النفس والروح في القرآن الكريم
النفس والروح في القرآن الكريم
رجاء:
هذا الموضوع معقد قليلا فأرجو ممن لا يملك الوقت الكافي للإمعان فيه وقراءته بتأنٍّ أن يتركه فقد يضره ولا ينفعه.
كتبت هذا الموجز بعد اطلاعي على فيديو مختصر للأخ الكيالي المعروف وأخ معمم لم يذكر الفيديو اسمه حول الفرق بين النفس والروح.
الأخ الدكتور الكيالي والأخ المعمم تعرضا لمسألة قرآنية مهمة بكل احترام ويستحقان منا كل التقدير. سعيا وسعي المؤمن مشكور عند ربه. وهكذا الشيخ المفيد رحمه الله تعالى الذي نقل عنه السيد المعمم فهو أيضا سعى وسعيه مشكور. ولو أنني خالفتهم بعض الشيء فهذا لا يعني بأنني على حق وبأنهم على باطل. الذي يفصل في هذه الاختلافات هو الله تعالى يوم القيامة. ذلك لأن الموضوع ليس من المحكمات الواضحة في القرآن الكريم بل هو قطعا من المتشابهات. فأنقل للطالبين رأيي راجيا أن يكون قريبا من الصحة. وأظن بأن الأخ الكيالي كان موفقا هذه المرة في فهم التغاير بينهما.
كما أنني استمعت إلى عدة محاضرات قدمها الأخ الفاضل الدكتور صادق العبد الوهاب في واحة الحوار القرآني، حول فهمه للقلب والصدر والفؤاد وشيء آخر أسماه ذات الصدور. هو أيضا سعى لفهم المسائل وكان موفقا في العرض بصورة لائقة ولكن تحقيقاته برأيي المتواضع لم تكن دقيقة ولا شاملة لكل جوانب الموضوع الهام. ففي هذا المختصر أوضح رأيي بنوع من الاستدلال وهو معلوم لدى غالبية أعضاء جلستي التفسير اللتين كنت أخدمهما محاضِرا فترة غير قصيرة من الزمان. لكنني أوصيهم أيضا بدراسة هذا الموجز ليكتشفوا أخطائي وينبهوني عليها أولا، ولعلهم يزدادوا علما بالنفس والروح بإذن الرحمن عز اسمه.
بالطبع لدي معلومات قرآنية غير قليلة في فهم الروح والنفس وسوف أختصر جهد الإمكان وأترك التفصيل لمن يسألني أو يكتفي السامع بهذا القدر.
نبدأ بالإنسان في بداية خلقه. إنه بلا شك عبارة عن اجتماع خليتين أحاديتين من الأب والأم الطبيعيين. فلا توجد نفس ولا يوجد شيء اسمه الروح في البداية. لكن العلم أثبت بأن بويضة الأم غير متحركة والمتحرك هو الحيمن الذكري القادم من الأب. الحيمن عبارة عن خلية إنسانية لكن الكروموزومات وهكذا الجينات الملتصقة بها تمثلن إما خلية ذكورية أو خلية أنثوية. بمعنى أن الحيوان المنوي الغازي للبويضة لا يحمل الكروموزومين الجنسيين معا كما هو الحال في بقية خلايا صاحبه.
فهناك بويضة لا تتحرك وحيمن يتحرك في الحكاية. ولكنهما كلاهما يتمتعان بالحياة. البويضة تتمتع بالحياة النباتية ولكن الحيمن متمتع بالحياة الحيوانية التي تزداد على حياة البويضة بقدرتها على التحرك أو ما نسميها الحياة الحيوانية. لازال الإنسان يجهل علميا سر الحياة إن في النبات أو في الحيوان. لكن القرآن الكريم يعلمنا بأن الحياة إضافة سماوية إلى المادة وليست طبيعية للكائنات. فنحن عمليا نرى بأن البذرة ميتة تماما ولا تتحرك ولكنها بمجرد أن توضع في المكان المناسب وتضاف إليها الماء فإنها هي التي تتحرك دون الماء والأرض. قال تعالى في سورة يس: وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36).
وقال سبحانه في سورة الأنعام: إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95). فهو سبحانه يخرج النباتات الحية من الحبة الميتة؛ وهو سبحانه قد سبق وأن أخرج الحبة الميتة من النبات الحي. والعملية إلهية من الجانب التقديري أو التدبيري، بمعنى أنها ليست مما عملت أيدينا. أو ليست مما استقللنا في إنتاجه مما أورثنا الله تعالى إياها. ولذلك قال سبحانه في سورة يس بأنه خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسنا ومما لا نعلم. والمقصود بالأزواج هنا هي الأزواج البشرية طبعا لقوله الكريم: ومن أنفسهم. إنه ضمير خاص بالمدركين وإلا كان يقول سبحانه ومن أنفسها. وضمير المؤنث عام للجنسين.
فهناك ثلاثة أشياء حين صناعة الإنسان:
1. البدن النباتي المصنوع من الأرض أو من نبات الأرض.
2. النفس الإنسانية للإنسان المشابهة لبعضها البعض بصورة جزئية طبعا وإلا كنا عين آبائنا أو عين أمهاتنا.
3. شيء آخر لا نعلمه. لعل بعضنا يتحدث عن ذلك الشيء الآخر ولكنني أفضل عدم الإفصاح عن أمر يصعب علينا إدراكه واحتمال الخطأ في فهمنا له أكبر بكثير من احتمال الخطأ في فهمنا للنفس وللبدن.
فما هو البدن النباتي بداية؟
قال تعالى في سورة الأنعام: وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99). هناك تركيب ضوئي حصل بين الماء والشمس في شقوق الأرض كما نظن مصحوبا بعناية خاصة منه تعالى لقوله الكريم: وهو الذي أنزل، وقوله: أخرجنا. ذلك التركيب أو التخليق الذي حول الطاقة الضوئية من الشمس إلى طاقة كيميائية يمكن تخزينها في حويصلات العناصر المكونة للنبات ولعلها الحويصلات السكرية.
وقال تعالى في سورة عبس: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27). فالحب المتراكب المذكور في سورة الأنعام أعلاه لا يتحقق إلا في شقوق الأرض حتى تأخذ من الشمس ما تحتاج إليه دون أن تحترق بإشعاعاتها وتحول الطاقة الشمسية إلى طاقة كيميائية. هناك تتحصل الطحالب بداية ومنها تتكون النباتات الثنائية التي تنتج البذرة الميتة او الحبة. والمتراكب يشير برأيي المتواضع إلى الخلايا الثنائية بعد أن كان الخضر البدائي أو الطحلب أحادي الكروموزومات عاجزا عن التكاثر الخلوي.
ثم ما هو البدن الحيواني؟
البدن الحيواني عبارة عن كائن مؤلف من مجموعة من الخلايا الثنائية التي تتكاثر بطرق مختلفة لتصنع للبدن الحيواني ما تحتاج إليه من أعضاء وأجهزة ومخاخ ودم وعظم ولحم وشحم وجلد وغيرها. هناك خلايا أحادية لدى كلا الجنسين وهي لا علاقة لها بالتكاثر الخلوي للبدن الذي يستضيف تلك الخلايا. كل هذه التفاعلات تحتاج إلى عناية ربانية خاصة ولن تأتي بصورة طبيعية محضة. قال تعالى في سورة يس: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71). والفرق بين التركيبة النباتية وأختها المتطورة الحيوانية كما نشاهد وجدانا هو أن النباتات لا تملك مركزية تأخذ المعلومات من مختلف مقاطع الشجرة أو أية نبتة لتتبلغ بأن هناك خطرا محدقا بها لتدافع عن نفسها، لكن الحيوان يملك مركزية تحرك قدراتها لتدافع عن نفسها. تلك هي النفس بصورة مصغرة.
فالنباتات كلها عبارة عن خلايا ثنائية وبعض البدائية منها أحادية ولكنها لا تملك نفسا مركزية أو ما تشابه النفس. ولذلك ليس لنا إلا أن ننسب التنوعات التي نراها في الشجرة الواحدة من ورق وورد وفاكهة وأغصان وجذور وغيرها إلى الذي يحرك الكائنات بطرق مختلفة لتنتج أشياء مختلفة سبحانه وتعالى. فالعناصر الأصلية التي لا نعلم منها إلا قليلا تتحرك بصور متباينة لتخلق لنا العناصر التي نعرفها وهي اليوم في حدود 120 عنصراً. وتلك العناصر تتحرك بصور متباينة لتخلق لنا الكواكب والمياه والأشجار والهواء والفضاء وكل شيء مما نراه أو نشعر به دون أن نراه.
وأما البدن الإنساني:
فهو كائن حيواني مصنوع من الأجسام النامية المختلفة ولكنه يحمل نفسا مركزية قوية تدير البدن كما تدير أعمال المرء. فالنفس الإنسانية أقوى من النفس الحيوانية بل هي النفس حقيقة؛ ولكن الحيوان يحمل شيئا مشابها للنفس الإنسانية لتحمي البدن وتساعده على الحياة الطيبة. ولا ننس بأننا نتحدث عن البدن الإنساني وليس عن النفس الإنسانية في هذه الجزئية. ذلك لأن الله تعالى يعتبرنا أناسي حتى بعد أن نفقد أبداننا الحيوانية. قال تعالى في سورة القيامة: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الإنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10). سنكون آنذاك نفوسا مجردة عن المادة أو عن الحيوانية والله تعالى يعتبرنا إنسانا.
التعديل الجيني:
فما نراه من فوارق كبيرة بيننا وبين الأنعام الأربعة المخلوقة لنا هي بسبب النفس التي سواها الله تعالى مع أبداننا المنحدرة من أبوينا ولكنها في النهاية متميزة تميزا واضحا. فما الذي تفعله النفس في صناعة البدن. البدن الذي يبدأ بالتشكل إثر التعديل الجيني في الخلايا. هذا التعديل الجيني هو الذي يحدد صورة الإنسان.
لنعد إلى آيات سورة الانفطار: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8). التركيبات الكروموزومية بل الجينية داخل الخلية الأولى هي التي تحدد صورة كل واحد منا؛ كما أنها هي التي تحدد جنسيتنا ذكرانا أو إناثا.
صحيح أن الحيمن الذكوري لا يمكن أن ينتج إنسانا أنثى ولكن الحيمن الأنثوي يمكن أن ينتج الذكر أو الأنثى. وهناك أنثيان في التاريخ الإنساني هما آدم والمسيح وقد حولهما الروح القدس إلى ذكرين. فقوله تعالى بأن الذكر والأنثى يتحققان بعد التعديل الجيني قد يكون بهذا الاعتبار. لكنه سبحانه قال أيضا في سورة القيامة: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (39). أولى لك تعني أنعم عليك ولصالحك ولا تعني خير لك أو أنسب لك كما ظن البعض. فالله تعالى في هذه الآيات يتحدث عن أربعة نعم متتالية حين خلقنا جميعا. تلك النعم السماوية هي التي ميزتنا عن بقية الحيوانات وأعطتنا الشخصية الفردية ليحاسبنا ربنا مستقلين يوم الحساب.
النعم الأربعة هي:
1. خلق الخلية الأولى:
كنا مقطعا جزئيا صغيرا من نطفة مني يُمنى فيتم اختيار واحدة من بين مئات الملايين المشابهة من الحيوانات الصغيرة. هناك نعمة اختيار تلك القطعة المتناهية في الصغر لنكون تحت عناية السيد المتعالي. والله تعالى يختار أفضل الحيامن الموجودة داخل الكمية المتدفقة من السائل المنوي. قال تعالى في سورة السجدة: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9). نعلم من هذه الآيات الكريمة بأنه سبحانه يختار الأحسن كما نعلم بأن البشر ابتداء من أبويهم آدم وزوجه جميعا خلقوا بنفس الترتيب الذي نُخلق نحن اليوم. فالخلية الأولى عبارة عن اجتماع الخلية الأحادية القادمة من الأب مع الخلية الأحادية المخزنة لدى الأم على شكل بويضة متناهية الصغر.
2. خلق النفس الإنسانية:
بعد أن عرفنا البدن الإنساني بصورة جزئية آن لنا السعي للتعرف على وقت خلق النفس الإنسانية. قال تعالى في سورة الانفطار: يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8). لنتعرف على المراحل الثلاث من واقع ما تعلمناه أعلاه.
الذي خلقك:
الخلق بداية هو اجتماع الحيمن الذكوري بالبويضة الأنثوية. هناك حيمن ذكوري انتقل من الأب وهو بنفسه إما حامل للكروموزوم الذكوري أو الكروموزوم الأنثوي. قام الحيمن بغزو البويضة الأنثوية التي تمثل خلية أنثوية محضة. بمعنى أنها جميعها لا تحمل الكروموزوم الذكري. بعد الغزو سواء كان الغازي حاملا الكروموزوم الذكري أو الأنثوي؛ يتحقق الخلق. ثم تأتي المرحلة الثانية.
فسواك:
الفاء تدل على التراخي باعتبارها مرحلة متأخرة عن الأولى. لقد تم في المرحلة الأولى ما كانت الطبيعة محتاجة فيها إلى عناية سماوية خاصة وتكاملت داخل البويضة مقومات خلق إنسان جديد. ذلك الإنسان الجديد لم يعلم بأنه إنسان ولم يملك مركزية بعد. المركزية عبارة عن كائن آخر يحمل القدرة على التمييز والاختيار واختيار الأفضل وهو الذي يمكن أن يكون سليما يقوم بعمله خير قيام أو مريضا يخطئ في تحركاته. ذلك الكائن يحتاج إلى عناية خاصة من ربه ليكون منسجما مع البدن الجديد الذي لم يتكامل بعد. ولذلك يقول سبحانه: فسواك. بمعنى أنه سواك أنت مع بدنك الذي به ستعيش مع نفسك في الدنيا.
قال تعالى في سورة الشمس: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10). فاعل التسوية هو الله تعالى والنفس لا زالت في طور التكوين. هي لحظة غير واضحة لنا بعد ارتباط الحيمن بالبويضة واستعداد الكائن الجديد للتفاعل وصنع الإنسان. لقد منح الله تعالى هذا الكائن الجديد نفسا منسجمة مع البدن الحيواني لتدير عملية الخلق الكامل وعملية التفاعل بعد الظهور خارج رحم الأم. هذه هي حقيقتنا التي يمكنها أن تستلهم الفجور والتقوى. وهذه هي التي تعطينا الوحدوية أو ما يُعرف بالإنجليزية بـ (Individuality). تلك العملية هي التي تجعل لكل واحد منا بدنا مميزا عن بدن أقرب الناس إلينا. والحيوانات لا تحمل تلك النفس الخاصة ولذلك نراها متشابهة كثيرة مع بعضها البعض. إن وجوه كل البشر متفاوتة مميزة إلا أن وجوه كل الحيوانات الأخرى متشابهة يصعب التمييز بينها. فللكائن الجديد المسمى بالنفس دور كبير في صناعة بدننا كبشر.
3. هندسة البدن الإنساني:
أو صناعة البدن الإنساني المميز عن البدن الحيواني. وبما أن الحيوانات أيضا تمتاز بالمركزية في أبدانها فهناك شيء مثل النفس مخلوقة معها قبل التعديل الجيني ولكنها ضعيفة لا تساعدها كثيرا على الفردية والشعور بأن كل واحد منها كائن مميز بعينه. وبما أن النفس الإنسانية والمشابهة لها الحيوانية مصنوعة قبل التعديل الجيني فإن هناك سلطة نفسية دون شك على صناعة البدن من لحظة شروع التعديلات الجينية التي تميز الفرد عن الفرد الآخر. سوف نتحدث عن البدن الإنساني ثم نسعى لفهم التشابه بيننا وبين الأنعام.
لعلنا نشعر بأن كل مجموعة بشرية في عائلة واحدة مثل عدة أبناء من أبوين محدودين أو عدة بنات منهما فإن لكل منهم فرديته الخاصة به. حتى التوائم الذين يُخلقون في بويضة واحدة (Identical) فإن لكل منهم ميزاته الشخصية إن في قسمات وجهه أو في خلاله أو في أفكاره ولو أنها متقاربة لكنها متميزة في النهاية. السبب هو أن لكل منهم نفس خاصة به ومخلوقة مباشرة من الله تعالى بما يتناسب مع بدنه المادي المكون من خلايا الأبوين. بالطبع أن هناك عدة مؤثرات في تشكل البدن ومنها التطور. والتطور هو العامل الأساسي للتقدم إلى الأمام وعدم البقاء على وتيرة واحدة أو العودة إلى الوراء. سوف لا نتحدث عنها هنا.
وقال تعالى في سورة غافر: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64). وقال سبحانه في سورة التغابن: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4).
كما نعلم بأنه تعالى بدأ خلق الإنسان من طين بمعنى أنه سبحانه حينما أراد أن يخلق إنسانا فإنه لم يطور قردا أو حيوانا مشابها إلى إنسان. إنه خلق كل الكائنات الحيوانية من الطحالب ولكنه بالنسبة للإنسان فإن نبتة طحلبية أحادية الخلية قدر الله تعالى لها منذ البداية أن تكون هي الأساس لخلق الإنسان بعد مئات الملايين من السنين وبعد الكثير من الطفرات الجينية. فالحيوانات التي انحدرنا منها ليست قرودا بل هي مشابهة لنا ولذلك قال بأن أبوينا انحدرا من أبوين ولكنهما حيوانان. ونحن من جنسهما بتغيير بسيط. هناك عدة إشارات في القرآن الكريم لهذه العملية، قد نتحدث عنها مستقبلا.
قدَّر الله تعالى لذلك الحيمن الصغير أن يدخل المكان المناسب فيرى كل ما يحتاج إليه للبقاء والعيش فيتعلق بخلية أخرى تساعده على التطور والبقاء وعلى التكاثر الثنائي. هكذا يبدأ خلق الكائن الجديد.
الذات:
ذات في العربية هي مؤنث ذو وتعني صاحب برأي علماء اللغة. بالإضافة إلى أنها تثنى وتجمع فيقال ذواتا وذوو أو ذوي وذوا الخ. ولا يُضاف ذو إلى مضمر أبدا بل إلى ظاهر.
وأما الذات بمعنى أصل الشيء وحقيقته فهي ليست كلمة عربية وإنما استعملها المتكلمون والفلاسفة ولا يمكن أن تكون مذكورة في القرآن الكريم بذلك المعنى الاصطلاحي. ولعلها كلمة فارسية لأني رأيت إخواننا في إيران يستعملونها كثيرا بالمعنى الاصطلاحي. وأنا أجهل تاريخ دخول الكلمة في لسان العرب.
وهناك جملة في دعاء الصباح المنسوب إلى الإمام علي عليه السلام وهي: يا من دل على ذاته بذاته. فلو كان تاريخ الدعاء صحيحا فهو يعني بأن عليا عليه السلام قد استعمل الكلمة معربة. ولكنني أشك في ذلك كثيرا. قد تكون الجملة مضافة إلى دعاء الصباح فيما بعد.
وأما قول أخينا الدكتور صادق بأن ذات الصدور عضو أو مكان أو أمكنة داخل التجويفات في الرأس وغير الرأس فهو ليس مصيبا برأيي. ولنلق نظرة إلى كل موارد ذكر الله تعالى لكلمتي ذات الصدور.
آل عمران:
هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
…وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
وقال تعالى مثل ذلك في المائدة: 7 وفي الأنفال: 43 وفي لقمان: 23 وفي فاطر: 38 وفي الزمر: 7 وفي الحديد:6.
وقال تعالى في سورة هود:
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5). الثياب تعني القلب في العربية القديمة. وقال سبحانه بنفس المعنى في سورة التغابن: 4 وفي سورة الملك: 13.
الشورى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
وقال سبحانه في سورة يونس: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57). ولا نرى
الحج:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46). والمعنى مشابه لما سبق مع حذف ذات واستبدالا بالتي في الصدور. أو بما تخفي الصدور كما في سورة غافر: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وأما في سورة العاديات فإنه سبحانه صرح بأن المعلومات كلها في الصدور التي تتحصل قبل يوم القيامة بعد أن يقوم الناس من القبور الجديدة في الأرض الجديدة. فقال تعالى: أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11).
فلا توجد مجموعة عضوية باسم ذات الصدر وليس الصدر النفسي هو ذات الصدور كما تصور الأخ الكريم. إنما تُحفظ المعلومات كلها في الصدر النفسي والله تعالى عليم بها جميعا. بالطبع أن العلم هنا واسع يشمل الحالة والكيفية والضغوط وكل ما يؤثر في الحكم على حقيقة العمل. فأظن بأن فضيلة الدكتور صادق يحتاج إلى إعادة النظر في بحثه القيم.
4. تعيين الجنسية:
والنعمة الرابعة هي أنه سبحانه يجعل بعضنا ذكورا وبعضنا إناثا. فالناتج الدنيوي مختلف لنتكاثر بدنيا على أساسها ولكن الحقيقة الإنسانية نفس لا تحمل الجنسية. إنها خلقت قبل التعديل الجيني المميِّز للإنسان الجديد. فالنفس التي نراها في بدن الذكر هو مماثل من حيث العناصر للنفس التي نراها في بدن الأنثى. فهي نعمة دنيوية محضة كما أنها نعمة أخروية أيضا. بمعنى أننا في الحياة الآخرة لسنا ذكورا ولا إناثا. ولذلك لن تجد في كتاب الله تعالى أي خطاب أنثوي للذين انتقلوا من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة. إنهم جميعا ذكور نسبيا، لأنهم فقدوا جنسيتهم كاملة حين الموت. فهم لو دخلوا الجنة إخوان بلا أخوات. والخلق الفردوسي المؤنث (الحور العين) إكرام لهم وليس هناك ارتباط جنسي طبعا لأن الحور العين ليست مستعدة للتكاثر. فالزوجة المؤمنة للرجل المؤمن ليست أنثى يوم القيامة بل هو وليس هي مثل زوجها بل زوجه من حيث الجنسية. هما رجلان مستقلان قد يصيران أخوين أو دون ذلك.
فنحن في الخلية الأولى يصير بعضنا ذكورا وبعضنا إناثا تبعا لحاجتنا الدنيوية للتكاثر وبتقدير من ربنا. ولولا هذه النعمة الكبيرة لانقطع النسل البشري بعد وفاة أبوينا الأولين. فالإنسان يشعر بأن إنسانيته تكاملت بعد أن أنجب فصار الذكر أبا والأنثى أما. بمعنى أنهما خلقا إنسانا جديدا مثلهما وهو يمثل أكبر عملية تطورية ممكنة للإنسان. هي نعمة يشعر بها كل الحيوانات ولكن النوع الإنساني منها يشعر بأنه أوجد مفكرا قادرا على الإحداث وتطوير الحياة وتدبير المعاش وإحياء الأرض والقيام بالصناعة والزراعة والتجارة والتعليم وكذلك التعلم. فنحن نشعر بأننا شاركنا في تطوير الحياة وتطوير الأرض وتطوير المباني والمصانع والمزارع وأعددنا لمستقبلنا إنسانا مثلنا يحبنا ويساعدنا ويكمل مسيرتنا النهضوية في سبيل التقدم والازدهار.
كيف نُخلق في الخلايا الأولية:
ولننظر الآن كيف يخلقنا ربنا في الخلية الأولى أو ابتداء من الخلية الأولى. قال تعالى في سورة الزمر: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6). الخطاب للحاضرين أمام رسولنا عليه السلام بمن فيهم الرسول نفسه. إنهم نماذج لنا وليس من بينهم آدم ولا المسيح اللذان خلقا بشكل آخر. لاحظوا الجملتين الكريمتين في آية واحدة: خلقكم ثم يخلقكم في بطون أمهاتكم. خلقهم من نفس واحدة ويخلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق.
دعنا نشرح باختصار هذه الجزئية ثم نتحدث عن خلق النفس. يخلقنا ربنا نحن والأنعام الأربعة في بطون أمهاتنا في ثلاثة أكياس معروفة هن:
1. الأديم الظاهري
2. الأديم المتوسط
3. الأديم الباطني
سماها ربنا الظلمات وكما أظن بأنها ظلمات باعتبار أن الأديم يبعد الكائن الجديد عن الطاقة المتأججة الفعالة في البدن لأن الجنين بحاجة إلى مكان مريح لتتمكن الخلايا من التفاعل بداخلها براحة ثم يتفاعلن معا بعد أن تتكامل صناعة كل المكونات التي تقوم بها الأكياس الثلاثة. فالظلمات هنا مقابل النور وليس مقابل الضياء. والنور حسب تعريفي المتواضع هو:
قوة الدفع الاختياري
واختيار النور بيد الله تعالى وليس بيد الممكنات طبعا. وكل أديم مسؤول عن صناعة مجموعة من الخلايا الجديدة كما يعلم أهلها.
وهناك فروق بين خلق الإنسان وخلق الأنعام الأربعة التي خلقها الله تعالى لمأكلنا. وقد كتبت مقالة توضح الفروق قبل فترة طويلة ونشرت في مركز تطوير الفقه السني وفي تجمع المودة يومها.
حقيقة النفس الإنسانية:
وأما النفس التي خلقها الله تعالى قبل التعديل الجيني. إنها حقيقة كل فرد منا وهي ليست مجردة من التركيبات الدنيوية. بمعنى أنها ليست مثل الله تعالى ولا مثل الملائكة. فالله تعالى ليس كمثله شيء باعتبار عدم وجود جنس له أو فصل فهو المجرد بكل معنى الكلمة وليس للكائنات أن يتعرف على حقيقة وجوده جل جلاله وكما قلت لا يمكن تعريفه أيضا إذ لا جنس له. والملائكة كائنات طاقوية أو نورية مركبة طبعا وليست مجردة من التركيب لكنها مجردة من المواد ثلاثية الأبعاد المعروفة ولذلك لا يمكن رؤيتها إلا إذا تمثلت بصورة بشر وبصورة مؤقتة طبعا. وأما نفوس البشر فهي كما أظن أقرب شيء إلى الملائكة من حيث حقيقتها. وقد شرحت سابقا تركيبة النفس الطاقوية أو النورية لزملائي في تفسير القرآن الكريم.
تلك هي أنا الحقيقي. لكن النفس الإنسانية في الحياة الدنيا ضيف على البدن. بمعنى أننا كما عرفنا في سورة الانفطار نُخلق بعد خلق الأصل الأول لأبداننا. وسنكون بدائيين لحظات خلق البدن في الأرحام ولذلك ليست لنا القدرة على عمل شيء وسنكون مسيرين بالكامل. لكننا سنبقى بقاء أبديا بفعل الله تعالى. بمعنى أن بقاءنا ليست بقاء ذاتيا بل هي بقاء بفعل الله تعالى وإن شاء أن يزيلنا سنزول دون ريب. البقاء الحقيقي خاص بالله تعالى ومن الأفضل أن نسميه الحي وليس الباقي كما هو معروف بيننا. إنه تعالى لم يسم نفسه الباقي والدقة مطلوبة حينما نتحدث عن القدوس عز اسمه.
