تصحيح اخطاءنا – ح 3 – آيات الشيعة او آية التطهير !
تصحيح أخطائنا التراثية
آيات الشيعة وغالبيتها متفق عليها بين الشيعة والسنة:
ثانيا: آية سورة الأحزاب المعروفة بآية التطهير:
قال تعالى في سورة الأحزاب: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34). تقع هذه الآيات الثلاث ضمن مجموعة أخرى من الآيات وكلها خطاب لزوجات النبي. ونحن نكتفي بداية بثلاث آيات لنلاحظ السياق. يقول الإخوة التراثيون بأن المقطع المعروف بينهم خطاب للمذكر فهو لا يمكن أن يكون لنساء النبي وهن إناث.
لو كان الأمر كذلك فإن في القرآن سورة أخرى هي سورة هود وقد ذكر الله تعالى فيها كلمة أهل البيت وخاطب فيها المذكر والآية وما قبلها خطاب مؤنث تخاطب زوجة إبراهيم وهي هذه: وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73). والمفسرون جميعا يفسرون أهل البيت هناك بإبراهيم وزوجته وليس أولاد إبراهيم. فلماذا يفسر بعضهم سورة الأحزاب بأولاد النبي؟ ولم يُذكر أهل البيت في غير هاتين الآيتين من سورتي هود والأحزاب.
والآن دعنا نحلل الآية لنرى إمكانية تفسيرها بما يحلو للإخوة قبل كل شيء. تخاطب الآية نساء النبي وتدعوهن أن يقررن -ونحن اليوم في محادثاتنا نكتفي بكلمة يستقررن ولا نناقش لفظة قرن إلا إذا طلب مني- في بيوتهن ولا يتبرجن تبرج الفتيات الشابات في بدايات العمر وهو احتمالا ما هو معروف بيننا بسن المراهقة من 13 – 19 سنة. والذين ظنوا بأن الجاهلية الأولى تعني عصر الجاهلية فما هو الفرق بين الجاهلية الأولى وغيرها. قال بعضهم بأن الجاهلية الأولى تشير إلى جاهلية ما قبل الإسلام وعين آخرون أزمنة لها مثل أيام نوح أو سليمان وغيرها. لم يشفعوا مقولاتهم بدلائل ملموسة صحيحة مع الأسف. ولذلك علينا بأن ننظر إلى ظاهر الآية فكل فتاة لها جاهلية أولى في حياتها حيث تتبرج وتتبهرج وخاصة لو أرادت البحث عن شريك العمر. فالله تعالى منع نساء النبي من تلك التبرج باعتبار أنهن قد تزوجن وانتهى.
يأمرهن سبحانه بأن يقمن الصلاة وهي تعني بأن يخرجن إلى المساجد، ويؤتين الزكاة وتعني بألا يتركن ال
سواد من الأمة للتمييز بين المحتاج وغيره فيؤتين الزكاة لمن يستحقها. وهذا معنى الإيتاء. فنعرف بأن المقصود من عدم التبرج هو كيفية ظهورهن في المجتمع ظهورا محتشما لا يمنعهن من ممارسة العبادة العامة ولا من ممارسة الأعمال الاجتماعية. كما نعرف بأن الاستقرار في بيوتهن لا تعني عدم الخروج بل تحدد الخروج من البيت بما يتلاءم مع أمهات المؤمنين، فلا يبيح لهن الأعمال التجارية ولا الخدمات المهنية ولا حضور أو إحياء الحفلات وما شابه ذلك. ثم يأمرهن بأن يطعن الله تعالى ورسوله. وهي تعني العمل بالقرآن كما توضحها الآية التي تليها، واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة. بالطبع فإن الله تعالى لا يأمرهن بأن يطعن زوجهن باعتبار الزوجية فهو أمر مرفوض عند الله تعالى بعكس ما هو مشهور بيننا بأن على المرأة أن تطيع الرجل. لكنه سبحانه يأمرهن أن تطعن رسول الله باعتبار رسالته فتكون طاعته طاعة لله تعالى. ولذلك فسرتها باتباع القرآن. كل الأوامر عامة لكل المسلمات عدا مسألة واحدة في بداية الآية وهي أن تبقين في البيوت ولا تخرجن إلا عند الضرورة للصلاة وللأعمال الخيرية.
وبما أن الله تعالى لا يمكن أن يحرم بعض عبيده مما أباحه لهم، ولكن مصلحة اقتضت أن يسور البيت النبوي بحصار خاص، فإنه سبحانه يوضح السبب في هذا الحكم الخاص. ولذلك يقول عز من قائل:
إنما، وهي تعني هذا وليس غير هذا باعتبار أن “إنَّ” للتأكيد و “ما” للنفي، فهي تفيد الحصر في السبب الذي يذكره.
يريد الله، وهي تعني بأن هناك إرادة إلهية خاصة لتشريع هذا الأمر. إن الإرادة دون المشيئة التي تمثل القوانين الأساسية التي لا يمكن الحياد عنها ولا يمكن تغييرها باعتبار أن المشيئة تمثل أساسيات الألوهية. لكن هذا الموضوع بسيط مؤقت لا تدخل ضمن نظام المشيئة الصارم.
ليُذهب عنكم، تعني أن هناك شيئا ضارا موجودا أو مُحتملا يجب إزالته. فنعرف بأن السبب في ذكر الإرادة دون المشيئة هو فعلا مسألة جزئية مؤقتة قد تُرفع في المستقبل. ولا يمكن استعمال كلمة الإذهاب التي تعني الإزالة إلا لشيء موجود فعلا. ولذلك فلا يمكن أن نقول بأن المقطع من الآية تتحدث عن أمر تكويني. التكوين معناه الخلق والإيجاد وهو يتعلق بشيء غير موجود؛ وأما الشيء الموجود فلا يتعلق به التكوين بل هو تغيير وتبديل في الموجود. بالطبع أن كل إرادة غير تشريعية نسميها التكوينية ولكن ليست كلها متعلقة بالتكوينيات عمليا بل نستعمل التكوين باعتبار عدم وجود شق ثالث متعارف بين واضعي المصطلحات الكلامية أو الفلسفية. لست من رواد الفلسفة ولا من المهتمين بها كثيرا وإلا وضعت كلمة أخرى تفيد الإرادة شبه التكوينية. المهم أن نعرف بأن الإذهاب من باب الإفعال وهو يعدي الفعل اللازم إلى المفعول. ففعل ذهب لازم يقوم به شخص هو فاعل الذهاب ولكن الإذهاب لا يتحقق إلا مع المفعول. والمفعول هنا صفة موجودة لا تليق بالبيت النبوي ويريد الله تعالى بهذا الحكم التشريعي إزالته. فعلينا أن نبحث أولا عن هذا الشيء الموجود المراد إزالته من البيت.
ومما يؤكد وجود شيء فعلي هو كلمة “عنكم” وهي تعني بأن الشيء الموجود لاصق بالموجودين في البيت الفعلي وليس شيئا سوف يحصل مستقبلا. ونعرف بأن الشيء الموجود ليس صفة طبيعية أو جينية يتعذر على البشر إزالتها بل هي صفة أو نعت مؤقت يمكن للبشر أن يزيلها. ولذلك سبق السببَ ذكرُ ما يقوم به بعض أعضاء البيت الشريف لإزالة ذلك الشيء. وبما أن الخطاب للنساء ولكنه سبحانه استعمل صيغة المذكر عرفنا بأن تلك الصفة المكروهة عند الله تعالى تؤثر فيهن وفي رجال البيت أيضا ولا رجل غير الرسول نفسه. فنعرف بأن كل العملية التي تدخل فيها الله تعالى نفسه تؤثر في سمعة إنسان مهم جدا للدين الذي جاء ليبقى ولا نبي بعد ذلك الشخص. والله تعالى الذي يراعي الاختصار في وحيه العظيم فإنه يكتفي بالضمير عند عدم الحاجة. والضمير المذكر للجمع لا ينطبق إلا على النبي الواحد وكل زوجاته فعلا. إنهم جمع إناث ينطوون على ذكر واحد والعرب تستعمل لهم خطاب المذكر دون المؤنث. فلنفكر في ذلك المراد إزالته. لقد عبر القرآن به بالكلمة التالية:
الرجس، و بها يتبين المكروه المراد إزالته إلهيا. وقد عرَّفها الراغب بالشيء القذر وكذلك صاحب الصحاح ولسان العرب، ولكن ابن فارس صاحب مقاييس اللغة يعتقد بأنها تعني الأمر المختلط. أما صاحب القاموس والعباب الزاخر فهما لم يبدءا بالشيء القذر بل بدءا بمعنى الرعد فكانا قريبين من ابن فارس. وحينما نراجع كتاب الله تعالى ونلاحظ موارد استعمال كلمة الرجس نشعر بأن ابن فارس أكثر واقعية في هذه الجزئية من الراغب وزملائه. فاختلاط الأمر يعم التهمة أيضا. والذي حصل للبيت النبوي هو أن تهمة كانت في سبيلها لمس شرف البيت العظيم. ولذلك أمرهن الله تعالى بألا يخضعن في القول. فكأن أمهاتنا الفاضلات كن تجاملن الصحابة باعتبارهن أزواج القيادة الدينية المختارة من الله تعالى، فيطمع الذي في قلبه مرض. لم يقل الله تعالى بأنهن كن متساهلات مع شرفهن ولكن طريقة المجاملة التقليدية كانت لا تلائم بعض ضعاف النفوس من الصحابة. فالرجس بهذا المعنى كان في الساحة ولو داخل نفوس قليلي الإيمان.
هذا الرجس يؤثر في شرف الرسول وزوجاته معا تبعا للطبيعة القبلية التي حكمت القبائل العربية آنذاك ولا زالت إلى اليوم في الواقع. حتى غير العرب يتأثرون بمثل هذه التهم ولو بدرجة أقل من بلادنا. ولقد سمى الله تعالى الخمر والميسر والأزلام والأنصاب رجسا باعتبار اختلاط الفوائد فيها مع المضار وكذلك لحم الخنزير باعتبار مضاره الصحية الكبيرة ولكن الشيطان علَّم الناس وأفهمهم ظاهر الطعم الطيب المشابه للحوم الأخرى فيه فاختلط عليهم الأمر فعلا. ووظف سبحانه اسم الرجس لبيان الضلال وكذلك أمراض المنافقين النفسية وخاصة حينما تختلط بالضلال الذي تسببه لهم سور القتال. وآخر مورد من موارد الرجس هو اختلاط حلية الذبائح المحللة أصلا بحرمة التسمية باسم الأوثان. فالرجس معناها اختلاط الأمر وليس القذارة كما قالوا والعلم عند الله تعالى. ولو أردنا المزيد من التعمق في الكلمة لوصلنا بأن الرجس في حقيقتها تعني البقاء على ما اعتاد عليه وورثه المرء من سلفه وهو ما يعارض التطور الفكري الذي يدعو إليه الله تعالى ويسنده برحمته وكرمه الربوبي. ولكن لا مكان في هذا المختصر للتوسع في شرح الكلمة وهي معروفة لدى تلاميذ القرآن في جلساتنا الأسبوعية. وباختصار فالرجس تعني توقف الحركة التطورية ولا تعني القذارة.
