريحة يؤكد أن الرسالة التي أنزلت هي رحمة للعالمين وليست خاصة برسل الله تعالى، بل إنهم كغيرهم يستفيدون من الكتب السماوية ويعملون بها، شأنهم في التعرض للاختبار شأن بقية الناس دون تمييز. فالنتيجة الأخروية واحدة بالنسبة للجميع دون تفريق، والتمييزُ دنيويٌ بحت تفرضه ضرورة الحياة الدنيا كما يفضل الله تعالى البعض الآخر بالمال والقوة البدنية والجمال والعلوم الدنيوية والقدرات السياسية والاجتماعية وغيرها.

فمعيار الرسل للحكم بين الناس هو كتابهم الذي أنزل معهم لا أنفسهم ولا كلامهم الشخصي ولا أحكامهم التي يصدرونها لمن يعيش معهم باعتبار أن الأنبياء أكثر علما منهم، أو وكلاء عنهم لممارسة الحكومة عليهم. حتى الذين سبقونا والذين سلطهم الله تعيينا على بقية الناس فإن أحكامهم مؤقتة تفقد قوتها بعد موتهم أو بعد غياب الشأن الذي حكموا فيه. هذه المسألة حقيقة علمية حيث أن الإنسان مهما بلغ من العلم والكمال وسعة المعلومات وحتى الارتباط بالوحي فإنه بشر محدود بقانون الفيزياء المادي وغير قادر على فهم مكنونات القلوب ولا خفيات المستقبل. من الواضح لذوي الألباب بأن السميع العليم لاحظ كل التأثيرات وكل الأرضيات للأحكام التي قررها في كتابه الكريم، فلا ضير في العمل بها ما دام القرآن نافذا بأمر الله تعالى. والعقلاء المفكرون المهتمون بالقرآن طالما انتبهوا لبواكير المسائل التي لم يلتفت إليها من سبق؛ وأحد الشواهد على ذلك هو هذا التفسير الذي نقوم به مع بعض الزملاء في لندن بإذن الله تعالى.

فالكتاب الكريم وحده دون غيره حجة لتصحيح ما اختلف فيه الناس مما هو ضمن ضرورات التشريع وكذلك كل مسألة تعرض لها القرآن فعلا. وهذا هو المقصود من الحكم بين الناس. فالحكم هو الفيصل الذي يجب اتباعه ولا يجوز تجاهله. والواقع أن ليس في متناول يد أحد أن يدعي هذا الادعاء إلا أن ينفضح حينما يتطور الناس فتظهر لهم صعوبات العمل بذلك الحكم. لكن أحكام هذا الكتاب سلسة قابلة للتطبيق في كل مكان كما يبدو وتحمل كل مقومات العدالة والقسط كما أن تقاريره العلمية الجازمة تعبر عن حقائق علمية صدرت ممن يعلم السر في السماوات والأرض جل جلاله.

 وموارد الخلاف المشار إليها في الآية واضحة؛ فهي ما اختلف فيه الناس حول مواضيع الكتاب الذي يمثل رسالة الأنبياء فعلا وليس كل المشاكل العلمية الاجتماعية. وقد اختار الله تعالى لكل كتاب وقتا وزمانا مناسبا ينسجم مع فهم المجتمع ويلائم لَبِناتهم الاجتماعية ولذلك أضاف الحكيم العليم لفظة الحق بعد الإنزال إشعارا بأن كل كتاب مناسب لزمان يمكن أن ينتهي حينما يرسل الله كتابا آخر. لقد أرسل الله تعالى التوراة مع موسى، كتابا جازما يحتوي على أحكام قريبة جدا من أحكام القرآن. لكن القرآن لم يكتف بذكر الحكم بل قرن الله تعالى به السبب والسر في الحكم بذلك. هذه خاصية غير موجودة في التوراة كما يمكننا معرفة ذلك إذا تعمقنا في سورة الإسراء بإذنه سبحانه. هذا هو التمهيد الواضح لختم النبوة وقطع الوحي تاركا الله تعالى عبيده في هذا الكوكب بعد أن تطوروا وتقدموا في أفكارهم ليديروا شؤونهم بأنفسهم. وقد وضح الله تعالى الكثير من تلك المسائل في سور الجزء 28 من القرآن.

 فجملة: فيما اختلفوا فيه، تشير إلى ما اختلف فيه الناس من المسائل التي يتناولها ويعالجها الكتاب السماوي.

وأما الجملة التالية وهي: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ. هذا الاختلاف هو الاختلاف في الكتاب نفسه. أنا لا أعرف كيف تمكن علماء بني إسرائيل من تحريف التوراة ومتى ترك الله تعالى حماية التوراة إن كانت هناك حماية إلهية لذلك الكتاب الكريم. كلما أعرفه هو أن القرآن الكريم مصون من الدس والحمد لله رب العالمين. فالاختلاف في القرآن لا يشمل النص ولا يتعدى المفاهيم القرآنية أو ما يُعرف بالتفسير. وبما أن الجملة وردت بلفظ الماضي فإنها تشير إلى التوراة والإنجيل لا إلى القرآن ولكن الذي يفعل ذلك ضد القرآن فهو يحمل نفس الإثم الذي يحمله الذين لعبوا في التوراة. ذلك لأن التحريف في معاني القرآن يؤدي إلى ضياع الناس حول المفاهيم القرآنية بما يتساوى مع الذي يقوم بتحريف نصوص التوراة والإنجيل. والسبب هو أن التوراة والإنجيل هما كتابان عمليان في أحكامهما وغير مقرونين بالاستدلال كما هو عليه القرآن.

ولفظ الاختلاف يسري على تفسير القرآن مثل سريانه على أصل التوراة مثلا لنفس السبب السابق. ومعنى الجملة هو أن الذين حرفوا مفاهيم الكتب السماوية السابقة لم يقوموا بما قاموا به إلا من بعد أن عرفوا وعلموا مفاد الكتب ومقاصدَها. وقد فعلوا ذلك بغيا بينهم، والبغي كما يتصوره الراغب هو:

{طلبُ تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى، تجاوزَه أم لم يتجاوزه، فتارة يعتبر في القدر الذي هو الكمية، وتارة يعتبر في الوصف الذي هو الكيفية، …. والبغي على ضربين. – أحدهما محمود، وهو تجاوز العدل إلى الإحسان، والفرض إلى التطوع. – والثاني مذموم، وهو تجاوز الحق إلى الباطل، أو تجاوزه إلى الشبه}         انتهى النقل.

فالبغي هنا طلب التجاوز بينهم في الكيف ولعل في الكم أيضا. هذا واقع نلمسه كثيرا في بعض الزعماء الدينيين مع الأسف.

 وهذا هو السبب الحقيقي وراء ظهور المذاهب وفي وقت غير بعيد كثيرا عن الوحي. إن الاختلاف ظهر قبل المذاهب بعد غياب الرسالة وخاصة بعد وفاة المرموقين من الصحابة حيث بدأوا بتلفيق الأحاديث إرضاء للحكام والأمراء الأمويين ثم العباسيين. وكان يجرهم ذلك إلى التطاول على القرآن وتأويل بعض الآيات باسم شأن النزول وما تبع ذلك من تلفيقات. ثم لفقوا بعض القضايا التي لم ترد لها أي ذكر في كتاب الله تعالى بل إن الكتاب يرفض ويرد بعض تلك المفاهيم. لفقوها في تفخيم رسول الله كمقدمة لتفخيم الصحابة ويليهم الخلفاء الذين خلفوا الصحابة. وأنا أتعرض لها دائما في التفسير وأواجه الكثير من العتاب ولكني عازم أن أكتبها جميعا في مواردها بمعونة الرحمان عز اسمه.

