يوسف أيها الصديق ح 31 – وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ
تواصلا مع شرح سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 31 – وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ
لقد عرفه أبوه حق المعرفة ثم عرفه العزيز وزوجته ثم عرفه ملك مصر 45.
دخل يوسف القصر الملكي مرة أخرى ولكن ليأخذ القوة من ملك مصر فيعمل مع الفلاحين وعمال مخازن الحبوب وليجلس بنفسه في تلك المخازن فيطمئن بأنها توزع بعدالة على من يحتاج إليها.
لقد فتح المخازن التي بناها بيده وملأها من فائض الزراعات المصرية بعد أن أقنعهم بالامتناع عن الإسراف والاكتفاء بالقليل مما يأكلون، فتحها لكل الجائعين في الأرض لأنهم جميعا عبيد الرحمان ومن حقهم أن يعيشوا في أرض الله تعالى ويقتاتوا من خير ربهم. آمن يوسف بأن الذي حصل على ما لا يحتاج إليه من خيرات الأرض فهو يتحمل مسؤولية إشباع غيره.
اهتم يوسف بخدمة بطون الناس ليقنعهم بأن الله تعالى حي لا يموت وبأنه هو الذي يقدر النعم لعبيده، فـ
…كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور. (سبأ14)
هذا هو يوسف صانع بني إسرائيل. ان كل الأنبياء مثل يوسف لكن المشكلة في الذين يأتون من بعد الأنبياء. قال تعالى في سورة مريم:
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60).
العبرة بالعمل الصالح والتوبة إلى الله تعالى وحده، ثم لا فرق بين بني إبراهيم ولا بني إسرائيل ولا صحابة المسيح ولا أهل بيت محمد أو صحابته أو أي إنسان على وجه الأرض، عند الله تعالى إلا بالتقوى.
وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴿56﴾ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴿57﴾.
طبقا لما علمنا الله تعالى في كتابه العزيز فإن يوسف لن يدخل الجنة بما مكنه له ربه من أرض مصر ولكنه يدخل الجنة بالتقوى بعد الإيمان بالله تعالى، وهكذا كل الأنبياء وكل الناس.
مكّن الله تعالى يوسف على أرض مصر ووضع الكثير من إمكانات المصريين تحت تصرفه، فماذا فعل يوسف؟ هل بنى لنفسه القصور أم اتخذ من الفاتنات المصريات أخداناً لإشباع شهواته؟ لو كان كذلك لاستمتع في قصر العزيز وقد عُرض عليه ذلك.
أجمل غانيات مصر عرضن عليه الشهوات فلم ينزلق وهو في ريعان الصبا ولا يحمل مسؤولية الأمة على ظهره.
ولو أنه كان كما يتوهم البعض لما تمكن بمفرده أن يدير عجلة الغذاء لأهل مصر والبلدان المجاورة سبع سنوات عجاف.
يوسف متوكل على ربه فالله تعالى وضع كل شيء تحت تصرفه وهو قادر على أن يتبوأ منها حيث يشاء. ولكن يوسف سعى جهد امكانه ان ترتبط مشيئته بما يشاء الله تعالى ربه الذي أكرمه.
إنه يعرف ويدرك بأن الله تعالى هو المالك الحقيقي وهو رب العالمين جميعا، فلو كان ربانيا فعليه أن يهتم بإشباع بطون عبيد الله تعالى ثم يشبع بطنه. وقد فعل يوسف ذلك.
لقد جلس بنفسه يدير توزيع الأرزاق فرأى إخوانه وإلا لو كان جالسا في غرف الوزراء لما رأى إخوانه الجائعين ولما تمكنوا من الدخول عليه. كان باب يوسف مفتوحا ليدخل عليه الفقراء من كل جانب ولذلك التقى بأسرته.
إنه اختيار طيب وفي مكانه، اختيار ربنا الرحيم ليوسف صاحب القلب الكبير والذي يجتهد بما أوتي من قوة وعلم؛ وصدَق يوسف حيث قال للملك: إني حفيظ عليم. وصدق الملك حيث قال إنه مكين أمين. يعني أمين على السلطة وليس خائنا كأكثر أرباب السلطات 46.
