تصحيح اخطاءنا التراثية 13 : ومن عنده علم الكتاب

تصحيح اخطاءنا التراثية :13

quaran2
Holy koran

تاسعا: آية ومن عنده علم الكتاب:

قال تعالى في سورة الرعد: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43). ويتوسع العلامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية ليتخلص إلى أن علي بن أبي طالب هو الذي عنده علم الكتاب فهو الذي يكفي أن يكون شهيدا بين الرسول وبين الذين يتهمونه بأنه أفك الرسالة، وذلك مع الله تعالى. بالطبع لو ثبت ذلك فإن علي بن أبي طالب فعلا شريك للرحمن والعياذ بالله تعالى. كذلك لو ثبت بأن أي كائن بشري أو جني عنده علم الكتاب ويكفي الرسول فهو شريك للواحد القهار والعياذ بالله. وعلى أني لا أحب أن أفسر السور التي ما فسرتها ضمن برامج التفسير ولكني مضطر أن أتوسع في تفسير كلمات هذه الآية الكريمة ليتبين الحق لمن يستجليه. ونبدأ ببيان قول الذين كفروا. ولذلك نحتاج أن نعرف أهمية الآية في موقعها فلنقرأها مع زميلاتها إلى نهاية السورة التي تمثل نفس الآية. قال تعالى في نهاية سورة الرعد:

وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43).

ونلاحظ من الآية الأولى في المجموعة أن الرسول بنفسه لا يحمل علم الكتاب بل جاءه شيء من العلم. ونرى بأن ربه يهدده في هذا القدر من العلم الذي لا يمثل علم الكتاب بكامله. ونحن لا مانع لدينا أن نقول بأن علي بن أبي طالب أكثر من رسول الله علما لو ثبت ذلك علميا وقرآنيا! ذلك ليعلم القارئ أنني أحب أن أناقش الموضوع بكل حيادية وبكل انفتاح لكل ما يمكن أن نصل إليه في بحثنا. وبالمناسبة فإن الإمام كان معترفا بأنه دون مستوى الرسول من حيث العلم ومن حيث القدرة البشرية. ينقل الشريف الرضي عنه عليه السلام في كتابه إلى عثمان بن حنيف: وَ أَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ كَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ وَ الذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ.

والقرآن الكريم لا يذكر أحدا من الناس بأنه يحمل علم الكتاب. نعم هناك شخص مذكور في سورة النمل وهو يحمل علما من الكتاب وقد ذكر الله تعالى قصته هكذا:

قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40). ونعرف بأن سليمان هو رسول ربه وهو يحتاج إلى شخص من أتباعه باعتبار أنه يحمل علما من الكتاب. فهل كان سليمان لا يحمل علما من الكتاب؟ بالطبع أنه كان يحمل أيضا علما من الكتاب لكنه لا يعلم علما خاصا يستفيد منه لمعرفة نظام حكم ملكة سبأ المشار إليه بالعرش.

وقبل أن نناقش مسألة “مَن عنده علم الكتاب”، فإنني أرى ضرورة معرفة مسائل ذات صلة تساعدنا للكشف عن الحقيقة التي قد تكون غامضة على الكثير من المهتمين بكتاب الله عز اسمه. وهي هذه:

أولا: من هم الذين كفروا وما معنى قولهم لست مرسلا؟

واضح أن أهل الكتاب وجهوا هذا الكلام لنبينا باعتبار أن موسى وعيسى كانا قادرين على الإتيان بآية من دون بقية الرسل. بالطبع أن إتيان الشخص بمعجزة إلهية تحتاج إلى أن يحمل طاقة الربوبية التي حملها عيسى منذ أن خلقه الله تعالى في بويضة أمه مريم. كما أن موسى حمل الطاقة الإلهية يوم التكليم وكانا بتلك الطاقة المهيبة يُظهران آيات الله تعالى. فرد عليهم ربنا بأن هناك رسلا تقبلونهم غير موسى وعيسى وقد كان لهم أزواج وذريات. ذلك لأن الذي يحمل الطاقة الربوبية يتعذر عليه أن يتزوج ولذلك بقي عيسى بلا زواج كما أن موسى فقد القدرة الجنسية أو ترك الارتباط الجنسي بظني بعد التكليم ولذلك ليس هناك أي حديث عن زوجته بعد التكليم. وعلى نفس الأساس خسر آدم تبعات حمله للطاقة الربوبية بعد أن أكل الشجرة فتعرف على الجنس ولم يصبر. لكن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وكلهم أنبياء يعترف بهم أهل الكتاب وكلهم تزوجوا وأنجبوا مثل نبينا ولم يكن لأي منهم أية معجزة أو آية من الله تعالى في كيانهم الوجودي. فادعاء هؤلاء الناس باطل وجحود لحقيقة رأوها وهي حمل نبينا للقرآن. والقرآن بحد ذاته معجزة من الله تعالى ولكنه ليس من صنع محمد. فهو حامل للآية التي أُنزلت عليه وليس آت لها بإذن الله تعالى.

