نظرية ظهور العلم – ح 21 -أما زال النعمان يعيش في الخورنق؟

نظرية ظهور العلم – ح 21 –أما زال النعمان يعيش في الخورنق؟

في ختام رحلتنا مع فكرة “الإسهام العربي الحضاري في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعية والاجتماعية” يمكن القول إن بحثنا هذا قد كشف عن عدد من النقاط التي تحتاج إلى بحث مستقل بشكل أعمق. من ذلك:

1.    الحياة في الوهم

كشف البحث أن فكرة الإسهام العربي الحضاري هي فكرة وهمية لا تصمد ساعة أمام البحث العلمي الدقيق.  يثبت الفحص العلمي الدقيق للكتابات التي صدرت باللغة العربية في القرون الأولى من الهجرة أنها لم تصدر عن المتحدثين باللغة العربية في نجد والحجاز, وإنما صدرت عن مزدوجي اللغة من الفرس في البصرة والكوفة ثم في بغداد.  يبين الفحص العلمي كذلك استحالة أن تكون الثقافة العربية القديمة قد عملت كـ”حاضنة” للعلم.   لم يكن مجتمع الحجاز ونجد يومًا مهتما بـ”العلم”, ولا كان به حاجة إليه.  القول بأن مجتمع الناطقين بالعربية (أي مجتمع نجد والحجاز) في القرون الأولى من الهجرة كان مهتمًا بـ”العلم” لا يختلف كثيرًا عن القول بأن مجتمع الناطقين بالتولامبيس في بابوا وغينيا الجديدة حاليا يمكنه العمل كبيئة حاضنة للعلم. 

2.    ثقافة معادية للعلم

كشف البحث, بهذا الشكل, عن وجود “فكرة” لا يمكن أن يؤدي الإيمان بها إلى علاقة ودية مع “العلم”.  يعود ذلك إلى أن العلم يعمل دائما على الكشف عن الواقع.   يدفع الإيمان بهذه الفكرة الثقافة العربية المعاصرة إلى أن تكون – في هذا الجزء –  ثقافة معادية للعلم حيث إن العلم يكشف عن عدم مساندة البحث العلمي لهذه الفكرة.

يعيش من يؤمن بهذه الفكرة في عالم خاص يشعر فيه بأن العالم الخارجي هو عالم معادٍ له. عالم معادٍ للحق.  يؤدي ذلك, بالتالي, إلى مشاعر عدائية تجاه الآخرين الذين يرفضون رؤية الإسهام المذهل الذي قدمه الإسلام من أجل تقدم المعرفة البشرية في حقل العلم.

العالم الذي يعيش فيه من يؤمن بهذا الوهم هو عالم معادٍ للتحقق.  يعود ذلك إلى أن هذه الفكرة لم تصدر أصلا عن الواقع وإنما عن الخيال.  لو كانت هذه الفكرة قد صدرت عن الواقع لرحب القائلون بها بالرجوع إلى الواقع للتحقق منها حيث إن الرجوع إلى الواقع – إذا كانت الفكرة فعلا واقعية – سيؤكدها. إذا كنت على ثقة من صحة ما تذهب إليه فسوف “يسعدك” التحقق.

“مصيبة” الحضارة العربية الإسلامية هي في هذا الربط.  يكفي أنه يخلق موقفًا  معاديًا للعلم.   إذا كان هذا هو ما نحبه.  وإذا كان العلم لا يؤيد ما نحبه.  إذن, فالعلم عدو الإسلام.  أنا لا أحب من لا يحب ما أحب.  المصيبة هي في خلق هذا الموقف الذي ينظر باستهانة إلى العلم ويعلي من شأن الخيال.

3.    تقديس الثقافة العربية واستعراب الإسلام

كشف البحث أن الخلط بين الثقافة العربية وبين الإسلام يؤدي إلى “تقديس” الثقافة العربية و”استعراب” الإسلام.  في الأولى مصيبة, وفي الثانية مصيبة.  يؤدي النظر إلى الثقافة العربية على أنها “التجسيد الدنيوي” لدين الله إلى النظر إلى أي انتقاد للثقافة العربية القديمة على أنه انتقاد لدين الله.  كما يؤدي “استعراب الإسلام” إلى النظر إلى دين الله على أنه دين العرب الذي جاء لمباركة, وتمجيد, وتخليد  الثقافة العربية القديمة.   يغيب هنا أي “وعي” بأن الله سبحانه وتعالى لم ينزل كتابه الكريم على سيدنا محمد من أجل مباركة الثقافة العربية القديمة وإنما من أجل “تغيير” الثقافة العربية القديمة.

“عندما يتم “الخلط”بين الثقافة العربية وبين الإسلام لا يعود من الممكن انتقاد الثقافة العربية لأن في ذلك انتقاد للإسلام, كما لا يعود من الممكن فهم الإسلام إلا “في إطار” الثقافة العربية.    الأولى مصيبة, والثانية مصيبة.”

النتيجة الطبيعية هي “خنق” الثقافة العربية ومنعها من التغير.  يأتي ذلك نتيجة النظر إليها على أنها مقدسة.  لا يتم النظر هنا إلى الثقافة العربية على أنها منتج بشري بل على أنها منتج إلهي.   توجد حاجة حقيقية إلى الكشف عن مدى تأثر فهمنا لدين الله بالأعراف الاجتماعية العربية ودراسة الضرر الناشيء عن ذلك.

4.    جزاء سنمار

دخلت الجيوش الإمبراطورية العربية فارس عام 14 هجرية وبنت البصرة, والكوفة, وبغداد, فتجمع الفرس في البصرة, والكوفة, وبغداد يدرسون كتاب الله, ويحفظون أحاديث رسول الله, ويتدارسون اللغة العربية, ويحدثوننا عن السيرة النبوية, ويفسرون لنا القرآن, بل ويؤسسون لنا المذاهب الفقهية الكبرى.  تخرج الجيوش الإمبراطورية العربية من فارس فيخرج الفرس من الثقافة العربية إلا أنهم لم يأخذوا معهم علمهم, وإنما تركوه لنا, لنحفظه, ونتدارسه, نكتبه بالنثر مرة, وبالشعر مرة أخرى, نضيف إليه الشروح والحواشي مرة, ونقدمه نقيا صافيا مرة, إلا أننا في كل مرة لا نغير فيه شيئًا بالمرة.  ما زال فضل الفرس سابغا على الثقافة العربية بكاملها.  إذا كنا نعتمد في العلوم الطبيعية والإنسانية اعتمادًا تامًا, كاملاً, شاملاً, كليًا وجزئيًا على الغرب, فإننا ما زلنا نعتمد اعتمادًا تامًا, كاملاً, شاملاً, كليًا وجزئيًا على الفرس في العلوم الدينية.  لبيان الاعتماد الكامل على الفكر الفارسيّ تخيل لو اختفت الكتب التي ألفها الفرس في الفقه, والحديث, والتفسير, واللغة, وكل الكتب المتعلقة بدراسة دين الله.  تخيل ما يمكن أن يحدث لنا لو “اختفى” كل إسهام حضاريّ فارسيّ من ثقافتنا العربية “المجيدة”!   أؤكد لك أن لن يبقى شيء.  ألف عام بعد خروج الفرس من الثقافة العربية وما زلنا نعيش على ما تركوه لنا.  ألف عام من الاجترار.  ألف عام من اللاشيء.  وما زلنا نتحدث عن الإسهام الحضاريّ العربيّ في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة.  الله أكبر والحمد لله.  أمجاد يا عرب أمجاد.  ألف عام من الوهم وألف عام من نكران الجميل.  يأتي الفرس إلينا, ولا يبخلون بتقديم “فهمهم” لدين الله لنا – وهو فهم مازلنا إلى اليوم متمسكين به وعلى استعداد للموت دفاعا عنه – ويكون جزاؤهم أن ندعي بكل “……………” أن علمهم هذا إنما هو علمنا.  بل ونقوم بكل “…………….” بالحديث عنهم حديث سوءٍ صباحًا ومساءا. 

تخيل لو قامت دبيّ بدعوة من قاموا بتصميم وبناء التحف المعمارية التي تزين الخليج بل تزين, في حقيقة الأمر, الكرة الأرضية, ثم قامت بإلقائهم جميعا من أعلى تحفة معمارية قاموا بتصميمها في دبي جزاءً وفاقًا لهم على ما قدموه من خدمة لدبيّ بل, في حقيقة الأمر, للبشرية.  تخيل لو أن دبيّ ادَّعت بعد ذلك أن كل هذا الإبداع المعماريّ إنما يمثل الإسهام الحضاريّ الدبيانيّ في حقل العلوم المعمارية!  فقط تخيل!  ثم تخيل لو قام هناك من يبيّن أنه حتى لو كان توم رايت هو الذي صمم مبنى فندق برج العرب وليس فجحان هلال المطيري, وحتى لو كان المهندس الاستشاري هو ريك جريجوري وليس حمود العتيبي, فإن هذا الإبداع الفنيّ ما كان ليظهر على الإطلاق لولا “البيئة الحاضنة” التي وفرها بنو ياس في دبيّ.   وعليه, فإن هذا الإبداع ما هو إلا من نتاج الإسهام الحضاري الدبياني في تقدم المعرفة البشريّة في قطاع العلوم المعماريّة.  والله أكبر ولله الحمد.  لا أحد يمكنه أن يتحدث بهذا الشكل, حتى لو كان قادما لتوه من المريخ.    لا يمكن لأحد من خلق الله في أي كوكب من هذا الكون أن يتحدث بهذا الشكل.  أيضا, لا يمكن أن يقبل بنو ياس – وأنا واثق من ذلك – أن يكون جزاءُ توم رايت وريك جريجوري هو إلقاءَهم من أعلى مبنى “برج العرب” ثم التفرغ لمناصبة أهل الولايات المتحدة وكندا العداء ردًا للجميل.  ما هكذا يكون حسن الخلق.

تقول الأستاذة هالة كمال تعليقا على هذه النقطة:

“أما حديث د.كمال عن السّبق الفارسي في تحصيل العلم والاستزادة منه والريادة فيه؛ كما قال: 

” نحن نفهم الآن لِمَ أُغلِقت أبواب الاجتهاد في القرن الخامس الهجريّ.   دخل الفرس الثقافة العربية مع دخول الجيوش الإمبراطوريّة العربيّة أراضي فارس, وخرج الفرس من الثقافة العربية بخروج الجيوش الإمبراطوريّة العربيّة من أراضي فارس.  هذه هي القصة ”  

أستنتج أن هناك ثمة رابطة قوية كان من المفروض أن تربطنا بـ (الأصل الفارسيّ) وهم الآن الإيرانيون بأشد وأقرب مما تربطنا بأية شعوب أو أصول أخرى في العالم.   فهم الذين استوعبونا, واحتضنوا لغتنا وثقافتنا بأكثر وأقوى مما فعل أي أصل عرقيّ آخر؛ لا سيما وأنهم لم يفضحونا في مشارق الأرض ومغاربها بالتصريح بأنهم هم أصحاب الإسهام العلميّ الحقيقيون وليس العرب المستعربة المدَّعية.  فليس أقل من ردّ الجميل, بالتواصل الإنسانيّ, وعودة علاقات طبيعية, والإفاقة من الكابوس الذي ثبت فشله وفشل المنادين به (القوميّة العربيّة) القائمة على وحدة اللغة والدين.   ألا تقوم القوميّة العربيّة الفارسيّة أيضًا على نفس أركان تلك الوحدة المزعومة والتي لم تتحقق في التاريخ؛ بل يحيق بها الفشل, والعجز, والأطماع, والكراهيّة, والعمل الدؤوب على إزاحة الآخر والكيد له (حال الشعوب العربيّة)؟   ألا يجمعنا الآن مع شعوب الأصل الفارسيّ وحدة (مفردات وحروف اللغة ٤٠٪)؟   ألا يجمعنا معهم وحدة الدين؟” 

والسؤال وجيه.  ألا تجمعنا معهم وحدة الدين؟  بل ألا تجمعنا معهم وحدة “الثقافة والدين”؟  ألا نعيش على ثمار ثقافتهم إلى يومنا هذا؟  أولم يحن بعد وقت إبداء العرفان بالجميل.  أم مازال  النعمان يعيش في الخورنق؟

يتبع…..

كمال شاهين

#تطوير_الفقه_الاسلامي

#نظرية_ظهور_العلم

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/?ref=bookmarks

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.