صحيح البخاري والتلاميذ
صحيح البخاري والتلاميذ
لا يمكن أن نتحدث عن صحيح البخاري ونسبته للشيخ محمد بن إسماعيل البخاري دون أن نتحدث عن همزة الوصل التي تؤكد نسبة هذا الكتاب لهذا الرجل، أو تنفيها. وهم التلاميذ وتلاميذ التلاميذ. فالمشهور المعروف أن الشيخ البخاري كان له آلاف التلاميذ الذين أخذوا عنه صحيح البخاري، لذلك خصصنا هذا الباب من هذا الفصل لنقف على ما أخبرنا به التلاميذ من نقول وأقوال حول كتاب الجامع الصحيح، لنعرف هل صحيح البخاري الذي بين أيدينا الآن هو فعلا من تأليف هذا الرجل، أو على الأقل، هل بقي على حاله كما ألفه البخاري إذا كان قد ألفه فعلا؟ أم لحقت به تغييرات وزيادات أدخلها في الكتاب آخرون حتى تحول إلى ما هو عليه الآن؟
مقدسو البخاري يتغنون دائمًا، حينما يحاولون الرد على من ينتقد صحيح البخاري، بأن هذا الصحيح أخذه عن محمد بن إسماعيل البخاري تسعون ألف تلميذ. فكتاب “صحيح البخاري”سمعه تسعون ألف رجل” من الإمام البخاري نفسه، كما أخبر بذلك أحد أشهر تلاميذه، وهو محمد بن يوسف الفربري (المتوفى سنة 320هـ). ينظر “تاريخ بغداد” (2/9)، “تاريخ الإسلام” (7/375).
إذن فصحيح البخاري- وفقا لهاته الرواية – تواتر عن البخاري نفسه، وبذلك فتواتر البخاري عن البخاري ينافس تواتر القرآن الكريم حسب ادعاء هؤلاء, وسيصبح البخاري أشهر أستاذ حديث في التاريخ الإسلامي. فهو الوحيد الذي علم خلال سنوات قليلة تسعون ألف تلميذ سمعوا منه الصحيح ولو افترضنا جدلا أن البخاري كان يدرس كتابه الضخم لمائة تلميذ في الشهر فسيحتاج البخاري إلى 75 سنة ليتعلم هذا العدد الكبير كتاب صحيح البخاري. أي سيحتاج البخاري إلى سنوات أكثر من السنوات التي عاشها كي يتمكن من تعليم كتابه وتلقينه لتسعين ألفا من التلاميذ.
لكن الأغرب من ذلك أن هؤلاء التلاميذ التسعون ألفا لم يتركوا لنا نسخة واحدة لصحيح البخاري. فالمفروض أن نجد في مكتبات العالم الآن آلاف المخطوطات التي تركها هؤلاء التلاميذ، لكن الحقيقة الماثلة لدينا هي أن تلاميذ البخاري التسعون ألفا لم يتركوا لنا أية نسخة وتلميذ البخاري الفربري يؤكد أن البخاري تلقى عنه هذا العدد من التلاميذ كتاب .الجامع الصحيح. بل الأدهى والأمر والأغرب أن هؤلاء التلاميذ التسعون ألفا من المفترض أن يكون لديهم تلاميذ أيضا. فلو أن كل واحد منهم علم عشرة تلاميذ فقط هذا الصحيح لأصبح لدينا تسعمائة ألف تلميذ، وبالتالي فسيكون لدينا تسعمائة ألف مخطوطة لصحيح البخاري في الجيل الثاني بعد جيل تلامذة البخاري، لكن لا يوجد في العالم أجمع نسخة واحدة بخط أحد تلاميذ تلامذة البخاري، ومن حقنا هنا أن نتساءل عن حقيقة هذا الكلام الذي يدعيه من يتعلقون بقشة أمام سيل الأدلة الجارفة الماحقة التي تجعل الهوة كبيرة بين البخاري وهذا الكتاب المنسوب إليه, فالحقيقة الواضحة الجلية تؤكد أنه لا يوجد أي تواتر لهذا الكتاب عن محمد بن إسماعيل البخاري، مما يجعلنا نقف وقفة أمام الادعاء القاضي بانتساب الجامع الصحيح لهذا الرجل.
وحتى لا نسترسل كثيرا في مناقشة حكاية التسعين ألف تلميذ الذين أخذوا صحيح البخاري عن البخاري ، نجد أن الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء يؤكد على أن هذه الرواية غير صحيحة وذلك بقوله:” ويروى -ولم يصح- أن الفربري قال : سمع ” الصحيح ” من البخاريتسعون ألف رجل ، ما بقي أحد يرويه غيري. قلت : قد رواه بعد الفربري أبو طلحة منصور بن محمد البزدوي النسفي ، وبقي إلى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة” سير أعلام النبلاء الجزء الخامس عشر ، الصفحة 12 .
لكن رغم تضعيف الحافظ الذهبي لهذا الخبر، فقد اعتمد في تضعيفه على أن النسفي وهو تلميذ البخاري أيضا قد روى الصحيح عن شيخه البخاري ، ولم يشكك في مسألة تسعين ألف تلميذ ، بل شكك في أنه لم يرو الصحيح عن البخاري غير الفربري، لكن الحقيقة الماثلة أمامنا الآن أيضا هي أنه لا توجد في العالم أجمع نسخة واحدة لصحيح البخاري بخط الفربري أو عديله النسفي ، كما يوهم بعضهم الناس بسرد مثل هذه الروايات.
وبما أن معظم الشيوخ الذين يمثلون الكهنوت الديني ، مغرمون بالاستدلال بأقوال الرجال ، واعتبارها كلاما مقدسا لا يناقش ، وبما أن الشيوخ يحبون عند انتقاد البخاري الاستشهاد بتلاميذ البخاري ، فنحن أيضا سنحتكم وإياهم إلى هؤلاء التلاميذ ، وسنقبل بحكمهم ، ما دام شيوخنا لا يقبلون عند النقاش إلا بتصريف أقوال سلفهم ، واعتمادها عند كل نقاش حجة ما بعدها حجة ، فنحن أيضا يسعدنا أن نجاريهم في ذلك ، عسى أن نلتقي وإياهم على صعيد أمر مشترك، لذلك يسعدني هنا أن أنقل شهادة هؤلاء التلاميذ في صحيح البخاري.
ورد في كتاب التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح:” و قال الحافظ أبو إسحاق انتسخت كتاب البخارى من أصله الذي عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري فرأيت فيه أشياء لم تتم وأشياء مبيضه منها تراجم لم يثبت بعدها شىء و أحاديث لم يترجم لها فأضفنا بعض ذلك الى بعض” التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح ج1 ص310 لسليمان بن خلف بن سعد الباجي، وأورده ابن حجر في مقدمة كتاب الفتح الصفحة 16 أيضا .
إذن وبحسب هذا النص نجد أن المستملي يؤكد أنه انتسخ كتاب صحيح البخاري من أصله، أي من مخطوطة البخاري نفسه، والتي كانت عند تلميذه الفربري، لكنه بعد ذلك يؤكد لنا على أنه وجد أن هذا الكتاب لم يتم بعد، أي أن البخاري مات قبل أن يكمل كتابه الصحيح، ويبين ذلك المستملي بالتفصيل حين يؤكد ذلك بقوله ” فرأيت فيه أشياء لم تتم و أشياء مبيضه منها تراجم لم يثبت بعدها شىء و أحاديث لم يترجم لها فأضفنا بعض ذلك إلى بعض” المرجع السابق.
إذن فالبخاري لم يتمم كتابه، ولم يبيضه حيث تركه مسودة فقط ، وأن التلاميذ وتلاميذ التلاميذ تدخلوا في الكتاب حينما وجدوا تراجم لم يثبت بعدها شيء ، وأحاديث لم يترجم لها، فأضافوا بعض ذلك إلى بعض ، فهذه الشهادة للمستملي والتي نقلها الباجي عنه بسنده إليه في كتابه، ونقلها من كتاب الباجي ابن حجر العسقلاني، تؤكد لنا بما لا يدع مجالا للشك على أن التلاميذ تدخلوا في الكتاب وبدلوا فيه وغيروا، بعدما قدروا أنه لم يتم بعد، لكن الشيوخ يبحثون عن تبريرات غريبة لتفسير هذا الكلام الجلي الواضح البين، والذي بمقتضاه يمكن أن نفهم أن صحيح البخاري الذي بين أيدينا الآن :
1-البخاري مات قبل أن يبيض كتابه
2- صحيح البخاري لم يتم
3- وجود تراجم في صحيح البخاري لم يثبت بعدها شيء
4- وجود أحاديث في صحيح البخاري لم يترجم لها
5- أضاف التلاميذ بعض التراجم التي لم يثبت بعدها شيء الى الأحاديث التي لم يترجم لها.
من خلال هذا الكلام نتأكد أن صحيح البخاري الذي بين أيدينا الآن ليس هو صحيح البخاري الذي ألفه محمد بن إسماعيل البخاري –على الأقل- فقد تدخل التلاميذ وتلاميذ التلاميذ في الكتاب بالزيادة والنقصان والإضافة. لا أعرف كيف سيتقبل الشيوخ هذا الكلام، الصادر عن شيوخ يعتبر كلامهم لديهم فيصلا ، ولا نقاش فيه أو عليه في هذا الباب، ولتزكية كلامنا وتأكيده، ننقل لكم ما قاله أبو الوليد الباجي لتأكيد كلام هؤلاء التلاميذ حيث ورد في) التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح:” قال أبو الوليد الباجي: و مما يدل علي صحة هذا القول رواية أبي إسحاق المستملي، و رواية أبي محمد السرخسي و رواية أبي الهيثم الكشميهني و رواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم و التأخير مع أنهم انتسخوا من أصل واحد! وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما، فأضافه إليه، و يبين ذلك أنك تجد ترجمتين و أكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث”. “التعديل والتجريح ج1 ص310 “
الغريب في الأمر أن الفقيه المحدث المالكي أبو الوليد الباجي (15 ذي القعدة 403 هـ – 19 رجب 474 هـ) من خلال ما أوردناه من كتابه، يؤكد على أن هؤلاء التلاميذ جاءت نسخهم مختلفة مع أنهم انتسخوا نسخهم من أصل واحد وهو صحيح البخاري بخط صاحبه، أي من أصله، فكيف يعقل أن تنسخ جماعة من الناس – وهم ليسو أناسا عاديين – من أصل واحد وتأتي نسخهم مختلفة؟ لكن الباجي يفسر الأمر بقوله : “وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما، فأضافه إليه. يبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث” نفسه.
إذن فحتى هذا العلم من أعلام “علم الحديث” يؤكد تأكيدا جازما على أن التلاميذ أضافوا وتدخلوا في كتاب الجامع الصحيح حتى صار إلى شكله النهائي الذي بين أيدينا الآن، لكن من يعقل هذا الكلام، وينتهي عن تقديس كتاب اعتبر زورا وبهتانا أصح كتاب بعد كتاب الله، حيث يضفون عليه حلل القداسة والتنزيه ، بل ويكفرون أهل القبلة إن أنكروا رواية من مروياته، ولا يتورعون، ولا يراعون لله ولا لخلقه حرمة, ولا يستعملون عقولهم التي وهبها الله لهم كي يقفوا على الحقيقة التي تضع الشيخ البخاري وهذا الكتاب المنسوب إليه ظلما في مكانهما النسبي، البشري ، الذي يجري عليه ما يجري على البشر من خطإ ونسيان وسهو وإصابة، لكن ابتلينا في القرن الواحد والعشرين ممن لا يزال يؤمن بمثل هذه الخرافات والضلالات ، ولا يفسح مجالا للبحث والتنقيب والتأكد من المعلومة عبر مصادر كثيرة وقوية، وكلها تؤكد وتسير في اتجاه أن محمد بن إسماعيل البخاري بريء من هذا الكتاب، براءة تامة أو جزئية، بشهادة التلاميذ الذين قالوا حسب ما نقلناه بأن صحيح البخاري لم يكتمل، وأنهم تدخلوا في الكتاب وأضافوا فيه إضافات تعبر عن تقديراتهم الشخصية فكيف يمكن القول” إن صحيح البخاري الذي بين أيدينا اليوم ، هو ما ألفه البخاري” و نحن نعلم أن الشيوخ الذين أوصلوا إلينا هذا الكتاب يؤكدون على أنهم أضافوا إليه ما أضافوا.
ومع هذا كله يجب أن نسجل للقارئ الكريم والقارئة الكريمة، أن ما تحدث عنه هؤلاء التلاميذ وتلاميذ التلاميذ من النسخ التي انتسخوها وأضافوا إليها ما أضافوا وتصرفوا فيها حيث تصرفوا، حتى هذه النسخ فهي غير موجودة بين أيدينا الآن، وقد فصلنا بإسهاب في هذا الأمر بالمبحث المتعلق بالنسخة الأصلية لصحيح البخاري وأكدنا أن أقدم نسخة لصحيح البخاري توجد على مسافة أزيد من مائتي عام على وفاة البخاري وهي نسخة لا تحمل اسم من نسخها ولا ما يدل عليه ومازالت لدينا حجج أخرى سنوردها في الأبواب المتبقية من هذا الفصل.
رشيد أيلال
من كتاب صحيح البخاري نهاية أسطورة