فواتح سور القرآن
أخي العزيز أحمد مبارك بشير حفظه الله تعالى
بالإشارة إلى رسالتكم الكريمة في 15 سبتمبر 2016 والمقالة المرفقة بعنوان (القرآن الآرامي الأصل وتزوير نسخة القرآن الحالية) فهي وغيرها من المقالات والكتب كتبت وتُكتب لإنكار سماوية القرآن. وهم يستندون عادة إلى ذوي أهداف مثلهم كانوا بين المسلمين من قبل وخلفوا بعض المخطوطات. وكل عاقل يعرف بأن الذي كان قادرا على نشر ما يشاء من أخبار هو أصحاب القدرات السياسية وأحيانا المالية وليس أهل الفكر والنظر. ونحن حتى في يومنا هذا المتطور فكريا وإعلاميا نرى المحطات التلفزيونية المتباينة تنقل الأخبار بالصور والحركات بصور غير دقيقة. فنرى أحيانا خبرا في تلفزيون غربي مخالفا لنفس الخبر في تلفزيون شرقي أو عربي أو فارسي أو روسي.
ونحن كمسلمين لا نؤمن بقرآن مروي عن شخص أو مكتوب بلا نقط ولا حركات ولا نهتم أبدا بما يكتبونه لنفي سماوية القرآن. نحن نؤمن بأن الله تعالى أنزل التوراة مكتوبة على ألواح وأعطاها بيد رسول الله موسى عليه السلام وأمره بأن يستنسخها. ولا نعرف كيفية تنزيل الإنجيل وهو كتاب سماوي أيضا. ولكن القرآن لم ينزل مكتوبا بل أنزل على قلب رسول الله محمد عليه السلام آيات وسورا ثم جمعه الله تعالى. قال تعالى في سورة القيامة: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19). قرأ بالعربية تعني جمع ولكن الفرق بين الجمع والقراءة هو أن القراءة تمتاز على الجمع بالفائدة فالقرآن تعني التجميع المفيد. وحتى لا نضيع فإنه تعالى قال بأنه هو الذي يتولى تجميع القرآن ثم أردف “قرآنه” لنعرف بأن المقصود من القرآن هو التجميع ولكن تجميعا مميزا. ثم يقول تعالى لعبده محمدا بأن يتبع قرآنه فهذا يعني بأن الرسول عليه السلام رأى هذا القرآن وأمره ربه بالعمل به. فكل المؤرخين الذين تحدثوا عن تجميع القرآن بعد رسول الله كذابون ومفترون ولا عبرة بما كتبوه كائنا من كانوا.
ليس عثمان ولا علي ولا أي من الصحابة جامعا للقرآن بل الله جمعه أيام رسول الله والرسول عمل بهذا القرآن. والآية تخاطب خطابا مفردا: فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. فهم يكذبون كذبا فاحشا بادعائهم أن القرآن لم يكن مجموعا حينما توفي رسولنا الحبيب عليه السلام ويكذبون كذبا فاحشا بقولهم أن القرآن المكتوب فيما بعد كان بلا نقط ولا حركات. بالله عليكم حاولوا أن تقرأوا صفحة واحدة من القرآن بلا نقط! كل المؤرخين الذين نقلوا ذلك يكذبون بلا استثناء بادعاءاتهم الباطلة. إنهم أتباع الشياطين الذين يريدون بمكرهم وخبثهم إثبات أرضية القرآن ونفي سماويته. واتباع مثل هذه الادعاءات اتباع أحمق وسخيف فهذا القرآن عظيم وفوق مستوى محمد وصحابته رضي الله عنهم ورضوا عنه. ولا عبرة بالنسخ الخطية التي يستشهدون بها فهي جميعا قد تمثل حقائق ماكرة ومقصودة ضد الإسلام وضد القرآن من قديم الزمان. على أن هناك نسخ قديمة جدا بالخط الكوفي منقطة ومحرَّكة ولكن الحركات بخط يصعب رؤيته.
كان رسولنا غير عالم بمفاهيم القرآن ويجهل الكثير من المسائل العلمية التي اتضحت بعد وفاته عليه السلام. قال تعالى في سورة آل عمران: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (7). وهو عليه السلام على رأس الراسخين في العلم الذين يقولون آمنا بكل القرآن، كل من عند ربنا. وهذا يعني بأنهم آمنوا به بغض النظر عن فهمهم للمعاني أو عدم فهمهم. وقال تعالى في سورة طه: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114). فهو عليه السلام كان يسعى كما نسعى ليزداد علما ولم يكن عالما بكل شيء ولا بكل الوحي المنزل عليه. يجب علينا كمسلمين أن نفرق بين كلام الله تعالى وكلام أي من خلقه. فمن معه من خلاصة الصحابة كانوا يدركون خطورة نشر قرآن بلا نقط وبلا حركات ولا يمكن أن يرضوا بنشر ذلك. لا نحتاج إلى دليل تاريخي على أمر بديهي.
وأما موضوع فهم القرآن حاليا فأنا في لندن منذ أربعة عشر عاما تقريبا مشغول بتفسير القرآن بالقرآن نفسه وجلساتي مستمرة والحمد لله ونحن اليوم نعرف الكثير من أسرار القرآن أو نعرف تفسيرا لها وقد ساعدنا ربنا حتى لا يفوتنا شيء من القرآن بلا معنى. ويمكن لمن يريد أن يتصل بالمودة ويطلب الأشرطة ونحن بصدد الكتابة ولكننا لا زلنا نناقش التفسير فلم نفسر أكثر من ثلثي القرآن حتى يومنا هذا.
اعتمدت في البداية قراءة حفص عن عاصم باعتبار أن الأعداد التي قدر الله تعالى طباعتها من هذه النسخة تفوق أية قراءة أخرى مئات المرات. ففي السنوات الأخيرة تطبع مجمع الملك فهد لوحده حوالي عشر ملايين نسخة من قراءة حفص عن عاصم.
وقرأت ذات مرة جوابا جميلا من شيخ سعودي لا أذكر اسمه وهو يرد على أحد الإخوة من الجزائر بأنهم كانوا يعتمدون على قراءة ورش عن نافع ولكن الدول العربية بما فيها الجزائر بدأت تتجه نحو قراءة حفص عن عاصم كما فعلت المملكة العربية السعودية وإيران وغيرهما من الدول الإسلامية. قال الشيخ السعودي ناصحا بأن ما نراه هو تقدير الله تعالى الحافظ للقرآن وقد يكون دليلا على رجحان قراءة حفص عن عاصم. جزاه الله تعالى خير الجزاء.
وأما مسألة الفواتح الحرفية لبعض السور التي أشارت إليها المقالة الفاسدة؛ فسأقدم هنا تفسيرا مختصرا لها كنموذج لعملنا التفسيري.
ألف: ترمز إلى كلمة “الله” باعتباره مشتقا من أله يأله ومعناها المعبود. والمقصود منها الله سبحانه وتعالى نفسه دون اسمه. والذي يعتقد بأن الله اسم جامد فلا ضير لديه أن يُشار إليه بالألف أيضا.
لام: ترمز إلى اللقاء مع الله تعالى ولازمها الإيمان بالآخرة.
ميم: ترمز إلى التمسك أو الاستمساك بما قبله.
ص: ترمز إلى الصبر.
ر: ترمز إلى الرسل.
ك: ترمز إلى الكتمان.
هاء: ترمز إلى الهمس.
ي: ترمز إلى اليقين.
ع: ترمز إلى الانعزال.
ط: ترمز إلى الطمأنينة.
س: ترمز إلى السمع القلبي.
ق: ترمز إلى القرآن أو التجميع المفيد.
ن: ترمز إلى النعمة وخاصة نعمة الهدى.
كل هذه الاحتمالات بلا دليل قرآني فالله تعالى لم يذكر معاني تلك الحروف، ولكنني فسرت أكثر من ثلثي القرآن الكريم بما فيها فواتح السور وانطبق هذه المعاني على كلها. فمثلا فسرت سورة مريم على أساس أن كهيعص ترمز إلى شروط الدعاء المستجاب وهي الكتمان بعدم ذكر حاجتك لأحد غير ربك والهمس بأن لا تستعمل الكلمات واللغة مع الله تعالى بل تخاطبه بقلبك فهو يسمع همسات القلوب فما زاد على ذلك تجاوز على آداب الطلب الشخصي من الله تعالى واليقين بمعنى أن لا تشك بأن الله تعالى يسمعك وكما وعد يستجيب دعاءك ولكن بطريقته وليس بطريقتك والانعزال عن الناس حين الدعاء ولعل النبيةُ مريم علَّمت وليَّ أمرها النبي زكريا أن يدعو في الصلاة ليضمن الانعزال عن الناس، والصبر فإن بعض الطلبات لا يمكن استجابتها فورا أو في وقت محدد. ثم طبقتُ هذه المعاني على أبطال السورة الكريمة بمن فيهم إسماعيل الذي استجيب دعاؤه خلال لحظات.
وهكذا فسرت كل السور الأخرى بنعمة من الله تعالى وفضل منه. ولعل القارئ الكريم منتبه إلى أن كل المفسرين لم يعثروا على دليل لفهم تلك الرموز فهم جميعا احتملوا احتمالات مماثلة كما فعلت. ولعل الفرق بيني وبينهم هو في أنني انتبهت بأن الحرف لا يمكن أن تشير إلى الكلمات بل إلى المعاني وبأنني قمت بالتطبيق الفعلي عند التفسير والله يثيبنا جميعا على ما سعيناه.
وأنا لا أدعي التأويل لأن التأويل يعني أن أتعرف على ما أراده الله تعالى وهو خاص به ولكنني أفسر بمعنى أنني أجد للآية معنى يتناسب مع الجملة ومع الآية ومع السورة ومع كل القرآن في النهاية. حتى أنني أربط السور ببعضها البعض وأظن بأن تغيير أماكن السور تؤثر في معنى القرآن فأعتبر النسق القرآني معجزة سماوية ليس للرسول ولا للصحابة أن يقوموا بها من تلقاء أنفسهم. وحينما فسرت ليلة القدر بأنها ليست سنوية بل ألفية فإنني بدأت من عدة سور قبل سورة القدر وأثبت للحاضرين نسق القرآن البديع وصولا إلى مفهوم ليلة القدر. والشريط موجود في المودة.
نظرة عامة إلى فواتح السور:
من الملاحظ أن “الم” في السور الست أتت مستقلة واعتبرها القرآن المعروف والمعتمد في هذا التفسير وهي رواية حفص عن عاصم، آية حرفية مستقلة. فقال مثلا: الم ﴿1﴾ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿2﴾. وأما “المص” في بداية الأعراف فاعتبرها آية حرفية مستقلة أيضا ولكنه وصل “المر” قبل الرعد بالآية الكلامية التي بعدها فقال: المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴿1﴾. ثم إنه لم يعتبر أيا من السور الخمس التي تبدأ بـ “الر” آية مستقلة. إنها جميعا كتب هكذا: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴿1﴾. وفي المقابل اعتبر طه آية مستقلة كما اعتبر يس آية مستقلة أيضا. ثم إنه اعتبر حم في السور السبع المتتالية آية مستقلة مضافا إلى أنه اعتبر عسق التي أتت بعد حم في سورة الشورى آية حرفية ثانية في سورة واحدة، فقال: حم ﴿1﴾ عسق ﴿2﴾ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أما السور الثلاث التي تبدأ ب طس فقد اعتبر آيتي طسم في سورتي الشعراء والقصص آيتين مستقلتين ولكنه وصل طس في بداية سورة النمل بالآية الكلامية التالية ولم يعتبرها آية مستقلة. ومثال الكتابة في النوعين هكذا: طسم ﴿1﴾ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿2﴾ ثم: طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ﴿1﴾. ونرى بأن القرآن الذي بين أيدينا يعتبر بداية سورة مريم آية حرفية مستقلة هكذا: كهيعص ﴿1﴾ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴿2﴾. بقيت في القرآن الكريم ثلاث سور تبدأ كل منها بحرف واحد وهو سور ص وق والقلم، حيث أوصل جميعها بالآية الكلامية التالية ولم يعتبر أيا منها آية مستقلة. مثال ذلك: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴿1﴾.
نستنتج ما يلي من هذا العرض الكلي المختصر لفواتح السور:
1) لم يعتبر القرآن الذي أشهره الله تعالى بين المسلمين وهو بقراءة حفص عن عاصم، حروف النون والصاد والقاف المفردة آيات. ولعل السبب في ذلك هو أنها تشير إلى صفات أو أعمال في غاية الأهمية باعتبار أنها مقصودة مع سورها الكريمات ولكنها ليست بأهمية الم مثلا فلم يعتبرها قراءةُ حفص آية كاملة. وهي جميعها غير قابلة لأن يُتمسك بها كما نعرف عند تفسير السورة. وواضح أن حفص الذي نقل عن التابعين لا يمكن أن يكون بعلم الذين استلموا القرآن على لسان محمد بن عبدالله عليه السلام، من صحابته وأهل بيته. إنه ناقل فقط وليس عالما بالقرآن ولم يشتهر بيننا أي تفسير منسوب إليه كما ليس بيدنا اليوم تفسير كامل منسوب إلى أي من الذين عاشوا الرسالة مع نبينا الكريم، فلعل تفاسيرهم التي لم يكتبوها ضاعت طيات الحكم التعسفي لمؤسسي الدولتين الأموية والعباسية. وقلت المؤسسين لأخرج الخليفة المؤمن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وكذلك معاوية بن يزيد رحمه الله تعالى وهما مؤمنان صالحان بشهادة التاريخ من بين خلفاء بني أمية المجرمين.
2) تعمَّد الكتاب الكريم -كما يتراءى لمن يحقق- على عدم اعتبار أية مجموعة من الفواتح التي تنطوي على حرف الراء آية كاملة. ونحن نعرف أو نظن ظنا قويا بأن حرف الراء تشير إلى الرسل باعتبار أن كل هذه السور تتحدث عن قصص الأنبياء المرسلين وكلها فيما عدا الحجر والرعد فهي باسم بعض الرسل أيضا. والرعد تتحدث عن نبينا الرسول في الواقع. لم نر في كتاب الله تعالى تسمية أي من الأنبياء أو الرسل حجة أو آية أو آية عظمى كما هو مشاع اليوم بين بني جلدتنا من المسلمين الشيعة. والحديث حول عيسى بن مريم وأمه بأنهما آيتان فهو ليس باعتبار النبوة ولا الرسالة ولكن باعتبار ما فعل الله تعالى بكيانهما من تغيير جيني ساهم في تغيير جوهرهما المادي. كما أنه اعتبر جسد المجرم فرعون القبطي آية للناس. فلعل الله تعالى أراد رفع الإبهام عن كون الرسل آيات للذات القدسية فقدر سبحانه عدم اعتبار أية آية تحتوي على الحرف المشار إلى الرسل آية مستقلة.
3) وهكذا فإن المر التي تمثل المجموعة المستقلة الم بالإضافة إلى ر، خسرت استقلالها كآية حرفية منفصلة لاتحادها مع إشارة الرسل. والعلم عند الله تعالى.