ولنفس السبب فإن المذاهب الجديدة والآراء السخيفة المبدعة وكذلك التأويلات والمبالغات التي تشتد يوما بعد يوم تطفو على مرايا الإعلام وتتصدر الصحف والكتب الجديدة. وكلما ابتدعوا بدعة سخيفة ظلوا يطورونها فتراهم يتفننون في إظهارها بصورة أكثر بشاعة وأبعد عن الحقيقة كلما تقدم بهم الزمن وكأنهم يتسابقون على الكذب والتلفيق ويتسارعون إلى الشرك والابتعاد عن تعليمات السماء. هذا التسابق المشين بينهم هو الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالبغي بينهم، والعلم عند الله تعالى. وعلى هذا فإن الجاهل سوف يتذرع يوم القيامة بأنه اغتر بهؤلاء الذين يتهافتون على مصالحهم عن طريق اللعب في كتاب الله ويقول بأنه افتتن به. ولكن الله تعالى يتدارك الأمر في هذه الدنيا فيقول لهم ولكل من يريد الحقيقة فعلا بقوله الكريم:

فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. الفاء هنا للتعقيب بأن الله تعالى حينما يترك أتباع الشيطان ليقوموا بتضليلهم وتمويههم كما يريدون فهو ضرورة الاختبار لهم ولمن يقرأ عليهم، ولكنه سبحانه يعقب عملهم فيخص الذين أقروا العقيدة في قلوبهم بالهدى من عنده سبحانه. ولفظ “الله” هنا لإعلامنا بأن ذلك تابع لنظام الألوهية. إن الله تعالى الذي دعا عبيده ليعبدوه فهو يكفل لهم الهدى وإراءة الطريق الصحيح ولكن إيصالهم إلى المطلوب غير وارد في النظام الألوهي إلا لمن يستحق ذلك، ولولاه لم تستقر العدالة.

وليس ضروريا بأن تكون المنحة الربانية إلهاما مباشرا بل قد تكون على شكل تصريف لمن يروم الحقيقة فعلا ليهتدي طالب المعرفة إلى غيره ممن يعلم فعلا فيوضح له حقيقة ما اختلف فيه المتشبهون بالعلم والدين. ولذلك أضاف سبحانه الهدى إلى إذنه الكريم. والحق هنا هو القرآن باعتقادي فلا ضرورة لتفسير من الحق بـ مع الحق. بل المقصود بأن الله تعالى يأذن بمنح الهدى والنور لمن يستحق الهداية، حتى يتعرف على حقيقة ما اختلفوا فيه مع ظاهر الآيات الكريمة.

وأما المقطع الأخير من الآية فهو ليُعلمنا بأن شأن الله تعالى الذي يعبده ويخضعُ له كلُّ الكون هو أن يهديَ خلقَه إلى الطريق المستقيم الواضح؛ وهو يهديهم فعلا ضمن نظام الألوهية ويزيدهم ضمن نظام الرحمة كما يزيد الذين اهتدوا هدى معرفيا ضمن نظام الألوهية ويعطيهم المزيد من البيان ضمن نظام الرحمة بالطبع. فالهدى مثل التقوى متطورة مع تطور الإنسان سواء بالعلم أو بالشعور بالحاجة إلى المزيد من المعرفة.

ولكن الهدايةَ الكاملة لا يمكن أن تتحقق بدون مشيئته الخاصة؛ ثم إن مشيئةَ الله تعالى لن تتحرك لصالح الرحمة بدون وجود محفز مثل الاستحقاق. ذلك لأن الهدى الكامل هو من فروع الرحمة وليس من فروع الألوهية والرحمة هنا ليست رحمة عامة بل هي رحمة خاصة تتولاها صفة الرحيم وليس الرحمن ولذلك لن تتأتى بدون وجود محفز في نفس المستفيد ليميزه عن غيره بهذا النوع من الهداية التامة الموصلة للحقيقة عن طريق الصراط المستقيم وهو أقصر الطرق إلى الحق.