أهل البيت، الأهل كلمة تأتي مضافا إلى شيء آخر كالبيت والدين والشرف والتجارة والبلد والمقصود بالأهل مجموعة و أحيانا فرد يجتمع مع المضاف إليه. فأهل البيت هم الذين يسكنون في ذلك البيت وأهل الإسلام هم الذين يعتنقون الإسلام وأهل الحدادة هم المشغولون بأعمال الحدادة وهكذا. فالمعنى المستعمل في القرآن لأهل البيت في سورة هود هو الذين يجتمعون في ذلك البيت وهم في سورة هود، هم إبراهيم وزوجته ولا خلاف في ذلك. لكن المفسرين وتبعا لتفسير بني العباس بأن أهل البيت في سورة الأحزاب يعني الذين يشتركون مع النبي محمد في أسرته. إنهم لم يذكروا دليلا مقنعا للفصل بين معنى الكلامين المتشابهين في سورة هود والآحزاب. وحتى يتحقق هذا المعنى الشاذ علينا أن نسعى لتوظيف البيت في معنى الأسرة ولو فعلنا ذلك فإن أصل الأسرة ومكونها الأساسي هو الزوجان. فهناك أيضا لا نصل إلى النتيجة المطلوبة بل لا يتغير المعنى مع سورة هود فأسرة النبي في الدرجة الأولى هم زوجاته وإياه يكونون أسرة واحدة بغض النظر عن مسكنهم في البيت الفيزيائي المتعارف. هناك طريق ثالث وهو أن نفسر الأهل بالأولاد ونفسر البيت بالأب الكبير. ولو فعلنا ذلك جدلا فإننا نواجه مشكلة كبيرة أخرى وهي أن مقطع “أهلَ البيت” منادىً محذوف علامة النداء ولكنه مضمر لأن البيت جاءت منصوبة بتلك العلامة وتقديرها يا أهل البيت. والمنادى لا يمكن أن يكون غائبا وإلا لا يتحقق النداء. وحينما يقول ربُّنا: يا أيها الناس، فيجب أن نتصور أناسا موجودين يناديهم الله تعالى ثم نعمم النداء على بقية الناس باعتبار أن نوع الكلام يصدق على جميع الناس وأنه سبحانه خاطبهم باعتبارهم مقدمة لبقية الناس فجعلهم نموذجا لهم. فمثلا لا يمكن أن نتصور بأن ينادي الله تعالى الناس قبل خلقه لآدم.
يقولون بأن الخطاب مذكر والمقصود به أشخاصا آخرين غير زوجاته التي بدأ بهن الآيات ونفس هذه الآية وحتى الآيات التالية لها. فيقولون بأن المقصود هم النبي وعلي وفاطمة والحسنان باعتبار حديث الكساء. وحديث الكساء من أكثر الأحاديث افتراء ولا يشتمل على مقطع صحيح ومقبول عقلا. هو حديث أسطوري يرفع البشر إلى مستوى الألوهية وينزل من شأن الجبار العظيم وليس لهم دليل عليه غير النقل ولا عبرة بالنقل للمسلمين في الواقع. بل العبرة بالعقل والقرآن الذي يوافق العقل تماما. ولننظر إلى ما يقوله العلامة الطباطبائي من استدلالات لإثبات مدعاه بأنهم الخمسة لا غيرهم وبأن الزوجات خرجن من الآية بعد أن كن فيها.
قال العلامة في الميزان في تفسيره لنفس المقطع من الآية والذي سماه آية التطهير وهو ليس آية كاملة:
“قلنا: إنما الشأن كل الشأن في اتصال الآية بما قبلها من الآيات فهذه الأحاديث على كثرتها البالغة ناصة في نزول الآية وحدها، و لم يرد حتى في رواية واحدة نزول هذه الآية في ضمن آيات نساء النبي و لا ذكره أحد حتى القائل باختصاص الآية بأزواج النبي كما ينسب إلى عكرمة و عروة، فالآية لم تكن بحسب النزول جزءا من آيات نساء النبي و لا متصلة بها و إنما وضعت بينها إما بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عند التأليف بعد الرحلة، و يؤيده أن آية “و قرن في بيوتكن” على انسجامها و اتصالها لو قدر ارتفاع آية التطهير من بين جملها، فموقع آية التطهير من آية “و قرن في بيوتكن” كموقع آية “اليوم يئس الذين كفروا” من آية محرمات الأكل من سورة المائدة، و قد تقدم الكلام في ذلك في الجزء الخامس من الكتاب.
و بالبناء على ما تقدم تصير لفظة أهل البيت اسما خاصا – في عرف القرآن – بهؤلاء الخمسة و هم النبي و علي و فاطمة و الحسنان (عليهم السلام) لا يطلق على غيرهم، و لو كان من أقربائه الأقربين و إن صح بحسب العرف العام إطلاقه عليهم.” انتهى كلام العلامة.
لننظر إلى ما وضعت خطا تحته من كلام العلامة الذي يستند فعلا إلى الحديث وحده لإثبات خمسته. إنه يناقض نفسه حينما يدعي ذلك، فهو الذي كتب في مقدمة الميزان: فأما المحدثون، فاقتصروا على التفسير بالرواية عن السلف من الصحابة و التابعين فساروا و جدوا في السير حيث ما يسير بهم المأثور و وقفوا فيما لم يؤثر فيه شيء و لم يظهر المعنى ظهورا لا يحتاج إلى البحث أخذا بقوله تعالى: “و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا” الآية: آل عمران – 7 و قد أخطئوا في ذلك فإن الله سبحانه لم يبطل حجة العقل في كتابه، و كيف يعقل ذلك و حجيته إنما تثبت به! و لم يجعل حجية في أقوال الصحابة و التابعين و أنظارهم على اختلافها الفاحش، و لم يدع إلى السفسطة بتسليم المتناقضات و المتنافيات من الأقوال، و لم يندب إلا إلى التدبر في آياته، فرفع به أي اختلاف يتراءى منها، و جعله هدى و نورا و تبيانا لكل شيء، فما بال النور يستنير بنور غيره؟! و ما شأن الهدى يهتدي بهداية سواه؟! و كيف يتبين ما هو تبيان كل شيء بشيء دون نفسه؟!. منقول من مقدمة تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي.