4) جاءت المجموعة الم قبل الصاد والراء في المر و المص. وبحسب تفسيري فإن الراء يدل على الرسل والصاد يدل على الصبر. وبما أني فسرت الميم بأنه يعني التمسك بما قبله، فسوف يكون معنى فاتح الرعد أن يتمسك المؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر ولا يتمسك بالرسل. كما يكون معنى الفاتحة الحرفية لسورة الأعراف ألا يتمسك المرء بالصبر. وأظن بأن التمسك بالرسل وبالصبر باطل ومضل لأنهما غير باقيين فالتمسك بهما محال أو موجب للتعرض للعب الشيطان الرجيم لعنه الله تعالى. فالرسل البشريون عليهم السلام ماتوا جميعا وليس لنا أن نتصل بهم ولم يعِدِ الله تعالى بأن يقي سننهم وأوامرهم. وأما الرسل الملائكيون فنحن لا نراهم ولا يمكننا أن نطلب منهم شيئا. وأما الصبر فهو جميل أحيانا وضار أحيانا أخرى فلا يمكن التمسك به ولكن يمكن التمسك بحجج الله تعالى وهو كتابه وأوامره فهي موجودة ومصونة بأمر الله تعالى وفي متناول يد الجميع في الواقع. كما يمكن التمسك بالطمأنينة مثلا فهي مطلوبة دائما وأبدا والطاء تعنيها برأيي.
5) وأما عسق التي أتت آية ثانية بعد حم فهي لما تشير إليها الآية الحرفية الكريمة من معاني انطوى عليها الرسل الإنسيون وعملوا بها ليصيروا مستعدين لاستقبال وحي السماء. والسر في ذكرها قرآنيا هو أننا اليوم قادرون على الارتباط بالحي القيوم جل جلاله عن طريق الهمس الذي أبقاه الله تعالى ليكون ذخرا للمؤمنين المتقين. ونعرف طريقة الهمس من سورة طه ومن قبله كهيعص بإذن الله تعالى.
6) بقي أن نعرف بأن السر في خلو طس من الميم وكذلك عدم اعتبارها آية فهي بسبب أن الصفتين المقصودتين مع الطاء والسين والمطبقتين في سورة النمل تشير إلى مظاهر من الطمأنينة ومن مفهوم السين الذي يرمز إلى السمع ببصيرة، لا يتناسب مع التمسك والسعي للتأسي بمن كسبها أو أتى بها. ولو نمعن في الفرق بين النمل وأختيها لنرى بأن سورة النمل تركِّز على أعمال غير عادية قام بها داوود وسليمان وليس لنا أن نأتي بها فضلا عن التمسك بها.
7) وأما السر في جعل الفاتحة الحرفية ألم وردت في مجموعتين وهما بداية سورتي البقرة وآل عمران ثم وردت ثانية في بداية سور العنكبوت، الروم، لقمان والسجدة. فلعله باعتبار أن سورة البقرة تحث على تزكية النفس وسورة آل عمران تمثل المرفق العملي للبقرة فهي تعطينا أمثلة من الرسل وصحابتهم الذين اتبعوا مفاهيم البقرة واستفادوا منها. لكن فوائد التمسك بالله تعالى وباللقاء مع الله فيهما مؤجلة غالبا للحياة الأبدية أما السور المتوسطة فإن فائدة التمسك بهما (الله واللقاء مع الله) معجلة غالبا في الدنيا. والعلم عند السيد المتعالي عز اسمه.
لماذا وضع الله تعالى رموزا لهذه المفاهيم؟
بقي أن نتوجه بأفكارنا إلى إشكال علمي طالما ينتاب كل مؤمن ومسلم وهو لماذا وضع الله تعالى هذه المفاهيم في لفافة رمزية أمام بعض السور ولم يوضحها طيات السور نفسها كما هو طبيعة الكتاب المبين؟ بالطبع ليس في مقدرونا قراءة حكمة رب العالمين بكل دقة وتفصيل، إذ ليس هذا مرتبطا بالهدى الذي وعدنا الله سبحانه كعبيد مؤمنين ألا يبخل علينا في بيان كل جزئيات الضرورات العقائدية ولكنه يمثل مرحلة متطورة من الإيمان بالله وباللقاء معه. ومما لا شك فيه بأن القرآن كتاب هدى لكل الناس وفي جميع المستويات. والمراكز العلمية مثل الجامعات أو المدارس توزع كتبا على التلاميذ وأخرى على المدرسين كما أنها تخصص جلسات استثنائية للتلاميذ الضعفاء وهكذا القرآن فإنه في تعامله مع كل الناس لا يمكن أن ينشر بينهم المعلومات على وتيرة واحدة. هناك الكثير من المسائل العلمية مقصودة مع الآيات الكريمة وفي متناول يد الجميع ولكن مسألة مهمة مثل التمسك بالله لا يمكن الإعلان عنه بين الناس لأنهم عاجزون عن التمسك فعلا بالله فيكتفي القرآن بذكر التمسك بلفظ عادي يمكن تفسيره للعامة ثم يحتفظ بالمسائل العميقة في رموز ليكون في متناول يد الذين يطلبون العلم بإخلاص دون عامة الناس أو عامة المسلمين.
وقد انتبه بعضهم لذلك مثل العلامة الطباطبائي الذي تفطن عند تفسيره للآية 185 من سورة البقرة ففسر هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، بأن الهدى للناس والبينات للعلماء. ولعلي لا أوافق العلامة في هذا الرأي ولكني أوافقه في وجود أسرار علمية في الكتاب المجيد وهي غير مفيدة للمبتدئين الذين لا يعرفون عن الدين إلا القليل. وقد قصد العلامة بالعلماء، الذين اشتهروا بين الناس بملابسهم وألقابهم وهو واحد منهم. والحق أنهم عجزوا عن فهم بداية هذه السورة وفاتحتها فليس من حقهم ادعاء الأولوية لأنفسهم في معرفة القرآن ثم السعي لفرض آرائهم على غيرهم. ولعل العلامة كان قادرا على فهم ذلك لو أنه لم يحاول فرض بعض آرائه العقائدية على هذا الكتاب المهيمن ويستبدله بالرضوخ لهيمنة القرآن على كل عقائده ولكنه لم يفعل. إنه رضي الله عنه سعى لفرض آرائه القومية والعقائدية على كتاب الله وكأنه لا يتعلم من القرآن بل يُعَلِّمُ القرآنَ. معاذ الله تعالى من ذلك وغفر سبحانه لنا وللطباطبائي ولكل المفسرين الذين سعوا مع الأسف لفرض عقائدهم على سيد الكتب.
فالفواتح ترمز في الحقيقة إلى معلومات علمية دقيقة جدا وغير ضرورية للعوام بل هي من كنوز القرآن ونحن نسعى للكشف عنها بإذن الله تعالى وبتوفيق منه وعرضها على الأمة لعلهم يستفيدوا منها في مراكزهم العلمية أو في لقاءاتهم مع الذين لا يحبون القرآن من اليهود والنصارى وغيرهم من معتنقي الأديان الأخرى. ونقصد بالعوام الذين لا يهتمون بكتاب الله تعالى ولا يعبؤون بالتعمق في كنوز الكتاب المبين. وإني في أعماق نفسي وقلبي أتمنى لجميع المسلمين بل جميع الناس أن يستفيدوا من هذه الحقائق، ولكنهم ليعلموا أن ذلك غير متاح لمن لا يتمسك بكتاب الله ولا يعتبره الملجأ الوحيد لمعرفة حقائق القيامة وحقائق الخلق الأول وكذلك المقاصد والأهداف الدينية والتشريعية الكبرى والأساسية.
عرفنا من هذا البيان المختصر لفواتح السور بأنها ترمز إلى معاني مقصودة مع السورة ولا ترمز بالضرورة إلى كلمات داخل السورة نفسها كما تراءى للكثير من مفسرينا الكرام رضي الله تعالى عنهم وعنا. وأظن بأن السر في عجزهم عن تفسير معنى موحد للحروف هو اهتمامهم بالكلمات دون المعاني. هذه المعاني المقصودة والتي توحي بها السور الكريمة تؤكد القوة الإعجازية لتلك السورة التي تعني الكثير بدون الفواتح كما تعطي معاني أعمق وأكثر تفصيلا مع الفواتح.
والسلام على من فكر في القرآن واتخذه كتاب هدى دون غيره
أحمد المُهري
20/9/2016