والخلاصة أن النبوة أقِّتت بالفترة التي كان الناس يتطورون فيها بصورة عمودية سريعة لتساعدهم على فهم المسائل عن طريق الوحي فيتخذوا الطريق الصحيح. وأما ما قبل التطور العمودي السريع وما بعده حينما سار التطور سيرا أفقيا نحو الاكتشافات البشرية والاختراعات الضرورية لمواكبة التكاثر فلم تكن هناك ضرورة لوجود الأنبياء ولذلك توقف بعث الأنبياء. بمعنى انتهاء ضرورة إمداد الكائن الإنساني بعلم سهل منزل من السماء فتوقفت النبوة كاملة لينقطع معها الوحي المباشر ومعه توقف بعث الرسل إذ لا رسل من غير الأنبياء. لكنه سبحانه أبقى بيننا كتابا عظيما يساير تطورنا ويساعدنا في كل مرحلة من مراحل الانفتاح على الاكتشافات لنتبارك بما فيه من معارف صحيحة صادقة فنفكر فيها ونبدع في فهمها وتفسيرها لنساير النهضة البشرية العامة في كل المجالات ولا ننس الله تعالى في كل مراحلنا التطورية والمعرفية.

قال تعالى في سورة المرسلات: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (15). فلا رسل حتى يوم الفصل. هناك سنرى الرسل ولكن ليسوا رسلا بل شهداء على غيرهم من قومهم كما أن صحابتهم شهداء علينا نحن الذين أتينا بعدهم. قال تعالى في سورة البقرة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143). والشهداء هنا تعني النماذج حسب تعبيرنا العصري والعلم عند المولى.  

ولذلك فإن العقل يحكم بأن نترك تماما كل تقليد للسلف كما لا نبالي كثيرا بتقليد الموجودين بل نجتهد جميعا بما أوتينا من قدرات فكرية وعلمية لنكتشف معارف القرآن وأحكامه بأنفسنا فنحن أكثر تطورا ممن سبقنا كائنا من كانوا. ولو ننتبه قليلا لنرى بأن الله تعالى أشاع العلم اليوم وجعله في متناول يد الجميع كما أشاع إمكانات البحث والنشر والتعليم والتدريب بصورة لا يمكن حصرها. كان الناس في سابق الزمان محرومين من التعلم فالملوك وأصحاب القدرات كانوا يحتكرون العلم لأهليهم. وهناك حكاية غريبة سمعتها عن الملك الفارسي كسرى أنو شيروان. يُقال بأن الملك شعر بالحاجة إلى المال لينفق على جيشه في حرب مرتقب، فأرسل جباته إلى المناطق الحدودية يسعون لجلب المال. قال أحد كبار أصحاب الثروات بأنه مستعد لدفع مبلغ كبير لو أن الملك كسرى أنوشيروان يسمح لابنه بأن يتعلم في المدارس الخاصة بالحاكمين. رفض الشاه الفارسي ذلك، فاستفسر وزيره بوذرجمهر عن السبب في عدم تلبية طلب بسيط من ثري كبير مقابل مال كثير للدولة. قال له الشاه: ما لفرق بيننا وبين أولئك غير العلم فلو أبحنا لهم العلم فسوف نفقد امتيازا كبيرا يخصنا.

لكن الله تعالى أخرج العلم والتعليم من أيادي الملوك وأشاعها بين الناس جميعا. فمن واجبنا أن نستفيد من منح الرحمن علينا ونسعى للمزيد من المعرفة والمزيد من البحث العلمي لعلنا نكون من الشاكرين. أتطلع إلى اليوم الذي أرى ونرى فيه أهلنا وأولادنا يستفيدون من التسهيلات الحديثة لتطوير فهمهم للقرآن وتطوير معرفتهم بالله تعالى خالقهم. ومن الله التوفيق.

أحمد المُهري

25/9/2018

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.