أهمية الدليل


أهمية الدليل

                                                                          

الْيَوْمَ وانا أراجع ارشيف المركز لبحث موضوع “الدليل” وكيف أننا أبناء ثقافة لا تقيم وزنا لفكرة التحقق من صحة اي دليل عند البحث في أي موضوع.  حقيقة الأمر, ما يهمني هو التحقق من صحة فكرة أننا “أبناء ثقافة لا تهتم مطلقا بالبحث عن الدليل”.  والأمر الآخر الذي أريد التحدث عنه هو كيفية الاتفاق على صحة دليل ما مباشرة وبدون الدخول في مهاترات الجدل العقيم التي غالبًا ما تنتهي إلى   “لا حل في الوقت الحاضر” ويترك الأمر – ومهما كان مهمًا – إلى أن يشاء الله رب العالمين, وهذه أيضًا هي مشكلة أخرى يمكن أن نتعرض لها في مناسبة أخرى.

 

 وهذا الموضوع – موضوع  الاتفاق على دليل ما – الذي هو اساس فكرة فهم العلم والمنهج العلمي باعتبار ان العلم هو كل ما يقوم على صحته دليل، أشبه بفكرة الاتفاق على معايير “تطبيق العدالة” قبل ان ننتقل الى فكرة “تطبيق العدالة” نفسها في مجتمع يشعر بانه في امس الحاجة الى “تطبيق العدالة”، وكيف ان صفوة هذا المجتمع من القائمين عليه والمهتمين بأمره ادركوا ان لا سبيل أمامهم الا في محاولة التشبث وراء استخدام عمليات عقلية عليا لم يسبق لهم ان استخدموها من اجل حل هذه المعضلة المتعلقة بموضوع “تطبيق العدالة” والذي يتطلب اولا الاتفاق على تعريف فكرة “تطبيق العدالة” قبل الانطلاق في مشروع “تطبيق العدالة” في مجتمع يفتقد قيم “تطبيق العدالة” وهو لا يزال يتتشدق بقيم “تطبيق العدالة” منذ اربعة عشر قرنا بالرغم من ان لديه اهم دليل إرشادي لـ      ” لتطبيق العدالة”. 

 

حقيقة الامر ما ينطبق على موضوع ” تطبيق العدالة” لا يختلف كثيرا عن موضوع فكرة “تقديم الدليل” من اجل خلق مجتمع ينعم بآثار تطبيق العلم ويتطور بالعلم ولا يتوقف بإذن الله.  اذن هنا نحتاج اولا الى ان نتفق على فكرة  تتعلق بتحديد الدليل المقبول لدينا جميعا وليس ذلك الدليل الذي يراه كل منا بطريقته وبطريقة حاسمة كما يحصل معنا في موضوع  فكرة الاتفاق على تعريف “تطبيق العدالة” قبل البحث في موضوع “تطبيق العدالة”.  في هذه الحالة مع الدليل اذن  نحتاج  ايضا الى تعريف دقيق ملزم لكل منا، تعريف سهل وقابل للتطبيق في كل مرحلة او كلما اقتضت الضرورة ونحن نتحدث علما.

 

 

دعني اطلب منكم  اولا قراءة هذاالموضوع الذي نشره المركز سابقا والذي هو بمثابة دعامة من دعامات الفكر التنويري الذي نتطلع اليه ولا اختلف مع صحة ما جاء به جملة وتفصيلا, وبعدها اكمل فكرتي في وضع اسس طريقة جديدة تساعدنا في كلتا الحالتين، حالة الاتفاق على تعريف ” تطبيق العدالة ” وحالة كيفية الاتفاق على دليل قبل جعله شرطا لصحة فكرة والتحقق منها  باعتبارها من العلم : 

 

العلم هو أن نتحدث عما نعرف 

في حديثنا عن الفرق بين “الحضارة” و”العلم”, قلنا إنه إذا كانت “الحضارة” هي إنتاج كيكة البلاك فورِست, فإن “العلم” هو:  

“الوعي بطريقة عمل كيكة البلاك فورست, وخصائص محتويات كيكة البلاك فورست, والسعي المتواصل لتحسين طريقة عمل كيكة البلاك فورست, ومعرفة تاريخ ظهورها لأول مرة, والتغيرات التي طرأت عليها من ساعة ظهورها إلى يوم الله هذا, ومعدل توافرها في المجتمعات المختلفة, والأكلات والمشروبات المرتبطة بها, ومواعيد تناولها, وما إذا كانت مرتبطة بمناسبات معينة, وأخيرًا, التحقق من سلامة كل هذه المعلومات, إضافة إلى التحقق من سلامة أدوات التحقق ذاتها.”

 

لاحظ في هذا “التعريف الحلواني” للعلم أنه يقوم من أوله إلى آخره على مجموعة من المعلومات التي يمكن التحقق من صحتها باستمرار.  معلومات مثل “طريقة عمل كيكة البلاك فورست” حيث يعطيك “المختص” كل المعلومات المطلوبة لعمل هذا النوع من الكيك, وتقوم سيادتك باتباع هذه التعليمات, فإذا نجحت وحصلت على كيكة جميلة يكون هذا هو “الدليل الساطع” على صحة المعلومات التي أعطاها لك “المختص”, أما إذا لم تنجح فهذا هو “الدليل الساطع” على أن سيادة المختص هذا إنما هو إنسان يتحدث عما لا يعرف.  على عكس ما يحدث في ثقافتنا العربية “الجميلة” حيث نتهم أنفسنا بأننا لا نفهم عندما نتبع تعليمات في موضوع ما وينتهي الموضوع بالفشل.  في العلم, إذا اتبعت التعليمات التي “كتبها” المختص ولم تصل إلى النتيجة المتوقعة, فإن ذلك معناه أنه لم يحسن أداء عمله, وأنه يتحدث عما لا يعلم.   في العلم, هناك “عرف” مقتضاه أنك ستحصل على “أجمل كيكة بلاك فورست في العالم” طالما اتبعت التعليمات. 

 

لاحظ كذلك أن الأمر لا يقتصر على المعلومات الخاصة بطريقة عمل كيكة البلاك فورست وإنما يشمل كل ما يتعلق بها من “تاريخ ظهورها لأول مرة, والمراحل التي مرت بها من ساعة ظهورها إلى يوم الله هذا, ومعدل توافرها في المجتمعات المختلفة, والأكلات والمشروبات المرتبطة بها, ومواعيد تناولها, وما إذا كانت مرتبطة بمناسبات معينة.”    لاحظ, أكثر من ذلك, أن المختص مسؤول عن سلامة هذه المعلومات بل مسؤول عن سلامة الأدوات المستخدمة في التحقق من سلامة هذه المعلومات.   في العلم, بهذا الشكل, لا أحد يتحدث إلا عما يعرف.  

 

لاحظ أيضا أن هذا التعريف “الحلواني” للعلم يتعارض أشد ما يكون التعارض مع علوم عزيزة على قلوبنا ولا نتخيل حياتنا بدونها بل, حقيقة الأمر, نحن على استعداد للتضحية بحياتنا دفاعًا عنها.  يظهر ذلك بوضوح تام في حالة “علم الحديث”.  يخبرنا علماء الحديث أن الله سبحانه وتعالى أنزل على رسوله الكريم الكتاب والسنة اللذين تعهد بحفظهما فحفظ الكتاب بين دفتي المصحف وحفظ السنة في صدور مشايخنا الكرام.  وهكذا وصلنا كلام الله على لسان رسول الله محفوظا بين دفتي المصحف كما وصلنا كلام الله على لسان رسول الله محفوظا في صدور مشايخنا الكرام.  وهكذا تخصص عدد من مشايخنا الكرام في دراسة “علوم القرآن”, على حين تخصص عدد آخر في دراسة “علم الحديث”.  وحيث إن “علم الحديث” علم مثله في ذلك مثل “علم صناعة الحلويات”, أو “علم اللغة”, أو “علم النفس”, أو “علم الاجتماع”, أو “علم الاقتصاد”, أو أي علم آخر من العلوم الإنسانية, فإن ما ينطبق على هذه العلوم ينطبق عليه, وما ينطبق عليه ينطبق عليهم, فالكل, في نهاية الأمر, علوم.  أو هكذا “نتخيل”.

 

يعني ذلك أننا نتوقع “وعيًا” بطريقة نقل الحديث, و”وعيًا” بمحتوى الحديث, وسعيًا متواصلاً للتحقق من صحة وسلامة طريقة نقل الحديث, و”وعيًا” بتاريخ ظهور الأحاديث (لا يوجد في الثقافة العربية أي “وعي” بتاريخ صدور الأحاديث النبوية الشريفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم), ومنهاجًا للتحقق من “صحة وسلامة” الأحاديث, وتحققا من “صحة وسلامة” أدوات التحقق ذاتها يعكس أحدث ما وصلت إليه العلوم الإنسانية, وإضافة لأحاديث جديدة كنا غير واثقين من صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن “الاكتشافات” العلمية الأخيرة في حقل علم الحديث أثبتت صحتها, وحذفا لأحاديث كنا واثقين من صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن التطورات الأخيرة في العلوم الإنسانية التي يعتمد عليها الإطار النظري الذي يدور في إطاره علم الحديث قد أضعفت ثقتنا في صحة نسبة هذه الأحاديث إلى الرسول الكريم, أو الكشف عن مخطوطات لم نكن نعرف بوجودها قلبت النظريات العلمية السائدة في حقل علم الحديث.  المفاجأة هي أننا لا نجد شيئا من هذا على الإطلاق.  

 

المفاجأة هي أن المسألة لا تزيد عن أن الشيخ الطحاينة, أكرمه الله, حدثنا أن شيخه حدثه, أن شيخ شيخه حدثه, إلى آخر ما هنالك من شيوخ كرام وصولاً إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.  فإذا ما أخبرْنا الشيخ الطحاينة بأن هذا “ليس علمًا” وإنما هو “نقل كلام في كلام” قال الشيخ “بل هو العلم”.  فإذا ما أخبرنا الشيخ بأن العلم يخبرنا (علم النفس) أنه لا يمكن الثقة بالذاكرة البشرية سواء كانت متحضرة أم بدائية, كما أن العلم يخبرنا (علم الإنسان “الأنثروبولوجيا”) أن الإنسان اخترع الكتابة لأنه “تأكد” من أن مسألة الاعتماد على الذاكرة هذه “لا تصلح” وأن الأمور بدون “التسجيل والسجلات” لا تستقيم (كم عدد الأوز الذي دخل مخزن الرجل العظيم اليوم؟) أخبرَنا الشيخ بأننا نؤلف كلامًا من عندنا.  وإذا ما اختصرنا الطريق, وذهبنا إلى آخر سطر في التعريف “الحلواني” للعلم وسألنا شيخنا الفاضل عن الطريقة التي استخدمها فضيلته “شخصيًا” للتحقق من “صحة وسلامة” الأحاديث النبوية الشريفة التي يحدثنا بها, أخبرنا بأنها طريقة مجربة ومعتمدة تتلخص في “السماع”.  أي سماع ما قاله شيخ شيخنا الفاضل إلى شيخنا الفاضل, فإذا ما أخبرنا شيخنا الفاضل بأن “السماع” ليس بتحقق وإنما هو مجرد “سماع”, ومن أين لنا أن نعرف أنه لم يحدث “خطأ في التوصيل” أثناء عملية السماع هذه التي شارك فيها أكثر من خمسين شيخ من مشايخنا الكرام, رد الشيخ علينا بأن المسألة تعتمد, في نهاية الأمر, على الثقة في حسن السماع.  وهذا ليس من العلم بمليم أحمر.  