وقد اختصر الله تعالى القول الحق في الآية الثانية بأن أجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون.
وتعني الآية بأن العاقل يهتم بالإيمان بالله والخوف منه سواء كان ملكا أو عبدا. فلا فرق عند ربهما، بين يوسف الذي تولى أرزاق مصر برمتها وبين يعقوب أبيه الفقير إلى الله.
لقد رأيناه لا يقل علما وحصافة من ابنه يوسف وهو وأولاده الاثني عشر وزوجته يعيشون في بيت واحد في أحد أرجاء فلسطين ثم جاء إلى مصر ليزور ابنه الذي فتح الله تعالى عليه فينقل كل بني إسرائيل إلى مصر وهم من أفقر الناس.
كادوا يموتون جوعا لولا أن فتح الله تعالى على ابنهم يوسف ليشبع بطون كل الأمة التي تعيش حول مصر بعلمه وذكائه وبتقواه وما وفقه الله تعالى في أن يتبوأ من مصر حيث يشاء.
تبوأ من مصر ما يساعد به الغير. فامرأة العزيز لم تهنأ مع يوسف لأنها من بنات القصور ويوسف أُدخل القصور وهو يفضل السجون عليها. هذان شخصان مختلفان كل الاختلاف. هي انسانة أنانية ويوسف تارك لشهوات نفسه وقلبه ويستعيذ بالله من طغيان الشهوة.
قام يوسف بمساعدة الفلاحين وأصحاب الأراضي الزراعية يعلمهم ترك الإسراف، وقام باستعمال الوسائل المتاحة يومها لتعليم الأغنياء أن يكتفوا بإشباع بطونهم من الحبوب ولا يتجاوزوا ذلك مخوفا إياهم بالمجاعة التي تنتظرهم.
عاش معه أهل مصر سبع سنوات خيرة وهم يستمعون إلى عظات وزير من وزراء فرعون نذر نفسه لخدمة الناس. لم يمس يوسف العزيز ولا زوجة العزيز وبقيا في مكانهما. لقد استفادا من يوسف حينما كان خادما لهما واستفادا منه حينما صار وزيرا مثل العزيز وأقوى من العزيز.
يوسف أكرم من أن يرضى بأن يمسه أحد بسوء. إنه لن ينسى للعزيز ما أوصى زوجته به في إكرام مثواه، فلو نسيه اليوم في قوته فهو لئيم وحاشاه من اللؤم.
لكن بعض اليهود وصفوه بما ينطبق مع حبهم للانتقام الذي نراه اليوم لاصقا بهم لا يفارقهم. هؤلاء هم مثل إخوان يوسف الأنانيين وليسوا مثل يوسف ويعقوب الصالحين الطيبين.
عاش الناس بحكمة يوسف يأكلون بقدر الحاجة ويتركون الباقي ليوسف ليحفظه لهم استعدادا لسني الجدب. واصل الناس حياتهم العادية بحكمة يوسف ولكن يوسف لم يكتف بذلك. إنه مسئول التغذية لكل الناس. ولذلك دبر بناء المخازن.
حينما طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، أراد خزائن المال ليبني بها مخازن الحبوب بالدرجة الأولى. يوسف مهندس البناء والناصح الأمين ومعلم التغذية، لا وقت له للترف.
يتمنى المرء أن يكسب حماية فرعون وماله ليستمتع بالكثير ويخدم قليلا. ولكن يوسف طلب ذلك ليخدم الكثير في مقابل القليل.
كان في القصر قبل السجن حينما تعرف عليه الوزير وبعد أن تعرف عليه الملك دخل مخازن الحبوب ليشرف على التوزيع العادل. انتهت سني الخير وبدأ الجفاف ورأى المزارعون صحة قول يوسف كما رأى الملك والوزراء وكبار رجال الدولة بأن يوسف على حق. ارتفع صيت يوسف فعرفه الناس جميعا 47.
يتبع …..
(هامش 45: ليرجع الناس إلى القرآن وحده ليتعرفوا على أنبياء الله تعالى فهم رسل الله ولا يعرفهم بحق إلا الله تعالى. وليتركوا ما انتشر من نصوص توراتية وانجيلية محرفة وسائر كتب الحديث غير الشريف وكتب التاريخ والسيرة النبوية المزعومة.
إن الملوك الجبابرة كتبوا وأنفقوا على كتابة كتب تمهد لهم لأن يغزوا البلدان الأخرى وشعوبها الآمنة ويستحلوا أموالهم وأعراضهم باسم الدعوة إلى المسيحية أو نشر الإسلام أو الدفاع عن اليهود المظلومين.
هؤلاء ليسوا أنصار الله تعالى ولا من الذين هادوا ولا من الذين آمنوا بمحمد الصادق الأمين الذي يحب الآدميين.
أقول ذلك مع بالغ الأسف لأني واحد من هؤلاء المعروفين بالمؤمنين بالله تعالى. فيا ليتنا ننظر إلى أخطائنا فنصححها قبل أن يأتينا أنباء ما استصغرنا من حقائق الوجود. نهاية الهامش 45.)
(هامش 46: لو ننظر إلى الرحمة التي أصاب الله تعالى بها يوسف. لعل الكثيرين يظنون بأنها المُلك. هي فعلا الملك ولكن المُلك لمن يبتعد عن المُلك، المُلك لمن يستعمل المُلك لخدمة المعوزين. هي رحمة ليمكن يوسف من إشباع نفسه الطيبة في أن مكنه ربه لخدمة البشر.
فهل اليهود الذين ورثوه يحبون البشر أم يحبون أنفسهم؟ ترك يوسف كل أنانية وترك حاجته إلى الراحة في القصور وإلى التمتع بالجنس وهو في شعلة الشهوات، ترك ليرضي ربه وليخدم الناس. فأين بنو إسرائيل اليوم من أبيهم يوسف؟ ما الفائدة أن تكون من سلالة الأنبياء وأنت لا تحذو حذوهم؟
إنه كان محسنا قبل السلطة وقد أدى اختباره بنجاح فوسع الله تعالى عليه السلطة ليرضي نفسا تحب الخير وليس ليرضي نفسا أنانية تحب المتعة. الذي يستحل ويغتصب أراضي الآخرين ليستمتع بها ويأخذ منها أضعاف ما يأخذه أصحابها فخير له أن يقول أنه من أتباع بختنصر (نبوخد نزار) المجرمين القتلة ولا يدعي بأنه من أتباع إسرائيل ويعقوب وإسحاق وإبراهيم الطيبين المؤمنين بربهم. نهاية الهامش 46.)
(هامش 47: هكذا يريد الله تعالى لأنبيائه أن يشتهروا بين السواد. إنهم يبدؤون بالملوك وينتهون بعامة الناس. فقد بدأ إبراهيم بالملك وحاشيته وانتهى بمن في المعابد من عامة الناس حتى طردوه. وبدأ نوح بالأغنياء والمترفين ثم تركوه، وبقي مع السواد الأعظم. وخرج موسى من قصر فرعون شابّاً في غضارة الشباب ليعود إليه داعيا إلى الله لا ساكنا مع فرعون. وانتهى في النهاية مع مجموعة صغيرة من فقراء بني إسرائيل ليعبر بهم البحر إلى حيث التوراة التي كانت بانتظارهم. وجاء المسيح ليبشر بني إسرائيل الأقوياء والعلماء الذين انحدر منهم ثم انتهى به المطاف مع مجموعة صغيرة من الحواريين. وجاء محمد ليدعو زعماء قريش ثم طُرد من مكة إلى حيث المال الأقل مع مجموعة من المؤمنين الذين دفعوا أموالهم لتحرير إخوانهم من ظلم مترفي مكة ثم هاجروا مع رسول الله ونزلوا ضيوفا على المتوسطين من أهالي يثرب. يبدو بأن هذا هو نظام رب العالمين. نهاية الهامش 47.)
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :