الدعاء المستجاب 2
الدعاء المستجاب 2
تابع ما قبله
كيفية الدعاء المستجاب
ثانيا) – الهمس:
وهو من مظاهر الكتمان وشرط أساسي له. ألا ترى الذي يتحدث عن أمر ذي بال فإنه يُخفض صوته قليلا كأنه يريد أن يقول للمستمع: هذه مسألة مهمة فلا تفصح عنها لكل أحد. حتى كبار السياسيين يمارسون خفض الصوت في مقابلاتهم التلفزيونية أحيانا ولا شعوريا ليهمسوا بالأهمية في قلوب الناس دون أن يقولوا ذلك بأفواههم. وهو لغة الناس أمام ربهم عند الحساب حيث يقف الناس جميعا من كل اللغات ومختلف الأمم الذين عاشوا في الأرض من قبل، طيلة أكثر من عشرة آلاف سنة حيث تباينت مكوناتهم الاجتماعية فتباينت معها فهمهم للوحدات اللغوية كما تباينت استعمالاتهم لنفس اللغة كثيرا. فلا يُتصور أن يتحدثوا بلغة واحدة لعدم وجود تفاهم كامل لأية لغة بينهم واستحالة إمكانية بسط القسط السوي عليهم. وأما لغة القلوب فهي ليست من وضع البشر حتى تتغير بل هي لغة الفطرة التي فطر الله الناس عليها جميعا دون تمييز، ولذلك فلا تسمع يوم القيامة لغة ولا كلاما يخرج من الشفاه بل همس قلبي يبعثه القلب إلى القلوب كما تستلمه القلوب من قلب الناطق شاكيا أو مدافعا أو راجيا رحمةً ومغفرةً من القاضي الديان جل جلاله.
هناك يتحقق المعنى لنظرة رب العالمين جل جلاله الذي يُحرم الكفار منها ومن كلامه الصادق لأنهم عاجزون عن فهمها وتحسسها فضلا عن استحقاقهم المعدوم لها. كما قال سبحانه في آل عمران: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿77﴾. وأما لحظة القضاء فإن عدالة السماء تقتضي إيجاد وسيلة للتفاهم بين المؤمن والفاسق أمام محكمة العدل الحقيقية بل محكمة القسط في الواقع والقسط أدق بكثير من العدل. هذه الوسيلة هي الهمس بالقلوب دون الاستفادة من بقية الحواس التي يفقد بعضَها الكافرون المشركون المخذولون يوم الحساب. سيعمي الله البعض أبصارَهم الفيزيائية أو يطمس على آذانهم حينما يخلقهم من جديد قبل الوقوف أمامه سبحانه فهم لا عين لهم ولا أذن ولا لسان ناطق بالنتيجة، ولكنهم أعضاء في المجتمع البشري الذي عاش مع الأنبياء والطيبين والصالحين فترة الحياة الدنيوية.
والإنسان يستعمل فكره وعقله ليحدث الناس بلغة يفهمها أكثرهم إذا أراد أن يُفصح عن مكنونات نفسه وليس أحد قادرا على أن يُفصح بكل المكنونات عن طريق اللسان. إن نسبة التفاهم باللسان لا يتعدى 7 – 10 بالمائة في أحسن الحالات وإذا أضفنا إليها الصورة فإنها تزيد المستمع الناظر فهما ولكن ليس بالكمال والتمام. وهذا هو السر في سوء التفاهم بين الصادقين أنفسهم. وبما أن الله تعالى قادر على تفعيل القلوب للتفاهم فلماذا لا يقوم به في يوم عدله وقسطه بين الناس والجن والملائكة معا على سواء؟ ويتبلور ذلك كثيرا في سورة طه.
فالهمس هو اللغة التي يفضلها الله تعالى بينه وبين خلقه لأن المخلوق يقول بذلك حينما يُحدث ربه: {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء (إبراهيم: 38)}. وهي دعاء أبينا إبراهيم أيضا. فرحم الله تعالى معلمنا وأبينا إبراهيم والحمد لله الذي نقل إلينا نماذج من همسات أبينا القلبية مع ربه لعلنا نتذكر أو نخشى. ليست العربية لغة إبراهيم ولكن الله تعالى كما أظن ترجم لنا همساته القلبية بلغة فهمها سلفنا ومن بينهم رسولنا الحبيب عليه السلام ورضي الله عن صحابته المحيطين به.
إنك حينما تكتم أمرك عن الناس فإنك لا تراعي الآخرين ولا تلاحظ وجودك بينهم ولا تعبأ بتعليقاتهم وملاحظاتهم عليك، بل تفرغ كل قلبك لله الذي وسع كل شيء رحمة وعلما. فهل هناك لغة أجمل من الهمس الذي يعرفه الله تعالى ولن يعرفه أحد غيره؟ ثم إنك بالهمس لا تحتاج إلى استحضار كل الصور في خيالك ليكون طلبك من ربك صادقا كاملا، إذ أن القلب الذي تستفيد منه لنقل التماسِك إلى رب العزة فإنه (القلب النفسي) أقرب إلى الله منك لأن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه وهو القوي فسيكون قلبك بالطبع محاطا به سبحانه أكثر من أن تحيط به أنت بنفسك. فكل مكنونات القلب الحزين الذي يتذلل أمام الله تعالى واضحة لله ولا تحتاج إلى ذكر كل شيء ويمكنك الاكتفاء بالطلب حينما تناجي الله بقلبك. لو ترى بأن بعض الأنبياء والصالحين يتكلمون مع الله ويطيلون الكلام معه فإنهم يشعرون باللذة في مناجاة ربهم ولك أن تفعل ذلك وليس لهذه المناجاة أي تأثير في استجابة الدعاء. إنه يمتع الإنسان أكثر من أن يساعده على نقل التماسه لرب السماوات والأرض. فما أسرع من الهمسات لنقل الحاجات إلى قاضي الحاجات جل جلاله.
أحمد المُهري
5/5/2021
#تطوير_الفقه_الاسلامي
#الدعاء المستجاب
يتبع