 

كيف لنا أن نأخذ ديننا هكذا سماعًا على حين نرفض أن نأخذ أي جزء من المعلومات الخاصة بعمل كيكة البلاك فورست هكذا سماعا؟   مالنا نتحقق بمنتهى الجدية في الآثار الجانبية التي “قد” تنتج عن استعمال القشدة التخليقية ثم نقبل بمنتهى الأريحية أن هذا هو ما قاله رسول الله بدون أي تحقق؟  لمَ لا نقبل حديث الشيف إلينا بأن في القشدة التخليقية كل خير بإذن الله؟  لمَ نصر على التحقق؟  منذ متى كان التحقق من كلام الشيف أهم من التحقق من كلام الشيخ؟  وبما أن الشيء بالشيء يذكر, فمنذ متى كنا مطالبين بتقديم الدليل, والوثائق, والمستندات, وتواريخ النشر, وأرقام الصفحات, إذا قلنا إن براكين العلم التي انفجرت في البصرة, والكوفة, وبغداد في القرون الخمسة الأولى من الهجرة كانت براكينًا فارسية لا علاقة لها بالمرة بالناطقين باللغة العربية في الحجاز ونجد, على حين أنه إذا حدثنا الشيخ الطحاينة بحديث عن رسول الله لم يطالبه أحد منا بدليله على أن هذا هو ما قاله رسول الله؟  منذ متى كانت “جنسية” براكين العلم في البصرة, والكوفة, وبغداد أهم من حديث رسول الله؟

 

الصدام, بهذا الشكل, بين التعريف “الحلواني” للعلم وبين “علم الحديث” واضح تمام الوضوح.  إذا كان ما يحدثنا عنه الشيخ علمًا فإن ما بأيدينا من علوم الدنيا جميعًا ليس بعلم.  وإذا كان ما بأيدينا علمًا فإن ما في يد شيخنا الفاضل ليس بعلم.   ليس بعلم على الإطلاق.  حقيقة الأمر, ليس في يد الشيخ الطحاينة من العلم شيء.  إذا كان الأساس الفولاذي الذي يقوم عليه العلم هو التحقق.  وإذا كان العلم لا تقوم له قائمة في غياب التحقق.  وإذا كان أهم “علم” في علوم الثقافة العربيّة هو علم لا علاقة له بالتحقق, عليه, تكون الثقافة العربية في “مأزق حقيقي”, إذ عليها أن تختار بين “العلم” (حسب التعريف الحلواني) وبين “علم الحديث”.   المشكلة, وهي مشكلة في منتهى الصعوبة في حقيقة الأمر, هي أنه إذا انحازت الثقافة العربية إلى جانب العلم (حسب التعريف الحلواني) فإنها ستضطر إلى النظر إلى “علم الحديث” على أنه “لا علم” وذلك لاستحالة التحقق من المعلومات الواردة فيه, أما إذا انحازت إلى جانب “علم الحديث” فإنها سوف تضطر إلى أن تلقي بـ”العلم” في صفيحة الزبالة العربية الخالدة.  أي إلى صفيحة الزبالة التي تحتوي على كل الأفكار “غير الحلوة” التي لا ترتاح لها ثقافتنا العربية “الحلوة”.  

 

لم تعجز ثقافتنا العربيّة المجيدة يومًا عن أن تلقي بكافة الأفكار “غير الحلوة” في صفيحة الزبالة “الحلوة”.  يمكن للقاريء أن يأخذ رحلة في أي قطاع من قطاعات الثقافة العربية القديمة و”المعاصرة” ليرى مدى الاستهانة التي يقابل بها العلم في ثقافتنا المجيدة.  يكفي, في هذا السياق, ملاحظة محمّد عابد الجابري أنه لم يحدث يومًا صدام بين “العلم” و”المسجد” يشابه الصدام الذي حدث في أوربا بين “العلم” و”الكنيسة”.   يبين الجابري أن هذا “الوئام” بدلا من “الخصام” إنما يعود إلى المكانة “المتدنية” للعلم في الثقافة العربية.  آمل أن يكون بحثنا هذا عن ظهور العلم قد بيّن أن الأمر ليس أمر مكانة “متدنيّة” كما كان “يتخيل” الجابري (رحمه الله رحمة واسعة وجزاه كل خير عن عمله في خدمة العروبة والإسلام) وإنما أمر “غياب شبه كامل” للعلم في منطقة الهلال الخصيب (باستثناء فارس).  خرج الهلال الخصيب من مرحلة إنتاج الحضارة ذاتها قبل أن تبدأ مرحلة إنتاج العلم.  لم يبدأ الجنس البشري في إنتاج العلم إلا في حوالي عام 600 قبل الميلاد.  لم يحدث أن قامت في هذا الجزء من العالم “مراكز إنتاج علم” تماثل مراكز إنتاج العلم في أثينا, وجنديشابور, وروما, وبيزنطة قديمًا, ولندن, وباريس, ونيو يورك حديثا.  كما بيّن هذا البحث: المستعمرات لا تنتج علما.  عواصم الإمبراطوريات فقط هي التي تنتج العلم. 

 

الحديث ممتد.  ولنا عودة بإذن الله إذا كتب الله لنا عمرا.  أهم ما في الموضوع – وهو ما أرجو أن أوضحه في المستقبل بإذن الله – هو أن أبسط تعريف للعلم “تعريف العلم الحلواني” إنما هو تعريف يتعارض مع أهم علم (أهم “لا علم” في حقيقة الأمر) في الثقافة العربية. (لا يحتاج المرء إلى “التدليل” على المكانة السامية التي يحتلها “علم الحديث في الثقافة العربية, تكفي الإشارة هنا إلى أننا في الثقافة العربية نسبح في محيطات الحديث ولا نذهب إلى النبع الصافي للقرآن الكريم إلا فيما ندر).  يعني ذلك أن الثقافة العربية لا تستطيع أن تقبل التعريف الحلواني للعلم.  الثقافة العربية, بهذا الشكل, هي ثقافة معادية للعلم”.   انتهى الاستشهاد

 

واليكم الان تكملة حديثي عن هذه الطريقة العلمية التي تسهل لنا ممارسة العلم في “كل ما يقوم على صحته دليل”، وهي تتعلق بموضوع تعريف الدليل او كيفية التعرف على هذا الدليل او غيره اثناء عملية التحقق وكما يحصل معنا في موضوع الاتفاق على تعريف “تحقيق العدالة ” قبل الشروع في ” تطبيق العدالة”. ان موضوع الدليل نفسه يحتاج الى ما يساعدنا عليه في كيفية جعله محل اجماع وقبول لدينا جميعا وهي نفس قصة موضوع الاتفاق على تعريف “تحقيق العدالة”  او اي موضوع اخر يقع في نفس الإطار وتحويله من موضوع فضفاض يحتمل التناقض الى موضوع محدد باطار البحث والتطبيق والتقييم والنقد والى كل ما يجعله محل بحث علمي مقيد بأصول ومنهجية مقبولة: 

-في  المجتمع الذي يمارس العلم عموما لا يمكن ان يكون معدل الاضطراب العقلي والتناقض السلوكي فيه وبين  افراده بنفس تلك الدرجة عند المقارنة مع مجتمع  محكوم بثقافة بدائية كما هي حالتنا.  ماذا لو كنت انا أعاني من اضطراب عقلي ولست مدركا لهذا الاضطراب او خطورته؟  

 الحقيقة هناك تناسب عكسي بين معدل الاضطراب العقلي والتناقض السلوكي وبين مقدار استمراء العلم ( حب العلم والحرص على استخدامه ). الامر واضح، فعند النظر الى انفسنا وتقييم حالنا فالكل متفق على فكرة اننا ابناء ثقافة بعيدة كل البعد عن العلم عندما تفكر. هل لدينا قبول حقيقي لتلبية دعوة الاحتكام الى العلم؟ على الأقل السؤال موجه لاعضاء المركز قبل غيرهم.   

– نحن أبناء ثقافة معادية للعلم لأنها أصلاً غير مهتمة بالعلم ولا تزال عاجزة عن ممارسة أنشطة التفكير باستخدام عمليات عقلية عليا عند الضرورة.  نعم, إنها معادية للعلم لأنها بيئة غير آمنة لممارسة العلم عند النظرإلى نفسها أو إلى غيرها . ثقافة معادية لانها لا تقبل النقد وتقدس تراثها ولا تكترث بفكرة نقد التراث والنظر الى النفس بل تحارب كل من يتجرأ على نبش مفاسد التراث ونقده وفق منهج علمي. هذه مشكلة كبيرة وتحدٍ حقيقي عند الشروع بالتغيير. الجميل بالأمر ان  التغيير قادم وكأن حركة الطبيعة معنا.    

–  نحن ابناء ثقافة نقلية لا يدرك فيها الفرد اهمية دور العلم في تغيير كل ما يمكن تصوره نحو الاحسن وفيما ينفع الانسان ويسعده ويعمر الارض. النقل لا يهتم ولا ينظر لجوهر الاشياء. النقل يستبعد النقد. النقل قابل للتحريف في كل حلقة من حلقاته خاصة في  ظل انعدام وجود اي ضوابط تمنع ذلك التحريف. النقل متعة والإضافة اليه اكثر متعة. متعة الثقافات الشعبية تظهر في مقدار ما يتم تناقله بين الأجيال. منظور السعادة في مجتمعات الثقافات الشعبية البدائية غير عن ذلك المنظور في الثقافات الأكثر تطورا.    

– اتفقنا على ان العلم يتغير والعلماء لا يتغيرون. ندرك ان  تجمعنا هذا هو تجمع علمي وعليه يجب ان نحتمل صعوبة تغير العلماء فيه وهذا امر طبيعي. يجب ان يقبل أعضاء المركز فكرة صعوبة تغيير كل واحد منهم لكن حالة العلم الذي بين أيديهم في تغير دائم وهذا من  اجمل ما يكمن تصوره.  

– عندما نتكلم في العلم يجب ان نضع امام اعيننا الدليل, فالعلم هو ما يقوم على صحته دليل، ولكن ليس اي دليل ، نحتاج الى دليل مقبول ، والحديث هنا اذن عن دليل يتفق عليه الجميع. في انتاج العلم نحتاج الى قدرات عقلية عادلة ترجح لنا دليل او اكثر عند اختبار حالة معينة ونسبها للعلم. 

-نحن ابناء أمة تتحدث عن الدليل ولا تعرف اهمية الدليل في التحقق العلمي بطريقة صحيحة. فالتحدث بالدليل فقط لا يكفي. التحدث بالدليل مشابه جدا لفكرة التحدث بالعدالة. ولا بد ان يسبق  بحثنا لاي موضوع الاتفاق على فكرة تحديد الدليل وقبول هذا الدليل او غيره وبالإجماع ثم الشروع في تمحيص الدليل وبعدها نخرج في استنتاجات ملزمة ولو لفترة حتى يتغير العلم الذي بين ايدينا. العلم يرفع التناقض. كلما عاد التناقض علينا اعادة النظر الى العلم.  التناقض في ثقافتنا مؤشر دقيق على ضعف او انعدام التوافق على الدليل اي دليل كان. 

– الدليل الخيالي ليس بدليل علمي ولا يمكن ان يستخدم في موضوع اثبات صحة فكرة ما. والدليل الخيالي غالبا ما يمكن اعتباره من الامور التي تدخل في خانة الايمان. هذا الخلط يحتاج الى إيضاح. الاتفاق على دليل يرفع هذه التناقضات ويساعدنا تجنب إشكالات كثيرة. 

– هل يمكن قياس الدليل في بحث الايمان ونحن نتحدث من هذا المنبر التنويري الذي يضم غالبية مسلمة ؟ هذا مستحيل، لأن أحد طرفي الإيمان – وهو الله سبحانه وتعالى – يقع في البعد المستحيل عندما نريد التحقق أو عندما نريد أن نخبر عنه شيئًا ما يتعلق به لوحده سبحانه. لماذا لا يتوقف الناس من أبناء  ثقافتنا من البحث في تفاصيل إيمان غيرهم؟  في قناعتي السبب يعود إلى فكرة انعدام فهم فكرة الدليل في ثقافتنا. والقضية كلها تتعلق بطبيعة ثقافتنا والتي هي أصل مشكلتنا.   

قبول فكرة انعدام الدليل على الإيمان لا يعني مطلقا أن من قبل هذه الفكرة لا يؤمن، أو أن إيمانه منقوص، بل في الواقع هو يعرف تمامًا ماذا يعني ذلك.  إنه في الواقع  غير قادر على إقامة الدليل على صحة الإيمان وهو يتحدث عن غيره ممن آمن.  هذه فكرة بسيطة ويجب أن نتفق عليها. التدخل بتفاصيل إيمان الغير فكرة مستفحلة في ثقافتنا العربية.  متى ما تخلصنا من فكرة البحث في تفاصيل إيمان غيرنا والحكم عليه، عندها سنكون بألف خير.

 

الحقيقة ان الموضوع يطول ويطول وأكتفي بهذا القدر وادعو الله ان يكونا مرتكز فهمنا لديننا ينصب على دعوة الناس – جميع الناس – إلى القيام بالأعمال الصالحة، تلك الأعمال التي يقومون بها في كل عمل وهم يراعون ويهتمون بمصالح غيرهم ومشاعرهم دون الخوض في أي تفاصيل قد يترتب عليها حكم مسبق عليهم من خلال النظر لما يؤمنون به. 

 

علينا أن نخبر كل الناس بأن إيماننا بالله العظيم وبكل تفاصيل ذلك الإيمان الذي جاء به الإسلام، نخبرهم بأن قد يختلف بين شخص وآخر والأصل فيه الاختلاف وانعدام الدليل على صحته.  علينا أن نخبرهم بأن كل هذا الإيمان ومهما بلغ فلا فائدة له إذا لم يقترن بالعمل الصالح، وأن مفهومنا للعمل الصالح هو ذلك العمل الذي يراعي فيه الإنسان مصالح الاخرين ومشاعرهم.  هذا ما تعلمناه في المركز وما ندعو كل الناس إليه, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

 

 

عبدالسلام المياحي 

8 سبتمبر 2018

 


حديث في الدليل

أرسل إلينا المفكر الإسلامي الرائع, فضيلة الأستاذ الدكتور عبد السلام الميّاحي, رسالة نشرت اليوم تحت عنوان “أهمية الدليل”.  يخبرنا فضيلته في هذه الرسالة بأنه يريد التحدث عن موضوعين.  الأول هو التحقق من صحة فكرة أننا “أبناء ثقافة لا تهتم مطلقا بالبحث عن الدليل”.  والثاني هو النظر في “كيفية الاتفاق على صحة دليل ما مباشرة وبدون الدخول في مهاترات الجدل العقيم التي غالبًا ما تنتهي إلى “لا حل في الوقت الحاضر” ويترك الأمر – ومهما كان مهمًا – إلى أن يشاء الله رب العالمين”.  والحمد لله أن الإجابة حاضرة.

 

بداية, وفيما يتعلق بفكرة أننا “أبناء ثقافة لا تهتم مطلقًا بالبحث عن الدليل”, فيسعدني أن أطمئن فضيلته إلى صواب ما يذهب إليه من أننا “أبناء ثقافة لا تهتم مطلقًا بالبحث عن الدليل”.  حقيقة الأمر, يعد السؤال عن “الدليل” على صحة ما يخبرك به من يحدثك دليلاً على سوء أدبك.  كيف لك أن تطلب ممن يحدثك أن يأتيك بدليل على صحة ما يحدثك عنه؟  ألا يكفيك أنه هو المحدث؟  وكأن المسألة, بهذا الشكل, هي عكس ما عليه الوضع في المجتمعات الحديثة حيث يعتبر الحديث بدون تقديم الدليل على صحة ما يقوله المتحدث سوء أدب.  أي إذا كان الحديث دون تقديم الدليل على صحته هو علامة سوء الأدب في المجتمعات الحديثة, فإن طلب الدليل على صحة ما يحدثك عنه المتحدث هو علامة سوء الأدب في مجتمعاتنا “الجميلة”.  وما عليك إلا أن “تتخيل” ما يمكن أن يصيبك لو سألت رجلاً ذا شأن عن الدليل على صحة ما يقوله.    

 

أما بالنسبة لموضوع “النظر في كيفية الاتفاق على صحة دليل ما مباشرة وبدون الدخول في مهاترات الجدل العقيم التي غالبًا ما تنتهي إلى “لا حل في الوقت الحاضر” ويترك الأمر – ومهما كان مهمًا – إلى أن يشاء الله رب العالمين”, فالإجابة أيضًا حاضرة, إلا أنه يلزم إعادة صياغة السؤال.  وعليه, فسوف يكون السؤال هو كالتالي: ما هو الدليل على صحة أي فكرة يمكن أن يسمعها أو يقرأها إنسان؟  وبالتالي سوف تكون الإجابة كالتالي: الدليل على صحة أي فكرة هو تطابق هذه الفكرة مع الواقع.   يعني ذلك أنه إذا حدثك أحد بأن ثمن لتر اللبن لدى محل تسكو هو 45 بنس, فإن الدليل على صحة هذا القول هو أن تذهب إلى أقرب محل تسكو وتشتري لترًا, فإذا كان الثمن فعلاً هو 45 بنسا فإن ذلك هو “الدليل” على صحة القول, أما إذا غير ذلك فهو الدليل على فساد القول.  الدليل على صحة القول, إذن, هو تطابقه مع الواقع.  وتستطيع هنا أن تقول “والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.  أي أن الموضوع انتهى.  الدليل على صحة أي قول هو توافق هذا القول مع الواقع.  هذا هو الدليل ولا دليل غيره. 

 

وكأن المسألة, بهذا الشكل, أنه إذا كان مفكرنا الإسلامي الكبير, فضيلة الأستاذ الدكتور عبد السلام الميّاحي  يتساءل عما إذا كنا أبناء ثقافة لا تهتم مطلقًا بالبحث عن الدليل, فالإجابة أننا “فعلاً” أبناء ثقافة لا تهتم مطلقًا بالبحدث عن الدليل.  أما إذا كان فضيلته يسأل عما هو هذا الدليل فالإجابة هي أن الدليل على صحة أي قول هي توافق هذا القول مع الواقع.   يعني هذا الكلام, طبعًا, أنه إذا اختلف القول عن الواقع فالقول غير صحيح.  يعني هذا الكلام كذلك أنه إذا لم يمكن التحقق من اتفاق القول مع الواقع فلا يمكن الحكم لا بفساد القول ولا بصحته. 

 

 

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

 

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.