ماذا تعرف عن الحابيات؟

ماذا تعرف عن الحابيات؟

 

 

 محقق.jpg

أرسل إلينا فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد سلامه رسالة يشكو فيها صعوبة الحياة مع قوم ما زالوا قابعين في المستوى الثاني من مستويات نمو الإدراك كما بيّنها بياجيه.  في محاولة من فضيلته لكي نفهم ما يقصده يقص علينا قصتين تبيّن كل واحدة منهما كيف يمكن للمراقب المحايد أن “يفهم” ما حدث من خلال متابعته لما يراه بدون أي حاجة إلى أن يخبره أحد.  مثال على ذلك, يمكن لمن كان في مكتبي في المساء ورأى أن المكتب لم ينتهي بعد من إعداد الأوراق التي طلبها المحاسب القانوني ثم ذهب إلى مكتب المحاسب القانوني في اليوم التالي ورأى أننا قد أرسلنا كامل الملف, يمكن لهذا الشخص إذن أن “يستنتج” أننا قد سهرنا الليل في إعداد الأوراق التي طلبها المحاسب القانوني.   ما يقصده مفكرنا الإسلامي الكبير هنا أن المسألة ليست معقدة, ولا تحتاج إلى أن يخبرنا الله بما حدث, بل ولا الملائكة, أو حتى البشر أو الشياطين.  المسألة, لا تحتاج إلى أن يخبرك أي أحد بأي شيء.  في المساء لم تكن الأوراق جاهزة.  في الصباح كان كامل الملف على مكتب المحاسب القانوني.  نستنتج من ذلك – طبعًا –أننا سهرنا الليل نعمل على تحضير الملف.  مرة أخرى, المسألة واضحة.

 

يسوق لنا فضيلته مثالاً آخر يتعلق بقضية عرضت على المحاكم.  قامت النيابة بتقديم عرض رائع للطريقة التي قام بها المتهم بارتكاب جريمتة.  اعتمدت النيابة في عرضها هذا على شهادة الشهود, وتقرير المعمل الجنائي, وفحص الحاسب الآلي للمتهم وكذلك سجل مكالماته, وغيره.  فوجيء محامي المتهم بهذا العرض الدقيق فما كان منه إلا أن سأل وكيل النيابة عن كيف توصل سيادته إلى ما قاله في حين أنه لم “يرَ” شيئا.  هل أخبره الله؟  والهدف مرة أخرى هو بيان أننا نستطيع أن “نستنتج” ما حدث من مشاهداتنا.   بعبارة أخرى, نحن لا نحتاج أن نرى بأعيننا ما حدث لكي “نفهم” ما حدث.   وما يحكيه لنا مفكرنا الإسلامي الكبير هنا هو أمر واضح لا يمكن أن يختلف عليه عاقل.  إلا أن ما نتحدث فيه بخصوص “الفطرة السليمة” أمر مختلف. 

 

يخبرنا مفكرنا الإسلامي الكبير أن البدايات الأولى لفكرة الفطرة السليمة ترجع إلى الصعوبة التي واجهها فضيلته في قبول فكرة أن الله يتوعدنا بعذاب شنيع إذا لم نؤمن بما أرسله مع رسله الكرام.  تعود الصعوبة هنا إلى أن الأمر لم يقتصر أبدًا على الأنبياء الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى وإنما كان هناك دومًا أدعياء يدعون كذبًا بأنهم أنبياء الله.  كان السؤال هنا كيف يطالبنا الله بأن نؤمن بأنبيائة الصادقين في غيبة أي معيار يمكننا من التمييز بين الأنبياء الصادقين والأنبياء المدعين.  هنا “استنتج” فضيلته لزوم وجود “فطرة سليمة” تحوي القيم, والأخلاق, والمثل العلا, والفضائل, وتنزيه الله, وتعظيمه, والإخلاص له.   تمكن هذه الفطرة السليمة أعضاء الجنس البشري من التمييز بين الأنبياء والأدعياء إذ كل ما هو مطلوب منا هو  أن نقوم بعرض ما يقوله أولئك وهؤلاء فتخبرنا الفطرة السليمة بأيهما الصادق فنؤمن به, ونطمئن إليه, وأيهما الدعي فنكفر به ونغضب عليه.  وفي ما يخبرنا به مفكرنا الإسلامي الكبير مشكلة. 

 

وهذه المشكلة هي أننا – فيما يتعلق بما يفعله الله – لا يمكننا أن نستنتج.  يعود ذلك إلى أننا لا نعرف الطريقة التي يدير بها الله عالم الغيب.  عالم البعث والنشور, والحساب والعقاب, والجنة والنار, والملائكة والشياطين.  هل يمكن لأي منا أن “يستنتج” أي شيء مما حدث, أو يحدث, أو سيحدث في عالم الغيب؟  هل يوجد بيننا من يعرف أي شيء عن عالم الغيب؟  وإذا كنا لا نعرف أي شيء إطلاقًا, وفي الإطلاق المطلق المنطلق, فكيف لنا أن نستنتج أي شيء عن عالم الغيب.  إذا كنت لا تعرف أي شيء إطلاقا عن “الحابيات” فكيف يمكنك استنتاج أي شيء عن أي شيء يتعلق بالحابيات؟

 

يقول مفكرنا الإسلامي الكبير:

 “حين أقدم أدلتي فإنني أحسب أن الموضوع قد حسم ثم أتبين أن أدلتي لم تقبل ولم تفلح في تغيير وجهة نظر الغير, كما لم تفلح في القطع بصواب ما أذهب إليه.  ما حدث معي بعد إصداري للكتاب الوحيد الذي قمت بتأليفه هو أنني صدمت في الناس, لأن أحدًا لم يستطع إكمال قراءته, أو فهم كل ما فيه إلا أفرادًا يعدون على أصابع اليد الواحدة, وكان شغلي الشاغل هو: لماذا؟  والتقطت الخيط من مقالات الأستاذ الدكتور كمال شاهين حين تحدث عن مستويات الإدراك, وتبينت أنني أتحدث من مستوى مختلف عما عليه الآخرون.  والآن أعيش مثل هذه الأجواء.  أقدم أدلتي فترفض ويتعجب منها, ثم لا أجد أحدًا يقول إنه يجد أن أدلتي هي الصواب.

 

حين أتحدث عن دليل وجود الفطرة وأن ما يثبت وجودها هو ما نجده في سلوكيات بعض البشر من التمسك والتقيد بالقيم, والأخلاق, والمثل العلا, وتعظيم الله, والإخلاص له, على حساب مصلحتهم ولذاتهم بل وأحياناً إنتماءاتهم, فكان يجب أن نسأل: من أين جاءت هذه السلوكيات والأفعال؟

 

إن دحض أدلتي جاء من الأستاذ الدكتور كمال شاهين هكذا:

نحن لا نعلم ما لا يعلمه إلا الله

استمرارًا للحوار الدائر حول الفطرة السليمة التي خلقنا الله عليها, أرسل فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد سلامه رسالة يخبرنا فيها بأنه:

على الرغم من أن فضيلته لم يرَ الله سبحانه وتعالى وهو يضع الفطرة السليمة في نفوس البشر ويضع فيها كل الأشياء الجميلة من قيم, وأخلاق, ومثل علا, وفضائل, وتنزيه لله, وتعظيم, وإخلاص, و

على الرغم من أن الله لم يخبر فضيلته بما فعله في بداية الخليقة, و

على الرغم من أن أحدً من البشر لم يخبره بشيء في هذا الخصوص, إلا أنه يعلم ماذا فعل الله.  

 

لبيان الأهمية المطلقة لما يخبرنا به مفكرنا الإسلامي الكبير, تخيل ماذا سيكون شعورك لو أخبرك أحد الناس بأنه:

على الرغم من أنه لم يكن معك في مكتبك يوم الثلاثاء الماضي, و

على الرغم من أنك لم تخبره بما فعلت في مكتبك يوم الثلاثاء الماضي, و

على الرغم من أن أحدًا لم يخبره بما فعلت في مكتبك يوم الثلاثاء الماضي, إلا أنه

يعلم ماذا فعلت في مكتبك يوم الثلاثاء الماضي.

 

وعليه, تخيل ما يمكن أن يكون عليه شعور البشر عندما يخبرهم المفكر الإسلامي الكبير, فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد سلامه, بأنه يعلم ماذا فعل الله في بداية الخليقة

على الرغم من أنه لم يرَ شيئا, و

على الرغم من أن الله لم يخبره بشيء, و

على الرغم من أن أحدًا لم يخبره بشيء.

وكأن المسألة, بهذا الشكل, هي أن مفكرنا الإسلامي الكبير, فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد سلامه يعلم ما لا يعلمه إلا الله.  والسلام عليكم ورحمة الله.

 

ومن هذا يتبين أننا نتحدث بغير عامل مشترك في تقديم الدليل, وسأرد بمثالين

كنت أنا والدكتور كمال في مكتبه مساء الأحد, حيث كان يجب تقديم جميع التعاملات التي تمت بالمكتب طيلة السنة الماضية لمكتب المحاسب القانوني, فقلت له إن جميع هذه المعاملات موجودة على الكمبيوتر, وما علينا إلا نسخها وإرسالها لمكتب المحاسب القانوني, فقال إن هذا يجب أن يكون لديه في الصباح, ثم أغلقنا المكتب وذهب كل منا إلى بيته.  وفي ظهيرة يوم الإثنين ذهبت لمكتب المحاسب القانوني لأطلب منه تأجيل استلام تقرير التعاملات لو أمكن ذلك, فلما ذهبت إليه وجدت أن التقرير موجود على مكتبه كاملاً, فأيقنت أن الدكتور كمال قد استيقظ مبكراً, وقام بتجميع مواد التقرير من الكمبيوتر ثم طباعتها وإرسالها للمكتب, فسعدت بذلك واتصلت لأشكره.  قلت له: إن مجهودك العظيم, واستيقاظك من النوم مبكرًا وذهابك للمكتب والقيام بعمل التقرير وإرسالك له لمكتب المحاسب ليدل على جديتك واستشعارك بالمسئولية, فتعجب من قولي وقال لي: هل رأيتني أستيقظ مبكرًا على غير عادتي؟  وهل شاهدتني حين ذهبت إلى المكتب؟  وهل كنت معي حين أتممت عمل التقرير وأرسلته لمكتب المحاسب أم أخبرك أحد بذلك, أم أوحى الله إليك بما فعلته؟   فقلت لا هذا ولا ذاك, فقال إن غير ذلك لو حدث فإنك تصبح لدي ممن يعلمون الغيب, فقلت له: بل هو شيء في المنطق يطلق عليه الاستنتاج.

 

 

والمثال الثاني

وقعت جريمة وتم التحقيق فيها, ومن خلال شهادة الشهود, ومعاينة مكان الجريمة, وتقرير الطب الشرعي, قدمت النيابة المتهم للقضاء مع شرح دقيق لكيفية وقوع الجريمة.  اختلى الدفاع بالمتهم وسأله: هل هكذا وقعت الجريمة؟  فأقر بذلك.  قام المحامي ليدافع عن المتهم وسأل وكيل النيابة: هل رأيت المتهم أو رآه غيرك وهو يقوم بفعلته؟   فأجاب بالنفي, فسأله: وهل أخبرك الله بأن هذا ما حدث, فأجاب بالنفي.  فسأله: هل كان أي من الشهود مع المتهم أثناء وقوع الجريمة؟  فأجاب بالنفي, فطالب الدفاع ببراءة المتهم, ولكن القاضي حكم عليه بالإعدام.  فهل أخطأ القاضي؟

 

مازلنا نتحدث في مستوى إدراك الحدث من خلال اللمس, ولم نرتق إلى مستوى الاستنتاج, والاستنباط, والقرائن.  لا يكفينا أن نرى القيم, والأخلاق, والمثل العلا, لكي نتبين حتمية وجود أصل لها داخل النفوس, ولا أن نرى الفساد, والانحراف, والظلم, ثم لا ندرك حتمية وجود أصل لها داخل النفوس.  نريد أن نرى الله جهرة, أو نلمس الفطرة أو الهوى بأيدينا”.

 

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.