يوسف أيها الصديق ح 32 – وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ
تواصلا مع شرح سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 32 – وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ
فتح يوسف في سني الجدب مكتبه في أحد مخازن الحبوب ليشرف على التوزيع..
وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴿58﴾.
كان يعرف بأن أهله سوف يأتون إليه ولكنه لا يعرف كيف يأتون. إنما كان على علم بأن الله تعالى لا يريد لإخوانه الظالمين إلا أن يهديهم ولا يمكن أن يهديهم دون أن يختبرهم. لا ننس ما أوحاه إليه ربه وهو ينزل إلى الجب بعد أن اتفق إخوته على ذلك. يوسف يذكر ذلك وينتظر تحققه لأنه علم بأنه وحي من الله تعالى.
وصلت المجاعة إلى مدينة يعقوب وسمع الناس هناك بأن مصر تبيع الحبوب بالسعر الحكومي للعوائل. سمعوا بأن كل الناس يجب أن يحضروا بأنفسهم لأن الدولة المصرية لا تبيع إلا بالأسهم. سمعوا بأن كبار السن والنساء مرخصون من الحضور.
يبدو بأن النظام كان يقتضي بأن يسأل البواب أو مباشر التوزيع ولعله يسجل أيضا عدد أفراد العائلة ويطلع على الحاضرين ليطمئن بأن القادرين قد حضروا.
جاء الإخوة مع أهل المدينة طبعا وعرضوا أفراد أسرتهم. كان بينهم شاب لم يحضر ويريدون أن يأخذوا سهمه أيضا. كان سهم الغائب أقل من سهم الحاضر فلكل شخص حمل بعير له وللغائبين. ولكن الشبان يجب أن يحضروا جميعا.
كل المستثنيات تعود إلى يوسف نفسه ليفصل فيها ولذلك دخلوا عليه، هم جاؤوا مع الآخرين ثم دخلوا عليه لأنهم لا يصطحبون أخاهم. وافق الوزير على منحهم حق الشاب الغائب بصورة استثنائية كما يساعد غيرهم بالطبع.
حصل كل ذلك وهم لا يفكرون بأنه يوسف ولكن يوسف عرفهم فور دخولهم عليه. يعرف يوسف بأن ربه لن يرضى أن يعرفهم بنفسه. إنهم الآن في الاختبار وعليه أن يصبر حتى يشعر بحلول وقت التعارف. إنهم كانوا مخطئين عاصين؛ فهو ينتظر أن يصابوا بنوع من الخوف حتى يعودوا إلى ربهم قبل أن يتعرفوا عليه 48.
فكر يوسف بأن يُعيدهم إليه مرة أخرى حتى لا يذهبوا إلى مركز توزيع فرعي آخر. رأى بأن يبلغهم بأن الموافقة الاستثنائية لن تتكرر..
وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ﴿59﴾ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ ﴿60﴾.
أكمل الموظفون تجهيزهم وهم ينفذون موافقة الوزير المصري كما كانوا يفعلون مع الجميع. ولما انتهوا من ذلك ذهب إليهم يوسف بنفسه احتمالا ليقول لهم بأن كيل أخيهم لن يتكرر.
كانوا قد ادعوا بأن لهم أخا صغيرا من غير أمهم لم يحضر لصغر سنه ولأنه وحيد أبويه. كانوا كبارا في السن وكان يجب عليهم أن يذكروا سببا لغياب أخيهم.
ربما قال لهم يوسف، إنكم مسامحون في هذه المرة لكن هذه الأعذار غير مقبولة في المرة القادمة، فأْتوني بأخيكم من أبيكم لنعلم صدق دعواكم أولا وحتى لا تطلبوا مني الاستثناء مرة أخرى. لقد رأيتم بأنني أوفي الكيل ولكن عليكم بأن تساعدوني في أن أستمر في ذلك معكم. ولقد لمستم حسن معاملتي لكم. وإن لم تأتوا به مرة أخرى فلا تطلبوا مني كيله في المرة القادمة ولا تطلبوا مقابلتي ومساعدتي.
شعر الإخوة بأن الوزير المصري قد وافق على مساعدتهم ولكنه لم يكن بكامل الرضا لأن نظامه لا ينطبق مع هذا النوع من التعامل. أحسوا بأنه رجل طيب يحب مساعدة الفقراء ولكن عليهم بأن لا يحرجوه مرة أخرى وبأن يحضروا أخاهم ليطمئن لصدق دعواهم أيضا ولذلك:
قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ﴿61﴾.
أرادوا التأكيد على ادعائهم بأن أباهم متشبث به لصغر سنه فقالوا بأنهم سوف يستعملون منزلتهم عند الأب ليغير رأيه ويرسل معهم أخاهم على الرغم من إصراره على إبقائه عنده. وأكدوا له بأنهم سيفعلون ذلك بكل ثقة.
اطمأن يوسف بأنهم سوف يعودون إليه. ثم فكر بأن يريهم المزيد من طيبه بأن يعيد إليهم الثمن الذي دفعوه ليعلموا بأنه لا يطمع في شيء وأن المال ليس مهما عنده ولكن الحبوب محدودة ويريد الوزير أن يطمئن بأن الأكل يصل إلى المحتاج فعلا. شعر بأنها فكرة جميلة..
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿62﴾.
دعني أخاطب بعض الإخوة الذين يظنون بأن يوسف وبقية الأنبياء يعلمون الغيب أو شيئا من الغيب، فلو كان يعلم الغيب لما قال: لعلهم…لعلهم يرجعون.
إنه فعلا كان يستعمل فكره الثاقب ويأخذ القرارات الدقيقة مستعينا بربه لأن يوفقه في أعماله. وبما أن نواياه كانت طيبة وصادقة ومخلصة لله تعالى وبعيدة عن الشهوات فكان التوفيق نصيبه.
شعر فتيان يوسف دون ريب بأن يوسف مهتم بهؤلاء أكثر من غيرهم دون أن يعرفوا السبب بلا شك أيضا. لكنهم لم يكونوا من العمال العاديين في المخازن، بل كانوا من فتيانه الشخصيين.
وفتى الشخص يُطلق على الذي يلازمه وهو موضع ثقته. فمثلا كان لموسى فتى يلازمه في أخص أسفاره حتى في السفرة التي ذهب فيها بأمر الله تعالى ليتعلم.
فهؤلاء الفتيان هم خواصه الذين يثق بهم ويبوح أمامهم ببعض أسراره حتى يساعدوه في تحقيق أهدافه. كان يريد أن تكون المسألة غير علنية فلا يشعرون بأن الأثمان قد أعيدت إليهم قبل أن يصلوا إلى أهلهم ويفتحوا متاعهم.
إن عنصر المفاجأة هناك قوى طلبهم من أبيهم لإرسال أخيه معهم. وأظن والعلم عند الله تعالى بأنه فكر من ذلك الحين بأن يأخذ منهم أخاه فيضطربوا ويأخذوا نصيبهم من العذاب فلا يكون مسئولا أمام ربه. إنه يعرف بأن من واجبه أن يؤدبهم قبل أن يُعرفهم بنفسه فلا يشعرون بما لا يستحقونه من الاطمئنان.
استجاب فتية يوسف لأمر سيدهم الذي أحبوه كما أحبه اغلب من رآه من قبل من أهل مصر، فجعلوا البضائع التي قدمها إخوة يوسف ثمنا للحبوب الحكومية، في رحالهم تحت الحبوب بحيث لا يرونها قبل أن يفتحوا أوعيتهم في بيتهم.
والرحال جمع رحل بمعنى الشيء الذي يصاحب المرء حين رحيله وسفره. ويُطلق عادة على ما يجعلونه على ظهر الدابة ليجلسوا عليها. ولكن الرحل هنا دون شك هو الذي وضعوه على الدابة لحمل الحبوب.
وأما قوله: لعلهم يعرفونها، فهو ليس راجعا إلى معرفة البضاعة. إنهم يعرفون البضاعة التي قدموها ثمنا لمشترياتهم دون شك. فالسر في الرحال بالجمع. وهو أن يوزعوا البضائع على كل الرحال حتى يعرفوا لحظة الوصول بأن البضائع كلها قد ردت إليهم.
فلو وضعوها كلها في رحل واحد فلعلهم يفتحوا ذلك الرحل فيما بعد فلا يستفيد يوسف من عنصر المفاجأة التي تزيد الأسرة عزما على العودة إليه. سيعلمون بأنه حينما قال لهم بأنه خير المنزلين، فقد كان محقا. ليعرفوا بأن العزيز يحب ويحترم الذين يأتون من بعيد ويعاملهم معاملة خاصة فيشجعهم ذلك على التشوق للعودة إليه.
إنهم بالطبع سوف يفتحون أحد الرحال ليرى أهلهم نوع الحبوب وليبدأوا بالاستفادة والطبخ.
فلما رأوا أن الرحل ينطوي على بضاعتهم فسوف يشكون في المسألة. سيظنون بأنه اشتباه. هناك احتمال قوي بأنهم سيفتحون الرحل الثاني فيرون نفس الشيء ثم سوف يفتحون كل الرحال. سوف تندهش الأسرة جميعها ويعرفون بأن إعادة البضاعة مقصودة. سيعلمون بأن العزيز إنسان طيب ولا خوف منه على ولدهم. سوف يثق يعقوب بقولهم وبصدقهم ويرضى بأن يرسل أخاه معهم.
يريد يوسف أن يشدهم إليه فلا يتركوا زيارته. لقد مكر يوسف مكرا عظيما بأن يأتوا مع أخيهم فيمسكه عنده فتضطر الأسرة للعودة مرة ثالثة أيضا وهكذا يتم التواصل غير المنقطع.
ثم إن يوسف كان يعرف فراسة أبيه وبأنه سوف يعرف أو يشك كثيرا بأن الذي رأوه هو يوسف.
يعقوب إنسان عبقري يقرأ الرسالة بمجرد أن يرى الآثار ولا يمكن أن تخطئ فراسته. ليس معقولا في ذهن يعقوب أن يقول لهم شخص بأن عليهم ألا يأتوا عنده مرة أخرى دون أخيهم، ثم يعيد الثمن إليهم ويكرمهم. إنه يعرفهم وليس من يعرفهم غير يوسف.
يعقوب كان يعرف بأن يوسف نبي لا يمكن أن يكون مقتولا. الأنبياء لن يُقتلوا ولا يمكن أن يموتوا قبل أن يكملوا رسالاتهم.
وحينما قال يعقوب لابنه بأن الله تعالى سوف يجتبيه فيكون هو مؤسس الأسرة الإسرائيلية فهو كان مطمئنا بأن الرسالة السماوية موجهة إلى ابنه يوسف، فلن يُقتل يوسف كما أنه لن يموت قبل انتهاء رسالته.
والرسالة منوطة بأن يجتمع مع إخوانه الذين هم آباء بني إسرائيل في مكان واحد. فمقصود يوسف في (لعلهم)، في الواقع هو يعقوب بالأحرى. لكن الفتية علموا بأنه يقصد بأن تتعرف الأسرة على تعمد العزيز بأن يعيد البضاعة إليهم فوزعوا البضائع على الرحال جميعها. والعلم عند الله تعالى.
وأما جملة “إذا انقلبوا إلى أهلهم” فهي تعني إذا عادوا إلى أهلهم. بمعنى أن يوسف كان حريصا على أن يهتم الفتية بإخفاء البضاعة حتى لا تنكشف قبل أن يعودوا إلى الأهل. فمعنى الانقلاب في الحقيقة هي العودة كما قال تعالى في سورة الأعراف على لسان السحرة بعد أن آمنوا بموسى:
قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125).
ولكن الفرق بين العودة والانقلاب هو بأن العودة قد تكون بنفس الطريقة التي تحرك منها الشخص إلى مكان ما. فتكون العودة بسهولة السفر. لكن الانقلاب يعني أن يعود المرء منقلبا على عقبيه وهو مغاير للسفر الأول. فقد يكون صعبا جدا فقط وقد يكون مثمراً كثيرا أيضا.
