السيدة مريم ام المسيح و أبوه

السيدة مريم أم المسيح وأبوه

بسم الله الرحمن الرحيم

هناك الكثير من الحديث لدى أهلنا وبني جلدتنا حول تفخيم بعض النساء الطيبات من بيننا نحن المسلمين. نحن نحبهن جميعا ونكرمهن جميعا ونعتبر أنفسنا مدينين لما قمن به من نشاطات كبيرة في سبيل نشر ديننا الحنيف. لكننا لو عدنا إلى كتابنا السماوي فسنرى بأن النساء العظميات في القرآن هن اللائي سبقن نساءنا الطيبات. سبقنهن زمانا وسبقنهن كيفا. هناك حديث عام عن نساء المسلمين ولكن حديث القرآن عن مريم وأمها وعن امرأة فرعون مختلف جدا.

يقول سبحانه في سورة التحريم: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12). لا يمكننا أن نشرح كل شيء فقط أشير إلى أن امرأة فرعون ومريم نموذجان أو مثالان للذين آمنوا برسالة الإسلام. لاحظوا أهمية المرأتين العظيمتين عند الله تعالى. امرأة فرعون الفاسق نموذج للإيمان للذين آمنوا بالقرآن وهم نبينا وصحابته جميعا.

امرأة فرعون هي التي ربت موسى الذي كلمه الله تعالى دون غيره من الرسل. امرأة فرعون كانت محببة لدى زوجها وهي لا تظهر أمامه إلا الحب كما أظن لكنها كانت تشكوه عند ربها فقط. كانت تحب الله تعالى وتحب أن تعيش مستقبلها الأبدي تحت رحمة ربها فطلبت من ربها أن يبني لها بيتا عنده في الجنة. وحينما نحلل دعاءها الكبير نعرف بأنها حين كانت البشرية دون المستوى الفكري أيام رسولنا الأمين عليه السلام ولكنها وصلت بتفكيرها إلى التالي:

1. أن الحياة الدنيا فانية زائلة وأن الحكم في الدنيا مخول لغير الله تعالى بأمر الله فنحن هنا لسنا عند الله بصورة كاملة. عند الله يعني بأن نستيقن بأن الله سبحانه محيط بنا تماما ويرانا ويسمعنا بكل التفاصيل تماما كالملائكة. قال تعالى في سورة فصلت: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38). وقال تعالى في سورة مريم: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64). وقال سبحانه في سورة الأنبياء: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28). وقال سبحانه في سورة الأنبياء أيضا: وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20). وقال تعالى في سورة الرعد: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13).

من هم أولئك الذين لا يفترون عن تسبيح ربهم بالليل والنهار؟ هم الملائكة الذين لا ينامون وليسوا هم الأنبياء الذين ينامون ويأكلون ويتأثرون بكل ما يتأثر به غيرهم من البشر. هم عند الله وهم يشعرون بأن الله تعالى محيط بهم. لكننا نحن سنكون يوم القيامة عند الله لأننا سنفقد الإرادة بعد الموت. هذا ما كانت تفهمه السيدة امرأة فرعون والذي لا يفهمه حتى يومنا هذا الكثير من الذين يدعون العلم بالمسائل الدينية. تدعو ربها بأنها بعد أن تفقد الإرادة وتنتهي كل الإرادات البشرية تتمنى أن تكون عند الله تعالى في جنته. وما هي جنة الله تعالى؟

هي ليست جنات النعيم بل هي أكبر من ذلك. قال تعالى في سورة الفجر: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30). كل الكائنات ستكون عند الله في الحياة الأبدية ولكن ليسوا جميعا في جنته الخاصة. هناك في تلك الجنة تتمتع بالنعيم العلمي وتزداد معرفة بالقدوس. قال تعالى في سورة مريم: إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63). ليس الرزق الطعامي محدودا بالبكرة والعشي الزمني. إن الرزق الطعامي متاح دائما لأهل الجنة. بل المقصود هو الرزق المعرفي. معرفة الله تعالى والتعرف على جوانب عظمته بصورتين: ابتكاري وأقل من ذلك درجة وهو قريب من الإتقاني. فالذي يبتكر علما وفهما فهو على أعلى درجات الفهم لما ابتكره والذي يتعلم منه فهو أقل درجة في فهمه لذلك الموضوع العلمي. والعشي تعني ما أظلم عليك بمقدار ما أظلم عليك ولذلك يطلقون الكلمة على وقت العشاء المعروف والعلم عند المولى.

