الأنبياء الجدد
الأنبياء الجدد
دأب الباري سبحانه وتعالى خلال الحقب السابقة والعصور الفارطة – قبل بعثة نبي الرحمة والمحبة محمد صلى الله عليه وسلم – على إرسال رسل وأنبياء في كل لحظة وحين لأقوام بعينهم ولكل الأقوام والأجناس والأعراق حتى بلغ العدد الإجمالي لهم عشرات الآلاف من الأنبياء والرسل حتى أننا نجده تبارك وتعالى في بعض الأحيان يبعث رسولاً ونبيًا في نفس اللحظة والحين وفي نفس العصر، كنبي الله لوط ورسول الله إبراهيم عليهما الصلاة والسلام, والرسول موسى وأخوه هارون نبيًا عليهما الصلاة والسلام، بل ويرسل رسولاً في أعقاب رسول حتى تكاد المدد الزمنية بين رسول وآخر تنعدم, حتى جاءت بعثة نبينا محمد الذي بعثه الله للناس كافة هدى ورحمة للعالمين، وجاء بالبيان الأخير, وهو الكتاب المنزل عليه من لدنه سبحانه وتعالى. فلماذا كان نبينا آخر الأنبياء والمرسلين؟
سؤال لم يقف الكثيرون عنده، بل اكتفوا بالقول إن نبينا هو آخر الأنبياء وكفى، ولم يقفوا كثيرًا عند السؤال “لماذا؟” لماذا لم يرسل الله أنبياء آخرين؟ والمدة بعد بعثته تجاوزت الألف وأربعمائة سنة، والمسلمون مقتنعون على الأقل أنه لن يأتي نبي جديد آخر بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فهو خاتم النبيئين بنص الكتاب المنزل عليه والمأمور بتبليغه للناس كافة؟
إن الجواب على هذا السؤال بسيط للغاية وينطلق من نفس الجواب الذي يأتي على طرح سؤال آخر، وهو: لماذا أرسل الله الرسل والأنبياء أصلاً من قبل؟ ليكون الجواب الذي يفرضه السياق هو أن البشرية كانت محتاجة للبشير النذير الذي يقنع الناس بالعقل والمنطق أحيانا وبالمعجزات أحيانا أخرى، بأن هناك خالق لهذا الوجود، حيث كانت البشرية قاصرة عن الوصول للحقيقة المطلقة التي تعتبر علة هذا الوجود من تلقاء نفسها. أي أنها كانت قاصرة عن إدراك حقيقة الوجود والموجد “بكسر الجيم”, وكذا مقاصد الله في الكون. لذلك تراكمت عبر التاريخ عملية إرسال الرسل والأنبياء الحاملين لبلاغات الله وبياناته للناس كافة، أو لأقوام بعينهم، حسب الضرورة وحسب الحاجة، وفي هذا المعنى يقول الله سبحانه “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا”. أي أن الله لن يعذب أقوامًا كفروا بالله دون أن يرسل إليهم رسولا لأن البشرية آنذاك كانت قاصرة عن إدراك علة الوجود وخالقه بدون رسول.
من خلال ما سبق، يكون جوابنا على سؤال: لماذا نبينا يعتبر خاتم النبيئين؟ ونحن مطمئنين هو أن عصر الرسول أو على الأقل القرون الثلاثة الأولى القريبة من زمن الرسول و بعده، كانت أخر الأجيال، أو آخر القرون التي تحتاج إلى رسول أو نبي، ولذلك فكل الأجيال التي جاءت من بعد ذلك الحيز الزمني والتاريخي، لا تحتاج أصلا إلى نبي أو رسول ينتدب من الله، ليظهر لنا علة وجودنا، وأن هذا الكون له خالق مدبر لشؤونه عبر نواميس الله الكونية، حيث أن البشرية لم تعد ذلك الطفل القاصر الذي يحتاج إلى وصي أو مبعوث من لدن الله. لقد وصلت البشرية إلى مرحلة من النضج والمعرفة باتت معها قادرة على الوصول إلى كنه الوجود وحقيقة الكون بدون واسطة إلا واسطة العقل والبحث والتنقيب عبر العلوم المستحدثة التي أذهلت العالم أجمع وأبرزت القوة الجبارة للعقل البشري الذي أبدعه الله سبحانه، وتلك نواميسه في الكون والإنسان.
أعرف أن كلامي هذا سيغضب الفقيه أولا لأنه يقتات من الدين ويأخذ قداسته من الوحي، وأن أي كلام عن محورية الإنسان الحالي والعقل البشري العالم الباحث المنطقي الجبار في تسيير الكون وسبر أغواره والوصول إلى حقيقته، ليلغي دور الفقيه الذي يستمد قداسته من إثبات محورية التراث الديني في معادلة تدبير الكون وتسييره، وسيشبعنا الفقهاء بنقول كثيرة تكرس فهمهم الضيق للدين. ولنا جولات أخرى بعد هذه التوطئة لإبراز ما نحن بصدد الوصول إليه لا سيما أن الكتاب الإلهي الذي يعتبر البيان الأخير للبشرية جمعاء “القرآن” لا يحتوي على أمور تفصيلية مملة لحياة الإنسان بقدر ما يحتوي على مبادئ عامة وإرشادات أخلاقية، وروحية، وتشريعات حدودية عامة لسعادة الإنسان، تاركا للعقل البشري مجالاً واسعا للبحث والتنقيب عن سبل سعادته للرقي بالكون إلى أقصى مداه، داعيًا إياه إلى التأمل في الشجر والحجر والحيوان والنبات والبحار والفضاء وكل تفاصيل الكون عبر مجموعة من الآيات والسور القرآنية لكي يتمكن هذا العقل الباحث من الوصول إلى الحقيقة المرجوة والحقائق التفصيلية النسبية القابلة للتطوير.
ودعوني أخبركم أعزائي القراء بأن مجموع آيات القرآن الكريم المجوعة بين دفتيه تبلغ 6236 آية، بدون احتساب البسملة، أما إذا أضفنا البسملة، يعني وجب إضافة113 آية، طبعا عدد سور القرآن 114 سورة ، واحدة منها، وهي سورة التوبة، بدون بسملة، ليصبح مجموع الآيات 6349 آية، لكن من كل هذا الآيات، لا تتجاوز نسبة عدد آيات التشريع والأحكام للذكر الحكيم سوى 5 بالمائة، لأن عدد آيات الأحكام ليست إلا 200 آية وهناك من الفقهاء من يقول 150 آية فقط. فهؤلاء الذين يحاولون أن يقحموا الدين في كل كبيرة وصغيرة لا يستطيعون ذلك بالاعتماد على الوحي الإلهي في القرآن، لأن ما ورد فيه كله آيات مرتبطة أساسا بالشعائر الدينية، وبعض أحكام الجهاد المرتبطة بذلك الزمان، ولا يمكن تطبيقها في عصرنا، ليفسح الله لنا رحابا أوسع في الاجتهاد والعمل على ابتكار حلول لواقعنا، لأن النبوة ختمت ليبدأ عصر الإنسان، حتى أن أول ما نزل في كتاب الله كان واضحًا جدًا ورسالته مباشرة عند قوله تعالى في سورة العلق:
بسم الله الرحمن الرحيم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
ويتجلى الوضوح في هذه الآيات، أنها أمرت الإنسان باستقراء الكون، بقوله اقرأ، والآية الثانية أشارت إلى العلاقات الرابطة بين الإنسان وسلفه، وأنه مخلوق من هذه العلاقات، ثم ختمت بضرورة التعلم، فلا كرامة للإنسان ولا رقي له إلا بالعلم، ونجد هذا المعنى يتكرر بشكل كبير في آيات القرآن، في قوله تعالى من سورة فاطر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
دعوة كبيرة إلى تدبر الكون بكل تجلياته ومكوناته من نبات وجيولوجيا واختلاف الأحياء عموما، وأن الخشية من الله تتأتى لهؤلاء العلماء المتدبرين للكون والمكتشفين لمعانيه السامية، بعيدا عن أي تقليد جاهز، كما نجد قوله تعالى في سورة العنكبوت استمرارا في نفس السياق الداعي إلى أن وصول الناس إلى الحقائق يجب أن يكون بعقولهم وبحثهم ” قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20). وفعلا هذا ما يقوم به الناس من استقراء للحفريات التاريخية لمعرفة تطور الكائنات وأصل الأنواع بدون الاعتماد على وحي ولا رسول, بل إن القرآن يبين لنا من هم الذين يمكن أن نسميهم الأنبياء الجدد. فمن هم أنبياء عصرنا الذين خلفوا الأنبياء التقليديين في مهماتهم، ويكتشفون نوعا آخر من الوحي الإلهي لنا، ونحن ملزمون بالاستفادة منهم والإيمان بما يقدمونه، كي نكون على الصراط المستقيم؟ ذلك ما سنجيب عنه في مقالتنا القادمة، وهي بعنوان: “الأنبياء الجدد”.
رشيد أيلال