فأنا الحقيقي متمثل في نفسي وليس في بدني. وكل الأنفس التي أتت بعد آدم فهي مخلوقة من نفس آدم وليس من روح آدم كما يظن البعض. ولعل السر في أننا نُخلق من نفوسنا هو أن نحب بعضنا البعض كما تظنن بعض علماء التفسير رضي الله تعالى عنهم وعنا. هناك استثناء لشخصين بين البشر من حيث خلق البدن وهما آدم رحمه الله تعالى وعيسى عليه السلام. قال تعالى في سورة آل عمران: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59). هما مثلنا بأن نفسيهما خلقتا بعد خلق البدن من تراب تماما مثلنا كما وضحت أعلاه. لكن هناك مسألة يجب فهمها هنا.
ويمكن للمتدبر أن يشعر الفرق بين خلق كل الناس وخلق النبيين الكريمين عيسى ويحيى. قال تعالى في سورة مريم: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14). وقال سبحانه في سورة مريم أيضا: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32). لعلكم لاحظتم بأن الله تعالى أوصى يحيى بأن يبر بوالديه وأوصى المسيح بأن يبر بوالدته فهل فكرتم في السبب. هل يحتاج الأنبياء إلى مثل هذه التوصيات أم هناك فرق بينهما وبين بقية البشر؟ أنا أجهل السر في خلق يحيى وهو عندي أهم بكثير من خلق المسيح وأكثر غرابة منه. فالوالدان كانا عاجزين عن الإنجاب وهي مسألة طبيعية لا يمكن تغييرها فما الذي فعله الله تعالى بهما؟ لا أدري فعلا. ولكن مسألة خلق المسيح هين جدا فإن الروح القدس جمع خليتين أنثويتين من خلايا مريم وأزال بعض القدرات من إحداهما فأصبحتا خليتين أحاديتين ذكورية وأنثوية وصارتا قابلتين للتكاثر بالشكل الجديد. تماما مثل خلق بقية الناس. كانت مريم شابة ولا إشكال في خلاياها البدنية عدا أنها لم تملك خلية أقل تطورا من خلاياها فقام الروح القدس بعمل ذلك.
وللنفس كيان خاص بها وهي مركبة دون ريب. وباختصار فإنها كما أظن ثلاث كرات طاقوية تحيط ببعضها البعض فستكون الكرة الأولى أصغر من أختيها كما أن الكرة الأخيرة أكبر من أختيها. الكرة الصغيرة في المنتصف هي القلب النفسي وهي مكان معالجة المعلومات. والكرة المتوسطة هي الفؤاد وهي شديدة الحساسية وتنتقل بالمعلومات من الصدر ومن العالم الخارجي إلى القلب للمعالجة. لكنها تتأثر بما تحملها فتشعر القلب بأن الوحدة الخبرية القادمة مؤلمة أو مفرحة أو حاملة حقيقة علمية أو خبرا غير علمي. والكرة الكبرى المحيطة هي الصدر التي تحمل كل المعلومات عن كل ما فعلناه طيلة عمرنا. ولعل السبب بأن أعمارنا تتقلص كلما تطورت المدنية عندنا فحينما كان عمر نوح ومن معه في حدود ألف سنة فإن أعمارنا اليوم لا تتجاوز معدل الستينات؛ فلعل السبب أو أحد أهم الأسباب هو أن خزانة الصدر محدودة لا يمكن لها أن تجمع كما هائلا من المعلومات. وبما أن الصدر هو المسؤول عن حماية معلوماتنا فإننا نخزن فيه كل ما نفعل سواء ما سمعناه ورأيناه أو ما عالجناه أو ما شعرنا به من معلومات أو ما تقبلناه من أفكار وغيرها؛ فإنه هو الذي يعيش معنا ولا يموت أبدا فيحاكمنا ربنا يوم القيامة على أساس ما قمنا بتخزينه هناك من معلومات. والعلم عند المولى. وأما الشهادات التي نسمعها يوم القيامة من أعضائنا فهي ليست من معلومات الصدر بل هي من تحولات الخلايا نفسها المخزنة عند الله تعالى على شكل ديجيتالي. شرحت ذلك أيضا عدة مرات لزملائي في التفسير ولا مجال لذكرها هنا.
هذا باختصار يمثل حقيقة النفس. وهي التي تعني أنا في واقعها.
التركيبة النفسية في القرآن الكريم:
قال تعالى في سورة الحج: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46). القلب هنا ليس هو القلب العضلي قطعيا باعتبار أن وظائف ذلك القلب مادية لا علاقة لها بالإدراك. الإدراك قوة سماوية ممنوحة للإنسان ليميزه عن أشباهه من الحيوانات ولا سيما الأنعام الأربعة وليجعله كائنا معرضا للاختبار وموعودا بالجزاء يوم القيامة. فهو دون شك يحمل شيئا معه بعد الموت ليبقى معه وهو نفسه كما يبدو. النفس ليست مادية وهي قادرة على البقاء وهناك ملك موكل بكل شخص وهو مأمور لينقذ النفس من الفناء إذا ما تعرض بدنه للموت تحت أي نوع من أنواع الضغوط على البدن. قال تعالى في سورة الزمر: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42). موت النفس هنا هو باعتبار فقدانها لقدراتها التي تمتعت بها في الحياة الدنيا والمرتبطة بالبدن. ولكنها هي بنفسها المجردة عن البدن فهي لا تموت بل يتم استيفاؤها أو توفِّيها.
وقال سبحانه في سورة السجدة: قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11). فكأن النفس في الدنيا تحمل قدرة أو أمانة يجب تسليمها عند الموت. تلك هي الإرادة كما نعرف. قال تعالى في سورة الأحزاب: إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً (72). فالإنسان يحمل أمانة سماوية معه في الدنيا هي التي يتوفاها الله تعالى حين موتنا لنفقدها إلى الأبد. كان علينا ونحن بنفوسنا قادرين على حمل الإرادة، أن نستعملها في سبيل مستقبل مشرق مع ربنا ولكننا مارسنا الظلم ولم نسع لنتعلم فبقينا في جهلنا مع الأسف.
فنفوسنا لا تموت بل تنتقل إلى الحياة الجديدة تحت رعاية ربها. وليس لنا إلا أن نبحث عن سر الإدراك ومركز المعلومات وكذلك المعالجات في نفوسنا. علمنا من آية سورة الحج أعلاه بأن قلوبنا النفسية موجودة داخل صدورنا النفسية. والآن نبحث عن الفؤاد.
قال تعالى في سورة السجدة أيضا: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9). فالله تعالى جعل لنا السمع والبصر والفؤاد بعد أن نفخ من روحه في نفوسنا التي سواها معادلة لأبداننا. فهناك علاقة بالفؤاد للإدراك كما أن الفؤاد يتعاون تعاونا وثيقا مع السمع والبصر. والسمع والبصر المعروفان وسيلتان قطعيتان لجلب المعلومات والشروع بالإدراك العقلي. وإذا عرفنا بأن العمى في الآية 46 من سورة الحج هو عمى القلب كما صرحت الآية فإن للفؤاد دورا لنقل المعلومات إلى القلب للمعالجة والإدراك.
ويجدر بنا أن نتعرف على السر في أنه سبحانه ذكر السمع مفردا ولكنه اعتبر البصر والفؤاد جمعا. فلو كان لنا عينان فإن في حوزتنا أذنان أيضا. ولكن الواقع بأن السمع إذا لم تقفله فإنه يجذب الأصوات الموجودة في المكان دون أن يتمكن من التفريق بينها. هناك آلات إلكترونية تقسم الأصوات ولكننا كبشر لا نملك تلك. ولكن الأشكال والصور فنحن يمكن أن نرى جزءا خاصا منها ونمعن فيها النظر ونتجاهل الأجزاء الأخرى. لو كان هذا صحيحا فإن الفؤاد كذلك أيضا. بمعنى أن الفؤاد في واقعه يمثل آلة بيدنا نحمله ما نشاء من تفاسير وإشارات لأي شيء نسمعه أو نراه. فالفؤاد ينقل للقلب ما أضفناه إلى الموضوع أو نقصنا منه. ولذلك فإن القلب لا يسعه أن يكون صادقا معنا لو لم نكن أمناء في ما نحمله الفؤاد.
إذن أسماعنا دائما تسمع شيئا واحدا ولكن أبصارنا وافئدتنا ليست كذلك. إنها تحمل ما حملناها إياها. كما أنها تحمل مختلف الحالات ومختلف المناظر ومختلف التفسيرات. والعلم عند المولى عز اسمه.
أهمية السرعة في الإدراك وأخذ القرار:
إن انتقال المعلومات من البصر والسمع (والمقصود هو الرؤية العينية والاستماع بالأذنين) إلى القلب لأخذ القرار حينما تصادفنا الحوادث التي نحتاج معها إلى أخذ القرار السريع في أقل من الثانية، لا يمكن أن يتم داخل الفجوات التي ذكرها الأخ صادق. نحتاج إلى حركة سريعة بسرعة الضوء على الأقل وهي لن تتأتى إلا إذا كان التركيب النفسي طاقويا قادرا على التحرك السريع. ومثل ذلك تحرُّكُ العباقرة حين البحث في المخزونات الذهنية عما يتناسب مع الموضوع الذي يناقشونه أو يتحدثون عنه أمام الملأ، لإيجاد الحل المناسب أو لإيجاد مجموعة من المسائل لمعالجتها واستخراج شيء جديد منها. تحتاج العملية فعلا إلى سرعة فائقة تتعدى التحرك بين الأعضاء المادية. إنه يعلم كما أظن بأن التحركات البيولوجية في الإنسان مهما كانت دقيقة وسريعة فإنها ليست بسرعة التحرك العقلي وجدانا. وإن لم يعلم فأنا أطلب منه أن يقوم بالتجربة ليشعر فعلا بأن السرعة التي يتمثل بها المسؤول عن نقل المعلومات لدينا تفوق الكثير من السرعات التي ألفناها في تحرك الماديات.
وهل الفؤاد كائن خارج عن سيطرتنا كما يتراءى أم هو داخل في سيطرة النفس؟ قال تعالى في سورة الأحزاب: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36). كيف يسألنا ربنا عن كائن خارج عن نطاق خياراتنا؟ فالفؤاد هو ضمن القدرات الممنوحة لنا وبيدنا تحريك الفؤاد كما نشاء ولو إلى حد بسيط. ولذلك نكون مسؤولين عن الفؤاد. دعنا ننظر إلى أي عضو من أعضائنا فنحن مسؤولون عن حمايتها دون ريب ولكننا لسنا مسؤولين عن تركيبتها ووجودها وما لحق بها من أمراض وعيوب. لأننا لا نملك ذلك. قال تعالى في سورة الأنعام: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165). فهو تعالى يختبرنا في ما آتانا وأوصلها إلينا وجعلها تحت اختيارنا ولا يختبرنا فيما لم يؤتنا ولم يخولنا للتصرف فيه.
كيف نسيطر على النفس:
قال امرؤ القيس مخاطبا عشيقته:
وإن تك قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك ننسل
الثياب هو القلب عند العرب القدامى. والسل يعني الإخراج بقوة والانسال يعني الانقطاع وفك الارتباط.
يعرف الشاعر العربي بأن هناك شيئا من النفس بيد الإنسان نفسه. يريد أن يقول لها بأن بينهما ارتباط قلبي لا يمكن قطعه بسهولة. كما يعتقد الشاعر بأن تداخل القلوب ممكنة ولذلك يؤكد بأن قلبه داخل في قلبها ولا يمكنها طرد ذلك القلب بمجرد زلة تراها منه. إنه يتحدث عن أمر محسوس لنا جميعا فعلا. فالمحبة تمثل تعلقا قلبيا بين شخص وشخص سببه الصداقة أو البنوة أو بقية العلاقات العائلية أو الغرام وغيرها. وأجلى مظاهر المحبة هو علاقة المؤمن بربه طبعا وبرسوله وملائكته وكتبه وكلما يظن المؤمن بأنه مرتبط بربه.
ولا أظن بأن امرئ القيس يعرف الفرق بين القلب والفؤاد والصدر في التركيبة النفسية. وهو كغيره من الذين يتحدثون عن القلب فهم في واقعهم يتحدثون عن النفس ولكنهم غير منتبهين لتركيبة النفس. نقلت الشعر لأوفر على القارئ الكريم مؤونة البحث العلمي والتجارب المحتاجة إلى سبق التفكير وفهم الأسس. لعل البعض يظن بأن القلب هو عين القلب العضلي وقد ذهلت قبل عدة عقود حينما سمعت شيخ دين معروف ويحمل شهادة الدكتوراة من ألمانيا كما أظن وهو يتحدث عن القلب العضلي ويعتبرها عينا القلب النفسي. لكن امرئ القيس استعمل لفظ الثياب للتعبير عن القلب والثياب لا يمكن أن تعني القلب العضلي. وامرئ القيس يخاطب عشيقته بدون دراسة وعلم مستعينا فقط بالأحاسيس الطبيعية لديهما.
فما الذي يمكن أن تسله هي من ثيابها؟ إنه يتحدث عن الفؤاد في الواقع وليس عن القلب ولا عن الصدر. الفؤاد هو جزء لا ينفك عن النفس وهو شديد الحساسية ويتحرك بسرعة داخل الكيان الإنساني ليأخذ المعلومات من الصدر ومن السمع والبصر اللتين تمثلان المرئيات العينية والمسموعات الأذنية. الفؤاد متعطش للمعلومات ليؤدي وظيفته تجاه القلب. قال تعالى في سورة القصص: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10). أم موسى تبحث عن معلومات عن رضيعها الذي وضعته في تابوت وتركته باختيار البحر ممتثلا أمر الله تعالى. وحينما اختفى التابوت فإنها فقدت كل المعلومات الضرورية لتحليلها والاطلاع على ما جرى لوليدها الرضيع. فقال تعالى بأن فؤادها أصبح فارغا. الفؤاد هو الباص الحامل للمعلومات إلى قلبها للمعالجة ومنحها الاطمئنان على الرضيع الصغير.
الصدر فارغ من معلومة مناسبة والعين لا ترى شيئا والأذن لا يسمع حسيسا فمن أين يأتي الفؤاد بالمعلومات؟ إن أم موسى تحمل الكثير من المعلومات في صدرها النفسي حول الوليد ولكنها في تلك اللحظة كانت محتاجة إلى معلومات جديدة تحمل طابعا خبريا. فلماذا لم يقل ربنا بأن قلب أم موسى أصبح فارغا؟ ذلك لأن القلب فعال غير متوقف ولكنه ينتظر ما يحتاج إليه من معلومات ليعطي الأم تحليلا عن حال الطفل. المعلومات الموجودة في القلب لا تكفي لمنحها الطمأنينة. السيارة الحاملة للأخبار فارغة من المعلومات. ولذلك أسرعت تطلب من أخت موسى أن تبحث عن أخيها. قال تعالى في سورة القصص: وَقَالَتْ ِلأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11).
تحتاج الأم في تلك اللحظة إلى الاطمئنان على طفلها ليتوقف الفؤاد عن البحث عن شيء غير موجود في حوزته. فكأن الفؤاد يأمرها بأن تقصه أو تفعل شيئا للحصول على معلومات لأن القلب بانتظاره. فلو كان الفؤاد كائنا ماديا فلن تتمكن الأخت من أن يساعده على الارتياح. قال تعالى في سورة هود: وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120).
فنحن في الواقع لا يمكننا السيطرة على القلب النفسي وهو فعلا بيد الله تعالى وحده ولكننا قادرون على التعامل مع الفؤاد النفسي الذي بيدنا جزئيا. نحن الذين نحرك الفؤاد ونحن الذين نمنحه المعلومات ونحن ننتقل إلى الأماكن وإلى الكتب وإلى البرامج وإلى التحقيقات المكتوبة التي تمنحنا الكثير من المعلومات ثم ننقلها إلى القلب للمعالجة. نحن بإمكاننا أن نفرغ الفؤاد من المعلومات فنوقف قلبنا من التحرك للمعالجة لأن المعلومات باختيارنا.
كما أننا عاجزون عن تفريغ صدرونا النفسية من مخزوناتها لكننا قادرون على التعامل مع مراكز المعلومات سواء في أسماعنا وأبصارنا أو في مراكز المعلومات أو في المناظر التي يمكننا مشاهدتها والأصوات التي يمكننا الاستماع إليها. فلو يغمض أحد عينيه وينام ولا يفكر لمدة عشر سنوات فإن صدرنا النفسي سوف يكون فارغا من المعلومات المتجددة لمدة عشر سنوات. هكذا نساير الركب الحضاري والعلمي أو نبقى متأخرين عشر سنوات عن سيارة الحضارة والمعرفة.
وأما الروح:
لاحظنا خلال البحث المختصر بأن هناك عدة تفاعلات ينسبها الله تعالى إلى نفسه في خلقنا أو في تكامل خلقنا. مثال: خلقت بيدي، خلقناكم، صورناكم، أحسن صوركم، أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى، وغيرها. والواقع أن كل شيء غير الله تعالى نفسه فهو مخلوق والخالق هو الواحد الأحد عز اسمه. ولكن خلقه يرتبط بالقدوس بعد أن يمر كل وحدة من وحدات الخلق بعدة مراحل. فالروح أو روح الله تعالى هو كما أحتمل أصل الخلق. فحينما بدأ الله تعالى الخلق لم يكن أمامه غير القوة المهيبة لديه ليخلق كل شيء من تفاعلات تتم بواسطة قوته سبحانه. يمكن لنا أن نسمي تلك القوة بالنور كما صرح سبحانه في سورة النور. اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35). فهو سبحانه نور السماوات والأرض ومثل ذلك النور هو الطاقة التي وصفها الله تعالى كمشكاة إلخ. أحتمل بأنه سبحانه يشرح لنا في تلك الجمل الكريمة نوعا من أنواع الطاقة الموجودة في الكون والمعروفة لدينا. وقد شرحتها سابقا لزملاء التفسير بقدر ما أوتيت من علم موصوف بالتواضع حقا.
بالطبع أننا نتحدث عما نشاهده فعلا ولا يهمنا مقولات بعض مجانين الفيزياء الذين أسموا أنفسهم علماء وأثبتوا لنا علميا حسب ادعائهم بأن الطاقة في الكون تساوي صفر. مثالهم مثال الذين أسموا أنفسهم فلاسفة بلا عقل ولا منطق.
فنور السماوات والأرض تعني القوة المهيبة التي تصدر مباشرة من الله تعالى ليمسك بها الكون بعد أن خلق بها الكون. كما أنها تمد الكون المتوسع باستمرار بما يحتاج إليه من طاقة بصورة مستمرة. هكذا يكون الله تعالى نور السماوات والأرض باختصار. هذا نوع ارتباط بين الخالق والخلق ولكننا لا نعرف وقد لا نعرف مستقبلا أيضا كيف يرتبط الله تعالى بالكون وهو في اللا مكان وبما أنه في اللا مكان فهو في اللا زمان أيضا. فنحن في هذه المقالة لا نتحدث عن كيفية الارتباط بل نكتفي بالحديث عن وجود الارتباط الضروري الذي لا يمكن لأي شيء غير الله تعالى أن ينفك عنه سبحانه.
يمكن وصف هذا الارتباط كأي ارتباط آخر بالقوة أو الشدة وبالضعف تبعا لحاجة الخلق ولإرادته سبحانه لإيصال المخلوق إلى الحد الذي يريده له. فالكون في بدايته تحتاج إلى ارتباط مباشر وقوي بالخالق العظيم لأنه لا شيء ويريد خالقه أن يمنح الوجود لشيء غير موجود. ولم تسعفني اللغة العربية بكلمة أخرى أستعملها غير الشيء. وإلا فلا شيء موجود هناك بل عدم محض عدا الله تعالى الغني عن كل حاجة جل جلاله.
هناك فإن الله تعالى مباشرة وبدون واسطة مادية غير موجودة يقوم بالتفجيرات الضرورية للخلق. هناك مراحل في تلك اللحظات أيضا ولا نحتاج أن نتعرف على أسماء تلك المراحل في هذا الموجز. لكن خلق التراب القابل للزراعة أو خلق الحديد وبقية مواد الأرض فهي لا تحتاج إلى عناية مباشرة من الله تعالى بل تسير وفق النظام المرسوم لها من بداية الخلق أو من بداية إيجادها.
وهكذا فإن خلق الإنسان الأول مغاير لخلق بقية الأناسي. بمعنى أن الإنسان الأول بحاجة إلى نور سماوي مباشر ليكتسب النفسَ الإنسانية القادرة على التفكير ولكن أبناءه وبناته يستمدون تلك القوة من نفس الكائن الأول. تلك الوحدة النورية التي خلقت نفس آدم هو النور المباشر من الله تعالى دون أن يمر على غير الروح القدس الحامل لذلك النور. وأما بقية الناس فهم يحتاجون إلى نفس القوة التي تنتقل بينهم بإرادة سماوية وبعناية أيضا وليس بنقل الوحدة النورية المباشرة كما حصل لآدم. ذلك هو الروح وهو روح أولي بالنسبة لآدم أو روح ثانوي بالنسبة لنا ولأمنا الأولى من قبل؛ ولكنه كامل القوة دون أن يتغير أو يمر بكائنات أخرى.
قال تعالى في سورة الأعراف: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189). نعرف من الآية الكريمة بأن نفوسنا مخلوقة من نفس واحدة قبل التعديل الجيني طبعا. تلك هي نفس أبينا آدم التي خلق الله تعالى منها نفس أمنا وهي زوج آدم أو زوجته حسب تعابيرنا الحديثة. فهما دون شك كانا في خلية واحدة وهما كما يقولون: Identical. ولعل السبب هو أن فاعل الخلق المباشر هو روح الله تعالى وهو وحدة نورية أتت مباشرة منه سبحانه فهي أوهو لا يتغير ولا يضعف ولا يمكن تبديل طبيعته. فهو دائما يخلق نفسا أنثوية ولا يخلق نفسا ذكورية لو أتت من الأم الأول المعروف لدينا باسم حواء. ذلك بسبب أن حواء أكثر تكاملا من آدم باعتبار قدرتها على الإنجاب والرضاعة فلها مقومات كان يفقدها آدم. فلو أن الروح القدس الحامل لتلك الوحدة النورية كان قد وضعها في المجموعة الجينية التي تحتوي على الكروموزوم الأنثوي X فإنها سوف لا تتراجع إلى الوراء لتصنع نفوسا تساوي أو تتعامل مع أبدان يريد ربنا أن يحرمها من الأرحام والقدرة على صناعة الحليب. لكنها باعتبار سنة التطور لدى ربنا ستقبل بكل سهولة أن تخلق نفسا لبدن كائن أكثر تطورا من البدن الأصلي الذي استضافت الروح الأولي. ولذلك فإن الروح الخالق للنفس ينتقل دائما من الأب إلى الجميع. استثنى القرآن الكريم من ذلك نفس آدم رحمه الله تعالى ونفس المسيح عليه السلام. قال تعالى في سورة آل عمران: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59).
بعد أن انتبهنا لهذا المختصر نمر على الآيات الكريمة لنرى انطباق هذا الفهم مع القرآن الكريم لنعرف مدى صحة النظرية ولعل الفرضية فحسب.
الروح في الكتاب الكريم:
كل التفاعلات التي ترتبط بالله تعالى في خلقنا فهي بواسطة الروح. والروح يمثل أمر الله تعالى بمعنى أن الروح هو قبس من نور الله تعالى محمول على حامل يسميه الله تعالى اسمه. هذه الوحدة النورية أو الوحدة الطاقوية قادرة على أن تفعل كل شيء ولذلك فهي بحاجة إلى أمر من الله جل جلاله لاختيار كيفية التفاعل. يسمي الله تعالى التركيبة المؤلفة من وحدة نورية صادرة منه مباشرة محمولة على شيء لا نعرفه ويقول ربنا بأنه اسمه وحاملة لأمر بالتفاعل، يسميها ربنا بالكلمة. فالكلمات هي أصول كل الخلق سواء منها المخلوقات المادية ذوات الأبعاد أو المخلوقات الطاقوية مثل الأرواح القدسية والملائكة والنفوس ويلحق بها الجن من بعض الحيثيات. ولذلك لا يمكن إطلاقا أن نحصي كلمات الله تعالى لأنها أصول كل الممكنات بلا استثناء وهي في حال تكاثر مستمر.
قال سبحانه في سورة الكهف: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109). وقال تعالى في سورة لقمان: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27). كل ذلك لأن كل شيء مخلوق من تلك الكلمات وهي في الواقع أصغر شيء في الممكنات فكلما نأتِ ببحار من المياه المتحولة إلى حبر، لنكتب عدد كلمات الله تعالى فإننا في الواقع عاجزون عن إحصاء الكلمات التي خلقت ذرات المياه نفسها. وسبعة أبحر تشير إلى بحار تتجاوز العد والإحصاء ليس من حيث الواقع العملي للإنسان بل من حيث حقيقة التكوين المستمر والتي لا تسمح أبدا بعملية الإحصاء الكاملة لغير الله تعالى نفسه.
القرآن روح منه تعالى:
1.
قال تعالى في سورة الإسراء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88). العلوم الابتكارية كلها تأتي من الله تعالى ولا تنطوي على مفهوم الروح. ففَهمُ الروح بكامل معناه لا يناسبنا أو لا يفيدنا ولذلك لم يعلمنا الله تعالى حقيقته مع أنه سبحانه ليس بخيلا علينا. قال تعالى في سورة التكوير: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24). كل ما يمكننا معرفته من حقيقة الروح هو أنه من أمر الله تعالى. فما هو ارتباط الروح الذي هو من أمر الله سبحانه بالعلم القرآني؟
2.
قال تعالى في سورة الشورى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52). فالقرآن روح من أمر الله تعالى. بدأنا نشعر بأن العلم السماوي روح من أمر الله تعالى. فكيف نسمي نفوس البشر أرواحا؟ هل نحن روح من أمر الله؟ لا توجد في نفوسنا أية مزية من مزايا القرآن الكريم. فنحن نخطئ ونحن نعصي ونحن نتعلم ونحن جاهلون. والقرآن لا يخطئ وليس له أن يعصي ويعلِّم ولا يحتاج إلى تصحيح.
3.
وبنفس المعنى تقريبا قال تعالى في سورة النحل: يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ (2). فالروح هنا أيضا هو الكتاب السماوي وكذلك التعليمات السماوية التي نزلت قبل الصحف أو قبل رسولنا إبراهيم عليه السلام. وهكذا في الآية 16 من سورة غافر، والمجادلة: 22،
4.
المسيح أيضا روح منه تعالى:
قال سبحانه في سورة النساء: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (171) لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا (172). عيسى عليه السلام كلمة من الله تعالى ألقاها إلى مريم. وهو بنفسه روح من الله تعالى. فالكلمة كما قلت أعلاه عبارة عن وحدة نورية من الله تعالى محمولة على شيء يسمى اسم الله ويحمل أمرا من الله بالتفاعل. تلك هي أساس الخلق جميعا. والمسيح عليه السلام كلمة من الله تعالى باعتبار أن نفس مريم ليست مأمورة لصناعة نفس أخرى فهناك حاجة لروح جديد من الله تعالى لصناعة نفس المسيح. ولولا ذلك أصبح المسيح أنثى وهو غير مطلوب.
فهو عليه السلام روح من ربه باعتبار أن الله تعالى خصه بروح جديد منه لأنه لم يتمكن من الاستفادة من الروح الأول المرسل إلى آدم رحمه الله تعالى. فالقول بأن عيسى روح الله قد لا يكون صحيحا على شهرته بين أهل العلم وعلينا الحذر من إضافة شيء إلى الله تعالى دون أن نرى نصه في كتابه الكريم. إن نفس المسيح مخلوقة بروح من ربه لأن الروح الموجود مع نفس أمه لا يقبل خلق إنسان مذكر.
5.
آدم أيضا روح منه تعالى مثل المسيح:
قال تعالى في سورة الحجر موضحا لنا صناعة نفس آدم: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29). فهناك روح من الله تعالى قام بصناعة نفس المرحوم آدم وخلق كل البشر من نفس آدم عدا نفس المسيح عليه السلام. عرفنا مما ذكرت أعلاه بأن التسوية تعني صناعة النفس الإنسانية متساوية مع البدن الإنساني المضيف للنفس في الدنيا. فتسوية النفس تعني صناعتها ولكنها لا زالت محتاجة إلى الحياة. والله تعالى منح نفس أبينا الأول الحياة بأن نفخ فيه من روحه. استعمل كلمة النفخ لنعلم بأن روح الله تعالى ليس شيئا يجتمع مع النفس ولكنه نور يشع الحياة داخل النفس. تلك الحياة الخاصة التي تعطي النفس القدرة على التفكير بعكس ما يشابهها من شبه النفس الموجودة لدى الحيوانات والتي لا تعطيهم القدرة على التفكير والإدراك الإنساني.
ولعلنا لاحظنا بأنه سبحانه حينما أرسل الكلمة الصانعة إلى رحم مريم عليها السلام لم يستعمل كلمة النفخ بل قال بأنه ألقاها. ذلك لأن تلك الكلمة ليست مأمورة لعمل شيء داخل كيان مريم نفسها بل لها مهمة أخرى داخل نفس المسيح. فهي في تلك الحالة أمانة بالنسبة لمريم وفعالة بالنسبة لنفس المسيح. ولذلك قال تعالى بأنه نفخ فيه من روحه، بمعنى أن الروح السماوي تفاعل مع النفس المخلوقة جديدا.
6.
لكنه سبحانه حينما تحدث عن مكان إرسال الكلمة إلى مريم قال هكذا في سورة التحريم: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12). والفرج كلمة مذكرة في اللغة العربية كما أنه حسب القاعدة عضو فردي ولذلك أشار إليه تعالى بقوله الكريم: فيه من روحنا.
وحينما أراد سبحانه أن يحدثنا عن أهمية مريم نفسها استعمل ضمير المؤنث لأن المقصود بأن مريم استلمت روح الله تعالى وهي وابنها صارا آية للعالمين. قال تعالى في سورة الأنبياء: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (91). لنعلم أن نظام الربوبية يقتضي العدالة لأنه منسوب إلى رب العالمين والعدالة تقتضي أن يكون هناك مسوغ للاختيار. فلا يمكن القول بأنه تعالى اختار شخصا بدون فارق شخصي يجعله لائقا لذلك الاختيار. هذا الموضوع موضح في القرآن الكريم في عدة موارد.
صناعة نفوس الناس عامة بروح من الله تعالى:
7,
قال تعالى في سورة ص:
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72). ليس الحديث عن أبينا آدم بل الحديث عن بداية خلق الإنسان وآدم مصداق أولي للإنسان. إنه كان في الخلية الأولى وكان مستعدا ليصير إنسانا فوجب على الملائكة أن يسجدوا له. فهل هذا سجود خضوع كما ظن البعض أم سجود تكريم كما ظن البعض الآخر مثل المرحوم الطباطبائي أم سجود من نوع آخر. لم يكن أمام الملائكة شخص كامل بل هناك خلية مستعدة لصناعة شخص هو آدم ثم زوجه التي أسميناها حواء في نفس الخلية كما أظن. قال تعالى في سورة الأعراف: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12). لقد أمر الله تعالى الملائكة أن يسجدوا وإبليس لم يكن من الملائكة. نعم إنه من الملإ الأعلى ولكنه ليس من الملائكة. إبليس وبقية الشياطين والجن جميعا مكلفون مثلنا نحن البشر والملائكة غير مكلفة مثلنا. إنها لا تملك الإرادة كما نملكها في الدنيا، نحن والجن. إنها لن تدخل الجنة ولا النار ولكن الشيطان يدخل الجنة والنار مثلنا وهكذا بقية الجن. فالأمر تم مباشرة بعد التصوير الخلوي.
إذن لم يكن الأمر بالخضوع لآدم بدليل أنه لم يكن موجوداً بكامل خلقته ولم يكن الأمر شاملا الجن لأنه تعالى صرح بأنه قال للملائكة وإبليس ليس من الملائكة وليس الأمر لكائن يعيش معنا كما ظن بعض الإخوة فلا يمكن أن يأمر الله تعالى من يعيش معنا داخل كياننا ليسجد لنا. كيف يسجد لنا وهو داخل فينا. السجود عمل يأتي به الساجد من بعيد وليس بداخل المسجود له.
وليس السجود للخضوع فلا يجوز الخضوع لغير الله تعالى بنص القرآن الكريم. وليس السجود للتكريم كما ظن المرحوم الطباطبائي إذ لا يوجد المكرَّم في الحكاية. كل ما يوجد هو خلية حيوانية تحتوي على بعض الجينات محملة على الكروموزومات وبعض الغذاء وسنتريول وغيرها. هي ليست إنسانا بل مقدمات صناعة إنسان. فالسجود لغرض آخر نعرفه من القرآن نفسه. قال تعالى في سورة طه: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117). فما أراد أن يقوم به إبليس يبرهن لنا عداوة إبليس للإنسان. فعدم السجود كان ضارا بالخلية الناشئة ودليلا على كراهية شديدة من إبليس للكائن الجديد الذي لم يأت بعد.
ولنعرف بأن الإنسان ضعيف جدا في الخلية الأولى وقد يتأثر بأية حركة طاقوية مضادة ولكنه بعد أن يتكامل فإن تلك الطاقات قد لا تؤذيه أو لا تؤذيه كثيرا. فحينما أمر الله تعالى الملائكة ليسجدوا فإن السجود ليس إلا حركة فيزيائية لحماية آدم وزوجه. إنها تعني الانكماش كما ننكمش حين السجود حتى لا تتأثر الخلية الجديدة بإشعاعات الملائكة. وحينما يأمر ربنا الملائكة فإن كل كائن طاقوي مختار سيكون مأمورا بالتنفيذ أيضا. وإذا أمر ربنا الملائكة بأمر تجاهنا فإنها سوف تدافع عنا ولن تسمح لأي كائن آخر بعمل ما يتنافى مع حمايتنا.
فالشيطان كان ممنوعا لكن إباءه تدل على رفضه لحكم ربه فقط ولذلك طرده الله تعالى من نعمة الهدى. ولعل السبب في ذلك هو أنه كان يشعر مع بقية الجن بأن الأرض لهم يفعلون فيها ما يشاؤون وإذا بربهم يقول بأن الأرض للبشر وهم يستفيدون من الأرض في حدود حاجتهم لا أكثر. قال تعالى في سورة البقرة: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30). وسر الخلافة برأيي هو تمكيننا من الإرادة في الحياة الدنيا لغرض الاختبار طبعا. والإرادة قوة خاصة بالله تعالى. لكنه منحنا إرادة مشابهة ضعيفة طبعا فأصبحنا نريد كما أن ربنا يريد. وحينما نريد فإننا بحاجة إلى سبق إرادة الله تعالى ليسمح لنا فنحن نكون حينئذ مريدين بعده سبحانه فنحن عمليا نخلفه بإذن منه تعالى؛ والعلم عند المولى.
ولذلك عاد الشيطان إلى بذرته الأولى محتجا بأنه أساسا من الطاقة والطاقة أفضل من الأجسام الفيزيائية ذوات الأبعاد. هذا معنى قوله تعالى في سورة الإسراء: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27). فكلمة التبذير لا تعني الإسراف كما ظن غالبية علماء التفسير رضي الله تعالى عنهم وعنا، ولكنها تعني عودة الشخص إلى بذرته الأولى. وهذا ما فعل الشيطان. ولذلك منع ربُّنا رسولَنا عليه السلام بأن يهتم بأسرته وأقاربه أكثر من المسكين وابن السبيل. عليه بأن يساعد المحتاج ويجعل الحاجة سببا للإنفاق وليست القرابة حتى لا يكون تابعا للشياطين. والتبذير في اللغة العربية لا تعني الإسراف كما ظنوا.
فالروح في آيات سورة ص يشير إلى طاقة أو نور سماوي لصناعة نفوسنا. ولولا ذلك النور لما آن لنا أن ندرك ونتعقل فتتحقق خلافتنا لله تعالى في أرضه.
8.
وقال تعالى في سورة السجدة: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9). فحينما سوى ربنا نفوسنا مع أبداننا فإنه نفخ فيها من روحه لنتمكن من السمع والإبصار كمقدمة للإدراك. والفؤاد ليس ضمن كياننا البدني لأن كياناتنا البدنية الحيوانية مشابهة للحيوانات التي لا تدرك مثلنا ولا تستفيد من سمعها وبصرها للتمييز الكامل مثل البشر.
والواقع أننا بسمعنا وبصرنا وفؤادنا مميزون عن الحيوانات. بمعنى أن سمعنا وبصرنا سمع وبصر يساعدنا على الإدراك والتفكير والقدرة على الإرادة بدقة. وأن الفؤاد الذي لا نرى في الخارج عضوا يمثله هو مساعد لهما. فنحن لنا آذان نراها ولنا ألسنة نراها ولكننا لا نرى أفئدتنا. وبعد أن تمكن الإنسان من الدخول في أعماق البدن بمختلف الإشعاعات مثل إكس وغيرها فإنها ما وصلت إلى عضو يمكن تسميته بالفؤاد وهو يساعد على الإدراك. وقول بعض الإخوة الكرام بأن الفؤاد قد يكون مجموعة من الأعضاء فهو لا ينسجم مع الآية الكريمة التي ذكرت الفؤاد مفردا.
قال تعالى في سورة الأعراف: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179). الحديث في الآية الكريمة لا تختص بالإنس بل تشمل الجن أيضا. وهل للجن آذان وأعين مثلنا؟ لو كانوا كذلك لأمكن النظر إليهم باعتبار الأبعاد الثلاثية. ليس بيننا وبين الجن مشاركة إلا في الأبعاد الطاقوية. وليس بيننا وبين الأنعام مشاركة كاملة في كل شيء كما يبدو ولو أننا متقاربون من بعض الحيثيات البدنية. فالآية تخبرنا عن كائن آخر يمثل كل فرد منا ومن الجن وذلك الكائن يمثل الأنعام أيضا ولكن بصورة ناقصة. فلو كانت قوة ذلك الشيء لدى الأنعام بقوتنا لكانت الأنعام مدركة مثلنا. بدأت الآية الكريمة بذكر القلوب التي لا تفقه وهي لا يمكن أن تكون القلوب التي تضخ الدم. إنما أهميتها في تكويننا غير المادي هي مثل أهمية القلب للبدن حيث يعيش البدن على الدم المتدفق منه. فقلوبنا الثانية ترتبط بكل ذلك الكائن كما ترتبط بأبداننا. فالأسماع مشتركة عضويا بيننا وبين الأنعام لكنها لا تدرك بها ونحن ندرك بها. وهكذا الأبصار. ومركز الإدراك هو قلب موجود مع تلك الأسماع والأبصار لقوله تعالى: لا يفقهون بها. والتفقه تعني الإدراك الدقيق.
فالآية من سورة الأعراف تدل على أن الله تعالى خلق بيده خلقا ليدرك ويسمع ويبصر ولكنهم ليسوا كذلك إلا قليلا. فكأنه سبحانه خلق لجهنم ولم يخلق للجنات. فهي تتضمن نوعاً من الحسرة السماوية. إنها قريبة من قوله تعالى في سورة يس: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (30).
9.
الروح القدس:
هو الملك المسمى جبريل. قال تعالى في سورة البقرة: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97). وقال تعالى في سورة المائدة: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102). فالذي نزَّل القرآن هو الروح القدس وهو نفسه جبريل. والملك (سواء كان مشتقا من ألك يألك أو لأك يلأك) يعني الرسول ولكنه رسول غير بشري. والروح أو الروح القدس هو نوع من الملائكة والمختص بنظامنا الشمسي كما يبدو وهو معروف بجبريل. إنه كما أظن يدير ملائكة نظامنا الشمسي فقط وهو ليس مسؤولا عن إدارة كل الكون كما ظن المتكلمون وبعض الفلاسفة. وكان أحد أصدقائي من أساتذة الفلسفة في مدينة النجف يقول لنا بأنه كتخدا عالم الطبيعة. والكتخدا كلمة فارسية أو تركية تعني رب الدار. وقد تكون الآية 4 من سورة المعارج والآية 38 من سورة النبأ والآية 4 من سورة القدر دليلا على أن هناك مسؤولية مهمة للروح القدس في نظامنا الشمسي.
10.
والروح القدس هو معلم الرسل ومساعدهم لتسهيل مهمتهم. قال تعالى في سورة البقرة: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)؛ وجاء مثل ذلك في الآية 253 منها. وهكذا في الآية 110 من سورة المائدة.
11.
وأخيرا فإن الروح هو نفس الروح القدس الذي يمكنه أن يتمثل بشرا سويا كما أنه هو الذي ينزل القرآن على قلب بعض الرسل كما ينزل الطاقة السماوية أو النور السماوي لخلق نفس إنسانية. لقد خلق نفس إنسان لآدم كما خلق نفس المسيح. لكنه في نفس الوقت يقوم بأعمال أخرى غير متاحة للإنسان. فهو الذي انتقل إلى كيان مريم ليبدل إحدى خلاياها الأنثوية إلى خلية ذكورية لتصير مريم عليها السلام أما وأبا للمسيح. هذا يعني بأن الذي باشر عملا فوق بشري هين على الله تعالى لعملية صناعة المسيح هو الروح القدس وهو نفس جبريل.
قال تعالى في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18).
وقال تعالى في سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195).
فلماذا يسمى الروح القدس?
مما لا ريب فيه عندنا بأن الله تعالى ليس مركبا بل هو بسيط كامل البساطة وما يصدر منه سبحانه ليس جزء من كيانه الكريم. ونحن كمسلمين لا نشك بأن الله تعالى كان قبل كل شيء وهو الذي بدأ الخلق. فهو بدأ الخلق من قوته إذن. بالطبع أنه تعالى حوَّل القوة إلى طاقة وأنا أجهل كيفية ذلك. لكن الطاقة ضرورية لعمل الثنائية وللتركيب لبداية الخلق. وحدات الطاقة قد تكون معلومة إلى حد ما ولكن وحدات القوة غير واضحة لنا. ولم نجد في القرآن الكريم أي تسمية لما يصدر من الله تعالى إلا تسمية الروح. ولا يوجد تفصيل كامل للروح ولكننا نظن ظنا قويا بأن الروح هو النور المباشر من رب العالمين والذي به خلق الخلق الأول وبه ملأ الكون بالطاقة وبه يخلق النفوس. هناك بعض الأوصاف الممكن ذكرها للروح وأهمها هو أن الروح باعتباره نوراً مباشر من الله تعالى فهو يمكن أن يتضاعف بلا حدود وأقوى دليل على ذلك هو أنه سبحانه خلق نفس آدم فقط من روحه ثم خلق كل الأنفس من نفس آدم. والاستثناء الوحيد هو نفس المسيح التي خلقها من روح مباشر أيضا كما وضحت أعلاه. والروح ليس هو الكلمة التي تخلق الكائنات المادية كلها وبعض الكائنات الطاقوية. لكن الكلمة بحاجة إلى أمر من الله تعالى والأمر يجب أن يكون مقرونا بالقدرة على الإيجاد. فالكلمة تحمل روحا من الله تعالى للإيجاد.
والذي حصل للمسيح هو أن الله تعالى خلق الخلية الأولى له عن طريق الروح القدس وبمساعدة روح الله احتمالا كما خلق نفس المسيح من روح الله أيضا. فالذي حمل الروح من السماء إلى رحم مريم وإلى الخلية التي صنع فيها المسيح هو الروح القدس. لا يمكن للخلية الأولى ولا لنفس المسيح أن يستقبلا النور المباشر من الله تعالى لشدته وقوته المهيبة. فقد تمت العملية قطعا بواسطة الروح القدس. ولذلك أظن ظنا قويا بأن الروح القدس يسمى روحا باعتبار أنه هو بنفسه أيضا مصنوع من روح الله تعالى وأضاف ربنا صفة القدس إليه باعتبار أنه عديم الإرادة وأمين الله تعالى على ما في حوزته من قوة ونور. ولا إراديته وهو مدرك يجعله يسير وفق إرادة السماء مباشرة. والعلم عند المولى.
أحمد المُهري
15/7/2020
#تطوير_الفقه_الاسلامي