ثانيا: ما معنى الشهيد بين النبي وقومه؟

حينما نقرأ الآيات التي تتحدث عن تلك النوع من الشهادة نراها جميعا تستند إلى علم الله تعالى وخبرته كما سنوردها بعد قليل، فنعرف بأن هذا النوع من الشهادة لا يعني قبول دعوة الرسول بل يعني معرفة خلوص النبي في دعوته إلى قومه وقوة بيانه وإبلاغه حكم ربه إلى الناس. فالحديث يدور مدار العلاقة الدعوية بين الرسول وقومه ليقول لهم بأن دعوته حقيقية وبأن هناك من يراقب هذه الدعوة وهو الله تعالى. هذا الادعاء لو لم يكن صادقا فهو تقوُّلٌ على الله تعالى الذي وعد بأن يفضح من يفعل ذلك كما نقرأه في الآيات 44 فما بعد من سورة الحاقة. لكن رسولنا قال ذلك بكل قوة لثقته بأنه يحمل رسالة ربه فعلا. وحتى نعرف معنى هذ النوع من الشهادة نقرأ الآيات التالية من سورة الإسراء:

قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97). فالله تعالى شهيد بين النبي وقومه باعتبار أنه خبير بصير. وليس للنبي دور كامل للهداية لأن الله تعالى هو الذي يهدي ومن لا يهديه الله سبحانه فما له من هاد.

وقال تعالى في سورة العنكبوت: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52). فكفى به سبحانه شهيدا بينهم لأنه يعلم ما في السماوات والأرض. وقال سبحانه في سورة الأحقاف: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8). فالله يعلم ما يفيضون فيه ولذلك كفى به شهيدا بينه وبينهم.

ولنعد مرة أخرى إلى الآية 19 من سورة الأنعام ولكن نذكر آية قبلها وفي بداية القطعة القرآنية لنستيقن بأن الحديث هناك أيضا عن جريمة ضد رسول الله استلزم اتخاذ شهيد بينه وبين المستهزئين. قال سبحانه في سورة الأنعام: وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (10). ثم تسترسل الآيات حول نفس المستهزئين حتى نصل إلى الآية التالية: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (19).

أما سورة يونس فهي توضح آثار الشهادة أيضا. قال تعالى في سورة يونس: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (30). ترينا هذه الآيات الفاصلة بأن مسألة شهادة الله تعالى بين الرسول وقومه تشير إلى علمه بما يدور بينهم فيكتفي الرسول بشهادة الله تعالى ليحكم بينه وبين قومه يوم القيامة. فهل يمكن أن نتصور مثل هذه الشهادة لأي من الكائنات الممكنة أم أنها شهادة خاصة بالله تعالى؟ فمعنى بيني وبينكم فعلا الحكم بيني وبينكم وليس أمراً آخر. والواقع أننا لا يمكننا أن نتصور أية نتائج مصيرية لشهادة الممكنات بين شخصين أو شخص وآخرين في الدنيا. ليس غير الله تعالى عالما بالخفيات وليس غير الله تعالى قادرا على أن يحكم لذي الحق وليس غيره سبحانه قادرا على تنفيذ أي حكم بين الرسل وأقوامهم. ولو كان المعنى هو الحكم بين الرسول وقومه فهل يمكن أن نتصور الله تعالى مشاركا مع قضاة أخر للحكم بين الرسول وقومه، وخاصة لو كان الشخص من أتباع الرسول؟ كلنا نعرف بأن علي بن أبي طالب هو من أشد الصحابة مساعدة وحبا للرسول الأمين فليس من العدل أن يصير حكما بين الرسول وقومه. ثم إنه واحد من أولئك القوم فكيف يصير حاكما بين القوم وبين نبيهم وهو أحد الخصوم في الواقع؟

وفي القرآن آياتٌ تتحدث عن محض الشهادة للرسول بالرسالة وليس عن الشهادة بينه وبين قومه. هناك يختلف الموضوع ولا نرى في مثل تلك الآيات أي حديث عن العلم بما يفعله الناس ولا عن الحكم. قال تعالى في سورة النساء: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (167). هناك أيضا كفى بالله شهيدا ولكن هذه الشهادة ليست للحكم بين النبي و قومه. إنها شهادة بأن الله تعالى قد أرسل الرسل إلى البشر للهداية ومحمد واحد من تلك الرسل عليهم جيعا السلام. بالطبع أن الآيات تنطوي على مسائل علمية أكبر من سعة هذا المخطوط المختصر.

والواقع الذي لا مناص منه هو أن الشاهد بين فريقين أو الشهيد بينهما ليس مرتبطا بالشهادة على رسالة أو عمل قام به شخص بل هو فعلا شهادة بين فريقين متخاصمين والمقصود إثبات الحق بتلك الشهادة. ونحن لسنا في صدد تفسير الآية هنا بقدر إثبات أن القول المعروف بأن هناك بشر يشهدون مع الله بنبوة نبينا ليس صحيحا بالنسبة لهذه الآية. سواء في ذلك الذين يقولون بأنه علي بن أبي طالب أو الذين يقولون بأنه عبد الله بن سلام ومن شابهه من أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسالة الجديدة.

ثالثا: هل هناك جريمة حصلت لتكون الشهادة ضرورية؟

أرجو الانتباه بأن هناك جريمة حصلت وهي تكذيب رسول الله عليه السلام، وذلك بعد أن أراهم قوة القرآن وعلموا بأن القرآن أكبر بكثير من محمد بن عبد الله الذي تربى بينهم وعرفوا كل شيء عنه وعن قدراته العلمية. هذه هي رسالة سورة الرعد. قال تعالى في مستهلها: المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1). وقال فيها أيضا: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7). وقال سبحانه فيها: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19). وقال تعالى أيضا في نفس السورة الكريمة: وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32). وأخيرا أستشهد منها بهذه الآية: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36). والتكذيب بشأن القرآن في الواقع. ومن يكذب الرسول فهو يكذب القرآن كما أن من يكذب القرآن فهو مكذب للرسول أيضا. لكن قولهم لست مرسلا هو ليؤكدوا له بأنهم لا يؤمنون برسالته أصلا بغض النظر عن حمله القرآن. بمعنى أنهم يعتبرون حبيبنا المصطفى كذابا والعياذ بالله.

هذا التكذيب يستتبع تكذيب رب العالمين أيضا. هذا ما نفهمه من بداية السورة حيث يعتبرهم الله تعالى غير مؤمنين بسبب أن ما أنزله إلى عبده محمد هو الحق الواضح. إن أي مقارنة بسيطة يقوم بها أي من علماء بني إسرائيل تؤكد صحة القرآن باعتبار هيمنته على التوراة مع عدم مخالفته للنص التوراتي. فالقرآن مصدق للتوراة ومقرون بالدليل والبرهان العقلي لكل أو لأكثر أحكامه. ثم إنهم لم يتمكنوا من العثور على خطإ أو اختلاف في القرآن الاستدلالي المتوسع في التفصيل ولكنهم كذبوا الرسول وكذبوا ما أُنزل إليه. هذا يعني بأنهم يُكذِّبون الله تعالى لأن دليلهم على صحة التوراة هو عدم الاختلاف فيه وإلا فإن آيات موسى  لم تكن موجودة بينهم آنذاك. لم يكن هناك عالم إسرائيلي يقول بأن موسى إله منفرد بالآيات بل كانوا يقولون بأنه رسول رب العالمين بدليل التوراة الباقية بين أيديهم فالقرآن أكبر من التوراة فلماذا رفضوه؟ هذا يعني بأنهم آمنوا ببعض ما أنزله الله تعالى وكفروا بالبعض الآخر. إذن؛ الإذعان ليس لله في الحقيقة بل هو لمصالحهم القومية والحزبية التي تبقى مع بقائهم على دين آبائهم متجاهلين الله تعالى الذي هو هدف الأديان السماوية جل جلاله وهو دعوة كل الأنبياء والمرسلين عليهم جميع سلام رب العالمين.

رابعا: لماذا استعمل القرآن كلمة الشهيد في الآية بدل الشاهد؟

الشاهد يعني الذي شهد شيئا بعينه أو بقلبه ويستعار أحيانا لو أن آثار جريمة أو حسنة ظهرت على فاعل أو مفعول به بأنه شاهد على تلك الجريمة أو حصول تلك الحسنة باعتبار ظهور الآثار عليه وإذا تجلت الآثار فإن كلمة الشهيد تحل محل الشاهد. وحينما تكون الشهادة بحصول العمل لدى الغير أو بين أشخاص غير الشاهد، شهادة شاملة تصل إلى الأعماق فإن القرآن يستعمل لفظ المبالغة وهو الشهيد بدل الشاهد. ولذلك فإن كلمة الشهيد في القرآن عادة ما تأتي لبيان شهادة الله تعالى العالم بخفايا الأمور وقلما يأتي لفظ الشاهد للذات القدسية. كما أن كلمة الشهيد بالنسبة للناس تأتي عادة حينما يتخذ الله تعالى نماذج من البشر لتطبيق الآخرين عليهم أو شواهد عملية أو شهودا يكتبون عقدا تجاريا. هناك يمثل العقد كامل القضية وليس لها أعماق أخرى عادة. والشهيد بين الرسول وقومه في المخاصمات يعني الذي يرى كامل القصة من عمل وقول كما يرى أعماق القلوب التي تضمر النوايا والمؤامرات وغير ذلك. وعليه فإنه سبحانه يستعمل لنفسه كلمة الشهيد في المخاصمات. ولا يمكن أن يستعمل كلمة الشهيد للبشر حينما يكون الخصام حول مسألة عقائدية ترتبط بالقلوب التي في الصدور النفسية.

خامسا: ما معنى الكتاب في الآية؟

نطلق نحن الكتاب على ما نسطره بالقلم على الورق من مسائل وحقائق متماسكة ترتبط بموضوع أو شأن مهم من الشؤون التي تهم القارئين؛ أو ما يجاريه اليوم من الكتب الإلكترونية. فمن يكتب كتابا في طب الأسنان فهو يسعى ليجمع المزيد من المسائل المرتبطة بالأسنان ويتحاشى أن يتوسع إلى الشؤون الأخرى إلا إذا كانت ضرورية جدا وخادمة لهدفه الأسناني لا أهدافه الأخرى. ونفرق بينه وبين الحديث والخطبة والمحاضرة بأننا حينما نكتب فإننا نضفي عليه المزيد من الاهتمام لمراعاة مختلف الطبقات التي قد تطَّلع على ما كتبناه. ثم إننا نتحاشى الكثير من احتمالات المواجهة بما فيها المواجهة القضائية ممن يمكن أن يعتبر كتابنا مؤثرا فيه تأثيرا سلبيا أمام قومه مثل أن نشهر بأحد في كتابنا. فالكتاب لدينا يمثل سعينا لبيان الحقيقة في الواقع ونسميه كتابا باعتبار الكتابة والمسؤولية وباعتبار تماسك المواضيع التي تجعلها كتابا واحدا. والقرآن الكريم على تماسكه فإنه يتناول مسائل كبيرة وكثيرة ولذلك فهو مجموعة كتب وليس كتابا واحدا ولكن جميعها تخدم هدفا أساسيا هو تعريف الألوهية واللقاء مع الله تعالى وتزكية النفس لتأهيلها للتعرف على خالقها؛ حيث أن معرفة الله تعالى تتعارض مع عدم ملائمة النفس لذلك العمق العلمي الكبير.

وهناك كتاب يعده الملائكة الذي يشير إليه سبحانه وتعالى في سورة الجاثية: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29).فالملائكة الموكلون بنا يستنسخون حقائق الأعمال المنسوبة إلينا مع ملاحظة صدورها منا. فهم يستنسخون حركاتنا النفسية التي تدل على حقيقة نوايانا وهي التي تؤثر في محاسبتنا يوم القيامة. أما الآثار العملية التي لم نكن لنعرفها حينما نوينا العمل فهي ليست من صنعنا ولا تؤثر يوم الحساب ولكنها تستتبع بعض الضمانات الدنيوية في هذه الحياة فقط. فالكتاب في منطق الألوهية يمثل الحقائق التي في الأعماق. وعلم الكتاب يعني علم الحقائق وهو خاص بالله تعالى ولا يمكن أن يعرفه أحد. حتى الملائكة فإنهم يستنسخون ما يأمرهم الله تعالى به ولديهم أوامر من ربهم ليعرفوا كيفية تجاوبهم مع العاملين. وقد بين ذلك سبحانه في نفس سورة الجاثية قبل الآية المذكورة أعلاه:

وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (33). فالحديث عن سيئات الأعمال وليس عن الأعمال نفسها والتي تبدو جلية يوم الحساب. ويقول سبحانه في سورة البقرة: لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284). وليكن واضحا أن الله تعالى أقام النشأة الدنيوية ليخلق ثم يختبر سلامة النفوس وليس سلامة الأعمال. ذلك لأن الجنة ليست عوضا بقدر ما هي مكان للسعداء كما أن النار مأوى للأشقياء.

وقد بين سبحانه في الآية 40 بأن على الرسول البلاغ وعليه سبحانه الحساب فهو في صدد بيان عدالته ودقته وقد قال سبحانه قبلها: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42). فعِلمُ ما تكسب كل نفس كائن عند الله تعالى والملائكة تكتب حركات النفس ويسمى ذلك العلم العميق علم الكتاب. هو العلم الذي يدونون به حقائق أعمال الناس بما يتناسب مع شؤون العدالة يوم الحساب. قال تعالى في سورة المؤمنون: وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62). فالمحاسبة هناك تتم بما فعله المرء بنفسه وحقيقته وليس ما صنعه بيده وما ظهر للآخرين من أعماله. ولكن الأعمال هناك دلائل على صحة ما دوَّنته الملائكة الكرام في صحائف الناس. وبما أن الناس جميعا يُحاسبون بالحركات النفسية التي تترك صبغة على نفوسهم فيسهل على الملائكة أن يبوبونا جميعا في زمر يوم القيامة على أساس الصبغات النفسية. وستُحشر كل مجموعة متشابهة بإمامهم وهو كتاب يعكس الصبغة النفسية لكل أفراد تلك المجموعة.

قال تعالى في سورة الإسراء: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71). وسر القراءة هو أن الذي أوتي كتابه بيمينه هو الذي عمل الإيجابيات فتكون نفسه إيجابية أيضا وكل الصحف الإيجابية قابلة للقراءة أما الصحف السلبية فهي غير قابلة للقراءة ويمكن معرفة ذلك من التعمق في سورة المطففين.

فعلم الكتاب هو العلم بالحقائق كلها وهو خاص بالذات القدسية المحيطة بكل الكائنات وبكل الأعمال. ولكن الممكنات مثل أفراد البشر فيمكنهم أن يتعلموا بعضا من علم الكتاب وهو في الواقع علم بسيط جدا وليس علما شاملا. وليس علم الكتاب بمعنى العلم بمعاني القرآن كما ظن قليلو العلم.

سادسا: ما معنى الكفاية في اللغة.

قال الراغب في المفردات: الكفاية: ما فيه سد الخلة وبلوغ المراد في الأمر.

وقال ابن فارس في مقاييس اللغة: الكاف والفاء والحرف المعتل أصلٌ صحيح يدلُّ على الحَسْب الذي لا مُستَزَادَ فيه. يقال: كفاك الشّيءُ يَكفِيك. وقد كَفَى كِفاية، إذا قام بالأمر.

هذا يعني بأن الله تعالى لو استعمل كلمة كفى فلا يمكن أن يترك شيئا ينقص الكفاية التامة. فلو قال كفاك الله تعالى أمرا يعني بأن الشخص لا يحتاج إلى غير الله تعالى الذي وعده بأن يكفيه. ولو كان الموضوع مرتبطا بالعلم فإن الله فعلا يكفيه لو وعده ولا يمكن أن يقول علمك الله وفلان. نعم لو أراد سبحانه أن يتحدث عن وسيلة التلقين فيمكن أن يقول كفاك الله تعالى تعليما والذين يتلون عليك دروسك مثلا. كما قال لرسوله بأن حسبه الله والمؤمنون في القتال. ذلك بأن الله تعالى هو الموفق والمعين والهادي، وأما المؤمنون فهم الذين يحملون السلاح بإخلاص وتفان في سبيل الدعوة الجديدة.

أما بعد هذا فإن معنى الآية الكريمة تكون كما يلي:

ويقول الذين كفروا: استعمل سبحانه لفظ المضارع لبيان الحقيقة وليس للتنبؤ بعمل سيحصل فعلا ولا لعمل قيد الحصول برأيي. فمن قال من الذين كفروا بأن الرسول ليس مرسلا فهو مشمول في الآية فلا تنحصر الآية في زمان الرسول ولا في مكانه. ولكننا يجب أن نفصل بين الذين كفروا وبين الكافرين. فالذين كفروا تشير إلى من عرف الحقيقة ثم أنكرها وجحد بها ولا تشير إلى الجاهلين ولا إلى الذين ولدوا غير مؤمنين أو غير مسلمين. ولذلك ينحصر المصداق عمليا في الذين حضروا الرسالة ورأوا الآيات ثم جحدوا بها. بلى، لو أن شخصا حقق في القرآن الكريم اليوم وانتبه لحقيقة القرآن ثم جحد رسالة نبينا فهو مشمول بالآية طبعا ويجب أن يُقال له ما قاله الرسول الأمين لمن اتهمه بالكذب في الرسالة.

لست مرسلا: لو أن القائلين لم ينتبهوا لحقيقة القرآن فهم جاهلون وليسوا من الذين كفروا. ولكن الذين كفروا يعرفون القرآن ويجحدون الذي أنزل عليه فهم يُكذبون الله حين تكذيبهم للرسول. ولكن الآية لا تتحدث عن ذلك على غرار ما قاله سبحانه في سورة الأنعام مثلا: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (33). والموردان واحد أو متشابهان. لكن هذه الآية تريد من الرسول أن يجعل الله تعالى شهيدا ضد خصومه فليس محبذا أن تتحدث الآية بأن الله تعالى خصم في القضية أيضا. والآية تتضمن خصومة الله تعالى ولكنها لا تصرح. ذلك بأن تكذيب الرسالة يعني تكذيب أن الله تعالى أرسله في حين أن الله تعالى يُعلِّمه كيفية مواجهتهم فهو سبحانه خصم حقيقي إلا أنه غير مصرح به تثبيتا للموقف. فظاهر الآية تثبيت للخصومة التي أظهرها الذين كفروا للرسول نفسه. وبما أن الحديث عن نفي رسالة الرسول نفسه فما الفائدة المرجوة من شهادة بعض أتباعه على رسالته بالنسبة للذين كفروا؟ الذين كفروا هم من أهل الكتاب في الواقع وشهادة المسلمين غير مفيدة لهم وغير مقبولة عندهم. إنهم يقبلون ألوهية الرحمن ولكنهم يرفضون رسالة محمد فشهادة أي من أتباع محمد لا يمكن أن ترد ادعائهم واتهامهم. حتى الذين آمنوا من أهل الكتاب ليسوا مقبولين عند الذين شاركوهم في الدين من قبل. ولذلك أمره ربه سبحانه أن يقول لهم:

قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم: تمثل الحالة مظهرا من مظاهر الخصومة للرسول فهو يحتاج إلى ركن قوي خارج مجموعته ليرد على الذين يكذبونه ظلما وزورا. سيقول لهم الرسول بأنه لا يحاربهم ولا يصر على رسالته إليهم ولكنه يكتفي بأن يُشهد الله تعالى بينهم وبينه. لنتصور أن ملكا أرسل رسولا إلى أمة من شعبه فذهب الرسول ونقل لهم رسالة ملكهم فاستهزأوا به وإذا به يريهم بأن الملك واقف ورائهم وشاهد لإبلاغهم رسالته. فكيف يكون موقف المستهزئين الذين لم يكونوا ليعرفوا بأن الملك حاضر يراهم سواء حضورا عينيا أو يرون كاميرا الملك فوق رؤوسهم بعد أن نبههم الرسول. هناك ينهار المستهزئون أمام الرسول. هذا ما أراد الله تعالى أن يقوله لبني إسرائيل بأن الذي يدعي محمدٌ بأنه رسول من عنده هو الله تعالى وقد أتى محمد بكتاب عظيم من عند ربه ليكون شاهدا على رسالته. فليعلموا بأن الله هو الشهيد بينهم وبين المرسل إليهم. ولو يكن كاذبا فعليه كذبه. مثل هذا الكلام قاله مؤمن آل فرعون لقومه. قال سبحانه في سورة غافر: وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29).

وليعرف القارئ الكريم بأن كل ما سمعناه من الآيات والآثار العلمية الكبرى للأنبياء فهي ليست في حدود اليقين الفعلي بل هي في حدود الظن، فلو كانت في حدود اليقين الفعلي لما أمكن اختبارهم. قال تعالى في سورة يونس: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88). وقال في نفس السورة عن نبينا: فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97). ونلاحظ في الآية 94 بأن إنزال القرآن على قلب النبي نفسه لم يكن في حد الجزم بالحقيقة ولذلك كان المشركون يُدخلون الشك في قلبه الشريف فيبادر ربنا الرحيم بإرسال المزيد من الآيات عليه ليُخرج كل اضطراب من قلب الرسول وهذا هو معنى صلاة الله وملائكته على نبينا. كما أن معنى صلاة الله وملائكته علينا نحن أيضا هو لإخراج الاضطراب من قلوبنا وزرع أسباب الطمأنينة فيها مكان الشك.

فهو عليه السلام حينما يقول لهم بأنه يكتفي بأن الذي يراهم ويرى قلوبهم ويشهد بما يدور بينه وبينهم هو الله تعالى فإنه يؤكد لهم عدم حمله لأية أهداف شخصية يسعى للوصول إليها عن طريقهم. إنه نوع من التهديد المبطن والهادئ لصاحب الرسالة الكبرى وبأمر من الله تعالى.

ومن عنده علم الكتاب: الواو عاطفة ولكن ليس لعطف المرادف ولا لعطف العامل على العامل. إنه عطف شخص يحمل صفة مناسبة على شخص معلوم هو سيد الكائنات وسيد الوجود كله جل جلاله. العاطف والمعطوف يصدقان على الواحد الأحد نفسه ولكن بصفة مناسبة لما يدعيه رسول الله في كل منهما. فالشهيد الأول هو الله تعالى باعتبار نظام الألوهية الشامل الذي لا يترك شيئا ولا عملا دون أن يحيط به إحاطة كاملة ومن الأعماق. والشهيد الثاني هو الله تعالى أيضا ولكن باعتبار علمه بكل ما يدور في خلد الذين كفروا بكل دقة وإدراك. فما فائدة الإحاطة للرؤية بلا علم. بل هو إحاطة شاملة مصحوبة بالعلم في كل زوايا المحاط. ولذلك سعى سبحانه بأن يكون العاطف بعيدا عن بيان شخص معين فلم يقل والذي عنده علم الكتاب. هناك كان المقصود شخصا بعينه لما تعنيه كلمة “الذي”. لكنه سبحانه قال: مَن عنده، وهو مثل الذي عنده في الظاهر ولكنه لا يقصد شخصا معينا. هنالك يلبس التهديد لباسا جديدا ومخيفا غاية التخويف. إنه يذكر أهل الكتاب المؤمنين بيوم الحساب بأن الشهيد هو الذي يحيط بالملائكة الكاتبين وهو الذي يحمل كامل العلم ولكن الملائكة يحملون جزءا من العلم وليس كله. كمن يقول في مجلس الأمن مخاطبا كوريا الشمالية: “إن أمريكا لا تقف مكتوف الأيدي أمام تسليحاتكم الخفية والذي يحمل أعظم أسطول نووي في الأرض”. فهو يعطف الذي يحمل أعظم أسطول وهو أمريكا نفسه على أمريكا باعتبارين. الاعتبار الأول هيمنة أمريكا المالية والتجارية على دولة صغيرة والاعتبار الثاني قدرة أمريكا على تدمير كوريا بقوتها العسكرية. ويستعمل الناس ضمير الغائب غالبا للتخويف والتهديد. لكنهم يستعملون الضمير بشكل لا يصدق على غير المصداق الصريح الذي ذكروه من قبل.

وقد قال الله تعالى في سورة الأنعام بأنه يكفي رسوله حَكَما باعتبار إنزاله وتفصيله للكتاب جل جلاله: أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114).

ومن المضحك أن يقول الرسول لهم بأنه يكفيه شهادة الله تعالى بينه وبينهم ثم يضيف ويكتفي بشهادة ابن عمه المسلم علي بن أبي طالب!! أو يقول ثم يكتفي بشهادة اليهودي الذي أسلم عبد الله بن سلام!!

نعم لو كان الموضوع مرتبطا بالحرب ضدهم لقال ما يشابه ذلك ولكن بتعبير آخر كما قال الكتاب الكريم في سورة الأنفال: وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65). فنرى بأن الله تعالى في هذه السورة يريد أن يمد رسوله بنصر المجاهدين من أصحابه على الكافرين. فالله هو الموفِّق وهو المؤيِّد والمسلمون هم الذين يحاربون فعلا. فإذا حاربوا فإنهم سوف يحاربون بقوة تزيد قوتهم الشخصية عشر مرات بتقوية رب العالمين. فأراد الله تعالى في هذه الآيات أن يضيف نفسه على المحاربين وبقوة كبيرة جدا ليشجعهم على القتال.

وفي القرآن آية أخرى مشابهة للآية موضوع البحث من سورة الرعد وقد أخطأ كبار المفسرين رضي الله تعالى عنهم وعنا في تفسيرها أيضا وهي في سورة الحجر: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20). فالذي ليسوا له برازقين هو الله تعالى نفسه الذي جعل لهم فيها معايش. ونلاحظ بأنه يستعمل لفظ المتكلم مع الغير حين الحديث عن أصل منح المعايش للناس باعتبار أن الله تعالى يحرك الكثير من الممكنات لصناعة المعايش، وكلُّها بأفرادها من صنع القدوس نفسه جل جلاله. ولكنه حين قصد بيان تمايزه عن غيره استعمل لفظ الغائب بالوصف غير الشخصي بدون استعمال اسم الموصول “الذي” بل باستعمال “مَن” أيضا. وحتى لا يظن الكاتب بأني مخطئ في مسألة تقدس الله تعالى من الحاجة إلى الرزق، فإنه سبحانه يقول ذلك أكثر من مرة في القرآن حينما يذكر الرزق بأنواعه. مثال ذلك قوله تعالى في سورة الذاريات: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57). والرزق والإطعام هنا ليس الرزق والطعام المادي المعروف الذي لا يتناسب مع الخالق أبدا ولكنه أمر آخر لا مجال لبيانه هنا.

وهناك آية أخرى في سورة هود وهي تعطف المشار إليه على نفس المشار إليه هكذا: وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93). فمن هو كاذب هو نفس من يأتيه عذاب يخزيه. فهنا كلاهما مشار إليهما وكلاهما يشيران إلى نفس الأشخاص.

والخلاصة أن الآية لا يمكن أن تشير إلى غير الله تعالى شاهدا بل شهيدا بينه وبين من يرفض رسالته من صحابته الذين عاشوا في زمانه ومكانه. و عطف الله تعالى بالصفة عليه بالاسم ليفيد التهديد. والصفة المذكورة هي التي تدل على أن شهادة الله تعالى يكفيه باعتباره عليما بالحقائق ومنها القرآن نفسه، لكن الكتاب يشمل حقائق قلوب الذين كذبوه وهم يعلمون صدقه عليه السلام.

أخوكم

أحمد المُهري

3/12/2016

الأصل كتب في 15 سبتمبر 2010

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.