يوسف أيها الصديق ح 28 – ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن
تواصلا مع شرح سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 28 – ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن
وما هي رسالة السجين يوسف إلى مليك مصر؟
تابع كلامه مع صاحبه القديم بعد أن أمره بالعودة إلى ربه ليملي عليه رسالة (رسول الله) في السجن:
فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن.
لم يقل له يوسف: فاطلب منه أن يستفسر عن السبب في، أو فقل له بأنني أفضل أن أحضر عند الملك بعد أن تتبلور له نظافة نفسي من التهمة المنسوبة إلي مثلا.
كلا بل قال له بلفظ الآمر: فاسأله، ويعني بأن رسالتك لم تنته بعد فعليك بأن تسأل الملك عن السبب في اتهامي من قبل نساء من حاشيته.
ولنستعرض الآن لحن يوسف في الاستفسار ثم نستعرض بعد ذلك كيف فهم الملك رسالة يوسف وكيف تفاعل معها.
وقبل ذلك دعنا نشير باختصار إلى عودة يوسف مرة أخرى إلى التأكيد على أن الجهل مسيطر على سيد ذلك الرسول ولكن سيد رسول الله يعلم كل شيء وبكل دقة. تابع رسالته قائلا:
إن ربي بكيدهن عليم.
هذا النوع من الخطاب الجريء ليس في مقدور الناس العاديين إطلاقا إلا إن كانوا متهورين. ولا ننس بأن الملك يتودد إليه ويسعى للقاء به وكأنه هو الذي يطلب اللقاء مع يوسف. إن يوسف لا يُفوّت فرصة ليذكرهم بربه وبأنه حكيم عليم وبأنه هو الذي يدير الأمور فعلا.
إن أكبر مسألة لدى الحاكمين هي مسألة الأخبار الصحيحة وما وراء الأخبار. فيوسف الآن في مقام الاعتراض على الملك بأن حاشيته تخطئ وتتهم الأبرياء وهو غافل عنهم.
ثم يتحول إلى مقام التحدي ليقول للملك بأنك ضعيف فأنا أتبع السيد العظيم الذي يعلم كل الخفايا. وهو في نفس الوقت يوحي إلى الملك بأنه ليس في متناول يد الملوك لأنه لا يؤمن بالربوبية لغير الذات القدسية جل جلاله.
هذا الكلام صعب القبول لدى فراعنة مصر الذين انفردوا في اكتساب لقب الربوبية قرآنيا. وأنا لا أدري هل هم الوحيدون في الأرض الذين ادعوا الربوبية أم أن الله تعالى مهتم بهم دون غيرهم.
بالطبع، ليس من حق أحد أن يدعي الألوهية ولكن الربوبية أمر مسموح في بعض الشؤون. فنحن نقول رب العلم ورب الأسرة ورب الأمة ورب الدولة ولا إشكال في ذلك.
لكن الرسل لا يسعهم إلا أن يؤكدوا بأنهم يرفضون أية ربوبية لأي مخلوق كائنا من كان. والحق أن الله تعالى يرعى رسله برعاية خاصة يصعب أن نراها بشأن غير الرسل. إنهم صفوة مميزة لا يمكن لنا أن نشرك بهم غيرهم في إخلاصهم إطلاقا.
وحتى لا يشك أحد في أن يوسف رسول من الله تعالى إذ أن رسالته غير مذكورة في السورة التي باسمه فإني أتمثل بآية أخرى في القرآن الكريم خارج السورة الخاصة وهي الآية الوحيدة التي تذكر بطلنا وتذكره بالرسالة.
قال تعالى على لسان مؤمن آل فرعون وهو يخاطب فرعون موسى وحاشيته في سورة غافر:
وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34).
فهو رسول دون شك وليس نبيا فقط وكان أبوه صادقا حينما قال له بأن الله تعالى سوف يتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق. تلك نعمة النبوة وتكميلها بالرسالة وهو الذي أكمل شرف الوحي لآل يعقوب.
ولنعد للرسالة اليوسفية. ما بال النسوة، تعني في الواقع ما هي حكاية النسوة أو ما هو خَطبهن. ولكن البال في لغتنا تعني الحال والنفس ولا تعني الخطب 38.
وحينما ننظر إلى تجاوب الملك مع هذا الطلب فإنه جمع النساء وقال لهن:
ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه.
ونرى بأن يوسف استعمل نفس الجملة التي استعملها القرآن حينما مر بقصته مع نسوة المدينة حيث قال تعالى:
وقطعن أيديهن.
فجملة قطعن أيديهن أتت في ذهن الملك بمعنى راودن يوسف عن نفسه. لكن يوسف فسر الحالة التي حصلت لتلك النسوة بانهيار القدرة على إخفاء الحب والإعجاب الشديد بيوسف، والملك فسر الحالة بأنهن راودن يوسف على الرغم من تماسك يوسف وعدم إظهار أية علامة من علامات الاهتمام بالانتقال إلى الحالات العاطفية المعروفة معهن.
فإما أن جملة قطعن أيديهن تعني راودن يوسف عن نفسه وإما أن الملك كان يعرف القصة باعتبار أن يوسف من سكان قصور وزرائه وكان معروفا لدى الملك حيث أنه لم يتكلف استبيان يوسف بل اكتفى بالسؤال عن خطبهن واستعمل اسم يوسف بدون وصف باعتبار أنه وإياهن يعرفون يوسف.
وإني أظن والعلم عند الله تعالى بأن المعنى الثاني هو الصحيح. فسؤال يوسف ينطوي على استحياء من أمر خاف على الساقي على أقل تقدير. ولم يقل للساقي بأن القصة حصلت معه ولكن الساقي عرف بأن هناك حكاية معروفة في القسم الداخلي من قصر الملك وبأن يوسف يشير إلى تلك القصة المعروفة بينهم ويريد من الملك أن يفتح ملفها ليستوضح بنفسه القصة ولا يكتفي بما قيل له من طرف النساء أنفسهن.
ومما لا شك فيه بأن الساقي عرف بأن هذه الحكاية مرتبطة بأسباب إدخال يوسف للسجن.
ونلاحظ بأن يوسف يكره أن يكشف القصة للساقي لأنه يعرف بأن الساقي سيبقى في عمله ولكنه هو الذي سوف يتبوء العلياء وعليه بأن يحافظ على أسرار بيوت النبلاء فلعله هو يصير عضوا في تلك الجماعة التي تحكم مصر وتدير شؤون الدولة فيه.
واضح بأن يوسف كان على علم بأن الملك يعرف القصة ويكفيه الإشارة إلى أنه مهتم بكشف تلك القضية. وكما قلت سابقا بأن الملوك لا يهتمون بمثل هذه القضايا فهم لا يُقيِّمون وزراءهم بهذه الاعتبارات.
بالطبع أنهم لا يريدون أن يمس مثل هذا الدنس بيوتهم شخصيا وليكن الوزراء ما يكونوا. وكذلك يستر الملوك على مثل هذه القضايا التي تصدر من وزرائهم. لكن يوسف يحمل نفسية كبيرة ومهتمة بالشرف وبالطهارة.
الملوك يحبون أن يعرفوا بعض القضايا التي تدل على ضعف نفوس وزرائهم أمام الجنس أو المال ليستعملوها ضدهم متى ما لزم الأمر ولكن يوسف لا يريد أن يدخل المنظومة الملكية إلا طاهر المئزر.
جاء الساقي وأبلغ الملك رسالة السجين يوسف. شعر الساقي بأن هناك معرفة مسبقة بيوسف وبأن الملك وحاشيته يعرفون يوسف. ولولا ذلك لكان صعبا عليه نقل مثل هذه الرسالة إلى سيد مصر العظيم.
لاحظ الساقي بأن الملك لم يغضب بل استلم الخطاب منه بصورة عادية. ولا أظن بأن للساقي أي دور في جلسة الملك مع النساء. اللهم إلا ليسقي لهم مثلا.
حرص الملك بكل إخلاص أن يلبي طلب يوسف الذي فضل أن يبقى في السجن ويؤجل اللقاء مع كبير مصر حتى تتبلور قصة سجنه ويعرف الملك والعزيز بأن يوسف كان نقي الإزار وأنه لا يمكن أن يخون عزيز مصر بعد أن أكرمه العزيز وجعله مرافقا لزوجته.
وأما زوجة العزيز فهي تفكر فيما تبوح به أمام الملك الذي دعاها مع كل النسوة اللائي حضرن جلسة المكيدة القديمة في بيت زوجة العزيز. تلك الجلسة التي اعترفت فيها سيدة قصر العزيز بعد أن ورطت النساء جميعا في حب يوسف. فمما لا شك فيه أن قصة هذه الجلسة غابت عن الملك وعن العزيز.
وأظن بأن السر في أن زوجة العزيز رضيت بإرسال محبوبها يوسف إلى السجن هو خوفها من أن يبوح يوسف بما دار في تلك الجلسة لزوجها فينكشف أمرها وأمر النساء جميعا لرجال البلاط الملكي.
(هامش 38 : والقرآن الكريم لم يذكر البال بمعنى الخطب إلا حين التخاطب مع فراعنة مصر. فهناك أربع موارد يذكر الله تعالى فيها كلمة البال. اثنان منها بمعنى الحالة النفسية وهما في سورة محمد. وواحدة ثالثة في سورة طه وهي هذه:
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى (51).
والذي قاله هو فرعون موسى بعد أن قال له موسى بأن ربه هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. فأراد فرعون أن يرد على موسى ردا علميا قويا ولذلك قال له: إذن فما هو شأن القرون الأولى التي أتت دون أن يكون هناك أنبياء يهدونهم؟ فلم يستعمل فرعون كلمة البال بمعنى الحال والنفس.
والرابعة في هذه السورة وهي رسالة يوسف لفرعون يوسف. وأنا أظن بأن الأقباط كانوا يستعملون كلمة تعني البال في العربية ويقصدون بها الخطب والشأن.
هناك في هذه السورة عدة تعابير غير عربية ولو أنها جاءت بكلمات عربية. إنها تعابير قبطية واستعمال يوسف لهذه التعابير دليل على أنه كان فعلا قد تعلم مصطلحات الأقباط وهو ما عبر عنه الله تعالى بتأويل الأحاديث. نهاية الهامش 38.)
يتبع …
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :