الحكم الاخلاقي لدى الطفل32 – نظرية بيير وفوفيه
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence
الحكم الأخلاقي لدى الطفل – 56
4- نظرية بيير وفوفيه
إن الفروض التي اعتمد عليها بوفيه في وضع نظريته تبدو لأول وهلة قريبة كل القرب وبعيدة كل البعد عن فروض دوركايم. وهو يتفق مع دوركايم في رفض اعتبار المشاعر الأخلاقية التي تأتي عن طريق الظاهرات النفسية المرتبطة بالفرد على هذا النحو. على أية حال, فإن بوفيه في كلامه يرى أن الكائن المنعزل لا يمكن أن يتكون لديه إحساس بالتزام أخلاقي, ذلك الإحساس الذي يمكن أن يضعف أمام تلك الحقائق الخاصة بالتوافق, والعادات, والمؤثرات الغريزية التي تقارن بها. وبوفيه أيضًا يشبه دوركايم فى رفضه محاولة “كانت” تفسير الاحترام على اعتباره نتيجة لقانون عقلي وهو يميل على العكس من ذلك إلى تفسير القوانين العقلية بواسطة الاحترام، ويقصد به الاحترام الصادر من الظروف التجريبية للعلاقات الاجتماعية نفسها. وأخيرًا, فهو يشبه دوركايم في التمييز بدقة بين الإحساس بالخير والإحساس بالواجب, ولكنه يختلف عنه في أن دوركايم حين يتناول المجتمع بالحديث يقصد شيئًا يقوم بعملية ضغط على الأفراد، أما بوفيه فيقصد العلاقات القائمة بين الأفراد وحدها. أكثر من ذلك, يري أنه يكفي أن يكون هناك ترابط بين فردين حتى يحترم أحدهما الآخر وحتى تظهر هذه القيمة الأخلاقية الناتجة من هذا الاحترام. لذلك فمن رأيه أن تحليل الحقائق المرتبطة بالضمير تحقيق كل مطالب علم النفس الأخلاقي دون حاجة إلى بحث اجتماعي أولي. هذا هو وجه الاختلاف في الطريقة لا في الرأي بين دوركايم وبوفيه إذ يفضل وصف هذا الاختلاف بينهما على هذا النحو.
أما إذا اعتمدنا على وجهات النظز الحديثة في هذا الموضوع فأقمنا موازنة بين الطريقة الاجتماعية التي تصف الحقائق من الخارج والطريقة النفسية التي ما تزال تعتبر الحقائق الاجتماعية أساسية حتى إذا فسرت من الناحية الإدراكية فإن وجه الاختلاف بين دوركايم وبوفيه يصل إلى درجة ضئيلة جدًا. فوجهة النظر الاجتماعية تبدو متناقضة إذا نظرنا إليها على أساس هذه النظريات التي تحاول تفسير القانون الأخلاقي على أساس أنه شيء فطري أو على اعتبار أنه يرجع إلى خبرة الفرد الخاصة وحدها. ولكن بمجرد أن تتفق مع بوفيه في ضرورة قيام علاقة بين فردين على الأقل حتى يمكن وجود قاعدة إجبارية فإن المسائل التفسيرية تصبح غير مهمة ويستطيع علماء النفس وعلماء الاجتماع أن يعملا معًا على إقامة علم عن الحقائق الأخلاقية.
هذه هي روح التعاون التي يجب أن نناقش على أساسها آراء بوفيه بعد أن ناقشنا آراء دوركايم، وإذا كان الأول يظهر أنه في حاجة إلى قبول آراء الأخير أو معظم آرائه التي احتفظنا بها فإن العكس يظهر أنه صحيح أيضًا، كما يبدو أن طريقة بوفيه لا غنى عنها لأولئك الذين يريدون دراسة مشكلات علم النفس الأخلاقي دراسة تجريبية. على أن النجاح الذي لازم البحوث الاجتماعية قد كان بلا شك له أثره في القضاء إلى حد كبير على الاهتمام الذي وجه منذ حوالي عشرين عامًا نحو محاولات وضع تحليل منظم للحقائق المتعلقة بالإرادة والشعور بالقواعد, ومن المحتمل أن يشرح لنا هذا السبب في أن تحديد البحث على يد بوفيه لم يكن لدى صدى كاف. ولكن لو أن الإنسان قارن نتائج (1) مقالة الشهير الذي لم يقتبس منه إلا القليل بالنتائج الضعيفة لدراسة الإرادة تلك النتائج التي لا يمكن الاعتماد عليها والقائمة على أساس التأمل الباطني؛ فإننا لا نستطيع إلا أن نرى أننا هنا أمام وجهة نظر تستحق أن توضع في نفس مستوى وجهة نظر دوركايم فيما عدا أنها لم تتم على نطاق واسع. ونحن نرى من جانبنا أن هذه الملاحظات المتضمنة في البحث القائم لو أمكن تخليصها من التفسيرات الوقتية التي تقوم بمثابة إطار لها فإننا لن نتردد في القول بأن نتائجنا كانت وليدة مقال بوفيه هذا.
ما هي حالات الشعور بالالتزام في العقل؟ لقد وضع بوفيه هذا السؤال في دائرة سيكولوجية الواجب أن تعارض في نظره الشعور بالخير، وعلى هذا الأساس فقد أجاب عن هذا السؤال بأن هناك حالتين ضروريتين وأن اتحادهما يكفى لقيام حقيقة الالتزام : وهما أن الفرد من جهة يجب أن يتلقي أمرًا كما يجب أن يحترم الشخص الذي أصدر هذا الأمر. من جهة أخرى فبدون صدور أوامر لا يمكن قيام أوامر, ولا قواعد, ولا واجبات بالتبعية. وكذلك بدون احترام فإن القواعد لا يمكن أن تقبل ولا أن يكون لها قوة إجبارية على العقل.
ويمكن أن ندرس باختصار النقطة الأولى إذ أنها مشتركة بين دوركايم وبوفيه، ومعناها أنه لا يقوم لدى الفرد أي واجبات نابعة منه هو نفسه، ذلك أن القواعد الأخلاقية أو الواجبات لا يمكن أن تهبط فتكون عوامل في عالَم النفس الفردي الخالص. فالعادة مثلاً لا تكفى لشرح الواجب ما دامت غير مصحوبة بإحساس بالتزام, بل إن هناك عادات نحس أن من واجبنا أن نحاربها. ولكن في هذه الحالة ألا يمكن في ظروف معينة أن تتخلص الواجبات التلقائية وكذلك تأنيب الضمير من أي مؤثر خارجي؟ إن علم النفس الذي يدرس الظاهرات الجنسية قد أوجد مكانًا لمثل هذه النظرية. ولكن لو أن الإنسان درس هذا الموضوع دراسة أكثر دقة فإنه يتحقق من أنه بدون الاوامر الصادرة ممن حوله فإن عقل الفرد لا يمكن أن يضيف أي حكم أخلاقي إلى انفعالات السرور أو الحزن الفسيولوجية الخالصة مع ملاحظة أن ليس هناك من يخلو في هذه الناحية من تلقي أوامر ضمنية أو صريحة. من جهة ثانية, وكنتيجة لهذا, فإنا لا نستطيع أن نعتبر سلوكًا بدائيا. ذلك السلوك يفرضه الإنسان على نفسه والذي ينتجة في الحقيقة من سلوك الفرد الداخلي. على هذا فإن الأمر أو الإيحاء الذي يصدره الإنسان إلى نفسه في الداخل يمكن أن يعتبر نقطة البداية في الإحساس بالالتزام، ولكن هذه إما مجرد صور طبق الأصل أو حالة مشابهة عن قرب أو عن بعد للأوامر أو الإيحاءات التي تلقاها. مثال ذلك أني قررت أن أبدأ عملاً في وقت معين. لكن من أين يأتي الإحساس بالالتزام- أو بعدم الارتياح في حالة التقصير – وهو الإحساس المصاحب لأعمالى إذا لم أكن قد تعلمت في طفولتي أن أعمل في ساعات محدودة وأن أحافظ على مواعيدي.
أما عن النقطة الثانية فهي التي قام فيها بوفيه ببحث مبتكر؛ فهو لا يوافق علي أن الأوامر التي تصدر ممن يحيطون بالطفل تؤدى إلى إحساس بالالتزام في عقله؛ فالطفل والراشد قد يسمعان أوامر ويكتفيان بالرد عليها بابتسامة، أو قد يؤدي هذا إلى ثورة في الحكم الأخلاقي لديهما. فكيف إذن يمكن قيام مثل هذه الظاهرة التي يري فيها علماء الاجتماع صراعًا لقسر الغير؟ يقول بوفيه إن الأمر لا يلزم بنفسه إذ أنه لا يثير الإحساس بالواجب في العقل إلا إذا صدر عن فرد يحترمه الشخص وليس يقينا ما إذا كان الفرد نفسه قد خلق مضمون الأمر أو أنه اكتفي بتسليمه كما تلقاه، فالمهم أن هذا الفرد لابد أن يكون محترمًا في نظر الشخص, ففي هذه الحالة فقط ينتج الأمر إحساسًا بالواجب في عقل الأخير.
على ذلك, فإن الفكرة التي كونها بوفيه عن الواجب هي فكرة بعيدة تمامًا عن آراء كانت ودوركايم؛ فرأي كانت في الاحترام أنه ليس إحساسًا عاديًا ينتج كغيره بتأثير شخص أو شيء. أما مظهره فمنتزع من القانون الأخلاقي بطريقة غامضة، وإذا كنا نحس باحترام نحو أشخاص معينين فإنا نفعل ذلك ما داموا يشاركون في هذا القانون نفسه. أما بوفيه فيري غير ذلك؛ فالقانون عنده ليس هو مصدر الاحترام ذلك أن احترام الأشخاص هو الذي يعطي الأوامر الصادرة منهم قوة القانون واحترامه، فالاحترام إذن هو مصدر القانون. أما عند دوركايم وكانت فليس هناك احترام للأفراد، بل إن الفرد يحترم مادام يطيع القانون. ولكن هذه القاعدة أبعد من أن تُنتج عن العقل، فهي تُنتج كما الاحترام نفسه من سلطة الجماعة؛ فالقانون بهذا المعنى وليد الاحترام – ونقصد به احترام الفرد للجماعة. أما بوفيه فيرد ذلك بأنه مجتمع الراشدين إذا كان الاحترام للفرد والاحترام للقاعدة وثيقي الصلة فعلاً فإن الأخير قد يسبق الأول عند الطفل. حقيقة أن الطفل في حضرة والديه يحس تلقائيًا بشيء أعظم منه وأسمى. ولذلك كان للاحترام جذور أعمق في إحساسات فطرية معينة وهو يعزى إلى مزيج من الخوف والحنو، وهذا المزيج ينمو كوظيفة من وظائف علاقة الطفل بالراشد.
ويجب أن نلاحظ هنا أن هذا الاتجاه العقلي للطفل نحو آبائه لا يفسر وحده في نظر بوفيه أصل الإحساس بالواجب؛ ففي الاحترام البنوي لدينا نقطة البداية النفسية في العاطفة (1)الدينية. فالطفل الصغير فضلاً عن احترامه هذا لأبويه فهو يعزو إليهم الصفات الأخلاقية والعقلية التي تحدد فكرته عن الكمال. والراشد في نظره عالم بكل شيء, وحاضر في كل مكان, وعادل وخيّر، وهو مصدر كل تناسق في الطبيعة وفي القوانين الأخلاقية. طبيعي أن الطفل لا يقوم بتوضيح هذه العقائد توضيحًا تلقائيًا، فليس به حاجة إلى أن يضع القوانين أو يقنن “للأفكار السابقة” التي تحدد بالتفصيل أحكامه الأخلاقية أو تمثيله للعالم. وقد كان بوفيه على حق حين بيَّن أن شدة بعض الأزمات على حياة الطفل كافية لبيان درجة ثبات أسس الاتجاهات الضمنية التي قضت عليها المناسبات فإن اكتشاف خطأ في سلوك الآباء يقضي تمامًا على ثقة الطفل، وكذلك اكتشاف عجز عقلي أو بعض تحديات لقوى الراشد لم تكن معروفة من قبل فإنها تزعزع ثقته في نظرته للعالم. فالعواطف البنوية البدائية, إذن – وبخاصة المطالبة بالكمال العقلي والأخلاقي – قد تتحول إلى أشياء مثالية توحى بها الآراء الجماعية الحاضرة فتدخلها في الشعور الديني للفرد.
ولكن هذا ليس كل ما في الموضوع، فإذا كان الراشد في أول الأمر بمثابة الإله عند الطفل، وإذا كانت الأوامر الصادرة من الآباء كافية للشعور بالواجب الذي يتحد عند معظم الديانات مع الإرادة الإلهية فقد بقيت الحقيقة القائلة إن العقل يقوم بدور في تكوين المثل الأعلى الأخلاقي، إذ كيف نشرح نشأة الضمير الشخصي إذا كانت الأشياء كلها في الأصل غيرية. وقد وضع لنا بوفيه الحل الآتى : فالعقل من جهة يعمل في تكوين القواعد الأخلاقية كما يعمل في كل شيء فيعممها ويجعلها متلاحقة الواحدة تلو الأخرى وفوق ذلك فهو يوسع دائرتها بالتدريج فوق الأفراد حتى تصل إلى درجة التعميم. على ذلك, فكل من يتلقي أمرًا فهو ينتج من نتائج منطقية تنطبق حتى على الشخص الذي أصدره.
من جهة أخرى فهناك حتمًا تداخل بين المؤثرات المتباينة التي يتلقاها الشخص؛ فالأوامر تتلقى وقد يعارض بعضها بعضًا في قليل أو كثير، وكلما تعددت الأشخاص موضع الاحترام كلما اختلفت الإلزامات التي يجب على الشخص أن يوفق بينها. بهذه الطريقة فإن العقل لا يستطيع أن يختار بل عليه أن يوحد الاتحاد الضرورى في الإدراك الأخلاقي. وعن طريق عملية التوحيد هذه يمكن أن يدرك الشخص معنى الذاتية الشخصية.
(1) P.Povet , les conditions de l’oblgation de consucince annee
psycho , 1912
(1)P.Bovet Le sentiment religieux et la psychologie de l’enfant coll .
actual . péd , 1927
#كمال_شاهين