يوسف أيها الصديق ح 49 – أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ

تواصلا مع شرح سورة يوسف:

يوسف أيها الصديق ح 49 – أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ

الكثير من الناس لا يستفيدون من نصح الرسل ولا من منطق القرآن الكريم ولا يتأثرون بأي مناقشة بل يصرون على ما ورثوه ويعتبرونه جزءا من كيانهم.

يقول الكثيرون – بوحي من الشياطين طبعا- بأنهم بلغوا اليقين فلا يمكن أن يتقبلوا قول الآخر.

كلهم يخالفون كتاب الله تعالى وكلهم بعيدون عن المنطق وعن الحق. هذه هي حال الأكثرية يؤمنون بالله تعالى ويتبعون غير الله تعالى.

ولا فرق بين أن يكون غير الله هم رجال المذاهب أو أصحاب التيجان أو ذوو الثروات أو أهواؤهم وشهواتهم الشخصية.

المهم أنهم يخضعون لغير الله تعالى سواء بالطاعة العمياء أو بالحب المفرط أو بالشكر الخاضع فهي كلها تمثل العبادة ولا يجوز أن نأتي بها لغير الله تعالى.

ولنكن أكثر واقعية فإني لا أقصد بكلمة الطاعة أعلاه المعنى القرآني بل أقصد المعنى المتعارف بينننا وهو تنفيذ أوامر المطاع 82.

والمشرك في هذه الآية الكريمة لا يشير الى من سماهم الله تعالى مشركين من الذين صدوا عن سبيل الله وحاربوا رسوله ومن اتبعه.

بل المقصود الذين يشركون عمليا بالله بأن يعصوه سبحانه بأي حال من الأحوال. فالذي يعصي الله تعالى ليس إلا متبعا لأهوائه فهو لم يخضع خضوعا كاملا لربه فهو مشرك عمليا ولا يجوز أن نسميه مشركا أو نناديه بـ “يا مشرك” كما يفعل البعض.

لو جاز ذلك لجاز للمسلمين أن يدعو بعضهم البعض بالمشركين لأنهم على الأغلب لا يتبعون أوامر الله تعالى بل يتبعون أهوائهم ورجال دينهم وملوكهم وحتى أزواجهم أحيانا.

فالمشركون في هذه الآية اسم فاعل لمن يقوم بعمل الشرك.

وكما نعرف بأن جزاء الشرك بالله تعالى هو العذاب في الدنيا والآخرة؛ حتى ولو كان الذي يشرك مسلما مؤمنا يتقي ربه أحياناـ والسبب في ذلك هو أن الله تعالى يملك نظاما شموليا يتحكم به في كل الكائنات فمن يقف أمام نظامه فهو قد يؤثر في سلاسة وسلامة هذا النظام الكوني البديع الذي نراه يدير كل ما هو محيط بنا وكل ما هو تحتنا من طاقات أرضية.

والله تعالى يصون نظامه بالطبع ولذلك قد يقدر للعصاة دحرا وهلاكا دنيويا أحيانا. لكن هذا الخطر الذي يصيب الناس دون سابق إنذار يُخالف نظام الرحمة الذي فرضه الله تعالى على نفسه بأن يهدي الناس ولذلك أردف هنا قائلا:

 أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴿107﴾.

عذاب الله تعالى هو العذاب الذي يفرضه نظام الألوهية الشامل لصيانة النظام كما قلنا وهو غير مأمون أبدا.

ولنعلم بأن نظام الألوهية بكامله مشروح في كتاب الله تعالى ولا يمكن أن يشمل ما كتبوه في الكتب الأخرى أو ما يتفوه به أصحاب الفتوى والمراجع الذين عينهم البشر لأنفسهم.

ليس هناك عذاب دنيوي لمن يُخالف نظاما بشريا إلا في حدود قدرات الناس أنفسهم. كل ما يفتيه أصحاب الملابس والألقاب غير ملزم شرعا لأحد إلا في حدود تخويل أتباعهم لهم.

ليسوا هم أكثر من نواب البرلمان لو أن الشعوب اختارتهم وإلا فهم فرضوا أنفسهم أو خدعوا الناس ونتمنى أن يتركوا تخيلاتهم غير المستدلة ويصارحوا أتباعهم بأنهم أناس عاديون لا حق لهم على عبيد الرحمن جل جلاله.

وبعيدا عن هذه التخرصات الوهمية المنتشرة بين أهلينا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وفي كل زمان مع الأسف فإن عذاب الله تعالى لا يمكن أن يشمل إلا من يخالف نظام الله نفسه. ولا أحد هو وكيل لله تعالى بل هو سبحانه على كل شيء وكيل.

والغاشية: تعني المستورة التي لا يمكن أن يتنبأ بها البشر.

وأرجو الانتباه بأن الله تعالى يخاطب رسوله الذي يوحي إليه ويتحدث عن صحابته المحيطين به لا عن غيرهم.

فالعذاب الدنيوي يمكن أن يأتيهم دون سابق إنذار، ولذلك يقول الله تعالى في بداية الآية بلفظ الاستفهام الإنكاري: أفأمنوا؟

ولو نلاحظ بأنه سبحانه لم يبلغ الرسل السابقين مثلا بالعذاب الدنيوي إلا في وقت متأخر وأمرهم بالابتعاد عن المكان أو باللجوء إلى البحر حتى لا يمسهم العذاب. لنقرأ هذه الآيات الكريمة من سورة هود:

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78) قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83).

نلاحظ بأن الرسل جاؤوا إبراهيم قبل لوط نفسه باعتبار أنه هو المسؤول عن لوط كما يبدو. ولما قال لهم إبراهيم ما قاله مجادلا حول قوم لوط لعله يؤخر عنهم العذاب، قيل له: قد جاء أمر  ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود.

ورأينا بأن العذاب كان ضمن إعصار سماوي يحتاج إلى مقدمات قدرها الله تعالى قبل أيام كما نرى الأعاصير اليوم أيضا.

ثم رأينا بأن العذاب لم يقتصر على الأعاصير العاتية بل شمل حجارة حملتها تلك الاعاصير من الأرض في مكان مخصص ومسوم من الله تعالى لمثل هذه الحالات ولتكون في متناول يده سبحانه ليحركها متى ما شاء وأراد.

ولو ننظر اليوم فإن أكبر تسونامي واجهناها من المحيط الهندي قبل عدة سنوات، جاء دون سابق إنذار وقد غفل المهتمون أن يضعوا أجهزة إنذار في المحيط.

هكذا كل العذاب الدنيوي يأتي دون سابق إنذار لو كان المقصود العذاب. فالكوارث الكبرى كلها غاشية مستورة لا يساعدنا العلم كثيرا لنتنبأ بها.

حتى الوحي لا يساعد الرسل أن يتنبؤوا بها قبل أن يريد الله تعالى إخبارهم لينجي المؤمنين. ذلك لأن الوحي لا يشمل كل شيء كما يظنه البعض.

يظنون بأن المرتبط بالوحي هو على علم بكل شيء حتى الأخبار الغيبية. وهذا وَهْم هداهم الله تعالى وإيّانا.

هذه هي الغاشية التي تأتي دون سابق إنذار ليعذب الذين يصدون عن سبيل الله أحيانا حتى لا يتأثر نظام الألوهية في الواقع فيصعب أو يستحيل اختبار الناس وهو هدف هذه النشأة العظيمة.

وأما الساعة فهي باختصار تمثل عدة حركات كونية كبيرة هي بالنسبة لنا في هذا الكوكب: الدمار الشمسي ثم الدمار الكوني ثم يوم الفصل. والساعة كما قاله الزجاج منقولا عنه في لسان العرب: هي ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم فلقلة الوقت الذي تقوم فيه سماها ساعة. إنه بيان جميل ومثمر في الواقع ولا يخالف ما نفهمه من كتاب الله تعالى حول الساعة.

فالساعة تمثل اللحظات السريعة التي يغير الله تعالى فيها سير النظام العام.

فلا يمكن أن تمثل الساعة نظام المشيئة بل تنطلق من نظام الإرادة ولذلك سماها سبحانه ساعة والعلم عنده وحده.

المهم بأن غاشية العذاب الدنيوي أو الساعة تأتي دون سابق إنذار.

وفائدة تذكير الناس بهذا الموضوع هي لدفع الناس للتخلص من حالة التسويف الذي يمارسه دون علم كثير من المؤمنين بالله تعالى وباللقاء معه.

يقول الكثيرون في أنفسهم بل يتجاهرون أحيانا بأن القيامة بعيدة وسوف نحضر أنفسنا قبلها لنأمن عذاب ربنا.

بالطبع أنهم في الدرجة الأولى يجهلون معنى النشأة ويظنون بأن الجزاء في الآخرة يقابل الأعمال. ليس الجزاء هناك مقابلا للأعمال وإلا لما كان لمفهوم الأبدية معنى.

إن الأعمال مهما كبرها الله تعالى فإنها لا تقاوم الأبدية بل تنتهي في حد ما فما هو مصير المؤمنين بعد ذلك؟

يتبع …..

 (هامش 82: ذلك لأن الطاعة في القرآن تعني قبول كلام المطاع وعدم الجدال في بياناته ولذلك أمرنا الله تعالى بطاعة الرسول أيضا واعتبرها طاعة لله تعالى.

فهل كان الرسول عليه السلام يحمل عصا يضرب بها من يخالفه ويعتبره خارجا عن الملة كما يقولون؟ ليس في القرآن ما يؤيدهم.

إنهم يظنون بأن الذي يرتد عن دينه يجب قتله والقرآن يعطي الحق لكل شخص أن يقبل أو يرفض الدين ولا عقاب عليه إلا في الآخرة.

ولذلك فإننا نرى كما نفهمه من كتاب الله تعالى بأن بعض المسلمين وهم جميعا صحابة رسول الله طبعا كانوا يلجؤون لغير الرسول ليفسر لهم كتاب الله تعالى والله يلومهم في ذلك.

ليس في كتابي هذا مجال لمثل هذه المواضيع ولكني اضطررت للإشارة إليها دفعا للإشكال.       نهاية الهامش 82.  (

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.