الشهيد والشاهد في التنزيل

بسم الله الرحمن الرحيم

الشهيد والشاهد في التنزيل

ملاحظة كتبت ونشرت هذه المقالة يوم 1/1/2001 وهناك مقالة أخرى مرفقة بها سوف أنشرها بعد أيام بإذن الله تعالى تحت عنوان “الجواب على تساؤلات الشاهد والشهيد”. رأيت بأن هناك ضرورة لفهم هذا الموضوع الهام جدا في كتاب الله تعالى، لعلنا نهتدي بهدي القرآن ونعرف بأن ربنا فعلا يساعدنا وسوف يقيم القسط يوم القيامة والقسط أدق من العدل. شعرت بهذه الضرورة قبل أيام حينما كنت أفسر الآية التالية من سورة هود: إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119).

 

الشهيد والشاهد في التنزيل

كان يستعار بكلمة الشهيد للمقتول في سبيل الله ويعتقد بعض علماء اللغة أن الشهيد هو المقتول في سبيل الله أصلا ثم أطلق على من عدهم النبي شهداء من المطعون والمبطون والغريق والمحروق وصاحب الهدم وغيرهم من الذين ماتوا مقتولين دون ذنب كما رووا. وبما أن القرآن هو على لسان النبي قبل كل أحد ولم يطلق القرآن لفظ الشهيد حتى على المقتول في سبيل الله، فإن احتمال أن يكون رسول الله عليه السلام قاصدا الشهادة المستعارة بعيد جدا.

ذرنا نعود إلى كتاب الله لنرى معنى الشهيد بحكم القرآن ثم نحاول فهم ما نُسب إلى الرسول عليه السلام. ثم نعود ثانية إلى القرآن لنرى المقصود بالشهادة ولماذا أصر الله تعالى عليها في موارد كثيرة وحين الحديث عن مجتمعات متباينة من الأولين والآخرين.

الشهادة في الأصل هي الرؤية بعلم والشهيد أو الشاهد هو الذي يرى أو ينظر إلى الشيء نظرة دقيقة تخوله أن يتذكر الموضوع فيما بعد ثم يشهد عليه بأن يذكر للآخرين ما رآه حين وقوعه وكيف وقع ومن فعل وما يتبعه من موارد تفيد الحكم والقضاء كما تفيد الأبحاثَ العلمية والأكاديمية أحيانا. هذا هو المعنى اللغوي للشهادة وأما كيف أطلق فيما بعد على المقتول في سبيل الله فإن هذا البحث يحاول أن يوضح ذلك أيضا.

يخاطب الله تعالى أصحاب النبي ومن شهد دعوته من أهل الكتاب في سورة الحديد. ولعل هذه السورة مخصصة لهم فنرى الآيتين السابعة والثامنة يدعوهم إلى الإيمان ثم يلومهم بقوله تعالى: {ومالكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم} ثم يؤكد مرة أخرى ضمن الآية العاشرة بأن المقصود هم الصحابة حينما يقول عز وجل  {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} (والفتح يعني فتح مكة) ثم يعود تعالى في الآية 16 فيعاتبهم مرة أخرى على عدم خشوعهم لما نزل عليهم من الحق وهو القرآن  ومن الحق يعني بأن القرآن لم يكن منزلا بكامله آنذاك وهو فيما يعني تأكيد القرآن الكريم بأن المقصود هم الصحابة{ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل} في هذه السورة  يصرح بأن كل الذين آمنوا بالله ورسله هم شهداء عند الله:

{والذين آمنوا بالله ورسله، أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم} سورة الحديد: 19. ولعل المقصود هم صحابة الأنبياء جميعا. والمفسرون الذين وقفوا بعد (هم الصديقون) ليفرقوا بينهم وبين الشهداء عجزوا عن توثيق الارتباط بين مصاديق الآية الكريمة الثلاث، الصديقون والشهداء والكفار حسب رأيهم الضعيف. ثم إن الشهداء هم فرقة من الذين آمنوا ولا معنى للتفريق بينهم وبين الصديقين فالشهداء منهم صديقون أيضا.

ويقرر الله تعالى بأن الصحابة هم شهداء على الناس والرسول شهيد عليهم وذلك معنى كونهم مسلمين!

{ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل، وفي هذا ليكون الرسول عليكم شهيدا وتكونوا شهداء على الناس.} الحج: 78

وفي الواقع أن الصحابة اليوم ميتون وليسوا شهداء على ما نفعل كما أن الرسول لم يكن ليعلم الغيب ولم يكن ليشهد ما يفعله صحابته، وما هو ارتباط الشهادة بالإسلام؟

وفي آية أخرى يؤكد الله تعالى بأنه يختبر الصحابة ليعلم الذين آمنوا منهم ويتخذ منهم شهداء. كان ذلك بعد غزوة أحد التي انهزم فيها بعض صحابة رسول الله كما يبدو.

{وتلك الأيام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين.} آل عمران: 140. والأيام يعني أيام النصر والغلبة باعتقادي.

فالشهادة هنا ليست عملا يقوم به الشهداء بل هم في الحال الذي هم عليه ولكن الله يتخذ منهم شهداء، أو يختار من بينهم!

إذا عدنا إلى الآيات السالفة مرة أخرى لنقرأها ممعنين فإننا سوف نعرف بأن الشهادة في هذه الآيات ليست بمعنى القتل في سبيل الله وليست بمعنى الرؤية بعلم بل هو مصطلح قرآني استعير لمعنى آخر غير ما توهمه المفسرون وأرباب اللغة رضي الله عنهم أجمعين.

ما هي فائدة الشهيد أو الشاهد في الحوادث الواقعة؟ أليست هي للاستدلال على حصول الشيء وتثبيت وقوعه. فالشاهد دليل على وقوع أمر ما في مكان وزمان معين وبكيفية خاصة إلى غير ذلك من خصوصيات الحوادث. فلو أن شخصا صور الحادثة بالكاميرا وأحضر الصورة في المحكمة كان ذلك أيضا دليلا يستشهد به على وقوع الحادث. ولو أن امرأ أثبت بأن السيف الذي قتلوا به المقتول كان بيد شخص معين حين القتل وأن مئزر هذا الشخص قد وقع على المقتول لكان هذا المقتول شاهدا على أن ذلك الشخص المعين قد اقترف جريمة القتل. هذا الشاهد (الميت) يشهد بالجريمة ولكن لا باللسان بل بالشواهد الدالة على قيام المتهم بالجريمة.

فالشاهد دليل على حصول العمل دون الحاجة إلى الشهادة باللسان ودون الحاجة إلى الرؤية بعلم، بل لو كانت الشهادة بمثابة الرؤية بعلم، حصلت الشهادة.

أليس إيمان الذين آمنوا برسول الله دليلا على أنهم كانوا يؤمنون به ولو كان قد أظهر رسالته قبل ذلك بعشر سنوات مثلا؟ وأليس ذلك دليلا أيضا على أن الذين هم مثل هؤلاء كانوا يؤمنون به لو رأوا رسول الله وسمعوا دعوته ورأوا آياته؟ الجواب نعم بالطبع. إذن، فإن الصحابة هم نماذج يستدل بهم على إمكانية الإسلام ولو لم يسمعوا لرسول الله أو يشاهدوا دعوته. وعلماء التجارب اليوم يقومون بتحليل مخبري في حالة معينة ثم يكررونها مرتين أو ثلاث أو أكثر بحسب الحالة فيستفيدون منها حقيقة علمية، وهي أن تكرار هذه التجربة سوف تخلِّف نتيجة واحدة أو مشابهة. فالشاهد يمكن أن يعني النموذج العلمي للحقائق العلمية وكذلك النموذج الوجداني لحقائق القلوب والأشخاص.

لو أدركنا هذا المعنى لكان سهلا علينا معرفة ما قصده الرسول الأمين مما روي عنه أن المبطون والمطعون والغريق شهداء. أي أنهم دلائل على ما وقع عليهم من ظلم، وشواهد على حقائق نفوسهم وحقائق قلوب من حولهم ومن يحكمهم ويتولى أمرهم مثلا.

ولنعد إلى الكتاب المبين لنرى ما هو المقصود من نموذجية الصحابة ونموذجية الرسول ونموذجية الشهداء من الأمم السالفة.

لنقرأ معا هاتين الآيتين من سورة النساء: 40 و 41 {إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجرا عظيما. فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.}

ونعيد الكرة في قراءة هذه الآية {وتلك الأيام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين.} آل عمران: 140.

عملية اتخاذ الشهداء هي لدفع الظلم ولإضفاء العدالة المطلقة على مقاضاة الله تعالى لعباده، فالله لا يظلم إذا أتى من كل أمة بشهيد والله يقدر الهزيمة للمسلمين ليعلم الذين آمنوا بحق منهم، فيتخذ منهم نماذج أو شواهد لأنه لا يحب الظالمين. وهذا يقربنا من بيت القصيد ويمهد لنا السبيل لأن نفتح قلوبنا لحقائق القرآن ونستعد لاستماع ما يخالف ما سمعناه فيما مضى. سوف أقوم بتقديم ما يقرب الذهن من هذه الحقيقة القرآنية العظيمة والتي سنواجهها بجد يوم القيامة. وعليه سوف نتعرف أكثر مما مضى على عدالة السماء ونعرف قدر الصحابة كما هم عليه دون غلو فيهم أو تنقيص من شأنهم.

المقدمة المتأخرة:

حينما يقوم الإنسان بدراسة معاملة الجبار العظيم مع عباده يجب أن يتخلى عن بعض ما اعتاد عليه من حقائق اجتماعية ألفها وهو يعيش لا إراديا في بيئته. هناك في المجتمع أشخاص محترمون لأنهم ذووا جاه ومال أو بنو أسرة معينة أو بنو رسول الله أو بنو أشخاص محترمين فيظن بأن هذا هو نظام الطبيعة الذي لا مفر منه. فالذي وافاه الحظ أن يكون من سلالة معينة فإن من حقه أن يعيش حياة أفضل ممن خالفه الحظ فكان ابن تعيسين لم يقسم لهما من المحسوبيات حتى في اللون. علينا بأن نأخذ مسألة البعد المقامي بين الله وبين كل من دونه بعين الاعتبار. كل الخلق بمن فيهم الأنبياء جميعا والملائكة طرا مع الروح القدس وهذا في كل العوالم العلوية التي تربو على البلايين، كل هؤلاء عبيد أذلاء أمام الله تعالى وإذا أكرم الله أحدا من خلقه فهو من لطفه وشامل رحمته وهو عادل بكل معنى الكلمة لأنه غني ولذلك فهو لا يخصص مرتبة لأحد كائنا من كان دون أن تكون له الأهلية والاستحقاق. ولذلك فليس للذين ولدوا أواخر الجاهلية في الحجاز وشاهدوا خاتم النبيين أي فضل على غيرهم لأنهم لم يوافيهم الحظ فلم يولدوا في تلك الآونة، كما أن ليس لذرية رسول الله -وأنا واحد منهم كما يعتقد النقباء- أي فضل أو امتياز على الآخرين لأن الله لم يقدر لهم ذلك في ضرورات الطبيعة.

والله ليس بمقامر حينما يعين الجزاء بل هو قادر على أن يؤتي كل ذي حق حقه بغض النظر عن الحظوظ الطبيعية التي لا يد للإنسان فيها. الرسول هو شاهد على الصحابة وليس شاهدا للصحابة. والشهيد على الشيء يعني الذي يشهد ضده لا معه. {ليكون الرسول عليكم شهيدا} ولم يقل لكم شهيدا. هذا لا يعني بأن الرسول يشهد يوم القيامة بأعمال صحابته فهو إنسان وبشر كان يرى أمامه فحسب ولم يكن ليرى ما وراءه. فلا فائدة في شهادته بهذا المعنى. ولكنه نموذج عملي بارز للتقوى والصلاح والمثول أمام كتاب الله الذي بدأ ينزل على قلبه الشريف عقدا قبل هجرته التاريخية إلى المدينة واستمر في النزول شيئا فشيئا حتى اقتربت وفاته. كان رسول الله هو أول من يعمل بالقرآن ويخضع له ويستبشر ببشائره ويخاف من نذره وقد تأدب خير تأديب بالقرآن كما أن بعض الصحابة مثل علي بن أبي طالب عليه السلام قد تأدبوا مثله وخضعوا لله قانتين. واشتهر عن المصطفى قوله: (شيبتني سورة هود …) ونقل عن بعض الصحابة أن آية فاستقم كما أمرت هي أشد آية على رسول الله، وقيل أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يُرَ ضاحكا بعد هذه الآية.

سوف نتعرض مستقبلا بإذن الله لحياة الرسول الزوجية لنرى بأن الرجل المثالي قد خضع حتى في حياته الجنسية كما يبدو لنا، لأمر الله تعالى وإرادته. إنه نموذج حي للمثول أمام كلام الله المباشر، الذي ستقاس أعمال الصحابة عليه يوم القيامة. سوف يُقاس مدى انقياد الذي آمن بالله وبرسوله من الصحابة لأمر الله بما انقاد له محمد نفسه الذي كان واحدا منهم وكان بإمكانهم أن يماثلوه في الطاعة للملك الواحد المتعال. ثم يقارن عمل الناس الباقين بعمل الصحابة، من سبق ومن لحق بلا استثناء وبغض النظر عن الفواصل الزمنية مهما طالت، فمن كانت أحواله مشابهة للذين آمنوا من الصحابة لكنه توفي قبل الإسلام ولو بألف عام أُلحق بهم والذين خلفوا ولم يطيعوا الله كما أطاعه الصحابة لكنهم بنفس المستوى من الصلاح الأخلاقي والنفسي ولو بعدوا آلاف السنين، ألحقوا بهم أيضا. هذا ما يؤكده الله في الآيتين التاليتين:

{والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة، أولئك لهم عقبى الدار. جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.} الرعد: 22 و23.

كان أبوا النبي نفسه مشركين يعبدان الأصنام كما يقولون وقد ماتا قبل الإسلام فما ذنبهما؟ كان آباء الغالبية العظمى من الصحابة مشركين ولكنهم كانوا أناسا صالحين طيبين فسوف يقاسون بمن مثلهم من الصحابة في الصلاح ويدخلون الجنة بإذن ربهم، وهكذا الذين يأتون بعدهم حتى انتهاء دورة الحياة الفعلية من هذه الأرض. ولولا ذلك لما تحققت العدالة المطلقة لله جل وعلا.

وأما الآية 113 من سورة التوبة التي تقول: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم.} فهي لا تنافي ادعائنا. هذه الآية الكريمة جاءت في سورة التوبة وهي كما هو معروف بين المفسرين تعتبر آخر سورة نزلت من القرآن قبل سورة النصر النهائية، بشأن المشركين الذين جحدوا النبوة وأصروا على جحودهم وكفرهم ونفاقهم وعدائهم للمؤمنين طوال عقدين من الدعوة إلى التسليم لله تعالى، ملك الكون العظيم ورب السماوات والأرض جميعا. كل ذلك بعد أن رأوا ما رأوا من آيات الله على يد عبده المصطفى فأصبحوا شهداء أو نماذج للكفر والطغيان واختاروا خزي جهنم على رضوان الملك المتعالي جل وعلا. ما من شك في أن الآية لا تتحدث عن عبد الله بن عبد المطلب ولا عن أبي ياسر أو أم سمية. إن الله تعالى وبمقتضى عدالته وغناه لسوف يطبق آباء وأمهات الصحابة الكرام على من شابههم من الصحابة أنفسهم وإلا لم يتحقق القسط الذي وعدنا به ربنا الغفور الرحيم. والله وحده العالم بحقائق الأمور.

ولنعلم أن الشهادة عملية تتبع العدالة المطلقة فإن الآيتين التاليتين رقم 40 و41 في سورة النساء يبينها بوضوح أيضا: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما. فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}. يعني هل يمكن أن يكون هناك ظلم إذا جئنا من كل أمة بنموذج نقيس الأمة عليه وجئنا بك نموذجا نقيس عليه الصحابة. والعلم عند الله.

والآية143 من سورة البقرة شاهد آخر على ادعائنا، فهي تقول: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا} هذا المقطع من الآية متوسط بين الحديث عن القبلة وبأن لله المشرق والمغرب، ولعل هذا ما حدا ببعض المفسرين أن يظنوا بأن المقصود من الوسط هو المتوسط بين المسيحية واليهودية. لكني أظن -والعلم عند الله- أن محمدا عليه السلام جاء ليهدي قوما ما أتاهم من نذير من قبل وبه ختم الله الأنبياء. فدين محمد هو الدين الذي سيقوم بالدعوة إلى الله بين كل الأمم التي ما أتاهم من نذير من قبل. ونحن نرى بأن الإسلام مستقر ومتواجد بصورة كثيفة في شرق النصف الشمالي من الكرة الأرضية، ابتداء من البحر المتوسط وانتهاء بالصين. فمحمد هو نذير العرب والصينيين وبقية أعاجم آسيا وأفريقيا وهو نبي الكرة الأرضية برمتها منذ إظهار دعوته. كما أن المسيح هو نذير نصف الكرة الجنوبي ونذير أوروبا وبقية أمريكا في غرب النصف الشمالي من الكرة وموسى هو نذير بني إسرائيل أينما كانوا، والعلم عند الله تعالى.

ولعل وسطية الصحابة ليست وسطية جغرافية ولا وسطية دينية وإنما وسطية زمانية. للكرة الأرضية حركة دلوكية أو ميلانية وهي عبارة عن ميلان محور الأرض يمنة ويسرة تبعا لتأثير جاذبية القمر على محور الأرض. وبما أن الأرض ليست عمودا على سطح دورانها حول الشمس في منطقة البروج بل هي مائلة. درجة الميلان تترواح بين 21.8 و24.4 فالأرض تمر على كل هذه الدرجات خلال 40000 سنة. أرضنا اليوم مائلة في حدود 23.4 درجة من صفحة البروج وكانت إبان نزول القرآن مائلة نحو 23.3 درجة. هذا الميلان تؤثر في الطقس وهي منذ ذلك الحين في وسط خط التمايل أو الدلوك. كما للأرض حركة أخرى تسمى الحركة التقدمية Precession وهي تمثل حركة محور الأرض حول ثلاث نجوم بعيدة هن ثوبان أو ثعبان والنجمة القطبية وفيغا. هذه الحركة هي حركة طبيعية لكل جسم يدور بسرعة حول نفسه فلو أدرت فرارة بيدك على الأرض وتركتها تدور لوحدها فسوف تلاحظ أنها مع الدوران تتجه ببطء نحو اليمين أو الشمال وأن محورها يكوّن دائرة وهمية ثم تعود ببطء إلى الوسط فإلى الجهة المقابلة وبنفس السرعة تعود مرة أخرى إلى الجهة السابقة وهكذا حتى تتوقف عن الدوران. هذه الدائرة الوهمية ترسم مخروطا حول مركز الفرارة حتى السطح الوهمي الذي يتخيله الناظر بأعلى الفرارة. والكرة الأرضية فرارة ضخمة تدور حول نفسها مرة كل يوم وهذا يعني أن سطح الكرة الذي يبعد عن مركزها حوالي 12500 كيلومترا يدور في منتصف الأرض بسرعة 1667 كيلومترا تقريبا في الساعة ليقطع 40000 كيلومترا (هو مسافة حزام الكرة) في 24 ساعة.

ومع دوران الأرض فإن الحركة التقدمية تحدث أيضا وكل دلوك من الأدنى إلى الأدنى يستغرق حوالي 26000 سنة. وقد عين العلماء ثلاثة نجوم بعيدة في الفضاء يمثلن الدائرة الكبيرة في نهاية المخروط الوهمي. منذ ابتداء الدعوة المحمدية، كان محور الأرض من جهة الشمال مقابلا لمنتصف المجال التقدمي بين النجوم الثلاثة فهو الآن ومنذ فترة متوجه باتجاه النجمة القطبية. كان محور الأرض قبل خمسة آلاف سنة متجها نحو نجمة فيغا Vega وسوف يتجه نحو نجمة ثعبان Thuban خلال اثني عشر ألف سنة ليعود إلى فيغا بعد حوالي تسعة آلاف سنة من تلك المدة. هذه هي أحسن حالات نصف الكرة الشمالي من حيث الاعتدال في الطقس ويؤثر بالطبع في كمال العقل ورشده في الإنسان. لكن هناك عوامل طبيعية أخرى مثل الشمس نفسها والقشرة الأرضية وغير ذلك -مما سنذكره مستقبلا بمشيئة الله- كلها تمر في منتصف أو وسط حالاتها. ولذلك فإن محمدا عليه السلام بعث في وسط الاعتدال الطبيعي لهذا الكوكب من جميع النواحي وكان الصحابة بطبيعتهم مهيئين للرشد العقلي والفكري فمن الحكمة أن يتخذ منهم الله تعالى نماذج لمقايسة من سبقهم أو لحقهم، بهم وتمييز من يستحق المغفرة والرضوان ممن لا يستحقها منهم.

أما الشهادة بمعنى القتل في سبيل الله فهي لا تشمل كل من يقتل في المعارك، حتى المعارك والحروب الإسلامية فإن الكثيرين ذهبوا لغرض الفتح والكسب ثم قُتلوا رغم إرادتهم ونحن نكرمهم في الدنيا بأن نسميهم الشهداء ولكن الله يفرق بينهم وبين المؤمنين الذين كانوا مستعدين للدفاع عن دين الله حتى الموت ومهيئين لذلك دائما، فهم الشهداء والنماذج الحقيقيون للمقتول في سبيل الله حتى ولو لم يقتلوا. وقوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون.} آل عمران: 169 ليس معناه أن بقية الناس غير أحياء عند ربهم فإثبات الشيء لا ينفي ما عداه. لعلنا نحتاج إلى أن نشرح في المستقبل بإذن الله معنى السلام الذي يرزق به بعض الناس دون بعض قبل الحساب وبأن الفاسقين لهم ميتة أخرى بعد الموت ولكن المؤمنين يموتون ميتة واحدة ويمنحون الأمان بعد الموت مباشرة. وأنت لو تقرأ الآيتين التاليتين فسوف ترى بأن الله يوضح نوع الحياة وهي الأمان وألا خوف عليهم وأن الله لا يضيع أجرهم. الأمان والسلام والحياة التي يمنها الله عز وجل على عبيده المؤمنين هي ليست جنات النعيم التي أعدها الله في نظام الكون والتي سوف تُصنع فيما بعد حين قيام النشأة الآخرة.

والآيتان هما: {فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون 170 يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين 171: آل عمران}

ولو فرضنا صحة رأي بعض المفسرين رضي الله عنهم بأن المقتول في سبيل الله يدخل الجنة فورا والآخرين يؤجلون ليوم الحساب فإن النبي محمدا نفسه لم يقتل في سبيل الله فهو منتظر خارج الجنة ولكن الصحابي الشهيد حنظلة هو في الجنة الآن! هذا ما لا يرضى به حتى الصحابي الجليل حنظلة نفسه.

ودعنا نتصدى لبعض التساؤلات المحتملة التي تناسب المقام:

1-           لماذا يقاس الصحابة على النبي والناس على الصحابة؟ أليس في ذلك تمييزا للصحابة عن غيرهم من عباد الله؟

2-           ما هو دور الضالين ولماذا لم يتخذ الله مثلا من البشر للضالين أيضا؟

3-           هل يمكن أن يدخل أحد من الصحابة النار بعد أن نصروا رسول الله يوم ضعف الإسلام؟  وهل توجد أية حصانة لهم من عذاب الله مع أن رسول الله كان يحبهم؟

4-           ما معنى قول الله عز وجل: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا؟

5-           من هو الشاهد الذي شهد على امرأة العزيز وكان من أهلها؟

6-           ما معنى شهادة السيد المسيح عليه السلام على أهل الكتاب كما فسره المفسرون الكرام في آية: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا}؟

7-           وأخيرا ما الفرق بين الشاهد والشهيد في القرآن؟

سوف نجيب على هذه التساؤلات في البرنامج القادم بإذن الله تعالى.

أحمد المُهري

7/5/2020

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.