2. عرفت امرأة فرعون بأن الإنسان الطيب هو الذي يتقبل ما قدر الله تعالى له وليس الذي يرد تقدير ربه بالدعاء ضده. وبالتأكيد عرفت تلك المرأة السامية بأن وجودها بجوار فرعون هو الذي يسر لها أن تربي أعظم رأس بشري وقع على الأرض. ذلك الإنسان العظيم الذي تشرف بالتكلم مع الله تعالى مباشرة ولم يحظ أحد غيره بذلك الشرف العظيم.

3. حينما دعت امرأة فرعون دعاءها فأغلب الظن بأن موسى كان موجودا فلم تطلب شيئا من موسى بل طلبت من ربها. إنها رأت موسى ورأت المعجزة الكبرى ولكنها عرفت بأن موسى رسول من الله تعالى ومادام الله فتح لنا أبواب اللجوء إليه فلماذا نتوسل بعبيده.

4. بالنسبة لعلاقتها مع فرعون اكتفت بالدعاء أن ينجيها من فرعون وعمله ولم تدع ضد فرعون. ذلك هو الأدب الرفيع الذي يرضي الله تعالى كما أظن. لننظر إلى دعاء أهل مكة بعد عشرات القرون، ذلك الدعاء الذي استجابه الله تعالى لأنه كان صحيحا. قال تعالى في سورة النساء: وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (75). فاستجاب الله دعاء أهل مكة لأنهم لم يدعوا ضد المشركين بأن يخرجهم الله من بلدهم فهو حقهم الطبيعي أن يعيشوا هناك، ولكن طلبوا من ربهم أن ينجيهم من تلك البلدة الظالم أهلها. فلنتعلم إخواني وأخواتي كيف نخاطب ربنا. لاحظوا الدعاءين وأنهما بنفس المستوى. هكذا يستجاب دعواتكم.

وقبل أن نتحدث عن أعظم امرأة في القرآن دعنا نلقي نظرة إلى أم مريم فهي عظيمة أيضا. مريم هي ابنة عمران ولكن أم مريم تنذر ما في بطنها مباشرة لربها فما معنى ذلك؟ هل أم مريم تملك ما في بطنها فهو نتاج شخصين هي وعمران وهو مملوك لله تعالى وليس لهما. لنقرأ الآيات الكريمة من سورة آل عمران:إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36).

آدم هو أبو البشرية جميعا فهو الذي اصطفاه الله تعالى من بين مجموعة كبيرة من الحيوانات البشرية التي لم يمنحها الله تعالى النفس الإنسانية. فهو مصطفى فعلا.

نوح، هو النبي الذي اصطفاه الله تعالى من بين كل قومه مؤمنين وفاسقين وجعل ذريته هم الباقين. قال تعالى في سورة الصافات: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77). فإما أن يكون نوح هو فعلا أبا لكل من بعده وإما أن يكون نوح هو أبا لكل من جاء بعده في تلك المنطقة من الأرض؛ فهو مصطفى لأن الله تعالى لم يبق ذرية الذين معه في السفينة بل قدر لهم الانقراض. بالطبع أن السبب قد يكون جينيا وهو أغلب الظن عندي ولكن نوحا بما فعله هو تمكن من إصلاح جيناته لينجب أناسا أكثر قدرة على الاهتداء إلى طريق الصواب كما أظن. فهو بالتأكيد مصطفى بين مجموعة من أمثاله.

آل إبراهيم هم إبراهيم ومن ارتبط به من زوجته وولديه إسماعيل وإسحاق فهم عمليا آباء جميع الأنبياء الذين أتوا بعد إبراهيم. فإبراهيم مصطفى أيضا من بين كل البشرية.

لكن من هم آل عمران؟ عمران هو أبو مريم وليس هو أبو موسى كما هو معروف في التاريخ. أنا لا أدري اسم أبي موسى الرسول. آل عمران في سورة آل عمران هم ثلاثة: زوجته وابنته مريم وابنها المسيح. هم فقط آل عمران كما يبدو. وهم جميعا من المصطفين. وواضح من الآية الكريمة بأن الله تعالى يتحدث عن المصطفين الطيبين وليس عن المصطفين لغرض دنيوي آخر. إذن أم مريم من المصطفين الطيبين. بالإضافة إلى أن الله تعالى استشهد بها بعد بيان الاصطفاءات بقوله الكريم: إذ قالت امرأة عمران؛ فهي إما أنها نموذج صادق لاصطفاء الطيبين أو أن كل الاصطفاءات كانت مقدمة لحكاية ميلاد مريم وابنها المسيح؛ فمن هي أم مريم؟

1. تقول لربها: رب إني نذرت لك ما في بطني محررا؛ لم تقلمن في بطني فهي لا تتحدث عن شخص معين. إنما تتحدث عما فعلته هي بشأن الجنين وليس الجنين نفسه. هي تملك عملها ونشاطها وسعيها وتحملها وكل ما تفعله هي فهي تنذر ما تملك ولا تنذر شيئا آخر. ما معنى محررا؛ ومن تقصد به؟ تقصد به الجنين طبعا ولكنها تريد أن تقول بأنها نذرت كل ما هو من حقها لربها فالجنين محرر من أي واجب تجاهها. بمعنى أنها تنازلت عن كل حقوق الأمومة بالنسبة للوليد باعتبار أنها تريد الجزاء من الله تعالى مباشرة ولا تنتظر شيئا ممن في بطنها.

2. فلما وضعتها قالت رب: إني وضعتها أنثى. كان واضحا بأنها ظنت بأنها بعد النذر ستلد ولدا لتسكنه المسجد أو دار العبادة. لكنها وضعتها أنثى فلم تنسب إلى الله تعالى تقديره ولم تقل رب إنك قدرت لي أنثى بل قالت: رب إني وضعتها أنثى. بمعنى أنها هي التي وضعتها فلا قصور من ربها ولو كان هناك قصور فهو منها. لاحظوا الأدب الرفيع لهذه المرأة العظيمة.

3. والله أعلم بما وضعت: جملة معترضة أضافها الله تعالى ليوضح لنا أهمية أم مريم وإكرام ربها لها فهي لا شعوريا حققت الهدف الرباني فيما فعلته في الوليد الجديد. كما أن الآية تشير إلى إكرام ربنا لمريم أيضا. ولا أظن بأن هناك تفخيما أكبر من أن يقول الله تعالى نفسه لفتاة وأمها:والله أعلم بما وضعت. بمعنى أن الله تعالى أراد ذلك وقد نفذت أم مريم إرادة ربها دون أن تشعر ولكنها قامت بواجبها خير قيام فاستحقت تقدير رب العالمين. فيا لها من كرامة لا يمكنني أن أتصور خيرا منها في حدود معلوماتي القليلة.

4. وليس الذكر كالأنثى: هو قول ربنا أيضا كما أظن. فهو سبحانه يريد إثبات أن الأنثى قادرة على أن تنجب ولدا من دون الاستعانة برجل ولذلك فلا يفيده الذكر. ليس الذكر حاملا لأدوات الحمل والرضاعة. الأنثى هي النموذج الكامل للإنسان ومريم هي النموذج الكامل للأنثى وكذلك أمها. لا يوجد أي نقص في كيان مريم كما ثبت كمال أنوثة أم مريم. فأنى للذكر أن يقوم بهذه المهمة؟ ثم إن مريم ودون أن تشعر أمام تجربة قاسية جدا لكنها تحمل نفسا قادرة على تجاوز تلك المحنة.

ولعلنا نعرف بأن الله تعالى لا يقصر إطلاقا في العطاء فالنفس خلقٌ خارجٌ عن نطاق القدرات البشرية فهي خلق أرضي ولكن بتقدير سماوي مباشر. قال تعالى في سورة ص: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75). لكن هذه النفس تُخلق متساوية مع الكيان البدني المتمثل في الخلية الأولى التي نُصنع بداخلها. هذا التساوي ضروري جدا حتى تقوم النفس بالدفاع عن البدن وحتى يكون البدن قادرا على التجاوب مع الأوامر النفسية وحتى تحب النفس بدنها فتدافع عنه بحرص ومحبة. قال تعالى في سورة الشمس: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8). فلولا أن تكون النفس متساوية ومتناسبة مع الكيان البدني للإنسان فلا يمكنها أن تصدر أوامرها للأعضاء المادية. لنتصور بأن الله تعالى يمنح النفس الإنسانية لبقرة فأنى للبقرة أن تتجاوب مع أوامر النفس وهي لا تحمل السلاميات مثلا؟ وعلى أساس القدرة البدنية مع النفس المتساوية مع البدن تساويا كاملا أمكن النفس أن تستلهم الفجور والتقوى من ربها. بمعنى أن الله تعالى علم النفس مخاطر الفجور كما علمها كيفية اتقاء الفجور. والعلم عند المولى عز اسمه.

5. جاءت مريم إلى الوجود قادرة على القيام بالمهمة الملقاة على عاتقها خير قيام. وتعود الآيات الكريمة مرة أخرى إلى أم مريم لتكمل لنا همسات المرأة العظيمة مع ربها: وإني سميتها مريم. لا نريد الحديث عن الاسم هنا؛ ولكن يبدو لنا تماما بأن من حق الأم أن تسمي وليدها كما تشاء وهناك بعض الأولاد يحملون اسمين. اسم من فعل أمهم واسم من فعل أبيهم. فمريم هو الاسم الذي سمى به أم مريم لمريم. بالنسبة لي فإنني لا أملك دليلا على دور أبي مريم ولا أدري هل كان الأب حيا أم ميتا يوم ميلاد مريم. لكنني أظن بأن أسرة أم مريم وأسرة أبي مريم كانوا يشعرون بعظمة تلك المرأة المثالية فكانت تفرض هيمنتها على الجميع بالقوة النفسية التي لديها ولذلك لم نسمع بأن مريم كانت تحمل اسما غير ما سمتها أمها. والإقدام على تسمية الوليد الجديد أمر غير عادي ولكنه مقبول عند الله تعالى ومهم جدا ولذلك ذكرها ربنا في القرآن الكريم.

6. ثم تكمل أم مريم بعد ذلك همساتها مع ربها وكأنها هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن مريم؛ فتقول: وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. فالأم العظيمة كانت معتمدة على إمكاناتها الكاملة وعلى القدرة العائلية في بني إسرائيل ولا ترى نقصا فيها. كل ما تخاف منه هو أن تنزلق الفتاة في بداية عمرها أو بعد ذلك مع وساوس الشياطين. هي تعرف بأن الشيطان لا يمكن أن تساعد أحدا لأنها رجيم من الله تعالى بسبب الوجود الإنساني فهو عدو حقيقي للإنسان. كما تعرف بأن الشيطان يوحي إلى الناس ولو لم ينتبه أحد فقد يظن بأنه وحي طيب. ولذلك فإن كل إنسان يحتاج إلى أن يلجأ إلى ربه لينجيه من وساوس الشياطين. أم مريم تريد أن تربي الفتاة الجديدة خير تربية ولكنها تخاف عليها من علاقة لا يمكن لها أن تترصدها وهي علاقة الإنسان مع الشيطان. فتتخذ العاقلةُ الحكيمة اللهَ تعالى وكيلا ليقدر سبحانه ما ينجي مريم من الوساوس الشيطانية الخطيرة.

حينما نعرف معنى الجملة الكريمة ونسعى لأن نعود إلى أكثر من ألفي عام إلى الوراء لنرى امرأة في تلك الأيام الخوالي تتحدث عن مسائل يجهلها غالبية علماء الدين اليوم؛ هناك نعرف من هي أم مريم ونعرف السر في إكرام ربنا لتلك المرأة المفكرة العاقلة والحكيمة. ولمن يريد المزيد من الفهم أدعوه ليقرأ الآيتين التاليتين من سورة المزمل ويمعن فيهما مليا: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9).

7. ولنعد قليلا إلى بدايات صناعة مريم في رحم الأم العالمة. نرى ربنا يقوم بعمل آخر ليساعد مريم على تجاوز التهمة التي سوف يوجهها لها بنو إسرائيل. فهو سبحانه اختار لها أما محترمة غاية الاحترام لدى الشعب اليهودي حينه. قال تعالى في سورة مريم على لسان بني إسرائيل عند استقبالهم لمريم حاملة وليدها الجديد: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَمَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28). فهناك أخ محترم هو هارون ولا أظن بأن المقصود من أخت هارون يعني من سلالة هارون المعروف كما نقول يا أخ العرب. هكذا فهم بعض المفسرين رضي الله عنهم أجمعين إلا أنني لست موافقا معهم. ثم هناك أم لا غبار عليها وأب معروف بين بني إسرائيل بالحسنى. كلها عوامل مساعدة لدفع الريب عن الأسرة المكرمة المحترمة.

لكنه سبحانه لم يكتف بذلك. إنه قدر في نفس الزمان ومع ميلاد مريم، أمرا آخر هو أهم بكثير من إنجاب فتاةٍ ولداً من دون والد. ذلك أمر مهم حتى لمن سبقونا. وهو موضوع إنجاب يحيى من أب معروف بينهم بعدم القدرة على الانجاب وأم عاقر. وفوق ذلك فقد بلغ الأب من الكبر عتيا وهكذا الأم. قال تعالى في نفس سورة مريم: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8). ولا أظن بأن امرأة زكريا كانت غير زوجته الأولى فقد يظن أحد بأنها كانت شابة والعقر لم يثبت طبيا بل هو ظن. لكنهما كانا فعلا كما قال زكريا بأنه شيخ وبأنها عاقر. قال تعالى في سورة الأنبياء:وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90). كانت فعلا عاقرا وكانت فعلا غير شابة على أغلب الظن لأن الله تعالى يقول: وأصلحنا له زوجه. فيحيى وليد من أبوين عاجزين تمام العجز عن المشاركة في الإنجاب. فلا الأب قادر على ممارسة ما هو ضروري للإنجاب ولا الأم تحمل كيانا بدنيا منتجا. وحسب تعبيرنا الحديث: لا حيوانات منوية لدى الأب ولا بويضات في كيان الأم. ولم يكن ممكنا توجيه تهمة للأم لأنها متزوجه وشيخة وحملت عدة أشهر ورأى الناس حالة الحمل لديها ثم شاهدت النساء ميلاد يحيى. صناعة يحيى وحتى ميلادها أغرب بكثير من مسألة إنجاب مريم بلا رجل حتى بالمفاهيم القديمة.

8. مثال إنجاب زكريا وزوجه مثال شركة سيارات رأت حين التصنيع بأن إحدى سياراته لم تنجح في الاختبارات فأودعته في العراء بجوار المخازن. وبعد عدة عقود جاء شخص يدعي بأنه قادر على تشغيل تلك السيارة التي كانت بالأصل غير سليمة ثم أكل الدهر عليها وشرب في المستودع غير المناسب. قام الشخص بتغيير بعض القطع ولم تعمل السيارة. وأخيرا قام شيئا فشيئا بتغيير كل القطع فكلفت السيارة القديمة أضعاف سيارة جديدة حتى تمكنوا من الاستفادة منها. ولنفرض بأن الله تعالى أراد أن يغير كل جزيئات بدن زوجة زكريا. فهل ذلك ممكن علميا في أقل من عقدين؟ والعملية لم تستغرق إلا أياما أو ساعات وتم الارتباط وانتقلت الخلايا الأحادية من زكريا وحملت.

فكرت كثيرا ولا زلت فيما فعله الله تعالى في كيان الزوجة وهكذا الزوج بدرجة أقل لكنني ما اهتديت حتى هذه اللحظة إلى معرفة علمية لما فعله الروح القدس في تلك السيارة المعطوبة من أساسها وقد اهترت كل مفاصلها! لكنني بكل سهولة يمكنني أن أعرف ما فعله الروح القدس في كيان مريم. إنه بكل بساطة أزال بعض التكوينات الكروموزومية من إحدى خلايا مريم فأصبحت الخلية ذكورية ثم جمعها ببويضة عادية من بويضات الأم وأودعها رحم مريم وانتهت العملية بنجاح باهر. بالطبع أن البشرية على حد علمي غير قادر على القيام بتلك المهمة لكنها ممكنة وكل ممكن سهل على الله تعالى. إلا أن مسألة زكريا وزوجها في نظرة أولية غير ممكنة ولكنه سبحانه سواها. فعلمنا بأن علمنا كان ناقصا لأنها كانت ممكنة وظننا بأنها غير ممكنة، إذ أن المستحيل لا يمكن إنجازه إطلاقا.

ليس لي قدرة أدبية على المديح وما تعلمت سحر البيان وما تربيت على صناعة الشعر؛ فأنا عاجز عن أعطي الحكاية حقها من الوصف البديع لكنني بقدر علمي المتواضع أقول: كانت مريم على درجة عالية من الإيمان والثقة بربها وكانت تستلم وحيا معرفيا بصورة مستمرة حتى أن زكريا تعلمت منها كيفية الدعاء المستجاب. قال تعالى في سورة آل عمران:فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39). فزكريا تعلمت من مريم كيف يدعو ربه ليستجيب له وأظن بأنني وضحت الأمر في مقالة منفصلة فيما سبق في مركزينا العلميين، وأكره التكرار إلا إذا لزم طبعا.

هذه المرأة العظيمة هي التي يحتفل الغالبية العظمى من مسيحيي الأرض وبعض المسلمين غدا بذكرى ميلاد ابنها العظيم المسيح بن مريم. فمريم أب وأم للمسيح بتقدير ربهما. والمسيح ليس شخصا عاديا بل هو كما قال ربنا في سورة النساء: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (171).

لعلكم تعلمون بأن خطاب أهل الكتاب هنا خاص بالنصارى؛ فربنا يريد أن يقول لهم بأن اهتمام الله تعالى بهم في القرآن ليس لأنهم أتباع موسى أو عيسى بل لأنهم أهل الكتاب. فأهل الكتاب إخواني وأخواتي شرف عظيم لهم والله تعالى يحبهم بصورة خاصة كما أظن لأنهم أهل الكتاب.

وختاما أدعو القارئ الكريم لقراءة التالي من سورة مريم:وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16). إلى أن يقول سبحانه في نفس السورة بعد ذكر مجموعة من عباده المكرمين: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58). حديث الآية الأخيرة عن الذين قال الله تعالى مخاطبا رسولنا عنهم بقوله: واذكر في الكتاب. فيذكر نبينا عليه السلام كل الأنبياء عليهم السلام، المذكورين في السورة الكريمة بمن فيهم مريم. ألا يعني بأن مريم نبية من أنبياء الله تعالى؟ إنها نبية دون ريب. فسلام عليها وعلى ابنها المسيح وعلى كل الأنبياء والرسل الكرام ولا سيما نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا وكل الأنبياء المذكورين في سورة مريم وفي غير السورة الكريمة. وأخيرا سلام على السيدة الكريمة أم مريم.

والسلام أيضا على من اطلع على هذا وهداني إلى أخطائي.

أحمد المُهري

24/12/2018

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.