يوم القيامة – القسم الثالث ح 6-الأجداث أو القبور:
يوم القيامة – القسم الثالث ح 6
الأجداث أو القبور:
بعد اكتمال خلق الأرض الجديدة فإننا سوف نعاد بأنفسنا إلى باطن الأرض بأمر الله تعالى. هناك يتم تشكيل خلية نباتية لإنماء جسد جديد لنا. هذا الجسد ليس مشابها للجسد الدنيوي وليس من جنسه. إنه جسد معد للبقاء الأبدي فلا يطرأ عليه أية ظاهرة من ظواهر العمر والمرض والفناء إطلاقا. سيكون الجسد ضيفا علينا نحن إذ أننا موجودون فعلا بنفوسنا ولكن الله تعالى يريد أن يجزي كل نفس بما كسبت فلا بد من بدن للعذاب أو للتمتع. الأصالة هناك لنا كأنفس وليس لأبداننا والأولوية لنا وليس لأبداننا فلا داعي للتفكر في القسر ولا قسر فعلا. سنكون متطورين إذ أننا سوف لا نكون مسجونين في البدن بل سيكون البدن مسجونا عندنا، أو أن خالقنا العظيم يزوجنا بالبدن الجديد حسب تعبير الكتاب الكريم؛ ولكننا سوف نشعر بالسرور والألم عن طريق البدن. والتعمق في آيات القيامة توحي بأن أهل الجنة على الأقل يتعاملون مع ظواهر الحياة بأنفسهم تارة وبأبدانهم أخرى. وإن كان هناك سجن بدني فهو لأهل النار في الواقع وذلك بعد أن تنتهي مراسم المحكمة العظمى والتي ستكون محكمة نفسية غير بدنية، مع أن الناس سيكونون بأبدانهم الجديدة واقفين ومعهم الجن بأبدان مشابهة لأبدان الإنس كما أظن.
وبما أننا كنفوس موجودون فعلا، فسنكون قادرين على تطوير أية خلية نباتية لتتناسب مع كياننا الجديد. إنني أحتمل لما هو وارد في سورة ق بأن كودات جيناتنا الدنيوية ستعود مع بعض التغيير حتى لا نشعر بأي فرق بين شخصيتنا الدنيوية وشخصيتنا الأخروية. ليست هناك مشكلة في الدخول في الأرض ولكن المشكلة تقع في الخروج منها. سنكون شاعرين لوجودنا ضمن نفسٍ كاملة الأحاسيس وسنحس مرارة الخروج ولكن الله علَّم إبراهيم بأننا سنمر عليها بكل سهولة ويسر ودون عناء. ولعل ذلك خاص بالمؤمنين. يمكن فهم ذلك بمراجعة الآية التالية من سورة البقرة: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) .
بعد أن تتكامل الخلية الأولى بباطن الأرض وبعد أن تأخذ شكلها المطلوب فإنها سوف تعمل لصناعة بدن جديد حسب إرادة الله تعالى لنا. وستتم العملية بسرعة كما كنا عليه حينما صنعنا الله تعالى في أرحام أمهاتنا دون أن نمر بمراحل التطور الطبيعية الدنيوية. ثم نخرج من الأرض بعد انفتاح وجه الأرض التي تتأثر بالدعوة أو الصيحة أو الصوت الشديد ونحن نسرع إلى المحكمة الكبرى لاستماع حكم الله تعالى فينا.
العمي والصم والبكم:
ينص الكتاب الكريم على أن بعض الناس يُحشرون عميا و/أو بكما و/أو صما، حين أنهم لم يكونوا كذلك في الدنيا. ولا بد أن يكون في المقابل من يُحشر سليما من هذه العاهات ولكنه كان مصابا ببعضها أو كلها في حياته الدنيوية. شرح الطريقة لا يتناسب مع هذا المختصر وقد فصلت ما قويت عليه في التفسير. فأكتفي بذكر السبب وباختصار وأذكر آثار هذا النوع من الحشر. أما السبب فإن الله تعالى وعد في سورة ق بحفظ ما تنقص الأرض من البشر بعد الموت. ونحن نعرف بأن الأرض تُذيب كل البدن المادي في الواقع، فما معنى ذلك الحفظ. لا يتبادر إلى الذهن أمر قابل للحفظ ومؤثر في شخصية الإنسان بجوار النفس غير كودات الجينات التي تُناط بها صناعة بدن هذا الإنسان. أهمية هذه الكودات هنا هي أنها التي تلت عملية تسوية النفس مباشرة. فالنفس كانت شاهدة على تكوُّنِها ولو أنها لم تكن لتعرف شيئا من آثارها في تلك اللحظة التي خُلقت فيها النفسُ مستويةً مع التركيب الخلقي الأول من الحيمن والبويضة.
بالطبع أن هذه الجينات هي التي صنعت أدوات الرؤية والسمع لذلك الشخص، ولازم ذلك أن تقوم بنفس العمل إن كانت محفوظة بكامل حقيقتها لدى الله تعالى. لكنه سبحانه وبدون شك لم يُعِد نفس الكودات إلى النفس بعد أن شاء لها أن تصنع بدنا لنفسها من الخلايا النباتية في الأرض الأخروية. هناك دون شك بعض التغييرات في الكودات ليتناسب مع القسط الذي وعد به. فالمؤمن الأعمى وراثيا في الدنيا، سوف يُضاف إليه كودات صناعة العين أو يُعدل كوداته لتصنع جلدا أكثر ملائمة للحياة الفردوسية مثلا. ولكن الكافر سوف يحذف الله تعالى كودات صناعة البصر والسمع والتكلم لديه ليُحشر بالعاهات المذكورة. وقد سمى الله تعالى ذلك نسيانا بمعنى أنه كان موجودا فعلا مع الكودات ولكنه سبحانه حين نقلها إلى الخلية الجديدة ترك أو أهمل بعضها وسمى ذلك نسيانا. هذا النسيان من الله تعالى هو في مقابل النسيان الذي حصل من ذلك الشخص في الدنيا وترون في التفسير بيان معنى النسيانين لو قدر الله تعالى أن يخرج تفسيري إلى الوجود بإذنه سبحانه.
بالطبع أن ذلك لا يستتبع عدم الرؤية وعدم السمع والإفصاح عما يريد الشخص قوله في الآخرة. لو كان كذلك فكيف يقول الكافر الأصم والأبكم كما في سورة طه: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) ؟ ثم كيف يمكن التساوي بينه وبين خصومه في المحكمة الكبرى؟ فالعمى والصم تعنيان نقص البصر المادي والسمع المادي اللذان يستمتع بهما الإنسان. فنحن نرى طيفا محدودا مما يمكن رؤيته كما نسمع أطوالا موجية محدودة أيضا فنستمتع بهما ونحن داخل أبداننا. ولكننا في النشأة الثانية نرى ونسمع بالنفس أيضا والوقوف أمام الله تعالى في المحكمة سوف تكون وقوفا بدنيا فعلا ولكننا سوف لا نستعمل العين والأذن واللسان لعدم انسجام تلك المشاعر مع واقع المحكمة التي يشترك فيها الجن والإنس من كل طبقات ولغات الأرض وكذلك الملائكة. كلهم لا يعرفون لغة بعضهم البعض وغير الإنس لا يمكن أن يعرف أية لغة إنسية لأنهم جميعا فاقدو السمع فكيف يتعلمون لغتنا؟
سوف تتوقف كل تلك المشاعر آنذاك ويعود الناس ليستعملوا لغة النفوس المسماة في القرآن همسا. قال سبحانه في سورة طه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108). ففاقد هذه المشاعر يُصاب بعدم التمتع ولا يصاب بعدم الرؤية الفعلية أو عدم النطق الفعلي أو عدم السمع الفعلي البدني.
يتبع ,,,
أحمد المُهري
#يوم_القيامة
#تطوير_الفقه_الاسلامي