فالطباطبائي بنفسه جعل النور يستنير بنور غيره وجعل الهدى يهتدي بسواه وأثبت جدلا بأن القرآن الذي هو تبيان لكل شيء صار محتاجا إلى غيره ليبين نفسه!! كلام العلامة في تفسير الآية يعني بأن القرآن ليس تبيانا لكل شيء وأنه ناقص وأنه محتاج إلى المحدثين ليكملوه لنا. يواجه العلامة المحدثين في مقدمة تفسيره لإثبات أن القرآن تبيان لكل شيء دفاعا عن الآية القرآنية التي تذكر ذلك ثم يتَّبعهم ويؤكد لنا ضرورة اتباع الحديث لأن أحدا من المحدثين لم يقل غير ذلك! مصيبةٌ هذه أن نعتقد بأن كتابنا السماوي ناقص. والمصيبة الأكبر بأن يكون المكمل رسول الله نفسه ولماذا؟ لا ندري. هل نسي الله تعالى أن يذكرهم بالأسماء وهل نسي أن يجعل المقطع في مكان مناسب بدلا من أن يأتي بها في مجموعة آيات تخص نساء النبي؟ يقولون بأن النبي صونا للآية من التغيير وضعها في هذا المكان. هذا يعني بأن الله عجز عن حفظ القرآن فساعده النبي على صونه! لكن النبي عجز عن أن يصون أحاديثه أو يخلف كتابا من بعده اسمه أحاديث النبي محمد حتى لا يقع أتباعه في حيص بيص المحدثين الذين قد يكونوا مأجورين من قبل السلطات المستفيدة من الأحاديث. فاستدلالاتهم ليست قرآنية وإنما روائية والرواية غير موثوق بها من الأصل وقد منعنا الله تعالى أن نتبع أي شيء خارج القرآن. قال سبحانه في بداية سورة الأعراف:كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْوَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3). ولذلك دعني أقول بأن العلامة مخطئ ولا يمكن الاعتداد بكلامه المناقض لنفسه.
والأنكى مما ذك هو أن أهل البيت عندهم لا يقتصر على الخمسة بل يشمل كل ما يهوونه من أولادهم فيشمل أولاد الحسين حسب رغبة الزيدية أحيانا وحسب رغبة البهرة أحيانا وحسب أهواء الكيسانية أحيانا وحسب مزاج الاثني عشرية أحيانا أخرى. وأما رغبة الذين أنفقوا على هذا الحديث وهم بنو العباس فهم ليسوا أبناء النبي بل هم أولاد عمه وهم بنو العباس الذين حكموا. حقا، فإن هؤلاء قد تفرق بهم السبل. قال تعالى في سورة الأنعام: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَاسَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (159) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161).
هؤلاء ليسوا من رسول الله في أمرهم الأسطوري هذا. إنه هو عليه السلام من أتباع إبراهيم وإبراهيم ليس مشمولا بآية التطهير فانظر أنى يؤفكون. هذا مثل قولهم بأن محمدا والعياذ بالله سيد الخلق، وهو تابع لإبراهيم. فهل يكون التابع سيدا على المتبوع؟! فانظر كيف يحرفون كلام الله تعالى. وأتساءل لماذا نئن من أن غير المسلمين يحرقون قرآننا؟ إننا نحن المسلمون قد أحرقنا القرآن قبل مئات السنين بهذه الأحاديث المفتراة وقرأنا عليه الفاتحة ولكننا احتراما لربنا جعلناه كتاب أناشيد وأغاني نتنعم بموسيقاها الجميل وكفى، فليحيا المقرئون والمجودون وليسكت المفكرون والذين يسعون للتدبر في آيات ربهم!!
ليس لدي كمفسر زميل للعلامة المفسر، أن أدافع عنه وهو يقول: و بالبناء على ما تقدم تصير لفظة أهل البيت اسما خاصا – في عرف القرآن – بهؤلاء الخمسة و هم النبي و علي و فاطمة و الحسنان عليهم السلام لا يطلق على غيرهم،. كيف صار الحديث عرفا قرآنيا يا أيها العلامة؟ وكيف يخلو القرآن من عرفه ويحتاج إلى المحدث أن يعين العرف للقرآن الكريم، تبيان كل شيء؟!
ثم يضيف العلامة على ما سبق بيانا للرجس هكذا: و الرجس – بالكسر فالسكون – صفة من الرجاسة و هي القذارة، و القذارة هيئة في الشيء توجب التجنب و التنفر منها، و تكون بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير، قال تعالى: “أو لحم خنزير فإنه رجس”: الأنعام: 145، و بحسب باطنه – و هو الرجاسة و القذارة المعنوية – كالشرك و الكفر و أثر العمل السيئ، قال تعالى: “و أما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم و ماتوا و هم كافرون”: التوبة: 152، و قال: “و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون”: الأنعام: 152.
لنحلل كلام العلامة في بيان الرجس. لو كان الرجس يعني القذارة ومثاله الخنزير وهو خلق في حد ذاته فإن الله تعالى قد خلق الشيء القذر. هذا الكلام يتعارض مع قوله تعالى في سورة السجدة: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ (7). فكيف نسمي خلق الله تعالى قذرا قبل أن يتغير بسبب خارجي إلى قذارة مثلا؟ يتمثل العلامة هنا بالجاهلين الذين يظنون بأن حرمة لحم الخنزير هو بسبب نجاسته ويعتبرون ما نتعامل معه كنجاسة لنتجنب منها قذارة. هذا يعني أن دمنا قذر لأننا نطهر أيدينا منه لنتجنب آثاره المرضية. أنا أسمع هذا الكلام من أكثر رجال الدين والفقهاء ولا يهمني ولكني أعتبر العلامة عالما فكيف نسى رحمه الله تعالى حقائق الكلام. ليس الخنزير نجسا بمعنى القذارة وليس الرجس تعني القذارة في الواقع. ثم أعقب رحمه الله تعالى معنى آخر بإضافة الرجس إلى المعنويات وسماها الرجس المعنوي وقال بأن الرجس المعنوي مثل الكفر والشرك وآثار العمل السيئ. دعنا نحتمل كل احتمال من الثلاثة ونرى كيفية تطبيقها على البشر المكلفين. فدعنا نعتبر الرجس بمعني الكفر والشرك وبأن الله تعالى حرم الكفر والشرك على النبي والأربعة المزعومين معه. بالطبع أن الله تعالى لم يتحدث عن أحد من الأربعة الآخرين إطلاقا في القرآن. كلما يقولونه محض ادعاء. لم يتحدث القرآن عن أحد من أقارب النبي عدا زوجاته والذي تبناه النبي وهو زيد إضافة إلى عمه أبي لهب. و لا ننس أن سورة الكوثر تدل دلالة واضحة على أن للرسول ابنة واحدة وليس له أبناء كما زعموا ونعرف من خارج القرآن بأن فاطمة هي ابنته وجدانا فسورة الكوثر تشير إلى فاطمة. ليس ببالي أي قريب آخر من أقارب الرسول في القرآن سوى بصورة عامة كما أمره سبحانه بأن ينذر عشيرته الأقربين.
فلنقرأ الآيات التالية من سورة القصص وهناك الكثير من أمثالها ولكننا نكتفي بها: وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88). فلو أن محمدا مطهر تكوينيا من الشرك فلما ذا يقول له ربه: ولا تكونن من المشركين؟ إنه لا يمكن أن يشرك فكيف يمنعه ربه من عمل لا يمكنه الإتيان به؟ وهكذا الكفر فلو كان مطهرا من الكفر بصورة إلهية فكيف منعه ربه أن يكون ظهيرا للكافرين؟ أن يكون ظهيرا للكافرين مثل أن نقول لمن يلعن الشيطان ألا يسنده. فالذي هو نافر بطبيعته للكفر فهو لا يمكن أن يساعد الكافرين. وأما قول العلامة بأن الرجس يشمل آثار العمل السيئ. إنه رحمه الله تعالى لم يوضح مقصوده من آثار العمل السيئ. فهل يعني بأنه عليه السلام يعمل السيئات ولكن آثارها لا تصيبه؟ لو قال ذلك فهو يعارض نفسه. إن العلامة يعتقد بتجسم الأعمال وهذا يعني بأن الأعمال قابلة للتجسم فتعني بأن من طبيعة العمل أن تكون له آثار. فمعنى قوله أن يخالف الله تعالى نظام الطبيعة لأجل النبي فيأكل النبي السم مثلا ولكن آثار السم لا تظهر على بدنه أبدا. إن العلامة الطباطبائي من أكبر المؤيدين لنظام الطبيعة ويعتقد بأن معجزة موسى في تحويل العصا حية –حسب تفسيره- لا تعارض نظام الطبيعة بل تعني بأن الله تعالى أسرع في تحويل العصا حية لأن نظام الطبيعة لا يمكن مخالفته. أم يقول بأن الأعمال السيئة تستوجب منع رحمة الله عنه فهو معصوم منه.
لكن الله تعالى يقول غير ذلك. قال سبحانه في سورة الفتح: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2). ومعناها بأن للرسول معاصي تحول دون أن ينال فتح الرحمن ولكن الله تعالى بسبب آخر خارج عن نظام الألوهية وبصفة أخرى من صفاته فتح له بقصد توجيه نظام الألوهية ليغفر للنبي ذنوبه السابقة والمتأخرة. فلو كان النبي معصوما من آثار الأعمال السيئة لمنحه الله تعالى الفتح بصورة أتوماتيكية دون الحاجة للتدخل الخاص من سيد الكائنات جل جلاله لتوجيه نظام الألوهية.
أما إذا فرضنا بأن العلامة يقصد بأن النبي لا يمكن أن يأتي بعمل سيئ فلنستفت من القرآن. قال تعالى في سورة الأنعام: قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (14) قُلْ إِنِّيَ أَخَافاُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16). فكيف يقول الرسول بأنه يخاف إن عصى ربه وهو محفوظ ومعصوم من العمل السيئ وهو أعم من المعصية؟ هذا مثل أن أقول أنا بأني أخاف إن طرت في السماء أن أصطدم بالطائرات. سوف يضحك علي الجميع لأني عاجز عن أن أطير فلا معنى لكلامي. بالله عليكم، ألا يريد الله تعالى أن يقول لنا بأن الرسول مثلكم يمكن أن يعصيني ولذلك قلت له بأن يقول لكم بأنه هو أيضا يخاف إن عصاني عذاب يوم عظيم، فلا فرق عندي بينكم وبينه؟ اللهم إلا أن نقول بأن الرسول والعياذ بالله لم يثق في ربه الذي عصمه من المعصية فيقول بأنه لا زال يخاف منها، بل يأمره ربه الذي عصمه بأن يقول ذلك. تناقضات أشبه بالشرباكة التي لا يمكن التخلص منها أو العقد التي لا تنفك أبدا.
ثم ما معنى العصمة من المعاصي. تلك هي مصيبة أخرى. لم يرد في القرآن الكريم أية إشارة بأن النبي نفسه معصوم من الخطأ. نعم وردت كلمة العصمة بالنسبة للرسول مرة واحدة في سورة المائدة وهو أن الله سبحانه وتعالى يعصمه من الناس وليس من نفسه وذلك في قضية واحدة وبلاغ معلوم لأهل الكتاب وسوف نشرحها مع قصة إكمال الدين كما نزعم نحن الشيعة. فهو ادعاء باطل غير وارد في القرآن وعليهم البينة. ولكني تسامحا معهم أفند الموضوع قرآنيا بإذن الله تعالى وباختصار هنا. قال تعالى في سورة الفرقان: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إلاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20). والفتنة بين الرسل وأقوامهم وليس بين الرسل والرسل. ذلك لأن الله تعالى يخاطب نبينا به وليس هناك نبي ولا رسول معه ليفتنهما ببعضهما البعض. فكيف يكون الصحابة فتنة للرسول نفسه؟ إن الرسول فتنة لهم هو بأن الله ينظر إلى تعاملهم مع رسول الله فمن صلح كان متجاوبا مع رسول الله ومن شقي بعكس ذلك. لكن الصحابة لا يمكن أن يكونوا فتنة للرسول إلا إذا كان الرسول أيضا في معرض الاختبار. فكيف يصح الاختبار لو كان الرسول معصوما من المعاصي؟
ألا ترون بأن الله تعالى يعد رسوله بالجنات بدون أن يجزم. قال تعالى في سورة الفرقان نفسها: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَّسْحُورًا (8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا (10). والله تعالى في هذه الآيات الكريمة يرد على الإشكالات الثلاثة وهن عدم وجود ملك منذر مع الرسول وعدم تملكه لكنز إلهي ملقى إليه وكذلك عدم تمييز الله تعالى إياه بجنة يأكل منها. فإن شاء ربه جعل له جنات يوم القيامة وهي تعني بأنه مكلف مثلهم فلو سمحت له نفسيته يوم الحساب فسوف يُكافأ بالجنة. ولذلك لا يمكن أن يُنزَّل عليه ملك. قال تعالى في سورة الأنعام: وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8). فلو أنزل الله تعالى ملكا لقامت القيامة، فهم ونبيهم سواسية وليس هناك ملك منزل من الله تعالى لا على النبي محمد ولا على أحد من أهله. إن الإخوة الفقهاء من كل الطوائف الإسلامية ومع بالغ الأسف لا يفقهون القرآن ولهم مجموعة من الأجوبة الخاطئة لكل إشكال يلقى إليهم ولطالما كان المستشكل قليل علم مثلهم. أنا أدري بأنهم سيقولون الكثير في الجواب على إشكالي هذا ولا يسع المجال في هذا المختصر للرد على كل الاحتمالات ولكني بنعمة ربي على استعداد للرد على كل إشكال منطقي بدون الخروج من حيز القرآن نفسه.
وللعلم أقول لهم لم ينزل أي ملك على نبينا ولم ير الرسول جبريل ولا غيره. كلما هو في الأمر أن الروح القدس جبريل كان ينزل القرآن على قلبه الشريف. قال تعالى في سورة الشعراء: (191) وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ (196). ولذلك كان المشركون ينجحون أحيانا في إدخال الشك في قلبه فيرسل الله تعالى فورا آية ليخرج من قلبه الشكوك. ولقد حصل ذلك مرارا كما نعرفه من الكتاب العزيز ونكتفي بذكر واحدة منها. قال تعالى في سورة الأنعام: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116). وانظروا ممعنين في الآية الأخيرة لتعلموا بأن الرسول معرض للضلال من قبل البشر الذين هم أكثر منه علما وقدرة على الإقناع وهم موجودون فعلا ويتعاونون مع الجن أيضا فهم فاسقون ولكن علماء. هذا يعني بأن نبينا ليس أعلم الناس وليس معصوما من الضلال ولا من الخطإ وبأنه يتعرض لوساوس الشياطين وبأن الشك يدخل في قلبه حتى بالنسبة للقرآن الذي أتى به ليهدي به غيره. وهناك الكثير من هذه الآيات في الكتاب السماوي العظيم الذي بين يديكم فلا تكتفوا بالتغني به بل فكروا فيه لتتدبروا آياته واقبلوه من كل قلوبكم لعلكم تفوزوا يوم القيامة وتنجوا من النار. إنني أنصح نفسي يوميا ولذلك سمحت لنفسي أن أقدم لكم أيضا نصحي الخالص باعتبار أن أحب لكم ما أحبه لنفسي وليس من باب التكبر عليكم فلست بخيركم ولست بأعلم منكم ولا أذكى وليست لي أي امتياز عليكم فلا تلوموني. لا تكتفوا بالاستماع إلى الغير ولا تهتموا بالمظاهر والألقاب فكل ذلك لا يفيدنا يوم القيامة. لا يمكن الاتكال على بشر ولا تزر وازرة وزر أخرى وكل من يعدكم بذلك فهو إما جاهل أو مفتر على الله تعالى.
ليطمئن كل المؤمنين بالله تعالى بأن ربنا عادل لا يمكن أن يميز أحدا على أحد إلا بما يفعله هو بنفسه. إن أخينا الكبير محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام بشر مثلنا وقد تعرض للاختبار ولو لم يكن ذلك لما استحق جنات النعيم. ألم تعلموا بأن الجنة دار جزاء وليس دار منح ومكرمات بلا استحقاق. ليس الله تعالى ملكا بشريا يكرم أبناءه وشعبه بل هو سيد كل الكائنات فأنى لنا أن نتصور المحسوبيات في ساحته القدسية جل جلاله؟ إن جمال النبي الكبير أن يكون بشرا مثلنا وأن يكون له ما لنا وعليه ما علينا. ذلك لأن ربه حميد جميل في أفعاله ولا يمكن أن يتخذ من البشر من هو فوق البشر. ذلك عيب لا يليق بالقدوس جل جلاله ولا يليق بالنبي نفسه الذي يريد أن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ثم يريد ألا يكون ملكا يوم القيامة ليعيش في عالم الملائكة بلا أكل ولا شرب. إنه يريد أن يسقى من الخمور الفردوسية المعتقة ويريد أن يأكل لحم الطير ومختلف الفواكه اللذيذة. ولن يتأتى له ذلك إلا إذا كان من جنسنا ويختبره ربه كما يختبر غيره فلا تغلوا فيه فهو لا يحب ذلك دون شك.
مصيبة الطباطبائي لا تنتهي عند هذا الحد فهو يؤمن بشأن النزول وعمليا يعتبر القرآن محتاجا للحديث وإلا كان مبهما! اشتهر هذا المفسر بيننا في بدايات ظهور كتابه في الأسواق قبل حوالي نصف قرن بأنه يسعى لتفسير القرآن بالقرآن فإذا به يقمط القرآن بالأغلال أكثر من غيره أحيانا. إن تقييد القرآن بشأن النزول يخالف عالميته ويناقض كونه مفيدا لجميع الناس في كل الأزمان والأمكنة. كما أن الطباطبائي يؤمن أيضا بالناسخ والمنسوخ وتلك تهمة تعني ضمنيا أن الله تعالى لم يقو على أن يبعث لأهل الحجاز كتابا يفيدهم لمدة ثلاثة وعشرين عاما بل اضطر أن ينسخ آياته عدة مرات فكيف يمكن لنا نحن أن نعتمد على هذا القرآن بعد خمسة عشر قرنا؟ والحق أن الله تعالى نسخ بعض آيات التوراة تماشيا مع التطور البشري الذي وصل قمته ولا زال منذ الرسالة المحمدية حتى اليوم ولما ينسخ أي أمر قرآني. كل الآيات نافذة وباقية بقوتها منذ صدورها وقد فسرت شطرا كبيرا من القرآن حتى اليوم دون أن أحتاج إلى الناسخ والمنسوخ أو شأن النزول المفترى على الله تعالى أو أحتاج إلى أي حديث ولم أعي بفضل ربي من تفسير أية آية مررت بها حتى اليوم فهم يجهلون القرآن أو يريدون أن يلعبوا مع بالغ الأسى.
ويشير الطباطبائي في تفسيره لهذه الآية إلى تفسيره للآية الثالثة من المائدة حيث يناقش فيها مسألة التلفيق المزعوم وبأن هناك في القرآن مقاطع محشوة داخل آيات لا ارتباط لها بتلك المقاطع. بالطبع هذا كلام خطير وهو أشد من تحريف القرآن. إن تحريف القرآن لا يمكن أن ينجو من ضعف البيان وعدم تجانس الجمل ونقص كبير في البلاغة ولكن ما فعله بعض المجرمين من السلف وانتقاها بعض المفسرين مثل الطباطبائي فهو اللعب بجمل قرآنية صحيحة وادعاء أنها تخص آية أخرى فسوف يكون التمييز بينها في غاية الصعوبة لأنها جمل قرآنية فعلا وهي في مكانها الصحيح برأيي. وعلى كل حال سوف أرد على هذا الموضوع أيضا حين بيان نفس الآية من المائدة بإذن الله تعالى.
والواقع أن القرآن كتاب متماسك مترابط لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وما يقولونه هو لعب وباطل لا يلائم الكتاب الكريم أبدا ويناقض مفاهيم القرآن. لكنها تفيد الذين يحملون عقائد أسطورية فاسدة في البشر ليرفعوا بعض الناس فوق مكانتهم البشرية فيسهل عليهم فرض رأيهم على الناس. هذا هو الذي أنشأ بين المسلمين ملوكا مفترضي الطاعة ومراجع ومفتين واجب الاتباع وهذا هو الذي أقنع عامة الشعوب المسلمة أن يقبلوا أيادي الملوك والمراجع وأصحاب الفتاوى وهو عمل دخيل في الإسلام وقد رفضه الرسول والخلفاء الراشدون وأتى به المجرمون الذين أسسوا الملك الأموي والعباسي والعثماني والفاطمي وما رافقها من ملكيات فاسدة بادت وأراح الله البشرية من ويلاتها ومن ويلات الخلافة الموسومة بالإسلامية إلى الأبد بإذن الله تعالى والحمد لله رب العالمين.
ويطهركم تطهيرا: التطهير يعني غسل القذارة والنجاسة المادية الملتصقة بالشيء إن لم تكن ذاتية وكذلك تنظيف النفس معنويا من الدرن المتواجد إثر الخطأ والتساهل والتسامح في تعامل المدرك وتجاوبه مع قدراته النفسية التي يمكن استغلالها لإشباع الشهوات. والقرآن كتاب مبين لا يترك أي مجال للتخمين والاحتمال والادعاء كما لمسته شخصيا فهو حقا كتاب حق لا يتأتى لأحد غير الله تعالى أن يأتي به. وقد وضحت الرجس الموجود هنا والإرادة الربانية التشريعية لإزالته ودفعه. ولكني أريد أن أوجه نظر الإخوة المغالين من مفسرينا الكرام هداهم الله تعالى وغفر لهم ولنا إلى آية مشابهة بشأن مريم وأعمل مقارنة بينهما لنرى الفرق بينهما عقليا وعلميا. قال تعالى في سورة آل عمران: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45). إنه تعالى يشهد بأنه قد اصطفى مريم فعلا وبأنه قد طهرها فعلا ثم اصطفاه بعد التطهير فعلا أيضا باعتبار أن جميع الأفعال مذكورة بالماضي. وليس الحديث عن شأن قصصي سابق بل الحديث عن إبلاغ ملائكي بأمر الله تعالى لمريم في حياتها. لقد قالوا لها بأن الله اختارها وطهرها ثم اختارها فعلا. والقصة مذكورة بالاسم وقد ذكر سبحانه قبلها قصة أم مريم وبأنها مريم ابنة عمران في نفس السورة فليس هناك في اللغة حصر وتخصيص أكبر من ذلك.
ثم لنعد إلى أية الأحزاب مرة أخرى لغرض المقارنة: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33). ثم أرجو من الإخوة والأخوات القارئين أن يصبروا علي قليلا لأنقل لهم المزيد من الآيات المشابهة بشأن الصحابة. قال تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6). وقال في سورة الأنفال مخاطبا المقاتلين في سبيله من الصحابة: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11).
هل هناك من يقول بأن الله تعالى أراد أن يطهرهم تكوينا بالوضوء والغسل (كما ظنوا طبعا) أم تشريعا؟ والحصر الذي يزعمه البعض باعتبار النفي والإثبات موجود في آية الوضوء أيضا. فهو سبحانه يقول: مأ يريد وهو نفي ثم ليطهركم وهو إثبات مؤكد فتعني الحصر أيضا وبقوة أكبر لأن النفي سبق الإثبات فتم إخراج ما يريد إخراجه ثم أثبت. فكلتاهما مع آية الأحزاب وردت بلسان المستقبل وبشكل واحد يريد الله ليطهركم، ما يريد ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم، ليطهركم به. ليست بها أية شهادة بأنه سبحانه قد طهر أحدا فعلا كآية مريم. ثم انظر إليه سبحانه حينما يتحدث عن فعل حصل فهو يؤكد الاسم واسم الأب وقصة ميلادها وأنها أم المسيح. أين هذه التعريفات في آية الأحزاب؟ فاتقوا الله تعالى ولا تفتروا على ربكم الكذب. ودفعا للوقوع في الخطأ فإن آية مريم على أنه أقوى بكثير من آية الأحزاب وتدل جزما على ميزة وفضيلة لتلك المرأة العظيمة التي ذكر الله تعالى اسمها باحترام وتكريم في كل القرآن وحينما يتحدث سبحانه عن سؤال للمسيح عن عبادة أتباعهم إياهم فإنه لا يأتي باسم مريم بل يكتفي بذكر صفتها بأنه أم المسيح، إن تلك الآية لا تدل على نوع التطهير الذي زعموه للخمسة المعروفين. تلك طهارة أسطورية كاذبة لا أصل لها ولا يمكن أن يفعل الله تعالى ذلك. حاشاه سبحانه من هذه الأعمال التي تدل على الترجيح بلا مرجح وعلى المنحة الرخيصة المشابهة لمنح الملوك لأبنائهم وأولياء عهودهم، سبحانه وتنزه عن تلك الأفعال السخيفة.
ثم إن الجملة مؤكدة بالمفعول المطلق فما هو سر التأكيد؟ قال سبحانه بأنه يريد أن يذهب عنهم الرجس ومعناه رجس موجود فإذا أذهبه زال الرجس وصاروا طاهرين فلماذا عقب سبحانه تلك الجملة بجملة معطوفة أخرى وهي: ويطهركم تطهيرا؟ ولعل من يقول بأن التطهير غير إذهاب الرجس، فلو كان كذلك لذكرها سبحانه مشابها لآية الوضوء حيث قال عز من قائل: ليطهركم، وليتم نعمته عليكم. فهناك إتمام النعمة وتعني إكمال تزكية نفوسهم وهي أكبر من الوضوء فأضاف سبحانه اللام ليميز ولكنه لم يفعل ذلك في آية الأحزاب فالمقصود هو التأكيد على نفس عملية إذهاب الرجس والمفعول المطلق تأكيد ثان لنفس عملية إذهاب الرجس. ذلك يعني أن الرجس لو ذهب عنهم فإن الله تعالى سوف يطهرهم بعد زوال المانع فما يفعلونه يفيد إذهاب الرجس عنهم وتوقف التهمة عن الساحة النبوية الشريفة ثم يتنشط دور التطهير الربوبي. والتأكيد يكون بمثابة تأكيد لمسألة طبيعية تتم بصورة أتوماتيكية حين زوال المعوقات. فلنقرأ آية مشابهة من سورة المائدة:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41). نلاحظ هنا بكل وضوح أن الله تعالى يتحدث عن الذين يحرفون الكلم عن مواضعه باعتبار عنادهم وتعمدهم للكذب بأن الله تعالى لا يريد أن يطهر قلوبهم. فهناك عمل بشع عملوه حال دون أن يرد الله تعالى تطهير قلوبهم. نعرف من هذا أن الدنس حينما يزول يستعد المرء بنفسه للتطهير الرباني. بالطبع أن هذا بحث غير سهل وهو أن الله تعالى وحده يتولى تغيير القلوب. والمقصود من القلوب هو أعماق النفوس في الواقع. وآية الأحزاب أيضا تتولى إرادة تشريعية من الله تعالى أن تقوم نساء النبي بعمل مذكور في الآية وما سبقها من آيات حتى يتسنى لله تعالى أن يقوم ضمن قانونه بتطهير قلوب الأسرة الكريمة. هذا التطهير ضروري لعودة المياه إلى مجاريها. فالتهمة التي كانت قيد الصناعة كانت تزيل الحب والود الضروري بين القائد مع أهل بيته الذين هم شركاؤه في الحياة وبين الصحابة.
فكما احتملت بأن أمهاتنا الكريمات كن فعلا يرغبن في مداراة الصحابة باعتبارهن أمهاتهم ولكن ضعاف النفوس كن يحملن خلقهن القويم محملا غير صحيح فأراد الله إذهاب تلك الحالة غير الحضارية بأن تتوقف الأمهات عن الظهور المكثف ليزداد احترامهن فيزيل الله تعالى من قلبهن مع النبي نفسه كل تأثر سلبي من همزات بعض الصحابة فتطهر قلوبهم جميعا ويعود الألفة بين القيادة الرشيدة وبين الأمة الطيبة. إنه عمل إداري جميل يقوم به رب العالمين وهو ضمن نظام الألوهية وليس الربوبية ويحتاج أن يقوم المستفيد الذي يعتبر علة قابلية له بأن يجهز نفسه لذلك التنظيف الجميل. فإرادة الله إذهاب الرجس هو منوط بعمل النساء الفاضلات ثم يعقبها أتوماتيكيا عملية التطهير الإلهية. ذلك يعني عدم وجود عوائق أخرى في الأسرة الكريمة مما يمكن أن تحول دون إرادة ربهم للهدى كما حصل لليهود الموضحة أحوالهم في آية المائدة أعلاه. ولذلك لزم التأكيد بأن هذا التطهير هو تطهير لا يمكن حصوله قبل قيام الأمهات بما أمرهم الله تعالى به. على هذا الأساس احتمالا أضاف الله تعالى ذكر المصدر بعد فعل التطهير ليؤكد فقط إذ ليس في الآية بيان للعدد ولا للنوع حسب رأي النحاة.
والخلاصة لا يوجد تطهير تكويني لأحد من خلق الله تعالى المكلفين إلا بعد أن يتطهروا بأنفسهم. والعقلاء يرفضون كل قول غير مقرون بالدليل. ولا يذكر القرآن اسم أحد في الآية الكريمة كما لم يذكر أسماء وعدد الذين يزعمون تطهيرهم تكوينيا. فما يقولونه محظ إفك مفترى على الله تعالى مع الأسف الشديد. أعاذنا الله من شرور أنفسنا ومن أخطاء علمائنا.
أحمد المُهري
1/10/2016
#تطويرالفقهالاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence