عندما لا يوجد علم وإنما يوجد يحزنون

عندما لا يوجد علم وإنما يوجد يحزنون

علم.jpg

 

 

وصلتني بالأمس رسالة من فضيلة الشيخ أحمد الكاتب يخبرني فيها بأنه لم يكن يتحدث في رسالته التي نشرت تحت عنوان “يونس 94”

فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ۚ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)

 

عن “الأدلة العلمية” التي تؤدي إلى الإيمان بالقرآن وإنما كان يتحدث عن الأدلة الكلامية.  يقول فضيلته:

 

“السلام عليكم دكتور كمال، عفوًا، أنا لم أقل “دليل علمي” وإنما قلت فقط “دليل” وأعني بذلك الأدلة الكلامية التي تؤدي إلى الإيمان بالقرآن ونبوة النبي محمّد، ولم أقصد الأدلة العلمية الفيزيائية.”

 

لم يكن صعبًا, طبعًا, أن أدرك أني وقعت في نفس الخطأ الذي وقعت فيه عند تعليقي على رسالة مفكرنا الإسلامي المبدع, فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد سلامه.  كان فضيلته يتحدث عن ضرورة تواجد معايير يمكن من خلالها الحكم على القرآن لتبين ما إذا كان من عند الله أم لا.  لم يحدد فضيلته ما هي تلك المعايير بالضبط وعليه فهمت أنا أنها معايير علمية.   أرسل فضيلته رسالة يشير فيها إلى خطئي هذا ويبين أنه كان يقصد معايير أخرى من نوع خاص قام فضيلته بوضعها.  يقول مفكرنا الإسلامي الكبير:

  

 


“سأقوم بشرح ما أقصده.  إذا لم يوجد أساس للإيمان بالقرآن فبم آمن من آمن؟  إن الأساس يجب أن يوجد في كل البشر, دون النظر للجنس, أو للون, أو للغة, أو للثقافة والتعليم , أو للزمان, أو للمكان, ولكن فقط يشترط البلوغ والعقل. 

 

قلنا وكررنا إن شرط الإيمان بالقرآن هو نفسه شرط قبول أي أمر والحكم عليه بالخطأ أو بالصواب.  هذا الشرط يحوي ثلاثة عناصر:

الأول: مطابقته للعقل, أي لسنن الله الكونية كما يدركها البشر, و

ثانياً: مطابقته للفطرة, أي للقيم, والأخلاق, والمثل العلا, التي وضعها الله في نفوس جميع البشر, وليس الأخلاق والقيم السائدة زمانًا ومكانًا, و

ثالثاً: أن يكون التوجه فيما يعرض إلى إعمار الكون وليس إلى الهدم والتدمير أو الإعاقة.

 

هذه شروط قبول أي أمر والحكم عليه بالصواب أو بالخطأ.  ويضاف إلى هذه الشروط في حالة أي كتاب يزعم صاحبه أنه من عند الله أن يكون في مستواه أعلى مما عليه البشر في وقتها, أي أن هذا الذي يعرض على الناس يستشعرون أنه فوق مستوى البشر في الرقي, والسمو, والإتقان.  فإذا ثبت ذلك فهو من عند الله, وإذا لم يثبت ذلك فهو ليس من عند الله.”  انتهى

 

 

جاءني بالأمس كذلك رسالة من فضيلة الشيخ أحمد المُهري يرى فيها رأيًا آخر.  يقول فضيلته:

أنا معجب بالقرآن لأنني أرى الحكمة في كل جوانبه. لو كان القرآن كتابا علميا لرأيناه اليوم في معمعة المكتبات وفي ضيعة الانتقادات. ذلك لأن العلم الذي يتعلمه البشر ليس حقيقيا بقدر ما هو نسبي. فالبشرية كانت تظن بأن الأرض مركز الكون وعلى أساسه تمت كل المحاسبات الفلكية اليونانية وكان المنجمون طيلة ألفي عام يحسبون الخسوف, والكسوف, والشروق, والغروب, وبدايات الفصول, وحركات الرياح, وكل شيء, على أساس فلكيات بطلميوس كما يسمونه. جاء كبرنيكوس قبل خمسة قرون ليثبت للعلماء الكرام بأن أساس بطلميوس باطل ولو أن حساباته الفرعية كانت صحيحة.

 

الطب والهندسة وكل العلوم الخطيرة الأخرى مثل الفيزياء والكيمياء كلها نسبية وكلها تتعرض للتغيير مهما طال بقاؤها بين الناس. ولذلك نرى الله تعالى لم يذكر لنا عدد المنظومات الشمسية بل قال سبع سماوات بمعنى غير قابل للعد لأن النجوم في انطماس وميلاد ولأن البشرية قد لا تتمكن من إيجاد طريقة سليمة لاحتساب عدد الأنظمة الشمسية. حتى السنوات العادية غير دقيقة لدينا فقال تعالى لسنوات أصحاب الكهف الشمسية الطبيعية بأنها 300 وازدادوا تسعا ليشعرنا بطريقة محاسبة أخرى هي الطريقة القمرية الشهرية مضروبا في 12. تصوروا لو أن الله تعالى أراد أن يحدثنا بلغة علمية فكيف كان ممكنا وصف الالكترونات والفوتونات قبل 15 قرنا لبشر لا يعرف أن وراء الظاهر الملموس بواطن طاقوية لا يمكن تحسسها بالحواس الخمس.”

 

 

إذا كان لي أن ألخص ما دار في مركزنا خلال الفترة الماضية حول العلاقة بين “العلم” و”الإيمان” فيمكنني أن أقول التالي.  تلزم الإشارة هنا إلى أن احتمال الخطأ وارد في أي محاولة للتلخيص, وأن هذه ليست مشكلة عويصة إذ يمكن دائمًا تعديل التلخيص. 

1.        يذهب البعض إلى أننا نؤمن بالقرآن أولاً ثم نبحث عن دليل علمي يؤيد أنه من عند الله ثانيًا. 

2.        يرى البعض الآخر أن من آمن بكتاب الله لا يحتاج إلى دليل علمي يؤيد أنه من عند الله. 

3.        يرى بعض ثالث أننا نقوم بفحص كتاب الله أولاً فإذا توافق مع مجموعة من المعايير التي وضعناها نحن آمنا بأنه فعلاً من عند الله أما إذا لم يتوافق لم نؤمن. 

 

تثير هذه المواقف المختلفة عددًا كبيرًا من التساؤلات.  من ذلك: هل يؤمن الناس بكتاب الله أولاً ثم يبحثون عن أدلة علمية تؤيد أنه من عند الله ثانيًا أم أنهم يؤمنون بكتاب الله والسلام عليكم ورحمة الله؟  ثم, ما الداعي إلى البحث عن الأدلة العلمية التي “تثبت” أن القرآن كتاب الله؟  ما الداعي إلى السعي المستمر  لإثبات أن الفتاة التي تزوجتها سيادتك حسنة السير والسلوك؟  لاحظ أنك قد تزوجتها.  أي أن عليك أن تسأل نفسك ما أهمية البحث والتقصي إذا كنت قد تزوجتها, إلا إذا كنت على استعداد لطلاقها.  من منا على استعداد لترك الإسلام إذا تعارض مع العلم؟  أي علم يا مولانا!   وإذا كنا على ثقة مطلقة بأنه لن يتعارض مع العلم يوما ألا يعني ذلك أنه كالعلم سواء بسواء؟  أي أنه متغير.   لاحظ أيضًا حياك الله أن هذا الربط بين العلم والقرآن يعني أن ما يحدد فهمنا لدنيا الله ليس كتاب الله وإنما كتب العلماء.  كلما قال العلم شيئا اتبعناه. 

 

 

يحتاج الأمر إلى بعض الترتيب, وعليه دعنا نبدأ بالأول أولا.

هل يؤمن الناس بكتاب الله أولاً ثم يبدأ السعي بعد ذلك لإثبات أن هذا الكتاب الذي “يؤمنون” بأنه من عند الله هو “فعلاً” من عند الله؟  أم أنهم يخضعون كتاب الله أولاً لعملية فحص علمي منضبط للتأكد من أنه من عند الله فإذا كشف البحث العلمي المحايد أنه من عند الله آمنوا به أما إذا اتضح أنه ليس من عند الله انصرفوا عنه.   وإذا كان هذا هو الحال فهل هذا إيمان بكتاب الله أم إيمان بكتب العلماء؟   ثم, إذا كان التحقق من أن كتاب الله هو من عند الله فعلاً قد صار جزءًا من العلوم المنضبطة فلما لم يصل العلم إلى قرار نهائي في هذا الشأن؟  لما لا تقوم الكليات والمعاهد العلمية حول العالم بتدريس هذا “العلم”؟  لما مازال هذا العلم متروكًا للأفراد يقررون أمره؟  لما يترك الأمر لكل فرد ليقرر فيه ما يرى بمنتهى الحرية؟  ثم إذا كان هناك مثل هذا العلم فأين نظرياته العلمية, ومجلاته, وعلماؤه, وأين كلياته, وتخصصاته, ونشراته, واجتماعاته؟  أين هذا العلم؟ 

 

ثم ما عاقبة الاختلاف؟  هل يمكننا, مثلاً, أن نقول إن القول بضرورة “التحقق” من أن كتاب الله هو فعلاً من عند الله قبل الإيمان به هو قول يعاقب عليه من قال به؟  رجاء ملاحظة أن الفقه السني القديم لم يعترف إطلاقًا بعملية التحقق هذه حيث كانت الأوامر تنص على إعلان الإسلام في ظرف 72 ساعة أو الموت.  لم يكن هناك أي مجال للبحث والتقصي للتحقق من اتفاق كتاب الله مع النظريات العلمية السائدة.  ثم ما العمل في موضوع الخلاف بين من يذهب إلى أن العلم يثبت أن القرآن من عند الله ومن يذهب إلى أن العلم لن يستطيع أبدا أن يثبت ذلك لأن لا أحد يعلم الغيب.  ثم ما العمل فيمن اختلفوا فيما هو من الغيب وما هو ليس من الغيب.  هناك من يرى أن البحث فيما إذا كان كتاب الله من عند الله أم لا هو بحث في الغيب.  هناك, على العكس من ذلك من يرى أنه ليس بحثًا في الغيب.  هل يمكن القول بمعاقبة من قال بأن من الممكن للعلم أن يثبت أن القرآن من عند الله لأن ذلك يعني أن البشر يمكنهم معرفة الغيب, أم يجب معاقبة من قال بأن ذلك من علم الغيب لأن هذا الموقف يعني أنه لا يمكن للعلم أن يثبت أن كتاب الله من عند الله؟ 

 

 

واضح تمامًا أن المسألة معقدة تماما.  إلا أن البحث فيها ضروري إلى أقصى حد.  لا أحد يؤمن بكتاب الله بعد دراسته دراسة علمية, وافية, مستفيضة.  هذا أمر لا يقدر عليه سوى أساتذة الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية.  هذا أمر لا علاقة له بأساتذة الجامعات الإسلامية في المجتمعات الإسلامية فكلهم – والحمد لله – مؤمنون ولا أحد فيهم يحلم بدراسة القرآن من أجل “التحقق” من أنه من عند الله.  هذا أمر لا يحتاج إلى تحقق.  هذا أمر يؤمن به كل مسلم.  لا أعرف مسلمًا واحدًا شعر يومًا بالحاجة إلى التحقق.

 

والبحث في هذا الأمر ضروري ذلك لأننا لا يمكن أن نفهم ديننا إذا كنا لا نفهم ما هو الإيمان. ثم إن المسلمين لا يؤمنون بالله لأن البحث العلمي قد أثبت أخيرًا – وبعد طول انتظار – أن القرآن الكريم قد جاء فعلاً من عند الله.  المسلمون يؤمنون بأن القرآن من عند الله ويؤمنون بأنه لا يحتاج إلى أي دليل على أنه من عند الله.  بل إن هناك من المسلمين من يرى أن فكرة أن من الممكن إقامة الدليل على أن القرآن من عند الله هي فكرة غير إسلامية وغير علمية.  كيف يمكن “لبشر” أن يحكموا بأن كتاب الله قد جاء من عند الله؟  من أين لهم هذا العلم؟  ثم كيف “نحكّم” بشرًا في إثبات – أو نفي – أن كتاب الله قد جاء من عند الله؟

 

وأخيرًا, تذكر, حياك الله, أن في بلادنا لا يوجد علم, ولا بحث علمي, وإنما يوجد يحزنون.  القول, بهذا الشكل, بأن العلم يمكنه أن يثبت أن كتاب الله قد جاء من عند الله إنما يعني أن علماء الغرب هم الحكم فيما إذا كان كتاب الله قد جاء من عند الله أم لم يجيء.  وهذا كلام معناه اللجوء مرة أخرى إلى ذلك البروفسور الألماني الغامض أوتو مايار لعنه الله.  

 

رجاء التوكيد على أن كل الآراء الواردة أعلاه ليست نهائية ويمكن تغييرها في ظرف ثانية.  خالص الشكر لمفكرنا الإسلامي الرائع, فضيلة الشيخ أحمد الكاتب, الذي دفعني تفسير للآية 94 من سورة يونس إلى تغيير رأيي في ثانية.  كيف لنا ألا نفهم من تساوره الشكوك في كلام الله إذا كان رسول الله نفسه قد ساورته الشكوك وكان من الممترين.   حيّا الله شيخنا الفاضل على كريم تفسيره.

 

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.