يعرف يوسف بأن فرحة العودة إلى الأسرة بسلام محمولة بما يشبع بطونهم فترة من الزمان ثم يرون بأنهم لم يخسروا مالا بل عادت إليهم بضاعتهم قد تكون مفاجأة جميلة مفرحة يسهل معها أن يتقبلوا المزيد من التضحية طلبا للمزيد من المنفعة. وعلى هذا الأساس فإن احتمال عودتهم إليه سيكون كبيراً جدا.
كل ذلك إضافة إلى ما يظنه من فراسة أبيه يعقوب الذي سيبدأ شوقه بعودة ابنه يوسف بالتهيج والاشتعال في قلبه. فعل يوسف ما بوسعه وترك الأمر لله تعالى ربه الكريم الرحيم ولننظر ما الذي حصل فعلا:
فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴿63﴾ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴿64﴾ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ﴿65﴾.
أصغى الإخوة إلى ما سمعوه من يوسف وفكروا في كيفية الطلب من أبيهم ليضمنوا موافقته. كانوا لا يدرون بأن الذي طلب منهم الأمر يعرف الأسرة بكاملها ويعرف كيفية إقناع يعقوب.
كان يوسف قادرا على أن يخمن رد فعل الأب الكبير وقد مهد له دون علمهم. وللمرة الثانية قام يوسف ويعقوب بعمل غاب عن الإخوة تماما وهما يختبران آباء بني إسرائيل اختبارا عسيرا لعلهما ينجحان في إخراجهم من العناد والكبرياء الإسرائيلي إلى الخضوع للرحمن والشعور بأنهم عبيد مثل غيرهم لرب واحد عزيز قهار.
لقد سبق لهم أن طلبوا من أبيهم مرافقة يوسف لهم وقالوا له بأنهم له حافظون. عادوا وكرروا نفس الكلام ليأخذوا معهم أخاه الأصغر، فكيف يوافق يعقوب على طلبهم؟ قالوا له سابقا بأنهم يريدون اصطحاب أخيهم يوسف ليسرح ويمرح معهم، ولكنهم كذبوا وعادوا إلى أبيهم بقميص ملطخ بالدم.
هكذا يتعاملون مع أب فذ يحمل عقلا نفاذا بعد أن ازدادوا خبرة عقدين من الزمان. هؤلاء هم أصول بني إسرائيل. لا يمكن أن نصفهم بالحمق لأنهم يحملون جينات يعقوب وإبراهيم، ولا يمكن أن نظن بأنهم كفار مشركون، فهم أحفاد شيخ الأنبياء وأكبر من أسلم وجهه لله تعالى وقد تربوا في بيت النبوة.
لكن المشكلة الكبرى عند بني إسرائيل هي الشعور بالاستعلاء الأجوف الذي يبعدهم عن الحقيقة ويضيع عليهم فرصة التفكير الدقيق في عواقب الأمور. إنهم عقلاء ومؤمنون بالله ولكنهم متكبرون يظنون بأنهم خير البشر.
وإني أظن بأن كلما يخسره العرب اليوم هو جراء نفس التفكير المتعجرف الذي يحول دون أن يفكر العرب في العواقب، كما يحول دون أن يفكر المؤمنون منهم بيوم الجزاء. بنو إسرائيل والعرب يظنون بأنهم مفلحون يوم القيامة لأنهم أفضل من غيرهم. فأولئك أحفاد يعقوب العظيم وهؤلاء خيار من خيار.
يتبع …..
(هامش 48: يقول اليهود بأن زوجته المزعومة أقنعت يوسف بأن يدعوهم إلى بيته وأنا لا أحتمل صحة ذلك أبدا. لقد جاؤوا وشدوا رحالهم وذهبوا ولم يبقوا هناك حتى يفكر يوسف في دعوتهم. هذه أيضا من أخطاء إخواننا من بني إسرائيل. نهاية الهامش 48.)
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :