حتى لا تعود السخافات دينًا بعد اليوم

حتى لا تعود السخافات دينًا بعد اليوم

ثورة دينية من أجل محو بصمة التخلف من صفحة الشريعة

 

 

 لا.jpg

أرسلت إلينا فقيهتنا العظيمة الأستاذة هالة كمال مقالاً كتبه الأستاذ أسامة الدرة وهو “مقال مؤسس”.  والمقال مقال مؤسس لأنه يلقي أضواءً ساطعة على المشكلة التي تأسس المركز لحلها.   مشكلة السخافات التي أصبحت دينا.   مشكلة الفقه السني القديم البدائي, الشرير وأحكامه المشينة الفاجرة, كما يلقي أضواءً ساطعة على ضرورة انطلاق ثورة دينية من أجل محو بصمة التخلف من صفحة الشريعة.   أثار المقال عاصفة من الأفكار في رأسي فكل سطر فيه يتعلق بكل سطر نكتبه هنا في مركز تطوير الفقه السني.   تحت عنوان “التحليق فوق الدين”, كتب سيادته التالي:

“فهم كثيرون أنّ مقالتي “تعديل موقفي العقائدي.. التحليق فوق الدين” ردٌ على أفعال متدينين وآراء شيوخ، لكنّ الأمر أبعد من هذا.  إنّ لآراء المتشددين سند في النص المؤسس للدين.  هذا ما يبدو لي.  لم أعد أستسيغ القول بأن ما يقولونه من أدمغتهم, وثقافاتهم, وبيئاتهم.  لقد طالت النصَّ شبهةٌ قويةٌ أنه صانع هذا الحقيقي.  لكنهم شجعان أكثر مما يجب، فيعرضون الخلاصات التي حصلوا عليها منه كما هي دون تزيين. فهي عندهم “الإسلام” الذي لا ينبغي أن يخجلوا منه، والظرف السياسي يواتيهم حتى طمعوا أن يُضمّنوا دستورَ الدولة أطروحاتِهم المذهلة.

 

ثمة بسالة وفروسية كامنان في سلوكهم هذا.  لكن ليهنأوا بأنفسهم.  ما هم مني ولا أنا منهم.   قد نفضت يدي منهم ومن نصوصهم حتى يستبين جديد. لكنّ الأقرب لي منهم هم المتدينون “المعتدلون” الذين يقفون على خط التماسّ بين (النص) و(العصر).   بين (فهم الأقدمين) و (قِيَم المُحدَثين).   وقد كنت منهم وأعرف أنهم يعانون حقاً.

 

مثلما سأل خيري رمضان الشيخ أسامة السيد على قناة سي بي سي الجمعة الماضية عما أوردتُه بمقالتي الأولى، فنفى الشيخ صحة قصة الرجل الذي بقر بطن أمِّ عياله بمعول وهي حُبلى لأنها قالت في النبيّ شيئاً لم يَرضَهُ, فأهدر “النبي” دمها وأعفاه من العقوبة.   والرواية – والشيخ أعلم بهذا مني – صححها الألباني في “صحيح سنن أبي داود”.   فالمعتدلة لا يُفتون الناس بمقتضى الحديث لفظاعته التي يرونها كما أراها لأنهم يعلمون أنّ سنده صحيح، لكنهم كذلك لا يحبون اتهام علم الحديث الذي سرّب هذا إلينا علناً.

 

عندما يمرّ النص بعمليات الاستنباط, فتخرج الأحكام الفقهية غيرَ عادلة, أو غيرَ منطقية, أو غيرَ رحيمة، يأتي المعتدلة ليقصقصوا, ويهذّبوا النتائج ليتقوا الإحراج, ويسمون هذا “مقاصدية”، أو يفتتوا النص ليغرسوا فيه معنىً ليس منه, في عَمَلية تبدو عِلميةً, ولا أجدها كذلك أبدا.   فكأني بهم يكتمون النص, ويعتذرون بالنيابة عنه, بكلامٍ مِن عِندِهم ينسبونه له.  كتأويلهم إباحة تزويج “اللائي لم يحضن” المفهومة من الآية الرابعة بسورة الطلاق، أي تزويج الصغيرات اللاتي لم يبلغن.  وقد راجعت “الجامع لأحكام القرآن” للقرطبي,  و”الكشاف” للزمخشري, و”فتح القدير” للشوكاني, و”الدر المنثور” للسيوطي, فلم أجد لها تفسيراً آخر عندهم كلهم, ولا أشاروا لخلاف على معناها.   وما أفهمه أنّ رب الآية كنّى عن القاصرات بـ “اللائي لم يحضن”, ففهمها المسلمون الأوائل الكناية – ولفهمهم أولوية – و عُمِل بما فهموه مئات السنين.  لكنّ المعتدلة يحيلوننا من علم “البلاغة” و”التاريخ” إلى علم “أمراض النساء”, ليخبرونا عن النسوة اللواتي يكبرن ولا يحضن, وأن هؤلاء – أكيد يعني – هنّ مَن يقصدهن القرآن.

 

ورغم أنّ المعتدلة – كغيرهم – يرون أن نص القرآن أزليٌّ, كان مكتوبًا عند الله في اللوح المحفوظ من قبل خلق الناس, وأن أحكامه أبديةٌ تسري ليوم القيامة، فإنّ المتشددة يرمونهم بـ”الترخّص”, و”الابتداع”, و”تمييع” الدين, و”التنازل” للغرب.   ولهم عليهم في هذا حُجةٌ فالنص غالبًا معهم، والمعتدلة قلما يكسبون قلوب وعقول العامة, لأن منطقهم ليّن, ومتوسط, ومركّب, بينما خطاب المتشددين صارم, وحماسي, وبسيط.  أضف لهذا أنّ المعتدلة لا يقولون إن آراء المتشددة شاذة أو دخيلة، بل يرونها “اجتهادات” أخطأ أصحابها, لكنّ مَن عمل بها هو مسلمٌ صالحٌ ليس عليه شيء.  فهي عندهم ابنٌ شرعي للإسلام لا ينكرونه لكنهم يُفضّلون عليه غيره.   فجهود المعتذرة – حتى الآن – ليست ثورة دينية من أجل محو بصمة التخلف من صفحة الشريعة, وحتى لا تعود السخافات دينًا بعد اليوم، إنما هي عملية تجميل.

 

أنا أقبل أن يكون الله ظالمًا قاسيًا يعبث بنا.   هو حرّ, طالما رقابنا بيده.  لكنّهم يقولون إن شريعته “عدلٌ كلُّها, رحمةٌ كلُّها, مصالحُ كلُّها, حكمةٌ كلُّها”.   فلماذا يُخرجون لنا منها اللا عادل, واللا رحيم, واللا منطقي؟   أم ليست هذه رسالته؟  إن الكون ممهورٌ بتوقيع الله البديع, وأفترض أنّه لو بعث رسالة سيكون عليها نفس التوقيع.   فمالِ الرسالة التي بين أيدينا, ويقولون إنها منه كأنّ عليها بُقَعاً؟  أهذا منه حقاً؟

 

لا يلزم أن أكون أعلم الناس لأقول ما أقول, فإنما عن الوجدان أعبّر.  وقد توقفت عن استحسان النظام العقائدي السائد في مجتمعي.   وهو ما لم أستدعِهِ, ولا يمكنني صرفُه، ولن أستحث نفسي لتلفّق لي إيماناً أعيش به بين الناس كالناس.  وقد تأنيت فلم أُسقطِ المعتقد القديم، إنما رفعته إلى طاولة الفحص جوارَ غيره مما يستدعي الفحص من أسس حياتي.   ولم أرَ أنّ عليّ مواصلةَ الإيمان بما اعتدت أن أومن به, لأني عليه ولدت ورُبّيت.   فإما تمايَزَ عن أصل الرسالة ما ليس منها, أو لا رسالة، ولا دين.”   انتهى كلام سيادته

 

خالص الشكرلفقيهتنا العظيمة على إرسالها لنا مقال الأستاذ أسامة الدرة, وخالص الشكر للأستاذ أسامة الدرة على مقال واضح ما بعده وضوح.  ولي تعليق. 

واضح تماما أن من المستحيل نقاش مقال الأستاذ أسامة الدرة في مقال واحد.  هذا مقال يحتاج إلى أكثر من مقال.  وعليه, فسوف أتحدث عن أكثر ما لفت انتباهي على أن أتناول المقال, أو يتناوله غيري, بالتفصيل فيما بعد.  بداية, المقال هو تعبير عن تغير عميق إلى أقصى حد في المجتمع المصري.  تغير أدى إلى ثورة في النظام السياسي المصري – لم نقتل آخر فرعون وإنما وضعناه في السجن –  وسوف يؤدي إلى ثورة دينية يتم فيها وضع الموروث الثقافي السني القديم في المتحف.  كتبت في الأيام الأولى لثورة 25 يناير مقالا بعنوان “والآن ماذا يفعل العبيد؟” جاء فيه التالي:

“لم أكن أتخيل في يوم من الأيام أن أرى مصرية أو مصريًا يفضل أن يموت على أن يعيش عيشة الذل التي نحياها.  كنت أظن أن الأوربيين فقط هم الذين تهمهم الكرامة, والحرية, والعدالة الاجتماعية.  أعتذر لمصر لأني كنت أنظر إليها دومًا على أنها أرض الذل, والاستبداد, والخنوع.  لم أكن أتصور, ولو للحظة, أن هذه الأرض يمكن أن تنجب نساءً ورجالاً  أحرارا.  كم أنا سعيد بأن الأيام أثبتت خطئي.  كم أحب شباب 25 يناير.  كم أحب المصريين الجدد.”

 

يستحيل أن يقبل الجيل الذي ثار على الذل والظلم, والاستبداد والخنوع, أحكام الفقه السني القديم البدائية, الشريرة.  أحكام الذل, والظلم, والاستبداد, والخنوع.  يستحيل لجيل ثار للكرامة الإنسانية أن يقبل أحكامًا معادية للكرامة الإنسانية.   يستحيل لجيل ثار من أجل الحرية والكرامة الإنسانية أن يقبل حديثا سمعه جرير عن الشعبي عن منصور بن عبد الرحمن عن إسمعيل يعني ابن علية حدثنا علي بن حجر السعدي حدثنا قد والله روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم”.  حتى لو جاء هذا الحديث في أصح كتاب بعد أصح كتاب بعد كتاب الله.  حتى لو كان الذي قبله هو الإمام الأعظم, الحافظ, المجود, الحجة, الصادق، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم.   يستحيل أن ينطق رسول الله بقول معادٍ للحرية والكرامة الإنسانية.

 

هذا ما لا يقبله هذا الجيل, وهذا ما يقبله غيرنا, وهذا ما لا نقبله نحن.  هذا هو الفرق بيننا وبينهم.  هذا هو الفرق بين الفقه الإسلامي الجديد بفهمه “الطيب” لدين الله, والفقه السني القديم بفهمه البدائي الشرير لدين الله.  وإنها لثورة وإننا لمنتصرون.  بإذن الله.

 

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.