تصحيح اخطاءنا التراثية -10 – مبحث سورة المائدة
الفصل الخامس من بحث الآية الخامسة من سورة المائدة
في الفصل الماضي وضحت بأن الله تعالى لم يقل في الآية التي نسعى لفهمها من سورة المائدة بأن طعام أهل الكتاب حل للمؤمنين أو نكاح المحصنات من أهل الكتاب حل للمؤمنين بل قال تعالى بأن طعام الذين أوتوا الكتاب ونكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب ووضحت الفرق بين أهل الكتاب والذين أوتوا الكتاب. فلنقرأِ الآية مرة أخرى وهي من سورة النساء: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5).
وفي آخر الفصل الرابع تمنيت من سيادة الأستاذ الدكتور كمال شاهين حفظه الله تعالى أن يرفع التناقض والتضاد بين منع الله تعالى من أكل لحم الخنزير ومن أكل أي من النعم إن لم يُذكر اسم الله عليها وبين فهم سيادته للآية بجواز أن نأكل من موائد إخواننا المسيحيين الذين يأكلون لحوما من أنعام لم تُذبح ولم يُذكر اسم الله عليها إضافة إلى الخنازير المحرمة بالاسم في القرآن العظيم. فلا زلت بانتظار سيادته. وبما أن الوقت قد طال كثيرا فسوف أعتبر ما بينته حول طعام الذين أوتوا الكتاب بأن الذين أوتوا الكتاب هم اليهود والمسيحيون الذين أسلموا وليس الذين رفضوا قبول دعوة رسول الله عليه السلام. والسبب الأساسي في أننا لو لم نقل ذلك فنحن نعني بأن القرآن الكريم يناقض نفسه إذ يحرم الخنزير في الآية الثالثة من سورة المائدة ثم يحلل الخنزير في الآية الخامسة حسب فهم سيادة الأخ الدكتور كمال رعاه الله تعالى. معاذ الله.
وأما المقاطع الباقية من الآية:
والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم: بالطبع لا خلاف بأن الفعل هو: أحل لكم قبل المحصنات الأولى. فلنقرأ مقطع الآية الكريمة مظهرين الفعل المستتر ونسعى لفهم الفرق بينه وبين مقطع الطعام.
اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم.
واليوم أحل لكم المحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم.
دعنا نحلل الموضوعين أبسط تحليل فنبدأ بالأسئلة التي تتبادر إلى الذهن:
- هل الطيبات كانت محرمة على المخاطبين قبل ذلك اليوم؟ والمخاطبون هم المذكورون في الآيتين الأولى والثانية بقوله تعالى المكرر فيهما: يا أيها الذين آمنوا. هم المسلمون الأوائل أيام الرسول عليه السلام بالدرجة الأولى.
- هل الطيبات غير طعام الذين أوتوا الكتاب أم هي نفس الشيء؟ بمعنى أن الله تعالى الذي حرم لحم الخنزير على الذين آمنوا في الآية الثالثة، أحل لهم لحم الخنزير في الآية الخامسة باعتبار أن النصارى كانوا ولا زالوا يحللون أكل لحم الخنزير من قبل نزول القرآن.
- لو عممنا الآية اليوم فتعني بأن أيا من النعم الأربعة وهي الإبل والبقر والغنم والمعز محرمة علينا إذا أهلت لغير الله بها ولكنها محللة لو فعل ذلك أخونا المسيحي؟
- والمشكلة الأخرى هي أن السورة تبدأ بتحليل البهم من الأنعام وهي الحيوانات الثلاث المشتركة بيننا وبين اليهود وهي البقر والمعز والضأن. فهل حرم الله تعالى الإبل في هذه السورة الكريمة إكراما لليهود؟
يقول تعالى في الآية الكريمة الأولى: .. أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم. فلو كانت الآيات تشريعية فلماذا لم تذكر الإبل حينما ذكرت بهيمة الأنعام؟ ذلك لأن الجمل محلل في سورتي الأنعام و الحج وغير مشار إليه في سورة المائدة.
- هل اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بالقرآن الكريم يتقبلون أمرا قرآنيا ليأكلوا من ذبائحنا؟ فما معنى قوله تعالى: وطعامكم حل لهم؛ وما فائدة تشريع ذلك لقوم يرفضون القرآن؟
- ولماذا ذكر سبحانه بأن طعام الذين أوتوا الكتاب حل للذين آمنوا وهكذا العكس فطعام الذين آمنوا أيضا حل للذين أوتوا الكتاب؛ ولكنه بالنسبة للزواج لم يحلل زواج اللاتي آمنَّ مع الذين أوتوا الكتاب؟ فهل يفرق الله تعالى بين الذكر والأنثى وهل القرآن تشريع ذكوري أم تشريع عام لكل البشر دون تفريق؟
- لماذا اكتفى مقطع الطعام ببيان الذين أوتوا الكتاب ولكن مقطع الزواج أضاف “من قبلكم” فقال: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم؟
- هل هناك فرق بين المحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبل الذين آمنوا؟ لو كان هنالك فرق بينهما فإن آيات سورة النساء التي تفصل لنا ما حرم الله تعالى علينا من العلاقات الجنسية وتبين لنا ما أحلها الله لنا منها متعارضة مع الآية الخامسة من سورة المائدة وهو غير مقبول عند المسلمين الذين يؤمنون بسماوية القرآن العظيم.
أنتظر من أخينا الكريم سيادة الأستاذ الدكتور كمال شاهين الذي قام بتأسيس وإدارة مركز التطوير وفتح قلبه لنا جميعا أن يرد على الأسئلة الثمانية أعلاه قبل أن يقول بأن الله تعالى أحل الزواج من اليهود والنصارى لأنه لم يحرم الزواج منهم.
فاسمحوا لي بداية أن أذكر ما أحله الله تعالى لنا من العلاقات الجنسية وما حرمه علينا من سورة النساء ثم أبين الآيات التي فهمت منها بأن سورة المائدة جاءت للمنِّ والفضل علينا أكثر من التشريع.
أولا:
العلاقات الجنسية المحرمة:
قال تعالى في سورة النساء: وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (16). الآية الأولى تحرم السحاق بين النساء وتحكم بوجوب حبس اللاتي أتين بها أمام أربعة شهود حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله تعالى لهن سبيلا. والسبيل كما أظن هو أن يقدر الله تعالى لهن أزواجا من المؤمنين والعلم عنده.
والآية الثانية تحرم اللواط المعروف بين الذكور وتفرض على المؤمنين أن يؤذوهم حتى يتوبوا ويتركوا العلاقة الجنسية الفاسدة فإن تابوا والتوبة تتحقق بالاستغفار كما أحتمل، وأصلَحوا والإصلاح يعني ترك العادة القذرة والتوجه نحو الجنس المخالف فقط؛ هناك يتركون الإيذاء إليهم.
ثانيا: العلاقات الجنسية المحللة:
لم يبق للمسلمين إلا العلاقة بين الذكور والإناث جنسيا. ولننظر كيف يقنن القرآن الكريم تلك العلاقات. تبدأ الآيات بعد أن أفهمتنا المحرمات العامة من العلاقات الجنسية ببيان المحرمات من العلاقات بين الذكور والإناث فيقول عز من قائل في نفس سورة النساء: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (23). ثم تضيف المحصنات من النساء بأنهن محرمات أيضا وتستثني المملوكات باليمين ثم تبين الحلال هكذا: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24).
فالآية تعني بأن الله تعالى حرم علينا المحصنات من النساء واستثنى المملوكات لأن حكم المملوكات تأتي بعدها وأحلت لنا الإحصان بالمهر فريضة واجبة. ووضحت بأن المقصود من الإحصان هو عدم السفاح. هذا يعني بأن العلاقات بين الذكور والإناث محددة بالزواج وليست مباحة بلا زواج رسمي مقنن. ثم يحدد سبحانه بعدها المحصنات من النساء بأنهم من المؤمنات ولسن من غيرهن فيضيف عز من قائل: وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (25). فقوله تعالى: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات؛ يوضح تماما بأن المقصود مما قاله تعالى في الآية السابقة “وأحل لكم ما وراء ذلكم” هو المحصنات المؤمنات وليس غير المؤمنات. ثم توضح الآية الكريمة حكم المملوكات باليمين فتسمح بالزواج معهن بمهر يُدفع لهن حين العنت فقط. بمعنى أنه سبحانه لم يسمح بالزواج مع المملوكات باليمين وهن ما يسمونهم بالإماء إلا لمن ليس له زوجة ويخشى الوقوع في المعصية. لكن الفقه الذكوري الفاسد الذي أملاه الملوك والأثرياء سمح لهم بإقامة علاقات جنسية مع الإماء دون زواج ودون مهر أو أي التزام. إنه عين الزنى دون أدنى ريب.
والله تعالى قد وضح المؤمنين والمؤمنات في سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2).
ولعل من يقول بأن الذين آمنوا بموسى أو به وبالمسيح فهم أيضا مؤمنون. هم مؤمنون إيمانا ناقصا والإيمان قد يكون بغير ذلك أيضا. فالذي يتبع الشيطان مثلا فهو مؤمن بالشيطان ولكن المقصود من المؤمن في القرآن الإيمان الكامل لا الإيمان الناقص كالمسيحيين واليهود ولا الإيمان الفاسد كالإيمان بالشيطان. قال تعالى مباشرة بعد تلك الآية أعلاه من سورة الأنفال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4). فأعطى الله تعالى بيانا أكثر وضوحا في الآيتين الكريمتين بأن المؤمنين حقا هم الذين يقيمون الصلاة وينفقون، من الذين يخافون الله تعالى ويؤمنون بآياته كما وضحه في الآية الثانية أعلاه.
مشكلتنا مع إخواننا المسيحيين واليهود بأنهم لا يؤمنون بآيات الله تعالى المنزلة على نبينا كما لا يؤمنون بنبينا. وعدم الإيمان بآيات الله تعالى في القرآن يخرجهم من حيز الإيمان بالله. مثالهم مثال المواطن الذي يؤمن بالوطن ولا يؤمن بدستور الوطن ولا يلتزم بقوانينه ولا يدافع عنه. تؤمن بالله تعالى ولا تلتزم بدستوره وقوانينه في كتابه المنزل فهو إيمان ناقص لا يمكن الاتكال عليه ولا التعامل معه إلا قليلا. ومشكلتنا الكبرى مع المسيحيين الذين يظنون بأن الله تعالى أبونا وأبو المسيح. هذا ما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا. فكيف يتم التزاوج بينهم وبيننا وبالتزاوج تصل الولاية بين الشخصين إلى درجات التعاون والتعاضد والدفاع فلا يجوز ذلك مع من لا يدين بديننا. أنا لا أملك مفاتيح الجنة والنار ولن أقول بأنهم من أهل النار فلا أعرف كيف يتعامل الله تعالى مع عباده؛ لكنني أتحدث عن الاستحقاقات على أساس القرآن فقط.
هذه الاستحقاقات موضحة في القرآن لنلتزم بها وليس لنحكم بها على غيرنا. لكننا نقنن ولاءنا لبعضنا البعض على أساس الاستحقاقات القرآنية. فالذي يدعو لله ولدا يستحق النار وأكرر لا أعني بأنه يدخل النار فعلا، ولكن ما أريد بيانه هو أنني لا يحق لي أن أتخذ ممن يستحق النار زوجا كمسلم أو مسلمة. الزوجية تعني المشاركة الفعلية في المعتقدات والأفكار ولا تعني المشاركة في التبادل الجنسي بين البدن والبدن كما يظن الكثيرون. قال تعالى في سورة الروم:وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21). والسكون معناه توقف الاضطراب والحركة. فسكون الزوجين لبعضهما البعض هو الراحة النفسية فكيف ترتاح نفس مسلم أو مسلمة مع غير مسلم وغير مسلمة؟ اللهم إلا إذا كانا غير ملتزمين بالدين؛ هناك فإن التشريع السماوي يفقد مصداقيته بينهما. نحن نتحدث عن الملتزمين بالدين فحسب. وقد وضح سبحانه في سورة التوبة بأنه سيرحم المؤمنين ولم يقل بأنه سيرحم غير المؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72). هاتان الآيتان لا تصدقان إلا على المسلمين الملتزمين بالتشريع. وأما المسلمون غير الملتزمين بالتشريعات السماوية فلهم شأنهم مع ربهم يوم القيامة ولكننا في الدنيا نحبهم ونحترمهم ونبر إليهم ونقسط معهم ونسعى لأن يهتدوا بهدى الله تعالى. لا معنى لإلزامهم بالتشريع فالدين ليس جبرا بل هو خيار لمن شاء وأراد كيفما شاء وأراد. نحن نتحدث عن حكم القرآن لمن يريد العمل به فحسب.
نحن كمسلمين بالله ومؤمنين بالقرآن نحتاج إلى إذن صريح من الله تعالى لنتزوج والله أذن بأن نتزوج ممن هم منا فقط. قال تعالى في سورة النور: وَأَنكِحُوا الأيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (34). فلا يوجد سماح لنتزوج من غير المسلمين في القرآن الكريم. ذلك لأن غير المسلمين ليسوا منا ولكنهم أحبابنا وأصدقاؤنا نبر إليهم ونقسط ونعدل دون أن نتزاوج معهم.
وقال تعالى في نهاية الأنفال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75).
وفي هذه الآيات الكريمة يسمح الله تعالى بالتولي بين الذين آمنوا وهاجروا كما أنه سبحانه منعهم من تولي الذين امتنعوا عن الهجرة بما فيه مساعدتهم في ساحات الوغى فيما عدا إذا طلبوا النصرة من المسلمين ضد غير المسلمين الذين يحاربونهم من أجل الدين. هناك فقط يجوز نصرهم. كل ذلك يعني بأن الدين الحق هو المقدمة لكل أنواع الولاية والتداخل بين بعضهم البعض. هذا يعني بأن المسلمين الذين استنكفوا عن الهجرة بعد أن أمر الله تعالى بها فهم ليسوا أولياء للمؤمنين. والزواج لن يتحقق بدون الولاية بينهما فهو من أوثق الروابط بين الإنسان والإنسان. والله تعالى اعتبر الميثاق الغليظ في القرآن بينه وبين عبيده وبين الزوج والزوجة ولم يسم بقية الروابط بالغليظة في القرآن الكريم. وردت الميثاق الغليظ 3 مرات فقط في كتاب الله وهن:
- في سورة الأحزاب: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (7). ميثاق الله تعالى مع أنبيائه.
- وفي سورة النساء: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (154). ميثاق الله تعالى مع بني إسرائيل قبل تنزيل التوراة عليهم.
- وأخيرا الميثاق بين الأزواج في سورة النساء أيضا: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (21).
فكيف نتصور الميثاق الغليظ المشابه لميثاق الله تعالى مع أنبيائه أو ميثاقه لإنزال التوراة بين شخصين مسلم وغير مسلم؟ والميثاق يعني العهد الموثق بعقد محكم أو تحت الضغوط العامة أو السماوية مثل العهود التي يبرمها الناس بعد الحروب الدامية أو عهد الله تعالى لبني إسرائيل بعد أن أراهم الموت المحتوم برفع الجبل فوقهم كأنه ظلة.
على هذه الأسس القرآنية نريد أن نعرف الفرق بين مقولة القرآن حول ما منَّ الله تعالى به الذين آمنوا من تحليل الطعام وما منَّ عليهم حول تحليل الزواج. وسأذكر الإشكال مرة أخرى لنحللها معا:
اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم.
واليوم أحل لكم المحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم.
الذين أوتوا الكتاب ليسوا عامة أهل الكتاب بل هم الذين تعلموا معاني التوراة والإنجيل أو التوراة فقط. إنهم يعلمون بأن الإبل محرم في النسخ غير الدقيقة الموجودة في أيديهم من التوراة والإنجيل ولكنهم بعد نزول القرآن استيقنوا ببطلان ما وضحه التوراة المحرفة من أن الذي لا يشق ظلفا وهو الإبل محرم. حيث قال تعالى في سورة آل عمران: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94). فمسألة حلية الطعام بيننا وبين اليهود والنصارى ليست خلافية في الواقع ولكن بني إسرائيل حرموا لحم الجمل فقط وأتوا بعلامة فارقة بينها وبين الأنعام الثلاثة المعروفة بالبهم في القرآن. فقال سبحانه لهم بأن ما فعلوه ليس في التوراة الأصلية ولكنهم حرموا على أنفسهم الإبل لأن أباهم يعقوب كان يكره لحم الجمل فحرمه على نفسه. إنه تراث شخصي وليس تشريعا توراتيا. ولذلك اكتفى سبحانه بقوله: اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم. فهو ليس تشريعا بل بيانا لخطأ متعمد عند اليهود السابقين وقد سار اللاحقون على أساسه ثم وضحه الله تعالى لهم فتجلت الحقيقة.
فالمسألة لا ترتبط بالتوراة الأصلية بل بالتوراة المحرفة ولذلك لم يعقب سبحانه الذين أوتوا الكتاب من قبلكم لأنهم كانوا يعرفون ويتعمدون بيان تحريم الإبل ولكن المتأخرين لم يعلموا ذلك فتم التوضيح لهم.
لكن مسألة الزواج مع الكتابيين فإن الحكم لم يتغير بل الزواج كان مباحا بين أتباع التوراة ثم جاء الإنجيل فأباح الله تعالى لأهل الإنجيل أن يتزوجوا من أهل الإنجيل ثم جاء القرآن فأباح الله تعالى أن يتزوج أهل القرآن من أهل القرآن فقط. ولذلك قال سبحانه بأن في ذلك اليوم وبعد أن أسلم الذين أوتوا الكتاب من قبل القرآن صار الزواج مباحا لهم مع الذين هم لم يكونوا من دينهم. فالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلهم كانت محرمة عليهم قبل أن يسلموا ثم صارت حلالا لأن الجميع أسلموا فالإسلام أزال الفوارق بينهم ولذلك قلت بأن الآية ليست تشريعية بل بيانا لمنن الله تعالى على الذين عاشوا مع بعض غير مختلطين فاختلطوا بفضل الإسلام. ولذلك كان ضروريا أن يوضح سبحانه بأن التحريم كان حقيقيا لأنهم كانوا مؤمنين بالكتب السماوية وهؤلاء كانوا مشركين من قبل.
أتمنى أن يرد أخي الفاضل سيادة الأستاذ الدكتور كمال شاهين على الأسئلة الثمانية أعلاه ثم يكرر مقولته بأن الله تعالى لم يحرم الزواج من المسيحيين واليهود في القرآن ولا جدوى ودليل في مقولات إخواننا الأعزاء بل الجدوى في البرهان من القرآن.
لكم كل الحب والود
أحمد المُهري
17/11/2016
#تطويرالفقهالاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence