النفس والروح في القرآن الكريم – قسم 2 من 6
النفس والروح في القرآن الكريم – قسم 2 من 6
النعم الأربعة هي:
1. خلق الخلية الأولى:
كنا مقطعا جزئيا صغيرا من نطفة من مني يُمنى فيتم اختيار واحدة من بين مئات الملايين المشابهة من الحيوانات المنوية الصغيرة. هناك نعمة اختيار تلك القطعة المتناهية في الصغر لنكون تحت عناية الباري جل وعلا.. والله تعالى يختار أفضل الحيامن الموجودة داخل الكمية المتدفقة من السائل المنوي. قال تعالى في سورة السجدة: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9). نعلم من هذه الآيات الكريمة بأنه سبحانه يختار الأحسن كما نعلم بأن البشر ابتداء من أبويهم آدم وزوجه جميعا خلقوا بنفس الترتيب الذي نُخلق نحن اليوم. فالخلية الأولى عبارة عن اجتماع الخلية الأحادية القادمة من الأب مع الخلية الأحادية المخزنة لدى الأم على شكل بويضة متناهية الصغر. هناك آيات تشير إلى ذلك وسأوضحها في مقال آخر بإذن ربي الكريم.
2. خلق النفس الإنسانية:
بعد أن عرفنا البدن الإنساني بصورة جزئية آن لنا السعي للتعرف على وقت خلق النفس الإنسانية. قال تعالى في سورة الانفطار: يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8). لنتعرف على المراحل الثلاث من واقع ما تعلمناه أعلاه.
الذي خلقك:
هناك حيمن ذكوري انتقل من الأب وهو بنفسه إما حامل للكروموسوم (Chromosome) الذكوري (Y) أو الكروموسوم الأنثوي (X). قام الحيمن بغزو البويضة الأنثوية التي تمثل خلية أنثوية محضة. بمعنى أنها جميعها لا تحمل الكروموسوم الذكري. بعد الغزو سواء كان الغازي حاملا الكروموسوم الذكري أو الأنثوي؛ يتحقق الخلق. ثم تأتي المرحلة الثانية.
فسواك:
الفاء تدل على التراخي باعتبارها مرحلة متأخرة عن الأولى. لقد تم في المرحلة الأولى كلما كانت الطبيعة محتاجة فيها إلى عناية سماوية خاصة وتكاملت داخل البويضة مقومات خلق إنسان جديد. ذلك الإنسان الجديد لم يعلم بأنه إنسان ولم يملك مركزية بعد. المركزية عبارة عن كائن آخر يحمل القدرة على التمييز والاختيار واختيار الأفضل وهو الذي يمكن أن يكون سليما يقوم بعمله خير قيام أو مريضا يخطئ في تحركاته. ذلك الكائن يحتاج إلى عناية خاصة من ربه ليكون منسجما مع البدن الجديد الذي لم يتكامل بعد. ولذلك يقول سبحانه: فسواك. بمعنى أنه سواك أنت مع بدنك الذي به ستعيش مع نفسك في الدنيا.
قال تعالى في سورة الشمس: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10). فاعل التسوية هو الله تعالى والنفس لا زالت في طور التكوين. هي لحظة غير واضحة لنا بعد ارتباط الحيمن بالبويضة واستعداد الكائن الجديد للتفاعل وصنع الإنسان. لقد منح الله تعالى هذا الكائن الجديد نفسا منسجمة مع البدن الحيواني لتدير عملية الخلق الكامل وعملية التفاعل بعد الظهور خارج رحم الأم. هذه هي حقيقتنا التي يمكنها أن تستلهم الفجور والتقوى. وهذه هي التي تعطينا الوحدوية أو ما يُعرف بالإنجليزية بـ (Individuality). تلك العملية هي التي تجعل لكل واحد منا بدنا مميزا عن بدن أقرب الناس إلينا. والحيوانات لا تحمل تلك النفس الخاصة ولذلك نراها متشابهة كثيرة مع بعضها البعض. إن وجوه كل البشر متفاوتة مميزة إلا أن وجوه كل الحيوانات الأخرى متشابهة يصعب التمييز بينها. فللكائن الجديد المسمى بالنفس دور كبير في صناعة بدننا كبشر.
3. هندسة البدن الإنساني (فعدلك):
أو صناعة البدن الإنساني المتميز عن البدن الحيواني. وبما أن الحيوانات أيضا تمتاز بالمركزية في أبدانها فهناك شيء مثل النفس مخلوقة معها قبل التعديل الجيني ولكنها ضعيفة لا تساعدها كثيرا على الفردية والشعور بأن كل واحد منها كائن مميز بعينه. وبما أن النفس الإنسانية والمشابهة لها الحيوانية مصنوعة قبل التعديل الجيني فإن هناك سلطة نفسية دون شك على صناعة البدن من لحظة شروع التعديلات الجينية التي تميز الفرد عن الفرد الآخر. سوف نتحدث عن البدن الإنساني ثم نسعى لفهم التشابه بيننا وبين الأنعام.
لعلنا نشعر بأن كل مجموعة بشرية في عائلة واحدة مثل عدة أبناء من أبوين محدودين أو عدة بنات منهما فإن لكل منهم فرديته الخاصة به. حتى التوائم الذين يُخلقون في بويضة واحدة (Identical) فإن لكل منهم ميزاته الشخصية إن في قسمات وجهه أو في خلاله أو في أفكاره ولو أنها متقاربة لكنها متميزة في النهاية. السبب هو أن لكل واحد منهم نفس خاصة به ومخلوقة مباشرة من الله تعالى بما يتناسب مع بدنه المادي المكون من خلايا الأبوين. بالطبع أن هناك عدة مؤثرات في تشكل البدن ومنها التطور. والتطور هو العامل الأساسي للتقدم إلى الأمام وعدم البقاء على وتيرة واحدة أو العودة إلى الوراء. سوف لا نتحدث عنها هنا.
وقال تعالى في سورة غافر: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64). وقال سبحانه في سورة التغابن: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4).
كما نعلم بأنه تعالى بدأ خلق الإنسان من طين بمعنى أنه سبحانه حينما أراد أن يخلق إنسانا فإنه لم يطور قردا أو حيوانا مشابها إلى إنسان. إنه خلق كل الكائنات الحيوانية من الطحالب ولكنه تعالى بالنسبة للإنسان فإن نبتة طحلبية أحادية الخلية قدر الله تعالى لها منذ البداية أن تكون هي الأساس لخلق الإنسان بعد مئات الملايين من السنين وبعد الكثير من الطفرات الجينية. فالحيوانات التي انحدرنا منها ليست قرودا بل هي مشابهة لنا ولذلك قال بأن أبوينا انحدرا من أبوين ولكنهما حيوانان. ونحن من جنسهما بتغيير بسيط. هناك عدة إشارات في القرآن الكريم لهذه العملية، قد نتحدث عنها مستقبلا.
قدَّر الله تعالى لذلك الحيمن الصغير أن يدخل المكان المناسب فيرى كل ما يحتاج إليه للبقاء والعيش فيتعلق بخلية أخرى تساعده على التطور والبقاء وعلى التكاثر الثنائي. هكذا يبدأ خلق الكائن الجديد.
والتعديل الجيني كما أظن هو بمعنى التصوير. ولذلك شرح الله تعالى الكلمة الكريمة بقوله في سورة الإنفطار كما ذكرنا أعلاه: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8). فالتصوير بمشيئة الرحمن هو بمثابة تفسير لقوله الكريم: فعدلك. وللذين يميزون الفرق بين المشيئة والإرادة فإن قانون التصوير صارم لا يمكن تغييره ولذلك فهو أكثر إتقانا من قانون الإرادة الذي يمكن تغييره بسهولة عند الله تعالى. وأظن بأن السبب في أن الله تعالى حينما أراد تغيير جنسية أبينا آدم رحمه الله تعالى وكذلك جنسية المسيح من الأنثى إلى الذكر فإنه سبحانه بعث الروح الأمين ليقوم بالعملية. إنها تخالف قانون المشيئة وتغيير القانون يحتاج إلى عناية خاصة من الذي بيده ملكوت كل شيء جل جلاله.
فعملية التركيب الجيني التي يعرفها علماء الجينات الوراثية بصورة جزئية في غاية التعقيد وهي أساس التصوير أو تعيين صورة الإنسان الجديد.
والقرآن يهتم كثيرا بعملية تصوير الإنسان إذ أن شخصياتنا تتميز خَلقيا بعملية التصوير الجيني. ونرى القرآن ينسب العملية دائما إلى الله تعالى. فحري بنا أن نلاحظ كل تلك الآيات ولو بدون تفسير:
1. قال تعالى في سورة آل عمران: إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6).
2. وقال تعالى في سورة الأعراف: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11).
3. وفي سورة غافر: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64).
4. وفي سورة الحشر هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24): .
5. وفي سورة التغابن: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3).
6. وأخيرا في سورة الانفطار: يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8).
الذات:
ذات في العربية هي مؤنث ذو وتعني صاحب برأي علماء اللغة. بالإضافة إلى أنها تثنى وتجمع فيقال ذواتا وذوو أو ذوي وذوا الخ. ولا يُضاف ذو إلى مضمر أبدا بل إلى ظاهر.
وأما الذات بمعنى أصل الشيء وحقيقته فهي ليست كلمة عربية وإنما استعملها المتكلمون والفلاسفة ولا يمكن أن تكون مذكورة في القرآن الكريم بذلك المعنى الاصطلاحي. ولعلها كلمة فارسية لأني رأيت إخواننا في إيران يستعملونها كثيرا بالمعنى الاصطلاحي. وأنا أجهل تاريخ دخول الكلمة في لسان العرب.
وهناك جملة في دعاء الصباح المنسوب إلى الإمام علي عليه السلام وهي: يا من دل على ذاته بذاته. فلو كان تاريخ الدعاء صحيحا فهو يعني بأن عليا عليه السلام قد استعمل الكلمة معربة. ولكنني أشك في ذلك كثيرا. قد تكون الجملة مضافة إلى دعاء الصباح فيما بعد.
وأما قول بعض الإخوة الكرام بأن ذات الصدور عضو أو مكان أو أمكنة داخل التجويفات في الرأس وغير الرأس فهو غير صحيح برأيي المتواضع. ولنلق نظرة إلى كل موارد ذكر الله تعالى لكلمتي ذات الصدور.
آل عمران:
هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
…وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
وقال تعالى مثل ذلك في المائدة: 7 وفي الأنفال: 43 وفي لقمان: 23 وفي فاطر: 38 وفي الزمر: 7 وفي الحديد:6.
وقال تعالى في سورة هود:
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5). الثياب تعني القلب في العربية القديمة. وقال سبحانه بنفس المعنى في سورة التغابن: 4 وفي سورة الملك: 13.
الشورى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
وقال سبحانه في سورة يونس: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57). ولا نرى كلمة ذات مستعملة في الآية الكريمة لكنها تعني ذات الصدور.
الحج:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46). والمعنى مشابه لما سبق مع حذف ذات واستبدالها بالتي في الصدور. أو بما تخفي الصدور كما في سورة غافر: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وأما في سورة العاديات فإنه سبحانه صرح بأن المعلومات كلها في الصدور التي تتحصل قبل يوم القيامة بعد أن يقوم الناس من القبور الجديدة في الأرض الجديدة. فقال تعالى: أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11).
فلا توجد مجموعة عضوية باسم ذات الصدر وليس الصدر النفسي هو ذات الصدور. إنما تُحفظ المعلومات كلها في الصدر النفسي والله تعالى عليم بها جميعا. بالطبع أن العلم هنا واسع يشمل الحالة والكيفية والضغوط وكل ما يؤثر في الحكم على حقيقة العمل.
4. تعيين الجنسية:
والنعمة الرابعة هي أنه سبحانه يجعل بعضنا ذكورا وبعضنا إناثا. فالناتج الدنيوي مختلف لنتكاثر بدنيا على أساسها ولكن الحقيقة الإنسانية هي نفس لا تحمل الجنسية. إنها خلقت قبل التعديل الجيني المميِّز للإنسان الجديد. فالنفس التي نراها في بدن الذكر هي مماثلة من حيث العناصر للنفس التي نراها في بدن الأنثى. فهي نعمة دنيوية محضة كما أنها نعمة أخروية أيضا. بمعنى أننا في الحياة الآخرة لسنا ذكورا ولا إناثا. ولذلك لن تجد في كتاب الله تعالى أي خطاب أنثوي للذين انتقلوا من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة. إنهم جميعا ذكور نسبيا، لأنهم فقدوا جنسيتهم كاملة حين الموت. فهم لو دخلوا الجنة إخوان بلا أخوات. والخلق الفردوسي المؤنث (الحور العين) إكرام لهم وليس هناك ارتباط جنسي طبعا لأن الحور العين ليست مستعدة للتكاثر. فالتي كانت في الدنيا زوجة مؤمنة لرجل مؤمن فهي ليست أنثى يوم القيامة بل هو وليس هي مثل زوجها بل زوجه من حيث الجنسية. هما رجلان مستقلان قد يصيران أخوين أو دون ذلك. وأما قول سلفنا رحمهم الله تعالى بأن زوجات المؤمنين يبقين زوجات اللمؤمنين في الآخرة إضافة إلى الحور العين؛ فهو قول بائس. ذلك من نتائج الفقه الذكوري الذي ابتلي به المسلمون فظنوا بأن الله تعالى جعل الرجل عنصرا أهم من المرأة في كلتا النشأتين. حاشاه سبحانه فالجنسان متساويان عند الله تعالى في الدنيا ولا جنس في الآخرة إطلاقا.
فنحن في الخلية الأولى يصير بعضنا ذكورا وبعضنا إناثا تبعا لحاجتنا الدنيوية للتكاثر وبتقدير من ربنا. ولولا هذه النعمة الكبيرة لانقطع النسل البشري بعد وفاة أبوينا الأولين. كما أن التقدير الأولي هو المناصفة العددية بين الجنسين باعتبار حساب الاحتمالات فكل ذكر يقابله أنثى تقريبا في حياتنا الدنيا. يشعر الإنسان بأن إنسانيته تكاملت بعد أن أنجب فصار الذكر أبا والأنثى أما. بمعنى أنهما خلقا إنسانا جديدا مثلهما وهو يمثل أكبر عملية تطورية ممكنة للإنسان. هي نعمة يشعر بها كل الحيوانات ولكن النوع الإنساني منها يشعر بأنه أوجد مفكرا قادرا على الإحداث وتطوير الحياة وتدبير المعاش وإحياء الأرض والقيام بالصناعة والزراعة والتجارة والتعليم وكذلك التعلم. فنحن نشعر بأننا شاركنا في تطوير الحياة وتطوير الأرض وتطوير المباني والمصانع والمزارع وأعددنا لمستقبلنا إنسانا مثلنا يحبنا ويساعدنا ويكمل مسيرتنا النهضوية في سبيل التقدم والازدهار.
كيف نُخلق في الخلايا الأولية:
ولننظر الآن كيف يخلقنا ربنا في الخلية الأولى أو ابتداء من الخلية الأولى. قال تعالى في سورة الزمر: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6). الخطاب للحاضرين أمام رسولنا عليه السلام بمن فيهم الرسول نفسه. إنهم نماذج لنا وليس من بينهم آدم ولا المسيح اللذان خلقا بشكل آخر. لاحظوا الجملتين الكريمتين في آية واحدة: خلقكم ثم يخلقكم في بطون أمهاتكم. خلقهم من نفس واحدة ويخلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق.
دعنا نشرح باختصار هذه الجزئية ثم نتحدث عن خلق النفس. يخلقنا ربنا نحن والأنعام الأربعة في بطون أمهاتنا في ثلاثة أكياس معروفة هن:
1. الأديم الظاهر (ectoderm)
2. الأديم المتوسط (endoderm)
3. الأديم الباطن (mesoderm)
سماها ربنا الظلمات وكما أظن بأنها ظلمات باعتبار أن الأديم يبعد الكائن الجديد عن الطاقة المتأججة الفعالة في البدن لأن الجنين بحاجة إلى مكان مريح لتتمكن الخلايا من التفاعل بداخلها براحة ثم يتفاعلن معا بعد أن تتكامل صناعة كل المكونات التي تقوم بها الأكياس الثلاثة. فالظلمات هنا مقابل النور وليس مقابل الضياء. والنور حسب تعريفي المتواضع هو:
قوة الدفع الاختياري
واختيار النور بيد الله تعالى وليس بيد الممكنات طبعا. وكل أديم مسؤول عن صناعة مجموعة من الخلايا الجديدة كما يعلم أهلها.
وهناك فروق بين خلق الإنسان وخلق الأنعام الأربعة التي خلقها الله تعالى طعاما للبشر. وقد كتبت مقالة توضح الفروق قبل فترة طويلة ونشرتها في مركز تطوير الفقه السني يومها. وليكن واضحا للقراء الكرام بأن الأكياس الثلاثة ليست خاصة بنا وبأنعامنا فهي مشتركة مع بقية الحيوانات تقريبا. ولكن العناية هنا بنا وبالأنعام الأربعة باعتبار أنها مخلوقة بطريقة مشابهة لخلقنا لنستفيد منها في مـاكلنا. والطعام كما نعلم يدخل في تركيبة الإنسان بصورة قوية بمعنى أن الخلايا تبقى على حالها حين الأكل فنحتاج إلى أن ناكل لحوما قريبة من أبداننا حتى لا نتأثر سلبيا بتلك اللحوم. واللحم ضروري يساعد على عمليات معقدة للمخ. تلك العمليات تقوم بها النفس مستفيدة من خلايا المخ الثابتة التي لا تتغير لتكون النتائج من آثار صنع الإنسان نفسه فتبقى معنا. والبدن الإنساني كما نحتمل ينتظر الخلايا المناسبة منا لحاجته إليها. والعلم عند سيد الكائنات جل جلاله.
تم القسم 2 من 6 ويتلوه القسم 3 من 6 وأوله: حقيقة النفس الإنسانية.
أحمد المُهري
#النفس_و_الروح
#تطوير_الفقه_الاسلامي