المؤمنة كاترين 39- المكيال والميزان

المؤمنة كاترين 

(39) الفرق بين الوصايا والحكم والمواعظ القرآنية – 6

عاد الفرنسيون الثلاثة إلى فندق سحر الكويت وفي الطريق قال ماكسيم لماري.

ماكسيم:

هل لي أن أطلب منك عزيزتي ماري أن ترسلي لي نسخة مترجمة من جلساتكم مع العم محمود إضافة إلى أعمالك الإدارية المشكورة عليها؟

ماري:

بالتأكيد وبكل محبة عزيزي ماكسيم.

إيمانيويل:

وأنا سوف آخذ نسخة من ماكسيم.

ماري:

سوف أبعث إليكما معا. لكني أريد أن أعرف رأيكما في العم محمود وما يقوله لنا. إن ذلك مهم لي شخصيا لأثق في ما أسمعه أكثر من ذي قبل.

إيمانيويل:

من الواضح أن محمود يتحدث عن علم ودراية وبأنه لا يحمل في نفسه أهدافا عدا نشر العلم والثقافة في مجتعه.

ماكسيم:

أظن بأنه فوق ما تفضل به إيمانيويل فهو كما أظن يقصد وجه الرحمن في بياناته. أشعر بأن الله تعالى لا يفارق حديثه وبأنه يسعى لأن يجلي ربه للمستمعين.

ماري:

اسمحا لي بأن أقول لكما بأنني فخور بكما وأشعر بأننا جميعا نحمل نفوسا تواقة للعلم وأتمنى أن يُدخل الله تعالى المزيد من الإيمان في قلوبنا.

إيمانيويل:

حقا؛ فالإيمان هو ما نحتاج إليه في الدنيا لنتورع عن الظلم وفي الآخرة لنكسب رضوان ربنا.

ماكسيم:

وحقا أيضا بأن الإيمان لن يتأتى بلا علم. فعلينا بأن نعرف المزيد عن ربنا وآخرته ودنياه ثم نؤمن به وبهما وهكذا نتطور إيمانيا مع المزيد من العلم. وقد شعرت بهذه الحقيقة جليا في جلسات ماري وزملائها المليئة بالمعلومات. سوف أنقل كل ما تعلمته لزوجتي وأولادي في فرنسا لعلي أكون شريكا مع محمود في نشر العلم والفضيلة. وحينما تأتي ماري إلى فرنسا فسوف أدعوها في بيتي ليسمع منها كل أهلي ليزدادوا اطمئنانا بصحة ما قلته لهم.

إيمانيويل:

بإذن الله. وسوف أفعل نفس الشيء. ستكون ماري مشغولة جدا بنا في فرنسا خارج زيارتها لأهلها وأحبابها.

ماري:

أنتم وأهلكم أيضا أحبابي وأهلي.

وفي الصباح كانت قائمة الواجبات كبيرة لأنه آخر يوم عمل لمديري ماري. حرصت ماري أن تستفيد من كل دقائق اليوم الأخير ثم في المساء رافقتهما إلى المطار لتوديعهما وللدعاء لهما بالوصول بسلامة إلى بيتيهما.

إيمانيويل:

شكرا ماري على كل ما فعلتيه لنا وشكرا على أنك لم تبخلي علينا بإشراكنا في نشاطاتك خارج العمل وأكرر ثقتي الكبيرة أنا وماكسيم بك. سنعود إلى بلدنا واثقين بأننا تركنا عينا لنا في فرعنا في الكويت فأنت جديرة بأن تكوني مديرة موفقة وناجحة في كل خطواتك. تقبلي منا كل الحب والود والاحترام.

ماكسيم:

إلى اللقاء ماري في فرنسا.

ماري:

شكرا لكما وبلغا تحياتي لأهلكما جميعا ولزملائي في الشركة.

شعرت ماري بالراحة والفرح من تصرفات مديريها. ولا سيما بأنهما عرفا بأن ماري أسلمت وهناك تحفظات لديها في تقبيلها كعادة الغربيين.

وفي الطائرة تحدث ماكسيم مع إيمانيويل حول مسألة لا علاقة لها بالعمل كعادتهم فيما مضى.

ماكسيم:

فعلا شعرت بأن عادة عدم تقبيل المرأة الأجنبية لدى المسلمين عادة طيبة وجميلة برأيي. أنا لا أشعر بالحرج حينما أقبل بنات ونساء الآخرين؛ ولكنني أشعر بحرج شديد حينما أرى الأصدقاء يقبلون زوجتي وبناتي أمامي. لا أدري كيف أقضي على هذه العادة غير المريحة؟

إيمانيويل:

أنا مثلك ولقد فكرت كثيرا في التخلص من هذه العادة. فكرت بأن أبدأ بنفسي بعدم تقبيل غير أهلي من الدرجة الأولى. زوجتي وبناتي وأخواتي. لكن المشكلة بأنني حينما أواجه زميلة في العمل أو صديقة أو زوجة صديق فإني أراهن يقبلن إلي لتقبيلي فما الحيلة؟ لو أنني لا أبادلهن القبلات فسوف يشعرن بالخجل أو بأنني لا أحترمهن أو لا أكرمهن.

ماكسيم:

صحيح عزيزي. لا أظن بأن هناك حيلة للتخلص من هذه العادة غير المريحة إلا أن نسلم ونعلن إسلامنا وهو ليس سهلا بالطبع.

إيمانيويل:

لا تدري. لعل الله تعالى يهدينا إلى دينه في المستقبل القريب.

ماكسيم:

أتمنى ذلك.

وبعد أسبوع من العودة إلى عملهما في شركة Châteaux de la Loire استلما رسالة من ماري تختصر لهما سير العمل في فرع الكويت في صفحة واحدة وتتعهد بأن ترسل لهما تقريرا أسبوعيا مختصرا في صفحة واحدة ليكونا على علم بكل ما تفعله في غيابهما. وهكذا توالت التقارير الأسبوعية مما جعلت إدارة الشركة تشعر بالكثير من الغبطة لما تفعله ماري في الكويت. وذات يوم قال مدير التصنيع في جلسة مجلس الإدارة المسيو فردريك بالمن.

فردريك: 

أظن يا سادة بأن التقرير الأسبوعي الذي ابتكرته ماري وسارت عليه طليلة الفترة الماضية هو عمل جيد ويجب أن نعممه على بقية فروعنا. أشعر بأنني على علم بكل ما يجري في فرع الكويت وكأنني هناك. أليس هذا جميلا؟

ماكسيم:

كلامك صحيح والأجمل من التقارير الاسبوعية هي ماري.

فردريك:

هي حسناء فعلا.

إيمانيويل:

ماكسيم لا يقصد جمال الوجه ولكنه يقصد جمال الفكر والعلم. إنها عالمة قديرة ومفكرة بديعة ولو كنت معنا في الكويت فلعلك كنت تشعر مثلنا بنفس الاحترام والإكرام لتلك الفتاة الطيبة بكل معنى الكلمة.

فردريك:

معذرة، وشكرا للتوضيح.

إيمانيويل:

وأما اقتراحك فهو اقتراح جميل وأظن بأن بقية الرفاق موافقون على تعميم ابتكار ماري وإرسال هذه الصفحات كنموذج للعمل إلى كل فروعنا داخل فرنسا وخارجها.

الكل:

موافقون وشكرا لفردريك.

وأما في الكويت فإن ماري اتصلت صباح اليوم التالي مع كاترين لتبلغها خبر سفر مديريها. وأضافت:

ماري:

عزيزتي كاترين. لقد سافر إيمانيويل وماكسيم وهما شاكران لما رأياه من الجلسات ولا سيما من العم محمود ومنك ومن علوي وبقية زملائكما في البنك المدني وخصا بالشكر والتقدير أبا سحيم وأسرته الكريمة. وها أنا ذا أرى أمامي مجموعة من الأعمال دون أن يشاركني إيمانيويل وماكسيم. فأتمنى من ربي أن يساعدني للقيام بالمهمة خير قيام. أنا أحب عملي وأحب الشركة وأحب إيمانيويل وماكسيم وأشعر بالحبور والراحة لأنفذ تعليماتهما. قولي لي متى نجتمع؟

كاترين:

أنت رائعة يا ماري. كنت أظن بأنك ستقولين لي بأنك تعبانة وتريدين الراحة أياما حتى تسيطري على العمل وإذا بك ما نسيتي الجلسات العلمية. على كل حال فبيتي أنا وعلوي في خدمتك متى ما أردت تشريفنا والجلسات سوف تستمر كالعادة وستكون في بيتك كما أردت.

ماري:

جميل جدا فأعلني الجلسة القادمة في بيتي وسترين كل شيء جاهزا بإذن الله تعالى.

كاترين:

صحيح ولكنني سوف آتي مع علوي هذا المساء لنساعدك في ترتيب البيت وسوف نأتي بالعشاء معنا فلا تذهبي إلى السوق اليوم وواصلي عملك فأنت في غمرة الواجبات الملقاة عليك.

ماري:

شكرا وسوف أحضر بعض الفواكه فقط.

كاترين:

كل شيء يأتيك من عندنا. لا تذهبي إلى السوق اليوم رجاء.

ماري:

شكرا وسوف أكون في البيت في الساعة السادسة بإذن الله تعالى.

وبعد الفراغ من العمل البنكي. ذهبت كاترين إلى السوق لتشتري الزبيدي ثم أعدت مرق الزبيدي مع خبز التنور كما أحضر علوي مجموعة من الفواكة والخضروات وذهبا مع زيد ولبيد إلى بيت ماري.

ماري:

يبدو بأن هذه الطبخة جديدة علي. ما كنت أظن بأن الكويتيين يعملون مرقة السمك أيضا.

كاترين:

يمكن القول بأن كل المحيطين بمنطقة الخليج سواء البلاد العربية أو الفارسية من الخليج يعملون مرق السمك ويتلذذون به. والواقع أن أهل هذه المناطق حتى حين طبخ السمك في الفرن أو في قاع القدر أو الطبخ كبابا فإنهم يضيفون الدقوس الخليجي لأنهم يحبون أن تكون الأكلة رطبة.

ماري:

وما هو الدقوس يا كاترين؟

كاترين:

أما لاحظتيها في سفرة أم سحيم. هي صلصلة مطبوخة مع الطماطة والصبار أو ما يسمى بالتمر الهندي مع قليل من الثوم والفلفل.

ماري:

لاحظت تلك الصلصة وحاولت أن أتعرف على طريقة أكلها وقمت بتقليدكم في صب قليل منها على العيش والسمك. كانت لذيذة فعلا مع السمك والرز. قولي لي هل دعوتي للجلسة القادمة؟

كاترين:

بدأت بإخبار الزملاء والزميلات في البنك وسأخبر البقية غدا. ستكون الجلسة مساء الخميس في شقتك بإذن الله تعالى في الساعة السابعة مساء. سوف نأتيك أنا وعلوي قبلها بساعة لنساعدك وسوف نحضر معنا بعض السندويتشات كالعادة. فلا تقومي بأي عمل عدا السعي لتنظيم غرفة الجلوس.

ماري:

سيحضر أم سحيم وأبو سحيم وعلي أن أجهز بعض الأكلات إكراما لهما باعتبار أول حضور لهما في بيتي.

كاترين:

نحن نعمل في النهار وأم سحيم لا تعمل ولديها خادمات وخدم يساعدونها. هي لا تتوقع منا أي شيء وهي تقبلت أن تكتفي بالسندويتشات في الجلسة العلمية.

ماري:

أنا أخجل منها كثيرا وعلي بأن أحضر بعض الأكلات. إنها أكرمتنا في العرس ويوم الزفاف في بيتها وكذلك في أول جلسة. إنها أحضرت مجموعة من السندويتشات الطيبة جدا.

كاترين:

طيب. سوف أعمل مرقة اللحم بالبامية في الطباخ الهادء عندي وأنت اعملي الرز فقط.

ماري:

موافقة.

وفي الجلسة شمت كاترين رائحة الروبيان بالفرن وبعض الروائح الأخرى وعرفت بأن ماري نفذت ما أرادت دون أن تطيعها في طلب الاختصار.

محمود:

تحدثنا في الجلسة الماضية عن الوصيتين 7 و8 من وصايا سورة الإسراء الكريمة. وسوف نتحدث اليوم عن الوصية التاسعة.

9.

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35).

أمرُ الله تعالى باستيفاء المكيال والميزان برأيي المتواضع ليس خاصا بالبضائع بل الأمر في واقعه يمثل تقديم كامل الاحترام للإنسان. وبما أن على كل إنسان أن يحترم الإنسان الآخر فعليه ألا ينقص من حقه شيئا ولا يضيف إلى حقه شيئا. ولو نراجع آية مماثلة في القرآن الكريم في سورة المطففين لرأينا هناك بأن الاهتمام فعلا مصبوب في موضوع احترام الإنسان للإنسان. قال تعالى فيها: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6). ما معنى كالوهم أو وزنوهم؟ هل يعني ذلك إذا كالوا بضاعتهم أم يعني كالوهم كأناسي؟ فحينما يخفض التاجر المكيال في البضاعة فهو في الواقع يستهزئ بالمشتري كإنسان مثله. “هم” ضمير يعود إلى المدركين ولا يعود إلى غير المدركين. كال الإنسان لا يعني كال البضاعة للإنسان بل يعني كال الإنسان نفسه.

إذا نقصت المكيال والميزان في البضاعة المباعة فأنت لص تسرق نقود الآخرين أو أية وسيلة تبادلية مقابل بضاعة لا تعادل القيمة التي طلبتها. فكان من الأفضل أن يقول لا تسرقوا أموال الناس بعدم استيفاء المكيال والميزان بالكامل. لكنه سبحانه وكما أظن يقصد أمرا مغايرا تماما. حتى في سورة الأعراف فإنه تعالى لم يقل ولا تبخسوا أشياء الناس بل قال: ولا تبخسوا الناس أشياءهم. قال تعالى فيها: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85). الاهتمام فيها جميعا مصبوب في وجوب احترام الإنسان. لو قبلنا بداية هذا التفسير فسوف يسهل علينا فهم معنى آية الإسراء.

ولعلنا نحتاج إلى مقدمة ثانية قبل أن نفهم المعنى. تلك هي مسألة كيل الإنسان ووزن الإنسان. ولو نعد إلى مراجعنا اللغوية لنراهم تحدثوا عن كيل الإنسان للإنسان وهكذا الوزن. فمثلا قال الشيرازي في القاموس: وهما يَتَكايَلان: يَتَعارَضانِ بالشَّتْمِ أو الوَتْرِ. وكايَلَهُ: قال له مِثْلَ مَقالهِ، أَو فَعَلَ كفِعْلِهِ، أو شاتَمَهُ فأرْبَى عليه

وقال ابن منظور في لسان العرب:

وهما يتَكايَلان أَي يتَعارَضان بالشَّتْم أَو الوَتْرِ؛ قالت امرأَة من طيِّءٍ:

فيَقْتل خيراً بامرِئٍ لم يكن له         نِواءٌ ولكن لا تَكَايُلَ بالدَّمِ

قال أَبو رِياش: معناه لا يجوز لك أَن تقتل إِلاَّ ثأْرَك ولا تعتبر فيه المُساواة في الفضل إِذا لم يكن غيره.
وكايَل الرجلُ صاحبَه: قال له مثل ما يقول أَو فَعَل كفعله.         
انتهى النقل.

وأما الوزن فإن القرآن يكفينا لنراه بأنه تحدث عن وزن العلم والعمل كثيرا. فمثلا قوله تعالى في سورة الأنبياء: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47). لا يمكن القول بأن الآية تتحدث عن الميزان الزنبركي يوم القيامة بل تتحدث عن ميزان الأعمال ليرى ربنا بذلك الميزان هدف العامل وحالته التي كان عليها وكيفية تقاعسه عن طاعة ربه أو عن اتباع الحقيقة. أوقوله سبحانه في سورة الكهف: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105). فالإشارة واضحة بأنها تقصد النفس الإنسانية بدليل ما يصدر منها من أعمال ولا تقصد وزن جسم الإنسان.

فأظن بأن المقصود من الآية الكريمة أن نوفي الكيل والوزن بصورة عامة باعتبار أن التنقيص في المكيال والميزان نابع من استهتار الإنسان بالإنسان وتحقير الإنسان لأخيه.

ماري:

يا عم محمود، وما الفرق بين مكيال الإنسان للإنسان وتوزين الإنسان للإنسان؟

محمود:

سؤال وجيه جدا. المكيال في أساسه إناء لفهم الحجم والميزان آلة لمعرفة الثقل. فحجم الإنسان في المجتمع هو بمقدار علمه أو ماله أو سلطته أو قيمته العائلية. ووزنه بمقدار ما يظهر منه من حسن الوجه وسلامة البدن و من أعمال وأقوال وملبس ومركب وأي مقتنيات أخرى. على الإنسان أن يحترم أخاه الإنسان بغض النظر عن كل ما يعلم أو يرى منه من حالة فقر أو غنى أو شباب أو شيخوخة أو نظارة أو دمامة أو غيرها. وهكذا التهم فليس من حق أحد أن يتهم شخصا آخر لم تظهر منه حوبة بل رآه في موضع التهمة كما عليه التستر لو رآه في حال معصية فلعله يتوب ويتراجع عن غيه وضلاله. يجب إكرام الإنسان وغض الطرف عما يصدر منه لأن كل إنسان مؤهل لأن يتغير نحو الأفضل بصورة طبيعية. ألا نرى الله تعالى لا يُظهر مساوئنا وهو القادر على ذلك. إنه سبحانه يُكرمنا لعلنا نعود إلى أحضان العبودية الخالصة لله تعالى وترك عبادة غير الله سواء الأشخاص أو الشهوات.

فقال تعالى:

وأوفوا الكيل إذا كلتم:

تشمل المكيال عند البيع والشراء ومكيال الشخص نفسه فلا نظلم أحدا لا في تخسيره المالي ولا في تنزيل حجمه الاجتماعي.

وزنوا بالقسطاس المستقيم:

كلمة القسطاس تعني الميزان والقسطاس المستقيم تعني الميزان حينما يتساوى جانباه تساويا كاملا. فلعل وجه تسميته بالمستقيم هو أن تظهر الحديدة المتوسطة غير مائلة إلى أي من جنبيها والعلم عند المولى عز اسمه.

ذلك خير:

بمعنى أننا لا ننقص من الوزن والشأن ولا نزود.

وأحسن تأويلا:

باعتبار أن المستمع يريد أن يعرف الحقيقة من المتكلم فأي تفريط في جانبي الموضوع يضيعه ولا يعرف الحقيقة. دعنا نفترض شخصا يسأل عن شخص آخر ليصاهره فلو تبالغ في وصفه أو تبالغ في النيل منه فإن السائل يضيع وقد يأخذ قرارا معتمدا عليك ويكون قراره مضرا لأنه استند إلى مبالغاتك إن في الحسن أو في القبح.

والجملة الكريمة الأخيرة تصدق على الكيل والوزن المعنوي أكثر وأجلى من الكيل والوزن المادي برأيي المتواضع. ولعل لهذا السبب أتبعها تعالى بالآية التالية:

10.

وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36).

أبو سحيم:

وقبل أن تبدأ أخي محمود ببيان الآية الكريمة الأخرى أحب أن أنوه إلى أنني كتاجر في السوق لاحظت الكثير من الظلم التعسفي ضد بعض التجار المتوسطين الذين يتعرضون للنيل منهم لأن الأكبرين يريدون طردهم من سوق المنافسة لينفردوا بتوزيع البضاعة على التجار الصغار أو تقديم الخدمات مثل النقل وغيره للعامة. حتى العمال والموظفون أحيانا يمسهم التحقير لأن بعض الجشعين من أرباب العمل يريدون دفع مرتبات أو أجور أقل من حقوق العمال والموظفين الصغار.

علوي:

الظلم على العامل يؤثر كثيرا في التوازن الاجتماعي في الوطن وقد يؤدي في النهاية إلى طغيان العمال والمظلومين ضد الأثرياء وذوي القدرات فتظهر الشيوعية والاشتراكية وما يشابههما بغية تعديل التوزيع الظالم للثروة.

محمود:

بالإضافة إلى ما يسجل في سجلاتهم الأخروية ليروا جزاء ظلمهم في الآخرة يوم الحساب ولعل الظالمين هناك يكونون ظالمين فعليين فيحكم الديان سبحانه عليهم بالنار الأبدية. فالاهتمام بالعدالة وبإقامة القسطاس المستقيم في كل تعاملاتنا مع أقراننا وأشباهنا من بني الإنسان ضرورة محتومة لنكسب الأمان في الدنيا وفي الآخرة. ولنشرح الآية عن إذنكم. سأتلوها مرة أخرى:

وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36). هذه الوصية واحدة من أخطر الوصايا القرآنية التي تشمل حيثيات ومسائل كثيرة. إنها في واقعها تؤكد على وجوب التحري الكامل ليصل الشخص إلى اليقين قبل أن يقوم بتفعيل أي أمر. وكأن الآية الكريمة بيان لكيفية تحقق الوزر والإثم المذكور قبل آيات في نفس سورة الإسراء: مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15). ففي هذه الآية الكريمة يجعل الله تعالى المسؤولية في عنق الشخص نفسه وبأن الله تعالى يبعث الرسل لإتمام الحجة الرسالية على خلقه وليس للرسل دور تحمل آثام وأوزار أتباعهم كما يظن بعض المسيحيين أو غالبيتهم أو كلهم احتمالا. لقد وضح سبحانه مباشرة قبل الآية أعلاه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14).

فالآية 36 في حقيقتها تبلغ الناس بأن من واجبهم أن يطمئنوا بأنفسهم فعليهم أن يتعلموا ولا يتبعوا أحدا. ذلك لعدم حصول العلم للإنسان بالاستماع إلى الغير كائنا من كان. لعلنا نستثني الرسل كما أحتمل.

والآية توضح مراتب حصول العلم القلبي وهي:

1. السمع وهو أن تستمع بنفسك ولا تكتفي بالنقل. فما ينقله المؤرخون والمحدثون لنا لا يُمكن اعتباره أمرا سماويا أو أمرا وصلنا عن طريق الرسول عليه السلام.

2. البصر وهو أن ترى بنفسك القائل مثلا. فلو لم تر الرسول بأم عينك وهو يتحدث بأمر فليس لك أن تعتبره أمرا رساليا أو قانونا سماويا. ولذلك فإن كل ما نقله المحدثون عن الصحابة الكرام كانت مفيدة للصحابة أنفسهم وليس للمحدثين ولا لمن جاء بعدهم.

3. الفؤاد وهو كائن طاقوي تحيط بالقلب النفسي. وظيفة هذا الكائن الطاقوي النفسي كما يبدو هي أن ترتبط بالصدر النفسي وبخارج النفس لتجمع المعلومات التي يحتاج إليها القلب النفسي ليقوم بالمعالجة فيستيقن صاحبه بأن الموضوع معقول بعد أن استمع ورأى بنفسه. المعلومات كلها مخزنة في الصدر النفسي المحيط بالفؤاد وللفؤاد القدرة على جمع المعلومات من خارج منطقة النفس. والفؤاد عضو شديد التأثر وبه يمكن للمرء أن يميز بين الصحيح والسقيم باعتبار ارتياح الفؤاد أو اضطرابه.

وأما قوله الكريم: كل أولئك كان عنه مسؤولا؛ فالجملة الكريمة تعني بأن الإنسان مسؤول عن سمعه وعن بصره وعن فؤاده. فعلى الشخص أن يتأكد بأنه سمع بدقة أو كتب ما سمعه فورا؛ كما عليه بأن يستيقن بأن ما يراه يمثل حقيقة حصلت فلم يضطرب فؤاده عند سماعها أو رؤيتها بل شعر الفؤاد بالطمأنينة للمسموع أو المرئي. فمن الواجب الاستعانة بالإمكانات الثلاثة التي يحملها كل إنسان مدرك ليطمئن من صحة الأمر ثم يعمل به لو كان الأمر يمثل واجبا سماويا. لا يكفي الاستماع إلى من تثق به ولا يكفي ما ذكره أصحاب الكتب المعروفة ولا يحصل اليقين مما استنبطه غيرك. يمكن لنا عقليا أن نستفيد مما قام الغير بالتحقيق فيه لو طالعنا الدراسة التي قدمها المحقق وأدركناها بأنفسنا.

الآية تمثل واجبا شخصيا لكل إنسان وأراه حقا. فهل نطمع في جنة عرضها السماوات والأرض ونحن خاملون إتكاليون غير نشطين؟

كاترين:

فما هو حال الذين يعملون بفتوى المفتين أو مراجع التقليد أو أي شخص مشهور بعلمه أو بتقواه أيضا؟ كيف يمكن للشخص العادي أن يستنبط أحكام الله تعالى من القرآن الكريم؟

محمود:

على المرء أن يسعى والله تعالى هو الذي سوف يوفقه. سوف يأخذ الجزاء الأوفى مقابل سعيه ولو لم يصل في النهاية إلى فهم كامل للمسائل. أعرف مغنيا بريطانيا مشهورا في بلده وقد هداه الله تعالى إلى الإسلام فذهب إلى السودان ليتعلم اللغة العربية ويدرس القرآن بنفسه وهو الآن موفق يساعد غيره ويتحدث العربية الفصحى ويعرف الكثير عن كتاب الله تعالى. الإنسان الملتزم يزداد علما شيئا فشيئا ولو مات وهو مشغول بتحصيل العلم فقد وقع أجره على الله تعالى كما أظن.

ساترين:

أظن بأن الوقت قد حان لنغادر إلى بيوتنا ونفكر فيما سمعناه فلعلنا نحتاج إلى مزيد من البيان مستقبلا.

علوي:

كلام جميل وصحيح ولعلنا نعود إلى بعض المسائل التي ألقيت هذه الليلة.

اتفق الجميع على الانصراف، والتزمت كاترين كالعادة بالدعوة للجلسة القادمة.

أحمد المُهري

4/3/2020 

يتبع

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.